سرماديا

سرماديا

غربة طفل ذي تميمة



غربة طفل ذي تميمة 
--- خالد العرفى
بقيت التميمة فى قلب طفل صغير. نبتت فيه زهرة تشرق بلون الفجر. تنبئ عن سهم قدر قد نفذ. غربة أضاءت ملامح تائهة لحروف تعويذة نفيسة، فريدة. خلّدتها وحملت بصمتها.
...........................................................................

غربة طفل ذي تميمة
-----
أكدّت موعد سفرى عازما. وحزمت حقيبةّ ذكريات يتيمة. لم ينقطع حديثى مع نفسي طوال رحلة طويلة. ولم تفارقنى تميمة فريدة دسّتها جدّتى لأبي فى يديّ ذات مساء.." .خذها. احفظها. إنها وصية أبيك. لم ترث غيرها منه. لا تدعها يوما تضيع منك"
فى الثانية عشرة عمرا، توقفت كثيرا عند تميمتي الأشبه بقلادة. لا تغادر عنقي تصل إلى صدري. وعيت كلمات جدّتى  .فلم أدعها قط وعجبت أمر أبى. لم يترك وِرقِا ولا ذهبا. لا ديباجا. ولاحريرا. ولم يمرّ عام عقب موته حتى توّفيت العجوز. توصيني، وتذكّرنى بتميمة غريبة. التصقت بها، والتصقت بي. وصرتُ منذ هذا الحين طفلا ذا تميمةأ .تذكر آخر مرة مدَّت يدها لتتحسس موضعها. تأكدت. أحسستُ دفء أناملها تتنقل بين حوافها المدبّبّة إلى صدرى الصغير. تلّمست حَفْرها الذى بات حفرا فى ذاكرتى. إلتحمت راحة يدها بلحمي. بالقلادة.. بقلبي.. وبذاكرتي.. إلتحقت بطابورعمال شحن الميناء، على رصيف يودع المسافرين. عاملا برفقة كهول أنا دونهم. تهتُ بين أعمالهم. يحملون ما لا يحمله المسافرون. أحمل أشياءا صغيرة لهم، بهيئة باهتة، غير واضحة بلون خفيف الوطء..
المسافرون لا يرون عمال الميناء كهولا وصغارا.. المسافرون تبتلعهم السفن. يأكلهم وحش البحر. يغيبون.. وكم أندسستُ بين العمال فى دروة خلف الشوّن القديمة والأبنية الحكومية الحمراء المتناثرة صفوفا عن بعد. يحدّها طريق مرصوف من حجر البازلت الأسود. مرصّوص فى صفوف طويلة.  لم يتساءل أحد الحكوميين لماذا طفل صغير هنا. لا يلمحونه بين قامات الكهول تخفيه أحمالهم على ظهورهم وأكتافهم.. لم يشغلهم حلم طفل صغير. لم يلمحوه ..تلك الأيام البعيدة جلستُ بينهم، وهم يسرقون جلسات جانب موقد حفّته بضعة أحجار..أجمعها لهم من خلف الشونة الكبيرة.
كم رأيتهم يطرحون فيه كسْر الخشب اليابس، وبقابا الفحم.. تتقد. ونسمع طقطقة النار. وأتبع ببصري تطاير شررها يتمايل مع الهواء، هنا وهناك. أستدفأ بحكاياتهم يتسامرون. ينسون كم مضى من اليوم وكم بقى منه.. كل له علبة معدنية رقيقة لا يفارقها. يلفون لفائف تبغهم البنية، بأيديهم. ينفثون..لا يبقى من أثر دخانهم شئ مع الريح ..أنظر فى عمّة كل منهم على رأسه يخفي بها حكايته. مستترة بين أعينهم فوق وجناتهم البارزة، بوجوه تقترب من أكتاف محنيّة. أراها.. ولم أعرف يوما لماذا يضعون حكاياتهم فى النار،  فتزداد إشتعالا بما طرحوه من العمر..  كثيرا ما رأيتهم، يكوّرون أنفسهم ، جالسين على أمشاط أقدامهم.. منصوبة. لم أقلّدهم فى ذلك، محاولا رفع قامتي قليلا. كنت أضمّ كتفيَّ. أرفعهما لأعلى، داسّا رأسي الصغيرة بينهما، فأشعر ببعض الدفء.. من المؤكد أن جلستى بينهم كانت أمانا لي، من غرقى بغاطس السفن. بعيدا عن الظلال. لم يكن دفء الموقد المنبعث يكفى الجمع.. إستدفئنا بحكايات الماضى. رأينا النار تأكل الأخشاب سريعا، تحيلها دفئا، ولا يتبقى إلا جمرات صغيرة تحتها، يعدّون عليها الشاى الساخن. كم سمعت رشفاتهم التى لن أسمعها ثانية، ولن أعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك.
" نعم، هرمنا.. " كم تبادلوا قولها، لم يعيها عقلي آنذاك. وأيقنت معنى إختلاف بشرتي وبشرة أحدهم.. أركع فى صمت، واضعا يديّ على ركبتي، غير ملتصق بهم، لأسرق دفئا لأناملى الصغيرة. حول الدائرة التى تشبه قيدا واحدا يجمعنا. يأسرنا. ولكنه لم يربطنى بهم.. أتذكر فى أحيان كثيرة، نظري لأيديهم بارزة عروقها، متصلبة الجلد. مشدود ما بينها. ورغم ذلك أعينهم تفيض صفاءا خالصا وودا محضا. ورأيت فى أعينهم ما في قلوبهم. وأستمع لما يقصّون بنبراتهم الجافة، مسحورا. امتلكوا مني نفسي. سعيدا أحيانا، وحزينا فى أُخر. وزُدت عن نفسي جرأة الحديث معهم، بوحدتي أحملها معي. فى صدري. حاولت كثيرا إخفاء ما أثارته دائرة النار الغريبة فى نفسي من شجون. تحفها ظلمة نفوس وجلة مجهدة وصامتة، مثلي. ليس هناك أي ما يقطعها إلا ألسنة لهب طائشة، تلمع فى سماء أفق بعيد.. أراه وحدي مع تناثر شظايا الليالي.. والقناديل معلقة، تومض أضواؤها في الأفق البعيد، سابحة فى ظلمة تتسلل. ماضية ليلة خلف ليلة، تبتلعها كتلة ظلام صلدة باردة ممتدة إلى النفس. وترجف القلب الواهن.. ولا تبتلعها مسافات عمق الماضي. تكبّل ذاكرتي التى أبدا لم تلفظ أنفاسها الأخيرة. لا أرى معها  زرقة ليل داكنة تتطّهر فيها النجوم.
لم يساورني شك، فى نطقي يوما مثل رفقتي الغريبة، أقول فى نفسي لعلهم يطلقون عقال صمتى...، وددت لو إستأثرت بكل ما يخفون من ماض غائب.. يطرحونه قطعا، قطعة بعد أخرى، مرة تلو المرة.. فى النار.. لم يكن الجو خانقا أبدا رغم دخان الكهول وضباب الشتاء.. كل شئ كان ينتثر. ويتناثر ليتبدد فى الهواء. الصمت حول الدائرة هو ما كان يشعرني بالإختناق. كفى أن يتفوه أحدهم بكلمة واحدة، حتى تجد الجميع يبادلونه حديثه. و ربما ثرثروا عن المسافرين. لم تفرغ جعباتهم من ماض شاحب، أو حاضر مازال منتعشا فى ذاكرة يومهم. أعتقد أن أحدا لم يكن ليفكر بمستقبل. فقط يعيشون يومهم، كأنه مائة عام متصلة.
هى نفسها دائرة النار موقدة أمامى، تزمجّر، تطقطق، تتسعر. دأبت على إستدعاء صورتها من مخيلتي. هى فى خاطرى أشد منها. ليتسلل منها دفء يملأ موقدا أعددته بعالم آخر فى خلوتي. وحينما أشعر بضجر وشدة  إنفعال، أعود إلى الماضى كثيرا مثلما فعلوا حول النار. كنت لا أفهم.. كنت لا أدرك سببا لذلك.. لم أفهم نفسي. ولم أكن لأعرف ماذا سيأتي بعد.  وصبرتُ على عدم قدرتي على الفهم على مضض. صمتُ فشاطرتهم بصمتى. ولم يملأ صياح طفولتي ساحة رصيف، لامع بماء المطر. لم أصح، إنما صرخت بوجداني. و لم تشح أرواحهم عني وجها، لكن برقة تنساب، رغم شفتين تطبقان على حزن، يغلّف صفحة ماض،.. وتخفي كثيرا يتوارى في سكرة حلم ضائع. تائه.. 
ذات مرة، كنت على وشك أن أسألهم  " أأنتم يتماء مثلي ؟ "
لكن طفولتي عقدت لسانى عن سؤالهم، فهم يتعصبون. بينما أنا حاسر الرأس. صغير. وصبغنى الخوف بلون البحر الداكن. وركّزت بصري على السفن دائما، أتلمس فرصة الإبتعاد عن خطرها. تسائلت فى هذا الحين أين تغيب السفن وراء البحر.
وحين اندفعوا ذات مرة، يعدون مبتعدين، ركضت معهم. أسرع منهم، سمعنا صرخات بعيدة وصياحات تشق كبد السماء. أخذت تقترب شيئا فشيئا.  
" إلحق الريّس إسماعيل سقط عليه صندوق الونش "..  
رأيتهم وقد تحلقوا حول جثته وقد التصقت برصيف الميناء. الجميع يلملمون صامتين بقايا لحم مهترأ،  بين ملابسه الرمادية. قلت لنفسي "فلأكن رجلا هذه اللحظة لست بطفل". وسحبت عصابة رأسه بيديَّ النحيلتين. كانت ملتصقة تحت شظايا من عظامه متناثرة.  لم أقدر أن إستخلصها. شددت أكثر فوقعتُ أرضا. وبيديّ الصغيرتين عصابة رأس عجوز مدقوق. وضعتها صامتا،مع ما جمعه الكهول من لحم مهترأ و شظايا عظام.  ورغم بروده الرصيف كان دمّ العجوز ساخنا لزجا. كانت هناك بقعة كبيرة من الدماء، تسربت منها خيوط طويلة وقصيرة،  كشعاع الشمس. وسط شظايا صندوق كبير. تفرقت وانتثرت. ورغم ما مرّ فلم تفارقنى رشفة "عم إسماعيل " للشاى وهبته الدائمة لي. رشفتان يستبقيهما لى. "إشرب دول يا ولد. الجو برد". ولم أنسَ كلماته يرددها. حلّت عصابته بيديَّ محل الرشفتين فى ذاكرتى الصغيرة !
استولت على مخيّلتي صورتي كطفل ضئيل، بيدين دقيقتين، وقدمين نحيلتين. يسقط عليه صندوق فولاذي. واستحوذ علىّ خوف ألاّ يبقى منى شئ يجمعونه. لن تجدني جدّتي حينما تخرج "المغربية" من بيتنا المكّون من غرفة واحدة. تنتظرنى على درب صغير ملتف خلف الحىّ. أيقنت أنها إشارة فلا سبيل للتراجع أمام مصير محتوم لى، بخطى مجهولة صوب نهاية مقدرة. كان عليّ التشبث بالحلم. وشببتُ عن الطوق أقتفي آثارهم. أقصّ أثر ما أخفاه الكهول غائبا عني بحكايات مضت، فى بطون السنين القديمة. لم أعشها معهم. ولم أعرف كيف أمسح عن نفسي ما لحقنى من كهولتهم. وهم يتحلّقون حول النور والنار.
وأقتفيت أثر العادة غريبا يتيما، غير ملتفت إلى ماض لى.. إمتلكوا بذاكرتي ماض غبر مني. أخوض فيه. ويتجلى أمامي. ولم أعد أدراجي يوما لأجد منه ما سقط منى هناك، فأجمعه. ولكننى طوّحته بعيدا.. ورغم صعوبة إدراكي بطفولتى لما كنت يتيما، فقد أدركت أن عليّ أن أغادر مدينتي، دون  فهم ماذا ينتظرنى فى رحيل وغربة. حين ينتهي شيء لا بد أن يبدأ شئ آخر فكانت الغربة وكان الرحيل. 
كان عليّ أن أخاطر بكل شيء.. ولما لا ؟ لم تكن مغامرة..، ماذا كانت مخاطرتى إذن ؟!
كنت لا إمتلك شيئا سوى تميمة. ولكن هيهات فلم أستطع أمام المستحيل. رضخت، كان لا بد لي أن أمضي قدما، .. بخطوة نحو الغد تطوي كل شيء لا أعرف أم إلى الإستغراق مع ما تبقى.
كان لا بد من رحيلي، .. لن يعرف أحد أبدا ماذا جرى لي طفلا صغيرا. وكيف حدث ذلك لي؟
لغز يُتم غريب ومحيّر. وورطة حياة لطفل، مبهمة لا تمرّ. كنت بينهما مشدوها أمام اللغز غير مدرك كيف أحيا الحياة. لم تقل لى جدّتي قبل رحيلها كيف سأحيا في وحشة وحدة وغربة وصمت.. ؟!
لم أكن أعرف إلى أين يتجه بي مصيري. تحت ثقل ذكريات لا تفارقني. يتردد وقعها ويرتد صداها. تحمل نداءاتها.. تنتقل بين ثنايا الروح والقلب. تحملها ريح الليل مع الغبار والدخان والضباب.
تصلبّتٌ قليلا، قبل أن أغادر الرصيف. كنبتة صغيرة أجتثت من جذرها. كنت كمن تلاشى فى ذكرى حتى الموت..، كورقة شجر ذوت وسحقت. سرعان ما سقطت من الزمن، لأسباب لا أملك التحكم بها..، رأيت ما جهلته فى نفسي..، هذا ما فهمته على الأقل   قبل أن تحمل الريح العاصف الورقة بعيدا
كيف سأجمع شتات النفس و ما تبعثر من أيام و ليال ؟
لم أسأل من أحد. ولم يكن هناك إجابة. لم يكن لينفع طفل صغير نضج وسلامة عقل، أمام غيوم تحجب نجوم السماء. لو أن أحدا رآني يوم رحيلي، لم يكن ليعرفني. لم يمكن له أن يتصور طفلا يحمل ذكريات فى حقيبة، راحلا مع نهاية نهار قد لفظ أنفاسه الأخيرة..  ولم أستطع تملك نفسي فى هذه اللحظة. فدون ذكرياتى لم يكن ليصبح لى حقيبة تجعلني مثل المسافرين. فهكذا نسافر بحقاب ملآنة بذكريات. تتمايل بنا ونتمايل بها مع الريح، على إيقاع حزين. تحيي فى النفس تفاصيل آلام. وتهاوى أمنيات، بين حسابات أمل ويأس .وخسارة
هكذا الأشياء الصغيرة كانت تكبر يوما بعد يوم.  بينما الذكريات الكبيرة لا تصغر أبدا. وقد كَبُرت ذكرياتي سريعا وفجأة. لم أشهدها فى زحام ما وقع لي. خضم كبير، أكبر من طفولتي، ثقلت عن حمله. لكن كان هناك شئ آخر كان حيّا بالقلب، رغبت فى أخذه معى دون أن أعى. لم يكن ليُنسى إلاّ بالموت. هيهات وصف أحايين بعيدة، تقترن بطفولة فى ميناء رحلت عنه. لا أشعر، ولا يشعر بي بأحد. لاجرم أنى كنت طفلا ليس كالأطفال.. ولحقٌ لطفل مثلى، ألا َّ يهفو. وعوّضت قصر خطوتي بإسراعي دوما، لاهثا. هناك.. تحركت كظلّ. فذبت وسط زحام الحياة بخطواتي. ولم أسبق الزمن.
ظلّت الظلال الرمادية أراها فى طريقي. فى عقلي. تبرق كثيرا. وتلمع. ظلال أكبر من أن تموت. ظلّت ثابتة أمام محاولاتي الفاشلة، ولم أستطع أن أجنبها نفسي أو أنحيها عن خاطري. كل محاولة بذلتها للنسيان كانت توأد تحت ثقل تداعيها. لم أصدق أن ظلّي أحد هذه الظلال. ولكن من المؤكد أن ظلي لم يكن  رماديا. وتساءلت حينها هل كان للذكريات أن تموت بمغادرتي أم لا..؟
كيف أضعها فى ركن بعيد فى عقلي. أو تغيب تحت وعيى وإدراكي؟ كيف أُفرّق صورها فى ذهني فتتفرق؟ كيف أقطع تلازمها فى رأسي فلا تظهر..؟
أبي ذكرى. أمي ذكرى. ذكرى جدتي. طفولتى المكتظة. ذكريات..، لكن تميمتي وزنت جميعها. لم تفارقني ولم أفارقها. لم تكن ذكرى.
الذكريات المعنى الحقيقي لحياتي. ومغزاها. حقيقة لا يمكنني تجاهلها أو رفضها. لاأصدق ضعيفا يحمل هذا الثقل منها على كتفيه، ولم يقع رأسه خلف ظهره. ينوء بحملها. كم رأيت آثار ذكرياتى على أرضية رصيف سوداء مشقّقّة. خطّتها حبّات عرق وقدما طفل صغير. 
هذا كل ماهنالك. تصببت عرقا فى يوم شاتٍ.  لم أشتط غضبا فيما مضى أني لم أرتدِ  يوما ما يقيني. لم يدر فى خلدى أن مثلي يرتدي معطف مطر على جسد صغير.
كان الرصيف حيّا. كانت الأبنية حيّة. حتى سياج الأعمدة البعيدة..، الجميع أحياء. شهود ألقوا بأنظارهم. سمعت همساتهم عن ذلك الطفل يشق طريقه راحلا لا يعرفون إلى أين. بعيدا عن الناس..؟.. كم أخذتني اللحظة. أطفل مثلي يرى ما يرى؟ . ناجيت كل ما حولي بصمتي وغضبي وثورتي. وناجاني كل شئ بلا صوت. لكنهم لن يستطيعوا إخبار أحد عن طبيعتي وكيف آنست. لم يكن هناك من أحد ليعبأ براحل مثلي. أو يكترث بظلام  بارد قد هبط ليقضي على ما طواه نهاري. غلبني طوفان مشاعرعميق. جرفني بعيدا عن عالمي. أردت أن أعود يوما وأنا أحمل شيئا، لكن نفسي لم تطاوعني فى معرفة متى ستكون عودتي؟! مثل هذا السؤال لا ينبغي للمرء أن يسأل نفسه. مثل هذه الاسئلة تتحرك وتذوب وتصهر النفس بالإنتظار.  نهاية الأمر تذوى إلى ما لا يكشف عنه أبدا فى خلوتنا مع أنفسنا،.. أصبحت وطنا لأسئلة لا أعرف كيف أجيب عنها. تدهمني كل لحظة.
ذلك هو الأمر. لكن على كل حال ظل سؤالا ككل أسئلتي بدون إجابة. لا يفارقني فى خلوتي. وودعّتنى  صفوف مبانى الموظفين  المنصوبة على حافة الطريق القديم.. أحالها المغرب إلى أيدي رمادية تلوّح لى. لم تكن حمراء باهتة كما هى إنما غرقت فى دوامات وغمامات الشتاء. كم كنت مثل هذا "الونش" الكبير على رصيف الميناء. أحمل الكثير. وكم فكرت مرة ومرات.."سأعلق ذكرياتي فى خطاف هذا الونش، لتحملها سفينة تغادر لا أعرف لها مرفئا ترسو عليه.."
بينما كنت أحذر غاطس البحر وونش الميناء الكبير فى مرورى دوما. فلم تغرق ذكرياتي تحت السطح، و لم أضعها بحمل يُغيّب بجوف سفينة فى بطن البحر بعيدا.
"ماذا لو حام شبح سائما من سكنه للمنزل الموحش ؟.. ماذا لو وجدني فى طريقه ؟!.."
أخذتني الإحتمالات،.. ربما يأخذ ذكرياتي. ولا آخذ ذكرياته. احترت، فلم أكن إلا طفلا ولست شبحا. الأشباح تهوى الذكريات،.. تقتنيها. فلتكن إذن ذكرياتي مؤلمة لو استولى عليها أحدهم. فلتكن جمرة بقلبه تحرقه. ويضطرم بها صدره. ولن أقايض مالى بذكريات أحد. إنتظرت بفارغ الصبر ريح نوّةٍ شتوية، لتهب على المنزل الذى يخشاه أهل الحي النائي.. لتكسر نوافذه المغلقة. لتبحث فيه عن شبح ذكريات، لتطلقه، فينطلق. سأترك له ذكرياتي، ليغزلها فى الظلام خلف أشجار عتيقة. ينسجها ثوبا لا يستطيع أن يحيا به.
سيؤرقه. سيجد له منها طيفا ملازما له، لا يدعه. ينظر له بلا مبالاة. ولا أعرف حقيقة كم مرة إنتظرت فيها؟ 
المؤكد أن ذكرياتي ظلّت فى عقلي. لم تغادرني . وحادثت نفسي:
" لو كان شبحا ضيقا أفقه لا يعرف طبيعتي، فلن تنفعه ذكرياتي شيئا. سيتركها.."
إن جاء ليستولي عليها ذات ليلة، حينئذ، حينما توقظني جدّتى، سأكون طفلا بلا ذكريات، فى غرفتنا الوحيدة، بإضائتها الخافتة غارقة فى الظلام وراء الدرب. ولكنني لم أستطع ترك ذكرياتي يُتاق لرؤيتها كل لحظة، أو يرجع إليها أحد. هى لى أنا وحدي. الأمر الأكثر تأكيدا، أن إنتظارى لم يكن له ليستمر إلى الأبد،.. فقد غادرت بها، لم أتركها لأحد يمسسها بسوء. ولم يأتني شبح هائم.
أكثر ما أدهشني آنذاك. تساؤلي عمّا لو كانت ذكرياتي لأحد. تعجبت كثيرا. سوف يهفو ليطلع عليها كل حين، سيرنو إليها خلسة أو بفضول. يتحين اللحظة. يرتبك، يحتجب، ينفرد بنفسه،.. لكنه نهاية الأمر سينتهز كل فرصة ليفعل. بعيني عقله وعمره، فقد ظلّ حيّا..
أعلم  أنها زاد ومؤنة،.. آسرة النبرة. حقيقة مرة لذكريات راحل. مرآة لنفس مجهدة. دائما الذكريات تحيا. ودائما بها نحيا. من من البشر بلا ذكريات!
وكان من الممكن ألاّ أصبح بلا ذكريات.. لو كنت كذلك ربما لم أكن لأغادر الساحل. ولما لا.. ؟!. أليس محزنا أن أكون بلا ذكريات ؟! 
ضحكت من نفسي ساخرا.. وظهرت عليّ مجرد ابتسامة بلهاء جافة. بل جامدة. كان إحتمالا بغيضا ألاّ أكون طفلا يحمل حقيبة ذكريات. كيف يمكنني أن أبحث عن شئ. وعُدت نفسي ألا أحمل جديدا أخطو به، عازما طرق باب غربتي. وحيدا. يكفينى ما لديّ أحيا به. ولم أقلق حقا إلاّ من سؤالي لنفسي:
" كيف يمكننى أن أحيا مرة ثانية ؟! "
وأعتقدت فعلا أنني سأصطدم بذكرياتي، فلن تخبو تدريجيا.. ومللت من تساؤلاتى. تتراكب. تتراكم، بشكل لا يصدقه عقل. توخزني بأسنانها. لم أجد شيئا يجمعها على قاعدة.
" لما أنا. لماذا ما حدث. متى. كيف وقع. وكيف..، وكيف.. "
مرات و مرات، ليلا و نهارا. مرارا و تكرارا. على كل حال، كانت لحظة فرقت بين قسميّ حياتي وباعدت بين ضفتيّ عمري. كيف إجتمعت جدارات الأسئلة هذه، جدارا وراء جدار،  سورا خلف سور. كتلة فوق كتلة. حتى لا أعبر  حقيقة ما حدث لي.     كان شيئا مستحيلا، لكنه وقع بالفعل. بعبارة محايدة، هكذا بدت لى الحقيقة الغامضة حقا، أمسكت بكبدها عندما حدّقت فى الأفق الغائم، ورفعت بصري فاقتربت شيئا فشيئا، لتصبح كتلة كبيرة ودائرة متهورة، حجبت ما خلفها من تساؤلات مريرة.. كارثة، إن لم أرها. وقد علت فوق الأفق. ابتعدت عنها لأراها فى مواجهتي تماما، بصورة بللورية صافية أكثر وضوحا ماثلة أمام ناظريّ. أتأملها فى صمت. لم تصبح راقدة مختبئة نصف إختباء، أو مختفية وراء جدران. كان قدرا محتوما..
إستحق الأمر عنائي فى هذا الطقس الغائم وأنا راحل. أمام ضرب لمستحيلات يعصف بعقلي ويسحقني. بلا شك، كانت صورة مثالية، حية. أبدا ما كانت سطحية. أضفت حالتي عليها إرادة، كفتني لأمضي بطريق، لم أختره لنفسي، لأتلاشى فى غيابات البحر. كان هناك شئ ينقص ما مضى من العمر. كشف عنه قدري.. وطرحني فيه.
نعم، كان الزمن دائما شتاءا. فلماذا لا أتذكر سوى برودة نهارات أكدّ فيها. وليالي أخاف منها. تجمد أوصال طفل يتيم. لم أرَ فصولا أخرى. اللحظات الثقيلة لا تمر بسرعة. وهكذا تكون دوما. قد تتوقف أبدا لا تفلت من قبضة الزمن. ولكن يمضي بها و بنا، لا ندرك له قياسا. نترنح على شفا حافة هاوية مجهولة.لا نبصر حدا فاصلا نميّز معه ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا. دوامات تتأرجح فيها النفس قبل أن تغيب لا تشعر بنبض الزمن. تعلمت كيف أغوص وحدي في عالمي مع ما تبقى. ولكنني وقعت في براثن مجهولة تمسك بذاكرتي. تتشبث بها. أستغرق في الصمت ساكنا لا أنطق. تعلمت كيف أرهف السمع لهسيس صمتي، وأنصت لصوت من لا صوت له، على الضفة الأخرى من المجهول.. أعلق آمالا على إستيفاقة أسطورية توقظني من ثقل الحزن. متوهما أن أعود بلا ذاكرة. ولكن هيهات فلا شيء سوى الصمت.. لا يخلّص منه سوى حقيقة الموت. وابل من الذكريات. طوفان من مشاعر متضاربة، اختلطت بحبات المطر المتناثرة. اصطدمت بأوراق صغيرة تطير بصوت خافت. وإزداد هطول المطر. وتصاعد صوته، تردد على أرضية ذاكرتى الغارقة. أكاد أسمعه الآن. أقارن الحياة بسفن مسافرة بعيدا عبر بحر رمادىّ. أشاهد المسافرين رجالا ونساءا وأطفالا لستُ منهم . كل شئ إجتاحني. ورأيت طفولتي هاربة من هباءات خريفية لأكوام غبار متفرقة، تركت فوقها منذ صيف قاسي قبل أن تجففها حرارة الشمس. عند نهاية درب موحش، جدّتى هناك، منتظرة، على عكاز معقوف. والعتمة، تتقاطع مع سقف غرفتنا الوحيدة. هذه كانت حياتي بزمنها المتوقف تسير بلا حركة. بلا زمن أحسبه. بلا زمن أحيا به. كان هذا القلب الصغير فى الجسد الصغير سجينا محتجزا.. طفل تأسره ذاكرة رؤى لا يملك منها شيئا.. حقائق مبهمة تسحقه. وأشياء يكتنفها الغموض. كأن كل شئ قد تحول إلى ظلال. ظلال وراء ظلال. تثبت وسرعان ما تتباين وتتحرك، فتغيب وتختفي.  صورا تتداعى.. لا أدري من أين تأتي أو إلى أين تمضي وتذهب. لا تقرّ أبدا ماثلة في عينيّ. تشعرني باختلاج حياة لم أحياها. ما كان يوما واتجه إلى نهاية محتومة ينبض به ما تبقى.
لا أعرف كيف حدث هذا..؟ ولم أسأل أحدا. ولم أدعِ لنفسي معرفة آنذاك. وغادرت الميناء مغرب يوم شاتٍ، نهلتُ من ماء مطره ما أتزوّد به وأمتار. لن أنسى أبدا ذلك الشتاء الحزين. ولن أنسى ذاك المغرب الباهت. رغم أنى لم أرَ شمسا تغرب هذا اليوم.. ربما أخذها الزمن فى خدرها، فلم تغادر. لم يكن لها أثرا سوى خيوطا حمراءً، تبعثرت متناثرة متسللة بين غمام قاتم. رأيته. رأيت بقايا الشمس. رحل المغرب بلونه الوردي غائبا مستترا وراء الضباب، كذاكرتي تماما. حينما رفعت بصري لألقى نظرة وداع على رصيف الميناء. كان البحر نائما فى سبات عميق. والسماء تغطيه بردائها تخفيه.   لم يشعر البحر ولا السماء برحيل مثلي. وكتم المغرب سرّ مغادرتى. طواه ..
وسافرت، مدسوسا، بقاع باخرة  كجنديّ فى خندق، .. بين ماكينات ثائرة فى أحشائها، وتروس حديدية لا تتوقف عن الدوران. تطحن نفسي، دائرة برأسي. وكم أخذت من ذكريات حزني وقودا.
وثملت من ذكريات الطفولة فى قاع زاويتي الحديدية. راحلا.. مسافرا. أمسح عنها وعنى أثر ما لا يُمحى أثره. لم ينسبك حديده بنار سبكت تميمتي. وشقَّت باخرة الغربة عباب البحر. ألتزمُ ركنا بعيدا فى جوفها. وأشتاق لدفء ملمس سبحة أبى الخشبية. لكن أبدا لم يبرحنى سرّ التميمة. 

تارة أتهم جدّتى العجوز بحماقة الهرم. تارة أتهم أبي الذي أورثنيها. وتارة أتهم نفسي. فأكلتنى الغربة، ولم أرَ مرافئ. أى قدر يورِّث صغيرا يتماً مريرا وتميمة قديمة تحيط بعنقه، تطوّقه..؟ ألم يكن حريّا أن يورثه أثر سجود، كبياض وجه أمّي أتذكرها به؟. جدر بأبي لو خشي ألاَّ يتركنى أتكفّفُّ ذكريات غربتي مبكرا؟
أورثنى تميمة أتقلّد بها. ورثتُ قلب أمّي. وورثتُ ذكرى جلد متجعد لجدة عجوز، وعظام ناتئة تنغرس فى صدر ذاكرتى. سجنتنى وراءها. أبحرتُ بسجني لمدن صاخبة بعيدة. لم أرها. سرعان ما اتهمت نفسي بالتجنّى. لم يرتكب جرما فى حقي. أبى لم يكن شيطانا مريدا. ولم يكن ملاكا معصوما، يفعل ما يؤمر. برئت له من ذلك، ومن ظنّى. من يحب لا يكره. ومن يكره لا يحب. لا يجتمعان. وبرئت له ذكراه من ريب. ولنفسي أبرأ.. فمن يتفانى ومن يفنى في آخر لا يمكن أن يعرف حياة أخرى، .. لا يعرف إلا الوحدة لتدوم معه العمر. وحملت وطأة رهان الخوف والحزن في قلب صغير.. صدعت جدران عالمه تلك الأيام. وتعيدني الذكرى إلى نفس النقطة من ذات الدائرة الموصدة. لا مهرب ولا منفذ منها. لا تفلتني ولا أفلت منها. لم أكن لأحدث نفسي" إذا شئت أحب، و إذا لم تشأ لا تحب.." لم يكن مفهوما لى إلا ملازمة غريبة لأصداء فى نفسي. تنازعتها. أنّى لصغير هزيل مثلي كان ليختار ؟! و دوما كنت على حافة دائرة النار.. لم يكن لي لأشاء لنفسي شيئا. وحينما أستغرق أشعر أنى داخل هذه الأصداء لا هي داخلي. وصارعتني تساؤلاتي عن أبي. ألم يكن رجلا صالحا يأكل عمل يديه ؟. يحبّ سيّدى " القبّاري". ويقصد حلقة الذكر فى مسجد "ياقوت العرش". ويتحلّق مع الذاكرين. لم يمنعه حبه لسيّدى ياقوت والدروايش من أهل الله عن زيارة باقى الأولياء. أصحاب الخطوة " سيّدى بشر. أبي العباس. أبي الدرداء،  سيدي جابر..   "
ولسبب ما أحبّ أبي كثيرا "سيّدى القبّارى". دلف كثيرا إليه دون صحبة دراويش. مسبّحا لله نقيا طاهرا. يحدوه و يقوده سيّدى لملكوت. بيديه كتب صوفيّة عتيقة صفراء. وكمّ أبي اختفى. مرة وحيدة اصطحبني فيها. أوغلت. رأيته، سمعته، يقول لدرويش جانب الحضرة " سيّدي. سبحتك تسع وتسعون حبة. أحبّها سيّدى. سبحتى صغيرة، ثلاث وثلاثون. بِعْنيها أو هبنيها، بركة سيّدى ياقوت، فأدعو لك سيّدى". ابتسم الدرويش ماسحا رأس أبي. غطاّه بعبائته الخضراء. استشعر حرج سؤاله سبحته بماء وجهه، ولم يسأله إلحافا. نظرت لأبى. قرأ عينيّا ببصيرته " يا بنى هؤلاء يرون بنور الله. هذه السبحة ملكوت.. وددت قبسا منه. هم من نور الله.. ليسوا بشياطين. ليست وجوههم ولا قلوبهم لشياطين أبدا. لا تلعنهم الملائكة بما ينطقون!!  إنما حروفهم نور. حياة. صمتهم عبادة وفكر.." 
لم أسأله بيانا لما قال. علم أنّى سوف أفهم يوما ما. وأتذكر ذات مرة يتم كبير لطفل صغير، وقف على رصيف سفر غريب. لم يوّدع أحدا. لم يوّدعه أحد .سكن  الغربة وسكنته .وجالت بخاطرى فترات إختفاء أبي عن بيتنا الصغير بأطراف بقايا حي ناء. لاأدري أين يغدو؟ يعود بميرة ومؤنة تكفينى وجدّتى. أرى تشقق يداه السمراء. وقد وَسَمَ جبينه أثر السجود تحت إكليل عمّته البيضاء. وهالة بيضاء تضئ وجهه الأسمر. لم يقصّر يوما، فلما أتهمه، وقد ترك لى ميراثا تميمة.. ؟ جنايتى أنا على نفسي. لم أفهم. وورثت بصيرة أبيثم أدركت...
وعُدتُ، أستحضر حديث المنزل الموحش. أتذكر خوف أهل الحى من أشباح تسكنه. "هذا البيت مسكون" جملة لم تكن لتفارقهم دوما.. يحذرون إقتراب أسواره. ويسمعون صدى أصوات أرواحه. يخشونه. تنهرنى جدّتى من الذهاب صوبه. ومع مغرب كل يوم حرِصَتْ ألاّ أخرج عشيّا بعتمة الليل. راعنى ما أخبرتنى. وأتجنبه نهارا لئلاّ يسكننى خبر أراجيف أهل الحىّ " هذا البيت مسكون بأرواح " وتذكرنى. وتظل تذكرني بها جدّتي، فألتزم مطمئنا حضنها، حصنا منيعا. ألوذ به. أغوص به، متكوّرا، جنينا. ألتصق بجلدها المترهِل، إلتحفه. أتمسك بعظامها الناتئة، قضبانا صلدة أحتمى وراءها. يضمّنى قلبها. كثيرا ما تخيّلت أشباح البيت الغامض سوف تهرب منه. تلتهمنى. مرات ومرات رأيت جذوع أشجاره الضخمة العتيقة، غيّبت قبابه خلفها، بستار رمادي. أغصان من رهبة مشوّهة. معقودة بسنين خوف، تزحف. تتلون. تتعانق. تُدِكن حجره وقرميده. وتتحول لكائنات خرافية،  برتوش تغير ملامحها. تحوّل وجوهها إلى ليل من غيلان. أنياب ومخالب، تترصّد مارّة غرباء، يضلون طريقهم بليل، ترهبهم، تخطفهم فى جوفها، تبتلعهم، تمزقهم،  تعتصرهم باطشة بهم، .. يتلاشون. لم أرَ أسوار بوابته الحديدية المسنّنّة غير أشباح ومردّة أخرى. طالّة برؤسها بين ثناياه. وفوق أعمدة السياج، فلا هى عزلت البيت عن الحي، نسكنه. ولا هى منعت خوف من غيلانه التى تشق البراءة. وأختفى فى ذكرى أمّي، أتمسح بها، فيهدأ روعي ويستكنّ. لم يوقظنى من ذكريات طفولة بعيدة، سوى صوت صافرة باخرة غادرت لتوها مرفئها. وصافرات جاريات رفعت مراسيها. تحررت، مؤذنة برحيل غرباء مثلي عن مدينة عريقة.  وصلتُ مع شروق الشمس، بعد إغتراب شتاءات باردة طويلة. أنتظرت الدفء طويلا. وعلى صدري تميمة خفيّة، أخفيها تحت جلدي ! أحاول معرفة سرّها . لا تراها  إلا ّ بصيرة! 
وأتذكر درويش سيّدى ياقوت بصدى صوته صدّاحا شاديا، يؤنس غربة الزائرين: "سبحان الدائم. سبحان الحي القيوم. سبحان البديع" لم يغب الدرويش عن الحضرة، بدكانة عمِّته الخضراء، منسدلة وراء ظهره. يفرد عباءته الخضراء على الأفق. وبيمينه سبحته من خشب الصندل. تفوح منها رائحة ذكيّة. منتهاها  قرمز الحرير مغزولا، يعلوها. يعقدها حول يمينه كإسورة ذهبيّة. وهبها أبي، لتتعتّقّ بها رائحة عرقه، بمسكّه الطيّب، سنين.  أبي لم يكن تاركا التخضبّ به. صارت عنبرا بعرقه. يصرخ وَلِهَا مشدوها "  رضيت ياربّ. بلى رضيت. ياربّ رضيت " ! 
تشمّمّتُ ذكراه. أخرجتُ التميمة. تحسّسّتها. تركت تلمّس حوافها الدافئة. طالما لازمنتى. أستشعرها مع لمسات أنامل جدّتي، وأحسّ نبض قلبى. وصدى صوت لشاد غريب، لم يرحل أبدا مع رحيل رتّبته  أقدار! يظل يشدو. ويشدو، ويشدو،.. آسرا الروح بلحن شجي حزين. أيقنت أنى لم أكتشف مرة واحدة حَفْرها الغائر، فى صبّ ذهبها، فى قلبي، طوال غربتي.. أمعنت النظر مع سطوع الشمس. كانت وضّاءة تمسك بمنتصف السماء، غرقت فى زرقتها، جليّة جذابة. مفعمة بحيويتها، لم تخفها غمامات الشتاء. بقيت التميمة فى قلب طفل صغير. نبتت فيه زهرة تشرق بلون الفجر. تنبئ عن سهم قدر قد نفذ. غربة أضاءت ملامح تائهة لحروف تعويذة نفيسة، فريدة. خلّدتها وحملت بصمتها. لم يطمسها ماض مكلوم دفين. أشرقت. لم تصبح أبدا تائهة. برقت لتقرأها البصيرة. إنما كان هناك فارسا غريبا، صهرته نار أسطورة. وغشّاه نورها. رحل. ذابَ فى قلب تميمة. إنمحى منها اسمه. تلاشى فى نور.. اختفى..
 ...