سرماديا

سرماديا

شراع سفر** مقالات منوعة




على ضوء الحقيقة*
شراع سفر*
مجموعة مقالات*

------- خالد العرفى
مستثارا ببراح الفضاء، وهدير أمواج، تتكّسر على الصخور. وأمامى ذراعا البحر، يُحوّط بهما خميلة زرقاء فيروزية.. مجدافان، يمضى بهما، كما كان دوما، بحرا، لا ساحل له. كنت أبصر إلتحام السماء الممتدة، وإنبساط الفكر، سابحا على صفحة بعيدة، فى ضوء الشمس. كان كل شئ يسير بشراع الهدوء التام. نحو مرساة ومسافات تنأى بى، ولا أراها إلا بعقلى. أحدق فى أقاصى الأفق، فى سكون بداية ساحرة، لا نهاية لها. أبدية، أرى معها العالم على جناح طائر، وفى حبة رمل، وشمس ساكنة كبد السماء. إطلاقا، ما إقتبس البحر روعته، فى مخيلتى، إلا من فكرة واتتنى. بدت لى غريبة أول الأمر. على أية حال، وبدون خيال، لم يكن لدى، إلا واقع، لا أقصر عنه.. ،.. كما هذا البحر أمام ناظرى،.. وأفق، بشراع الروح،  أبحر فيه. هكذا الذكريات.. وبين خيال ليس له حدود، نصنعه نحن، وواقع رأيناه.. نحن بين واقع متشظ، من حولنا، مثل زجاج مكسور، على شاطئ مجهول، وقد إتسعت دائرة صوره، محطمة بين الرمال، فى شكل ذكريات حادة. تطاردنا، موجة وراء موجة. وسواء كنا نحن فى مركزها، أو أحاطت هى بنا، نمضى. ونتغلب على صعوبات الحياة، وأطلال لا تذيبها أمواج. نتفكر ونتأمل، بين ذكريات مضت، وأحلام هى ذكرياتنا، التى لم تأت بعد.. الأحلام، هى السفر إلى المستقبل، الذى نحاول أن ننسى به ماض.. شئ من ضوء أمل، يغير مصير كان لنا، يوما. مسيرة نصف طريق إلى الأمام. من منا، لا يحلم . قليل من يعثر على هذا الأمل.، بشراع سفر.. يبحر، ويحيا به، حلما وراء حلم. يحقق ما كان مستحيلا.. وهكذا الذكريات،.. ذكريات وذكريات. وبدون إستحضار روح البحر، ونواته العاصفة، فى مواجهة تفاصيل غريبة للحياة، لم يكن يمكننا أن نستوعب حقا، أو نحيا، فى هذا الواقع. وبما أننى مرتبط إلى حد ما، فى هذه الأفكار بروح البحر.. فستبدو فى بقعة ما، ذكرياتى، ومن وقائعها، كلّفات خيط غزل ناعم، من أفكار، أو كومات من طحالب بحر، ملتصقة بصخور الشاطئ.، علىّ أن أمضى بينها. ذكريات، خضعت لحكم محاولاتى الفاشلة، كيلا أتذكرها، إلا كما وقعت أحداثها، طوال سنين بعيدة. من المؤكد، أن ما حدث فى هذا الآن البعيد، وما رأيته فى حياتى، قد أصبح جزءا منى، هناك حتما ما يذكرنى به، فلا أنساه. ولكن يتحتم على أن أضعه أحيانا، خلف ظهرى، لتسير الحياة، وأسير معها. أن يصير كل ما مضى، عابر سبيل علينا. لانستكين له، ولانستسلم. قطعا، هناك دوما، ما تكون أنت منه. وأيضا ما يكون منك. لكن، هناك فرق كبير، أن يصبح شئ أو ذكرى ما، جزءا منك، وما أصعب أن تكون أنت نفسك، شطرا لشئ، أو جزءا من ذكرى، تبقى لغيرك.. تشعر كنبتة صغيرة، تتعرض لعاصفة رعدية في صحراء، كما لو كانت، حاضرة عليك فقط. واجهت مصيرا، دون كل هذا البراح.. يُودى بها، إلى أسفل هاوية التفكير،.. أواجه هذا وأنا فى أكثر من عمل فى ذات الآن.. مفكرا فى هذه الأفكار،.. وعلى الرغم من روعة المكان، والبحر أمامى، إلا أننى كنت أشعر، أنى لست أبدا على ما يرام. كان هناك شعور غريب، أنه يوجد شئ ما، أولد منه.. أتعرض لإرتباك كبير، لا حصر له، كلما انتقلت خطوة، قبل أن أتمكن من متابعتى، لخطوة أخرى، فى أفكارى.. كانت رائحة الطحالب المتراكمة، مشبعة برائحة اليود الحية. تذكرنى برائحة بواقى أوراق الشجر، والنباتات الجافة، بجوار سياج حديقة قديم، ضرب له مكانا، في ظلال الأشجار الكثيفة، فى الذاكرة. لم أشأ أن أفرط فى إحساسى هذا، أو أترك نفسى لإنطباعات أصابتنى، عن الماضى. حريق. دخان. وضوء أحمر يتلاشئ ببطء.. أشعر بهذا ولا أراه.. ومع كل موجة من البحر، أسمع صوتا غريبا، بصوت عال، فى رأسى، ينادينى، لأكتب.. قبل أن أجد بابا لم أفتحه، من قبل. بدأت أتذكر، وبدا الباب منفتحا، سفرا إلى ماض بعيد، مع دوران ساعة، تذكرنى أن هذا شئ جديد. فكرة حملنى معها صوت أمواج البحر، لضجيج ذكريات، إنصبّت مثل عيون طوفان، ورأيت كل شئ يمرّ أمامى.. أتسائل، لعلها تكون رواية لم أكتبها بعد. لكننى أعرف نفسي حقا، وربما لا أكتب، الآن شيئا. ويصبح كل شئ مجرد فكرة عبرت، على شراع سفر فى الخيال. وبين الأدب شعرا وقصة ورواية، وبحور العلم والكون وجمال الفن، أقضى حياتى، مسافرا فى الوجود. وأتعود من نفسي، مثل هذا، فقد يمرّ عام أو آخر، ولا يصدر لى شئ. وسرعان ما أجد نفسي، وقد إنتهيت ربما من عملين، فى نفس الوقت، كما هو أمرى، من قبل، حينما أجد الزمن يمرّ، ثم يصدر لى كتابان أو أكثر فى نفس العام. وربما يمرّ وقت آخر عقيم، وربما يكون الامر مرده، لإنشغالى بأكثر من كتاب، أعمل عليه، وأتنقل بين أفكارى، من كتاب إلى آخر.. ليس المهم صدور كتاب، بقدر ما تجد نفسك حقا، وأنت تكتب. لا أكتب، لأكتب، إنما متعة الكتابة فى حد ذاتها، وأن يحيا ما تكتبه من بعدك. هكذا، عالم الكتابة معى، عالم فريد حقا.. عالم قلم غريب الأطوار.. تتنقل بين أفكار، وتفعل فيه أشياء عير نمطية،.. مؤخرا مثلا ضممت مجموعتين من القصص القصيرة معا، فى مجموعة واحدة، بعنوان إنتماءات غير موسمية، ولم أكن أفكر فى ذلك، حتى فعلت.. ووجدت الأمر أشمل لرؤى ومعانى. فإنتمائى فقط، لما أعتقد فيه، وأحب أن أقوم به، عاثرا على معنى لما أكتب. هذه متعة فكرية كبيرة.. وأنا بين هذا، وذاك أحدّق فى أفق المعانى، واجدا المسألة أعمق، وأجمل. ومن هنا، لا أستغرب من نفسي شيئا، حينما أشرع فى الكتابة. قبل أن تعانقنى أفكار جديدة، وإن لم أكتبها فعلا. لكننى، تعودت هذا، وأكسره فى أحيان كثيرة، بالتأمل، مكتشفا ماخفى عنى، من أفكار ورؤى. فلا عادة ولا منوال، بالمرة فى الكتابة. ويظل دوما حلمى، الذى يجمع شعث النفس، وتفرق الذات.. كأنى أسافر فى أشعة شمس دافئة، إلى دور التاريخ، وسكرة أفكار غير مكتوبة، أبحث عنها. تتدافع فى رأسى تفاصيل أضواء مصابيح وقناديل. وما إن تتملكنى، بدفء غريب، أصبح، شهابا مسافرا، بين النجوم والكواكب والأقمار، فى أعماق سموات بلورية. وتنحبس أنفاس توترى، أمام رغبتى المتوقدة فى المعرفة. وهكذا، لا تتركنى، إلا وقد ذبت فى تلك الأضواء المتلألأة، بلون الياقوت والذهب والعنبر،.. مزيجا، بلا إنتهاء، فى أرض غير الأرض، وسماء غير السماء، وكون غير الكون. انفصل عن كل شئ، باحثا عن المعرفة. بقلبى وروحى، وغارقا بعقلى، فى عالم آخر، بين المجرات. إنها معارف سامية، نسعى لندرك كنهها، وهى أعمق من أن ندرك حقيقتها، لنصل لذاتها. وعلى ضوء الحقيقة نجد أنفسنا.. لا أستطيع أن أتذكر عدد المرات، التي سافرت فيها فى الكون، غائبا فى فراغ محيطه، دون حدود. عابرا لجسد فان، حيث يمكن ألا يعود. هناك حيث منبع النور للعقل، والدفء للروح، بلا أبعاد. حيث تشعر كيف يمضى الليل، بهزيعه الأخير. وترى كيف تشرق، وتتوارى النجوم. شموس وشموس. من مشارق إلى مغارب. تشعر بملمس الفجر، وحريرة أنسام الأسحار. أستدفئ بعصر الوجود. لا شئ يضاهى هذا الشعور، مطلقا. لا أستطيع أبدا أن أصفه. إبحار وسفر إلى ملكوت المعرفة والعلم،.. وقراءة الكون والجمال، وروعة ودفء الكتابة.. يالعجز القلم، حينما لا يتوحد مع الروح والعقل، فى هذه الرحلة السماوية. ويا لعدم قدرة الإنسان، فى كون عامرة سمواته وأراضيه، بحياة بثها الله الخالق البديع القادر على كل شئ.. جلّ شأنه، وتبارك اسمه. تسبح  له السموات السبع، والأرضون السبع، وما بينهما، ومن فيهن. فتبارك الله الخلاق العظيم.

مصابيح.. سنن وقوانين الحياة..
----- خالد العرفي
بسهولة، نتذكر إسم عالم، أو أديب، أو فيلسوف. وبسهولة أكبر، تعى ما قدمه أحد منهم، من إنجاز للبشرية، علما وفكرا وأدبا. يأتى إسم أديسون، فتهلّ الكهرباء، ويبزغ المصباح، بضوئه، على أفق الحديث. ويذكر إسم أينشتين، فندرك نظرية النسبية، وعظمتها. وتفكر، فى السفر، فى مجاهل الفضاء. وتتوه مع إنحناء الزمن، والجاذبية، وسرعة الضوء، وغيرها، من أمور. وهكذا، كل إكتشاف علمى، أو عمل أدبى عظيم، يرتبط بصاحبه، معروفا به. وشاهد الأمر هنا، أنه قد أوثر عن راحلين عظماء، من فلاسفة وكتاب وأدباء وحدتهم المثمرة، عزوفا عن الإشتغال بأمور السياسة، أو الحديث والكتابة فيها. وليس تركا للتفكر بها، أوالنظر فى أحوالها.. لمعرفة سنن  الحياة، والتدبر فى الحِكم، فى خلوات فكرية صافية وبعيدة، فى وحدتهم،  عن الغير لئلا يطرقوا ما لا يستحقونه، أو أن يكون لهم فيه، من شئ. وإليك من أمثالهم، حديثا، الحكيم، وعبد الرحمن بدوى، وجمال حمدان، ومصطفى محمود،.. وغيرهم كثيرون. ممن عاصروا من تاريخ مصر أحداثا جساما، وأمورا عظاما، حتى النكسة والحرب والعبور العظيم.. فلم ينزلقوا، إلى مستنقع خطرات عابرة زائفة، وآراء سمجة متسرعة. وبطبيعة الحال، إن المفكر غير الصحفى، بخلاف الأديب والكاتب.. إنما أحوال أمثال أولئك، كانت التفكر بعمق، وتقديم ما ينفع الناس، من علم وفكر وأدب.. عبر مشروعات فكرية لايقيسها عوام، ولا يستطيعونها، بحال من الأحوال.. وخلال أطروحات روحية، توغل فى أهداف الفكر البشرى، ولا يدركها دهمة من الناس. كل له وقت وله حين، ليظهر. مجبولون على ذلك فطرة. ويُصطفون.. لذلك نتذكرهم على مر الزمن، ونتمثل بهم، ونتمنى سيرا فى طريقهم.. صفوة هم. نقرأ لهم، بعين العقل والروح. وقد تركوا على الدرب، من الكتب نافعه، ومن المصنفات جليله. طبقات وطبقات. تقرن باسم كل منهم. وتذكر بمجرد ذكره. وبعيدا عن شأن الأدب، وشأو العلم، ودور التفكر فيهما، وصولا إلى مستوى التصوف، نجد لنا قدوة، فى الأعمال، التى نتجت عن العزلة عن البشر. بوحدة من فكر دائم، وعمل مستمر دءوب، تربية للنفس وبناءا لها، وفى ظل أنس حقيقى بالله، والإستغناء به عن كل أحد. نجد منها، ما لا يمكن غضّ الطرف عن ذكره، فى مثل هذا الصدد. سواء من علم ربانى، أو كلمات حكيمة صادقة. وهناك أمثلة لاتحصى، ومن ذلك حكم ابن عطاء الله السكندرى. والرسالة القشيرية، والفتوحات المكية للشيخ الأكبر ابن عربي. وغيرها من معان ومضامين جمعتها بين دفتيها مصنفات كثيرة، لمشايخ، وأئمة متصوفة كبار آخرين، كأبى نعيم فى طبقات الأولياء، وما ورد فى معاجم القوم. أو ما ورد لصوفية عظام، فى عديد من كتب التفسير والتوحيد وكثير من دواوين، مماغلب عليه جميعا من طابع صوفي وروحانى، لغة ومضمونا. أمثال ابن الفارض، وجلال الدين الرومي، وغيرهما، من رجال. وكلها أمثلة، تشير إلى ما يمثله هذا، فى مقام الإحسان من الإسلام، ورياض الأذواق العلية، فى إعتبار الوجد، والحب والتجليات الصوفية. مجمل القول، قد ترى غثاء السيل والريم المساق، من أقوال وكتابات، ليس لها حظا من معنى. لا لفظا ولا مضمونا، فلا يطالعها عاقل. مما كتب أويقال هاهناك. حال من لا يبقى منه شئ،.. وأنت تجد كل المجتمع يتحدث. ويحلل. ويفتى. ويتنفس ويتقول. دونما فائدة، كأن الدنيا، تنتظر له حديثا. وكأن لامحيص من ذلك. أو أن العالم سوف يتوقف، دون رأيه المشهود الجلل، الذى يراه غيره من الورى. فتسكت دقات ساعاته. 
قلّ، بل ندر ندرة الحكمة، من تجده يعتزل حديثا غير مُجد، مبتعدا حكيما، غير قائل أو مستمع لسفه، نائيا بنفسه عن مثل ذلك من هدر للوقت مضيعا لهدوء النفس،.. وليتفكر العقل الأمر ويتدبر. وهذا حال من ذكرت، من أمثال علماء وفلاسفة ومفكرين ومتصوفة، وغيرهم فى خلواتهم الصافية، عن كدر هذا الصنف .. وإلا ما كان لهم، من أثر فى الأنفس. أولئك خلوا بأنفسهم، أو مع من يضايهم فكرا، ويعادلهم عقلا ورأيا. لذلك نذكرهم دائما، بنظرهم فى دقائق الأمور، وتدبر أحوالها، للإمساك بشمول التصور، وكمال الحقيقة. ولذا أيضا، نتذكر منهم، ما نفع غذاءا للروح والعقل، معا،.. ونقرأ لهم ما يفيد، وقد قرَّ فى الوجدان، وسبر العقل دواخله. وأخيرا فى هذا المقام، قد لا يتوقف المداد، عن ذكر من يجب ذكره. أما الصنف الآخر، الذى يمتد من زمن، إلى زمن، ومن مكان، إلى مكان، على الساحة،.. ممن منتشرة باحته ومرتفعة عقيرته، فمصيره بلا ريب، إلى زوال، ولا يبقى منه شئ.. سنن آلهية قائمة، ليس لها تبديلا،.. هى قطعا قوانين ربانية، ليس لها أو عنها تحويلا. لذلك أمرنا بالتفكر والتدبر. ومنحنا الله العقل هبة منه جل شأنه، عقيلة لنا. لئلا يكون على القلوب، من أقفال، ولا يرنو عليها ران. فاللهم لك الحمد كله. عدد نعمك وآلائك، التى لا تعد ولا تحصى.