سرماديا

سرماديا

صفحات من رواية جذور





من مسودة 
رواية جذور
الفصل الأول كامل
وبقية الفصول مرتبة، تباعا..
-------- خالد العرفي

---------------------------------


(1)
مرّ هذا العام، بطيئا. ولم آت إلى هنا، منذ السنة الفائتة، فى نفس الموعد. كما هى عادتى، منذ سنوات، مضت. قد أكون غير محق، فى هذا. لكن، على أية حال، بات دأبى هذا، تذكرة لى، لما عشته يوما. ولم أنساه. على الأقل، عرفته، منذ ما يربو، عن عقد مضى. أدركت حياة، لم أكن لأدرك معناها، حتى مات.
-" تراك، يا دكتور مصطفى، لو كنت مازلت حياّ، أكنت تتذكر، تلك الأحداث؟!"
أيام مضت، وليال، قد مرّت.. للأسف، لم تسقط من ذاكرتى، يوم أن علمت خبر إنتحارك، من فوق سور كوبرى خليج إستانلى، يوم ثلاثاء، بمنتصف ديسمبر 2004. إبتلعك البحر، لثلاثة أيام، قبل العثور، على جثتك طافية. لفظك، وسط محضنة طحالب، وأعشاب بحر، بين صخور شاطئ، يبعد عن الخليج، ثلاث كيلومترات. وقد حملها التيار الشديد..
قال الشهود:
-"أنك ألقيت بنفسك، فى لمح البصر، والسماء تمطر..
لم ينظر خلفه، أبدا..
لم يقاوم الأمواج.
إبتلعه البحر، فى جوفه.."
ربما، لم توّد أن تودع الإسكندرية، أو تودعك، فى هذه اللحظة. مثلما، ودعتك الحياة، صباح ثلاثاء شاتى، بديسمبر.. عمر قد فنى، بين قدر، ومصير أليم..
-"أخشى أحد قِلة، قد رأت منيّتك، أن يقفز خلفك، فى بحر هائج، بيوم قارس البرودة، ليمد إليك يدا؟!"
-"أم كانوا يعلمون، أنك تستحق الموت، فى نهاية مطاف حياة طبيب، غريبة؟!"
-"أم تركوك، لمصير إخترت يومه، أم إختارك، هو.. ؟!"
-"أم كان موتا، بلا إختيار.. ومصير لا يُرجع، عنه؟!"
حينما وصلنا الكوبرى ليلا، بعدما علمنا الخبر، كان مضيئا، يلفه الضباب. بالكاد، قد أقول أنه كوبرى. ولا نرى البحر، بمحاذاة شاطئ، قد غاب أفقه، فى عمق الظلام. لم نسمع، إلا صوته. تندفع أمواجه بسرعة، تدوى هادرة. رغم ذلك، لم يخبرنا، عمّا حدث،.. الموج، ولا الصخور. لم أره، كما رأيته أنت. منذ آخر نفس، وآخر نظرة، كانت لك.
فى السنوات الست، التى تلت، تلك اللحظات، من منتصف ديسمبر 2004، وحتى أواخره، دأبت على إستعادة تلك الكومات الهائلة، من ذكريات مغمورة، تحت سطح البحر، فى ذاكرتى. لم تذهب معك راحلة، إلى عالم آخر. أو هكذا أظن. فلم تكن تلك التفاصيل بعيدة عنى، أو عن حياتى. لكننى الآن، أعرف ما رأيت فيها، حقا. أدرك كمّ الفوضى، التى كانت. فكّرت أنك، لو كنت تجلس معى، كما كنت تفعل، لرأيت ذلك، حسبما، صار الأمر عليه..
-"أين أنت الآن..؟! وأين هم..؟!" وأين نحن..؟!
فكّرت كثيرا، فى المرحوم أبيك، وزوجته المسكينة.
فكّرت، فى مرضاك النفسيين، وما آلت إليه، مصائرهم.
وكم فكّرت، فى الدكتورة عهد الكنانى، والدكتور يحيا شرف.
وفكّرت، فى جَنى، ووالديها، اللواء عبد الحافظ سليم، ودكتورة دريّة عطا.
لم أنس، الدكتور توفيق العلمى، أستاذ الطب النفسي بكلية الطب.
ولا وكيل النيابة كمال بك.
وحتى إدريس النادل النوبى العجوز، ومساعدتك الآنسة جيهان.
وحتى، عبد الباقى معاون المستشفى، والتاجر الأرمنى كالفيان جستنيان، ووريثه أوهان..
متولى خيرت صاحب صالة المزادات، بكامب شيزار..
حجازى بستانى البيت القديم، بكفر عبده..
الصحفى عصام صابر، ورئيس التحرير فوزى عمران..
ومروان المصرى، من رويت باسمه مذكراتك، ومذكرات أبيك..
وغيرهم كثيرون.. صحافة، ووسائل إعلام..
طوال هذه السنين، لم ينقطع تفكيرى، فيك وفيهم. لم يرحل أحد منهم، عن ذهنى أو يغادر مخيلتى، أبدا. وقد إرتبط كل منهم، بك أو بقصتك، لسبب أو لآخر..
أأخبرك أمرا آخرا:
لم أتصور أن هذا فعلا، ما كان وحدث. إنما، كل ما أفعله، يا صديقى، أننى أزور قبرك، كل يوم، مثل هذا اليوم، طوال سنوات، منذ إنتحارك. أحادث نفسي. تذكرة، أتفكّر. وليس فقط، تنفيذا لوصيتك، أننى الوحيد، الذى سيفعل ذلك، كصديق، لما بعد الموت.. عامة، يبدو لى الأمر، الآن، على حقيقته، أكثر سطوعا. ليس كما رأيتك، أول مرة، عصر يوم ثلاثاء، وافق بداية يوليو عام 1999. نفس شهر مولدى. كأن مقابلتى بك، ثم موتك، كانت ميلادا جديدا، لى. هذا هو الحديث، الذى يعصف برأسي، كلما أتيت هنا، فى ذكرى منتصف ديسمبر، كل عام. راحلة، إلىّ ذكريات ما وقع، بلا ضجر، من أعماقى. إنما اليوم، بات هاجز جديد، يسكننى. منذ جئت، قبيل نصف ساعة، إلى مدافن المنارة القديمة. على مبعدة، من باب، يجاور طريق أبى قير. أشعر بك تماما، بجانبى. تقرأ معى، شاهد قبر رخامي، هو لك. بدأ، يبهت ويتآكل. يمين، ممّر ترابى ضيق، يلاصق سور، محدق بمقابر، شرق مدينة البحر. فى هذه الظهيرة الشتوية الغائمة، المنذرة، بمطر، فى جو متقلب.. ليروى ظمأ، رفات موتى، وعظام نخرة، بأجداثها. ما إن نغمض عين، إلا ونرى، تحت أطباق الثرى، من وُري فيها. أودع، هذه الحفرة، فابتلعته، هاوية. وعلى طول مدى، ماض ينتظر، أن تغرب شمسه. إنقضت، كأوراق غصون ذابلة. لا تنوح على أحد، فى ذاكرتى. احتوشتهم، فى بطنها. أعادت صورتها، فى ثوان خاطفة، قراءة ما نُقش، على رخام أبيض، بلون أسود غائر. إرتكز على مقدمة قبر، تحت ظلال أفنان، شائكة سميكة. لشجرة صبّار هرمة، رؤوسها، كالإبر. عمرها، أكثر من ثلاثين عاما. يُلملم أطرافها، سكون الموت الهاديء. تحرسه. وعلى شاهد، يخفر مدفن كبير، فى مقابر المنارة، حتى تاريخ اليوم،.. كنت أقرأ:
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
عائلة /
المرحوم د / مصطفى صالح
توفى فى يوم الثلاثاء 15 ديسمبر / 2004 م
 الموافق لغرة شهر/ ...... هـ
غير أن سكينة وخشوع الدائرة، التى تصدرت مشهدا، مملوءا هيبة، آتانى صداه، قد تلاشت، مع صوت مشبوب، بأمل خروج. صدع ذاكرتى، وهو ينادى: "العزاء، العزاء"..
إنتبهت على صوت المطر، وقد بدأ يهطل، وصوت أحد التربيّة، منتظرا عطيته ، ذاهبا رائحا، علىّ:
-"كل سنة، وأنت طيب يا بك. تعيش وتفتكر.."
بخلفية صوت آخر، بين مشيّعى جنازة، على مقربة منى:
-"سيروا ببطء.. لئلا، نزعج موتى راقدين.. لن يخرجوا معنا"! 
بينما، كنت أقارن، بين تاريخ الوفاة أمامى، أقرأه. وتاريخ يوم، فيه رأيتك، محفور فى ذاكرتى. ما بين ثلاثاء، وافق أول يوليو عام 1999، وثلاثاء آخر، بمنتصف ديسمبر 2004.
دسست، فى يدّ الرجل، ما دسست. غادرت، بصمتى، خلف المشيّعين. لم يساورني أبدا شك، فى أن يوما سيأتى، ليطلق عقال صمتى، تحت ستار ضباب الشتاء. لأضع أحمال روح، وذكريات، لا تغادرنى.. كانت أحاديث نفس، لا تنقطع. غلالات رقيقة، لا تفارق عقلى. أسمع صداها، كطقطقة نار، بقلب موقد، فى ليلة شتاء طويلة. لا يُعرف كم بقى منها، أو كم مضى. كانت قد مرت سنوات معدودة، لم تكن كفيلة، بطمس صورة تلك الأيام البعيدة، من أماكن، شاهدت وقائعها. كبقايا ضرائح منسية، بنسيم حزن. يمسّ حطام مهدّم، وأنقاض ركام قديم، شهد أجزاءا، من حيوات أصحابها، فيما مضى. خمس سنوات ونصف كاملة، ناهزت فترة معرفتى به، إلى أن إنتحر. ثم إنتهائى، من سرد، يحكى ما حدث، عائدا، إلى تلك  السنوات،التى خلت، وحتى الآن.. معنى مباشر لإدراك تجربة خاصة، أن هناك ما يحب أن يقال،  لنمسك، بزمام حقيقته. 
 (2)
ليس مؤكدا لى، مطلقا، أية إجابة، عن كل ماشغلنى، من تساؤلات، منذ ذلك اليوم الشاتى البعيد، وحتى الآن.
بداية أتنصل، من قدرة على التعبير، أو قوة للتخيل. لا أدعى إمتلاكا لموهبة خاصة، فى كتابة قصة أسردها، عن نفسي، أو عن عن هذا الطبيب المدعو مصطفى صالح.. لا أملك هذا الخيال، لتكون التفاصيل، إلا بكلمات حية واقعية. راغبا، لو إنتهت بشكل مختلف. ومحققا قدرا من النجاح. ليس لى فعلا، إلا ما لرجل عادى، قاده القدر ليكون هو. لا بصيرة، عابرة لى. ولا موهبة سامية، تحلق بى وراء لامعقول. أن أخمن شيئا، ومبتدعا، بحرية مطلقة. بعبارة أخرى، لم يكن، فى ذهنى شيئا محددا، يستفزنى البتة. سوى إرث مجهول، كان يمكن أن يحدث، لإنسان آخر. رفض، ضد منطق الحياة الصادم، وأسئلة بلا معنى. حقيقة الأمر، تركت لغريزتى الإنطلاق، دون توقع شئ معين، يقابلنى، أمام ما حدث فعلا. لم يكن فى حقيقته، إلا شيئا، غير عادي. واقع، أكثر إثارة، من كل خيال. ذلك، العدو الأكبر للحقيقة. تبيّنت، أن كلماتى الأولى، لم تعد هى، كما أعهد. لم أعد أناقش كل شئ، مرة واحدة. حقا، رأيت حياة واقعية، أكثر عمقا، وإتساعا، من الخيال، نفسه. إكتشفت زيف الفكرة القديمة، عن الذات، مادمت أفعل ما أريد، من أشياء، تستحق أن أفعلها. يحلم بالقيام بها، كل إمرئ، طالما، لم يصدم بعد. أدع الأمور سائرة، فى طريقها، رغم أية صعوبة. قطعت شوطا كبيرا، حتى أصبح البحث، فى الأعماق الخلفية الساحرة، لأنفس هذا النوع المسمى النوع البشرى، أكثر سلاسة، بالنسبة لى. بعقلية عنيدة، ونفس هادئة، لا تنخدع معها. يصعب، السير فى نفس الطريق، بذات المفاهيم بتساؤل:
-"ما الحياة، ومّن نكون..؟!"
شكل حزين، من تيه كريتيى مرواغ، لتيسيوس. بناء غير مستقر. متسائلين، بحيرة، وتحت ضغط:
-"إلى أين نتجه..؟!"
 الأمر كله، قائم على العلة والمعلول. هكذا دائما، حاولت أن أبحث، دون أن تقودنى صعوبة، إلى ذاك اليأس الهادئ. لكننى حافظت على الحياد والموضوعية، دون عواطف، أو تحيزات وشروط مسبقة. أستطلع، ما لا أعرف من مجهول. لمحة من الحياة، لوضوح رؤياي المستقبلية، وصحة حكمى، فيما بعد.. كم، هو كبير تيار الحياة، فى عالم، لا يبالى بنا. الحياة نفسها لغز كبير. يتزايد غموضه. لا يتضاءل أبدا. إنما تضمحل ذوات. يصيبها البلى والفشل. تتلاشى، أمام، تحدٍ قائم للحياة.لا أنكر، أن الأحداث التى رأيتها، لم تتكشف لى بكاملها، بداية الأمر، حينما شرعت أكتب وقائعها. ما كنت أعرف شيئا مسبقا، عن سير خيوطها الغريبة، على نحو واضح، بما فيه الكفاية، يؤهلنى لتوقع أمور تحدث، وتقع فى الحياة.. إذن لابد من إعترافى، بأنه بسبب ما يسمى بظروف مهنتى، كنت قد كتبت، ما حدث يوم ما. على نحو غير متخيل، مطلقا..  ولم يكن يسيطر علىّ، تنبوء بنهاية هذه القصة. وعلى نحو ما وضعت نصب عيني، ألا أقترب من حقيقة، لا تكمن، إلا وراء أحداثها الفعلية. هذا صحيح تماما، فالأمر كله، إستعادة جزء من الماضى. شخصيات وضعتها الظروف، فى طريقى، بحكم عملى، وأقدار. ربما، لهذا التجرد المفروض، فى هذه الحالات، نلت مكافأتى، أن كتبت قصة حقيقية غريبة..
 (3)
فى الواقع، لم يحتج الأمر منى، سوى إعادة ترتيب تفاصيل حياتى وحيوات رأيتها، لأفهم. تسبب الإرباك، وتنتزع منى السخرية، لأسباب لم أرغب فيها، مطلقا. وإنتهيت أخيرا بالتسليم:
- " أن هذا ما كان وما قدر لمدعو غامض. طبيب نفسي، بت أعرفه، فى نفسي، شيئا فشيئا. لا تخلو حياته، من طرافة وصدف، وأقدار عجيبة.."
 حتما، لم أعرف مسبقا، أننى سأعرفه متفردا، وحياة غريبة، لهذه الدرجة. وليذهب إستمتاعى أو تهكمى، من تساؤلاتى، إلى سراب هجير صيف. بالطبع، لم أكن أنا سوى رئيسا لنفسي. كما حلمت دائما، أن يكون عملى. كبيتنا، الذى لا يشاكله مبنى آخر، فى المنطقة، ولا يناهزه. فى تلك المدينة الساحلية، التى لا تعرف للحقيقة وجها، ويحملها بحر، فى كفّه، حيث أعيش. ما إن تطأها بقدميك، حتى تكتشف الزيف الحقيقي، لصخبها. تغسل أدرانها أمواج البحر، كل شتاء. تتركها شبه عارية. لا تملك لنفسها، من قوة تميزها. لا تلوّنها بشكل جليّ، سوى تلك الشرور القديمة، المسماة بالتاريخ التليد، لمارية المتوسط. تغتصب الذاكرة، مرة بشيء لذيذ ممتع. ومرات أخرى، في حملة شرسة عنيفة ومؤلمة، على ضفتي إستعباد سنين حاضرة، لم يحكم عليها بعد. دائرة معارف فاتنة.
على أن أذكر أننى أعيش، مع والدتى، هنا. بعد وفاة الوالد، فى بيت بإيجار قانون قديم، كان قد بناه الخواجة إبراهام سعدون، بعد الحرب العالمية الأولى. قبل أن يهاجر، فى خمسينيات القرن العشرين. ويؤمم، هذا البيت الأشبه بفيلا، من بداية القرن. كان والدى قد أخبرنى، فى طفولتى:
-"يا يوسف الخواجة بناه حصينا، كقلعة، ليتحمل ضرب قنابل الطائرات للإسكندرية، والغارات، إذا حدثت حرب.."
حديقة صغيرة، ببضعة أشجار معمرة. وبوابة خارجية، تطوق مبنى، مكون من طابقين، وقبو سفلى.. الجدران كلها، من الأحجار الكلسية السميكة، وطبقة طلاء، لم يزلها مرور الزمن.. هنا ولدت أثناء النكسة، بهذا الحى المسمى (ثروت باشا) فى الإسكندرية، ظهير سان إستيفانو. موقع متميز، يتوسط مناطق: لوران، وزيزينيا، وجليم. وعلى غير بعيد من طابية السراى، وسيدى بشر.. حيث يسهل الوصول، إلى أى شاطئ قريب. ومن الجنوب، شارع عبد السلام عارف، حيث شريط ترام الرمل، بعرض، خمسة وأربعون مترا. أما بيتنا، فكان فى حوزة والدى، إيجارا، من الحكومة.
تنتهى شوارع مدينتى، بطريقة عامودية، دائما. على طريق، يسيطر عليه خط ساحلى بحرى. يمتد، من الشرق إلى الغرب. دائما، هو نفسه البحر، بصخوره العجوزة، التى تعرفها الشمس. بحر الروم القديم أو الأبيض، لا يهم إسمه. طالما، ذابت فيه تلك الأرواح. طواها تاريخها، في سكينة وإطمئنان، أنه لا يوجد غيره نهاية. لا يعطى وجهه أبدا، للغرباء. لا يتسائل، ماذا عليه أن يفعل. تلك، هى مدينتى. أصبحت، لا تحمل سوى مسوح تاريخ عريق، باعث للحقيقة. ينافسه، صيرورة زمن. شاهدة على الماضى، ومثالا للحاضر. لكن غابت فكرتها المدهشة. تضخمت، وتطورت لا ذاتيا. شوارع، نمت خلاياها كالكوابيس. تحملها نوّات، وعواصف الشتاء. لا شئ عاد يكفى. على المرء، أن يبحث عمّا ضاع، فى المدينة الكبيرة، للحصول على مزيد من التيه، لمقيمين وزائرين. شكل، غاية من الفوضى. نحتاج، لعدسات مصقولة، لنرى بها جذور حقائق، لتعود الدهشة والمصداقية. وليس، لغريزة أديب، أو إستبصار مشعوذ.
طبعنى المظهر الآثر، لكل ركن فى البيت، بهذا الهدوء. نفس عازفة بنفسها أمام عبثية الحياة، وجنونها العاري الهمجى، كأعاصير الشتاء العاتية، بعيدا عن كل ثبات وجمال. كنت محظوظا، أننى نشأت هنا. لم يخطر ببالي، حتى هذه اللحظة، وجوب أن هذه ستكون فعلا مهنتى. أن يكون، من غير المعقول عدم التصديق، أنى سأحمل فيما بعد، وأرى من تناقضات الحياة، مقابل هدوء يسكننى، وأعشقه. ثم مفارقات مدينتى، تماما، بين تاريخها القديم، وحاضرها الجديد.. أو مثل خط المترو الهرم هذا، المارّ أمام الشارع، الذى أسكن فيه. كان من الواضح حقا، أني لا أملك لنفسي حق الإجابة، بالنفي:
-"لما أنا بالذات؟ ولماذا لم أعمل شيئا آخرا..؟"
 كنت لا أعرف، قط:
-"من هو ذا، الذى أحمل إسمه يوسف فهمى..؟"
 وحينما تساءلت مؤخرا، لم تحتمل أسئلتى، هذه إجابات مقنعة ومنطقية، لى. أكد لي هذا ردة فعلى وصدمتى عند إستفهاماتى المريبة، لنفسي. كان عليّ أن أجد بنفسي، ولنفسي لغة سابقة أخاطب بها ذاتى. ومحدثا بها يوسف فهمى، هذا الذى أحمل اسمه. لغة بين السكون والحركة. بين الصمت والصوت. صمت، يخلق كل شئ. أخذت أجرب كل الإحتمالات، لإستنبط منهجا. حتى لا أصل إلى طريق مسدود، أو أواجهه. جانب آخر من التناظر مع ما لا نرى، فى الحياة. دون فقد لحظة واحدة، تقفز بى إلى شئ، لا نهائى، يعود بى إلى المحدود. كأنى عالم واسع من الخيال، عالم مفترض تماما، بصورة سرية. بشكل مدهش، كشفا للحقيقة
 (4)
متقاربا العمر. جمع بيننا، ما لم أكن أتصور، أن يكون سببا، فى صداقة، ولا فى قدر. متشابهان، كثيرا، ربما. وربما، على طرفى نقيض، فى الحياة. وقائع حياتنا، تقول ذلك. تقرره. مارسنا مرارتها، وإثارتها. عرفنا هذا عن بعضنا البعض، منذ أن تقابلنا، بيوم قائظ، بداية يوليو عام 1999. كاد أن يغرق، أمامى، فى حمام سباحة النادى. بادئ الأمر، ظننته، يمازح أحدا ما، إلى أن تعالت صيحاته، على بعد أمتار قليلة، منى:
-"أرجوك هات يدك.."
-"أتمزح.. !"
حتى أيقنت جدية الأمر، من نبرة، وطريقة إستنجاده، بى:
-"هات يدك.."
بسرعة، قمت بالسباحة، نحوه. شددته من العمق، الذى إنزلق له. ولم أكتم تعليقى الساخر، وأنا أضحك:
-"هذه أول مرة، أرى من يغرق بحمام سباحة. وأظنها الأخيرة.." 
-"لك حق أن تسخر. لكننى فعلا، لا أعرف السباحة. إنزلقت قدماى، إلى هذا العمق الأبعد. كدت أغرق.."
-"يا رجل.. أيوجد سكندرى واحد، لا يعرف كيف يعوم. يغرق فى حمام سباحة..؟!"
وبصوت عال، رد:
-"أنا يا أخى.. أنا.."
وضحكنا، وقد دعانى، بعدما إرتدينا ملابسنا، إلى مشروب، تحت مظلة.. وكان الحرّ قد إشتد..
-"دكتور مصطفى صالح.. طبيب نفسي.."
-"أه طبيب.. يوسف فهمى يا سيدى. صاحب قلم. تستطيع أن تقول، دون حرج، أديبا فاشلا.. أرانا، متقاربا العمر. أليس كذلك؟"
-"بالقاهرة، ولدت في مارس 1965 لأب تاجر، إنتظر ست سنوات، قبل مولدى. وعامين قبل أن يرحل، عن الدنيا، إثر حادث، بعد إنتقالنا إلى الإسكندرية. تركنى وشقيقة، تصغرنى بعام واحد. هكذا، أنا أول طفلين، لأم كلمت فى زوجها.. وأنت؟"
-"بعدك بعامين، فى يوليو 1967. وحيد أب. إستشهد، على خط بارليف، عام 1973. وأنا، بالسادسة من عمرى. ترك أرملة شابة، وابنا وحيدا، فى رعايتها.."
-"أرى أن كلانا تيتم مبكرا.."
-"لم لا تقل أننا، قد نشأنا مبكرا، متشابهين.."
- "اضطررت والدتى متابعة عمله التجاري، بشجاعة، يحسدها عليها الرجال.. متجر، للتذكارات السياحية.. تركة، من بعده.."
-"بطبيعتها، حاولت بحكمة تدبير معيشتنا، فى حدود معاشه كضابط.. إستطعنا مواصلة حياتنا،.. الآن، كاتب فاشل.. وأرجوك، ألا تمارس مهنتك علىّ.. بى، مسّ من جنون الكتابة، أصلا.."
-"أعدت للسخرية، ثانية..؟ أعتقد، أننى قرأت لك أشياءا. أنت كاتب خيال علمى. عامة من الإبداع، ما هو جنون. أدرك ذلك.."
-"ربما. وربما، لم تقرأ لى، بعد..!"
-"ألست أنت، من كتب، عن إمكانية وجود حياة، بكواكب أخرى، فيما وراء مجرتنا. وعن كائنات الفضاء الغريبة..؟!"
-"العلم نفسه أثبت ذلك، مؤخرا. إن شئت، إقرأ إكتشافات المرصد الفضائى كبلر. وعن كوكب جودزيلا، وغيره. أكثر من ألف كوكب، أكتشفت، فعلا.."
وضحكنا معا. تواعدنا أن نلتقى، مساء اليوم التالى، فقد كان لدي موعدا، ولديه إرتباطات عيادته، هذه الليلة. لوح لى بيده مغادرا، وبصوت عال:
-"الليلة، بالتأكيد، سوف أقرأ عن جودزيلا.."
 (5)
إستمرت صداقتنا منذ هذا اليوم. منذ حادثة غرق فاشلة،.. لم تكتمل، فى حمام سباحة. ذات ظهيرة صيفية، شديدة الحرّ. طبيبا نفسيا، وكاتبا ينازع الحياة. وتنازعه. يكتب رواية، بعيدا عن الخيال.. أصبح حديثنا، يأخذنا بعيدا، مع تكرر لقاءاتنا، وتنوع ما نتحدث عنه. لا أنكر، أنى كنت الأكثر إستفادة. أسمتع له، بإهتمام بالغ. يتكلم بعمق عن الطب النفسي، وأغوار النفس البشرية. كنت أكتشف جهلى. يزداد يقينى، أنى لم أكتب قصصا بعد، فيها هذا البعد الهام. كان يستمع، لى. وربما شكوت له عن معاناتى. أنى على إقتناع تام، أنى لم أصبح، من وجهة نظرى، شيئا بعد. لمست منه، ما بدا فى شخصيته، وإهتمامه، بعالم الأدب. لم يخلو حديثنا، من دعابة نتبادلها، من حين، إلى آخر. ولم يتطرق حديثنا مطلقا، إلى غير ذلك، حتى هذا الحين. حتى نهاية صيف 1999. أذكر أننى رأيته ذات أمسية حارة، قبل إنقضائه. كنت، كأنما أراه، لأول مرة. طويلا. أبيضا. قوى البنية. ذا شعر بنى، داكن. وحاجبين ثقيلين، تحتهما عينان عميقتان. ذى شارب هذبه، جيدا. مهندما. إهتم كثيرا، بتناسق ألوان، ما إرتداه.. علقت، على أناقته الشديدة، فقال لى:
-"الألوان شخصية صاحبها. هذا ما إستفاد منه الطب النفسي كثيرا. حتى فى طلاء غرف المرضى، بألوان محددة. وفى تشخيص المرض، وأساليب العلاج الحديثة.. "
-"بلا ريب، فالطب النفسي أحد فروع الطب. والطب، له منهجه. وما أكثر أحاجى العلم، وخباياه. لا أستبعد، أن للألوان أسرار أخرى، لم تكتشف بعد.."
أدهشنى بتعليقه:
-"بالتأكيد. ما أكثر أسرار الأدب والفن والألوان.. "
علقت بدورى:
-"أما أنا، فالأسود لدى، ملك الألوان كلها.."
ومكملا، حلقة الحديث الدائرة :
-"كما للتاريخ، أسرار، وألغاز. ومنه، تاريخ العلم، نفسه. وتاريخ الفنون والفنانين والجنون معهم. بلا شك، أوافقك الرأى، للألوان أسرارها. وهذه ألوانى.."
وقبل أن نكمل حديثنا، ويأخذنا، لواد آخر. أردفت معلقا، على تلك الليلة الحارة، التى خلت، من نسيم هواء الصيف:
-"يتوقع أن تكون الفترة القادمة، الأعلى حرارة، في تاريخ التغيرات المناخية، في العالم.."
قال، مندهشا، من تغيير الحديث، على هذا النحو:
-"كيف علمت إحتمال إرتفاع درجات الحرارة، على الأرض؟"
قلت، بجدية:
-"بالطبع، لست بعالم طقس، وأرصاد جوية. لست بمذيع لها، عقب نشرة أخبار. إنما هى معطيات. علماء قاسوا درجة حرارة الجو، فوق سطح مناطق مختلفة، من المحيط الهادى.. "
قال:
-"أهذا، يؤكد أن تغيرات جذرية سوف تحدث ؟"
قلت، مستطردا:
-"بلى. في الرياح. التيارات المائية. الجفاف. الأمطار. والفيضانات. في مناطق واسعة. شئ لم يشهد مثله، من قبل. كتطورات الإضطرابات النفسية والعقلية. تحدثنى عنها، من حين لآخر. لمرضاك.."
قال:
-"ماذا سنفعل..؟!"
قلت، وأنا أشير له، بسبابتى:
-"ربما، لا شئ بالمرة. فلن تكون موجودا. فربما إحدى هذه الكوارث، تكون حينئذ، قد ضربتك،...."
صمت قليلا، ثم أجابنى:
-"سوف تتمنى أكثر، من أى وقت مضى. وأتمنى، لو كنت ميتا.."
أجبته:
-"لا يمكن لأحد أن يقول، أن الموت وجد ليكون حلا، لمشكلة. من الأفضل أن تموت، من أن تعيش كل لحظة، في خوف.. الخوف موت.."
وحتى عاصفة الحديث التى أعقبت ذلك، جعلتنى أردف:
-"أأنت خائف من الموت؟"!
أجابنى، بصوت خفيض:
-"حينذاك، نكون على وشك الموت. نقول فى أنفسنا: لن  يخرج أحد من هنا، وهو على قيد الحياة"
أجبته بهدوء:
 -"هذا غير صحيح. إذا كنت قد فقدت الفرصة، فى الحياة. جدير بك، أن تحاول ألا تموت عبثا. الخوف، من الموت نفسه، عبث.."
مرة ثانية صمت واجما، قبل أن يسألنى، من جديد:
-"لم لا تحدثنى، عن الكائنات الفضائية. ألم تكتب عنها كثيرا، فى مؤلفاتك..؟"
ضحكت، قبل أن أجيبه، مداعبا له، مازحا. وقد إستغربت، من العلاقة، بين سؤاليه:
-"لعلها تقتلك. حدثتك عن تغيرات المناخ، فكدت تدخل فى غيبوبة. ربما لم تكن لتعود منها. ماذا لو أخبرتك، عن أشياء فى الفضاء، لم أكتبها فى أحد كتبى. شئ من قبيل أحاجي، وأسرار التاريخ، وخفاياه.. ؟"
تردد قليلا، قبل أن يجيبنى، وقد أخذه فضول، وشغف:
-"حسنا. لعلك تقصد إختفاءات غامضة، أو إختطافات فضائية. أمور من هذا القبيل ؟"
-"ليس هذا تحديدا، إنما لدى أدلة قطعية، على وجود كائنات فضائية، أو مخلوقات كونية، على الأرض.."
 وقبل أن أكمل، ضحكت، مرة ثانية. لكننى، سرعان ما أردفت، قائلا:
-"أترى هذا الأصلع، هناك.. يذكرنى بها. لعل، لو تم تشريح جثته، بعد موته، لوجدناه، أحد هذه المخلوقات الغريبة.."
عاد إلى الوجوم، والصمت، مرة ثانية.. وكان قد رمق الرجل، بنظرة فاحصة لطبيب، وكأنه يتأكد من قولى، قائلا:
-"بلى. هناك تشابه عجيب، بينه وبينها. يكاد يصل إلى حد التطابق. يشبه ما تواتر من صفات، جاءت بها مشاهدات موثقة، من الشرق والغرب، كما قرأت لك.. وكما شاهدت، فى أفلام الخيال العلمى.. فرأسه كبيرة. عيناه تشبه أعينها. وهو، قصير القامة، بطول يماثل أطوالها.."
علقت على حديثه، وقد اسهبت قليلا:
-"كائنات غريبة. تقلها سفن فضائية مجهولة. ترتاد جو سماء الأرض.."
على أية حال، كان علىّ أن أجيبه، مضطرا، وقد ألح علىّ فى السؤال، مرة تلو أخرى، بعيدا عن أحوال مناخ كوكبنا المتوقع، ومصائب إرتفاع درجة حرارته، وأهوالها، فى المستقبل. كان محور حديثنا، فى هذا للقاء، فى تلك الليلة، الحرارة والكائنات الفضائية. قبل أن أذكر له، ما سجله ابن إياس، فى تاريخه، عن أجسام طائرة مجهولة. ومشاهدة الرحالة العربي ابن بطوطة، لجسم غامض..
إستغرب حديثى، عن كتب قديمة معروفة.. فأضفت له، قائلا:
-"الرجل وصف طبقا طائرا، كان رابضا فوق البحر. ثم إرتفع محلقا، غائبا، فى أفق السماء.."
فرد قائلا:
-"أنت تدهشنى حقا، بإستطراداتك، يا أستاذ يوسف.."
 وختمت حديثنا بما ذكرته أيضا، عن حادثة "روزويل" الشهيرة، عام 1947، قرب صحراء نيفادا. ومشاهدة أشياء غريبة، تحدثت بالسماء. معلقا بإقتضاب:
-"سقوط طبق طائر. إثر إنفجار راعد.."
تستطيع أن تقول عنها:
-"أشهر واقعة عثور، على جثث كائنات فضائية. أشبه ماتكون فى صفاتها التشريحية، بالبشر.. "
وأنهينا نقاشنا بهذه اللحظة، التى لم يسبق لها مثيل، في التاريخ البشري، قبل أكثر من خمسة وستين عاما، مضت..
 (6)
وفى لقاء آخر، ربما بعد أسبوع أو أكثر، على ما أذكر، سألنى:
-"كيف تكتب ؟"
حاولت أن أعرض له الأمر، كمرض، أعانى منه، فعلا..
-"شئ مثل الصداع. نهاية ملائمة له، دائما، أن يضاء مصباح، فى أعماقى. ومنذ تلك اللحظة، لا أفكر فى أى حل آخر، مطلقا، غير مواصلة الكتابة. أستمر مستسلما، لسطور قصة أكتبها. رويدا رويدا، حتى آخر سطر. لا أحتفظ بها فى داخلى، أو أحملها أكثر من ذلك، كشحنة بارود، تنتهى صلاحيتها..
كان يهزّ رأسه، صامتا، قبل أن يطالبنى، بمزيد من شرح، لم أعرف له سببا، فأضفت:
-"أبحر بعيدا، قبل أن تؤرقنى فكرة أخرى جنونية، تضيع معها الأولى، إلى غيابات نسيان. على إمتداد نفس الشعور الغريب. أمر حتمى تماما. لا أحتاج معه مزيدا، من وقت، أضيعه. مقاومة نوع آخر، من صداع درامى، لفترة طويلة.."
-"قال لى وصفك رائع فعلا.. "
قلت له مستطردا، وأنا أبطن دهشتى:
-"فى النهاية، أسميه مرضا أدبيا. جنون إبداع. وإبداع جنون. لاشفاء منه. لا أقاوم أبدا بريق ومضاته، بارقة فى عقلى، موغلة فى كيانى.. "
قال:
-"أرى، أن الأمر كله أساسه الخيال.."
قلت:
-"فى أحيان عديدة، لا أزعم بأى حال من الأحوال، أن أياّ، من هذه الأفكار، ينتسب لخيالى الراعد. حينما، يبدو الأمر كله، أغرب من دائرة الخيال نفسها، وأوسع من أفكارها، وحدودها.."
قال لى:
-"أحيانا، يتكفل الواقع المثير فعلا، بكل شئ،.. !!"
لحسن الحظ، وحتى هذه اللحظة، لم أفكر فى أمر أكثر، أو أبعد من ذلك. اللحظة، التى أكتب فيها مثل ما يحدث. إستطردت، فى حديثى، قائلا له:
-"تعلم أن البحث والتأليف العلمى، غير هذا تماما، وإن جمعت بينهما خطوط تماس، فى عالم الكتابة.."
لكننى عدت، وكأنه قرأ ما يدور فى ذهنى، فقلت:
-"أرانى أعانى من حالة إكتئاب كتابى حاد ومزمن.."
ضحك حتى ملأت ضحكته، ما حولنا، معلقا:
-"أراك تستخدم مصطلحات الطب النفسي. أنه مرض يا أستاذ يوسف. الإكتئاب مرض. من المؤكد أنك، لا تعانى منه. أنت على وشك أن تبدع أكثر.."
ومع الوقت طلب منى، أن يقرأ لى صفحات من مسودات، لم تصدر بعد. يناقشنى حولها. فى وقت كان يحاول فيه أن يقول، أنه يجد متعة كبيرة، فيما يقرأ لى. بينما، أؤكد له، أنى أكتب ما ليس له قيمة. بل وأزيد، أنها محاولات فاشلة، واحدة تلو الأخرى. حتى ذكر لى مؤخرا، يداعبنى:
-"أرى أنك سوف تزورنى، فى عيادتى، قريبا. هذه المرة ليس كصديق..!"
ورددت مداعبته:
-"بلا شك. فقد إشتقت، لرؤية مساعدتك الجميلة الماهرة..!"
وهو يعلم مشاكساتى لها، فى المرات القليلة، التى زرته فيها، عابرا.. وإنتهى لقاؤنا. أحادث نفسي، أن حلمى يظل دوما. يجمع شعث النفس، وتفرق الذات. أسافر، فى أشعة شمس دافئة، إلى دور التاريخ، وسكرة أفكار غير مكتوبة، أبحث عنها. تتدافع فى رأسى تفاصيل أضواء مصابيح وقناديل. ما إن تتملكنى، بدفء غريب، أصبح، شهابا، بين النجوم والكواكب والأقمار، فى أعماق سموات بلورية. تنحبس أنفاس توترى، أمام رغبتى المتوقدة فى المعرفة. هكذا، لا تتركنى، إلا وقد ذبت، فى تلك الأضواء المتلألأة، بلون الياقوت والذهب والعنبر. مزيجا، بلا إنتهاء، فى أرض غير الأرض. سماء غير السماء. كون غير الكون. أنفصل عن كل شئ. بقلبى وروحى.غارقا بعقلى، فى عالم آخر. لا شئ، يضاهى هذا الشعور، مطلقا
 (7)
وفى مرات، زارنى فيها ببيتى، كنت أقنع أمى، أنه يتابع حالتها الصحية، بعيدا، عن طبيبها الخاص. ولا يتعدى الأمر منه، قياس ضغط،  أو قراءة تحاليل طبية دورية تجريها. وربما، وهو يهم، بالإنصراف، بعد جلستنا معا، فى حجرة مكتبى.. وفى كل مرة، يقول عبارة واحدة:
-"الضغط عادى، والتحاليل جيدة.."
ولم أذكر لها مرة واحدة، أن صديقى طبيب نفسي. لم أكن لأسلم منها، إن علمت ذلك. فهى تعانى، من مضاعفات، مرضىّ السكرى والضغط..!
كانت تتعجب منذ بداية صداقتنا، ولا تخفى تعجبها، وقد لفت إنتباهها، أنه لا يلبس خاتما لخطبة، أو زواج:
-"لماذا، لم يتزوج صديقك دكتور مصطفى، إلى الآن. رغم وسامته. قل له: أن له لدى، عروس جميلة!"
كل مرة، أجيبها:
-"أراه، لا يحتاج خاطبة، يا أمى. أنسيت، أننى الآخر، لم أتزوج بعد، إلى الآن..!"
ولم تأت الفرصة لسؤاله، عن سبب عزوفه، عن الزواج. بينما المرة الوحيدة، التى وصف لى فيها، دواءا، كطبيب، إثر شعورى بأرق مستمر، لعدة ليال. فكانت حبوبا منومة، رأى أنى:
-" فى حاجة ماسة، لها.."
 بعد أن رأى هالات سوداء شديدة، حول عينىّ، وإرهاق بدا علىّ، قد ضرب بجفونى. وقد ترجمت اسم الدواء، بالعربية "ليلة هادئة"..!
-------------------------

من الفصل الثانى

أتعرفين الألكسيادا..؟!

-----------

شتاء 2000 


(1

لا أنسى يوم أن رأيتها. يوم، أن تبادلنا الحديث، لأول مرة . وكان عن كتاب الإليكسادا ، الذى جمعنى بها، فى مكتبة الإسكندرية.. فى ظهيرة يوم الإثنين، بالأسبوع الأول، من يناير 2000. كنت أختلف إلى المكتبة، أثناء عملى، فى روايتى التاريخية "شيزر". للرجوع، لبعض المصادر التاريخية، التى لا توجد، فى مكتبتى الخاصة. منها، كتاب المؤرخة البيزنطية "أنّا كومينا" ابنة الإمبراطور البيزنطى "ألكيسوس كومنين". أرّخت، لفترة حكم أبيها، فى هذا الكتاب. كنت أعلم، أنه لا يوجد، إلا نسخة واحدة منه، فى المكتبة، التى كانت تحتفل، ببداية ألفية العالم الثالثة، فى هذا الحين.. كنت فى حاجة، لأنهى فصلا من الرواية، وكنت قد توقفت فترة. وكان لابد من الرجوع، إلى الكتاب، بصدد بعض المعلومات، عما قام به، البيزنطيون والفرنجة، بسبب أطماعهم، إزاء إمارة بنى منقذ، فى شيزر سنة 532هـ/1138م.. وعلاقاتهم، التى بدأت مبكرا، وتنوع صورها، مع الوقت، بحكم الظروف والأحداث، بين الجانبين.. بناءا على إرث سياسى وحضارى للإمارة، وموقعها الإستراتيجي. بالفعل، الكتاب، كان يمثل أهمية كبيرة، بالنسبة لى. لذلك، سبقت زيارتى هذه للمكتبة، زيارتان أخروان، مؤخرا.. فشلت فيهما، فى الوصول إليه ، والإمساك به، رغم وجوده يقينا، بالمكتبة. لم أكن أجده، فى مكانه، على الرّف المخصص، لمجموعة الكتب، التى ينتمى إليها.. وعدت، من كلتا الزيارتين، خاوى الوفاض.

كانت الساعة، قد قاربت الواحدة، ظهرا. ورغم ذلك، كان الجو ضبابيا، وباردا إلى حد كبير.. وقد أثقلت علىّ، من ملابسي. كنت أرتدى بنطالا رماديا ثقيلا. وكنزة صوفية بنفس اللون، لكن أشد درجة. وهذا "البالطو" الإنجليزى الداكن، وكوفية صوفية سوداء.. لا تفارقنى، طوال أيام وليال البرد.. نسجتها أمى، لى، برائحة يديها.

ذهبت، إلى المكتبة. رأيت الأكتاف، من حولى، مضمومة. تكاد تلتصق برؤوس أصحابها، من شدة جو، قارس البرودة. إنحنى بعضهم، واضعا يديه، فى جيوبه. بينما إرتدى البعض الآخر، قفازات جلدية.. بينما معظم الشباب الجامعى، كان يرتدى "طواقى" صوفية، بألوان متعددة.. كان"الجينز" السمة الغالبة، على ما يرتديه جمع المارّة،.. متنقل هنا، أو متسكع هناك.. قبل أن أدلف، إلى ساحة المكتبة، أمام البوابة الحديدية، لجامعة الإسكندرية، بمجمع كلياتها النظرى.. تحديدا، أمام مدخل كلية التجارة.
دخلت المكتبة، آملا فى نتيجة مرجوة، هذه المرة. وقد حرتُ، فى الأمر.. ربما يكون، قد تغير مكانه. ووقف عدم معرفتى به، حائلا دون وصولى، إليه. إستفسرت، من أحد العاملين، على الحاسب، برقم الكتاب وبياناته، التى معى. كان شابا مهذبا، ضمن مجموعة عاملين ذكور وإناث. رأيته، بقميص أبيض، ورابطة عنق زرقاء مقلمة كبيرة، بعقدة كبيرة، وبنطال أسود، ذى نسيج لامع. حدثته، عن الأمر:
- "قدِمتُ مرتين. وفشلت، فى الحصول على الكتاب.. كيف، يمكننى الوصول إليه؟"
إلا أنه، قد أكد لى:
- " الكتاب موجود فعلا. مؤكد يا أستاذ، هناك من يسبق حضرتك، كل مرة، إليه.. للأسف نسخة واحدة فقط، موجودة منه.."
سألته، مستفسرا:
- " والحلّ..؟!"
صمت قليلا، ثم أجابنى، وقد رأى، أنه قد حلّ لى المشكلة :
" تعالى مبكرا.. لعلّ، وعسى.."
كتمت غيظى، وقلت له:
- " ليست بمسابقة، فيمن يحضر، قبل الآخر.. كل، له مواعيده. وظروفه، التى يستطيع أن يأتى فيها.."
عاد إلى صمته، من جديد. ولم يجبنى، كأنه يسخر منى.. لكننى، قرأت بين عينيه:
- " وماذا أفعل لك، أنا..؟!"
(2
هذه المرة، عزمت، على عدم مغادرة المكتبة، قبل أن أرى هذا، الذى يسبقنى، كل مرة، للكتاب.. وقد حرص دائما، على أن يحوزه، قبل غيره.. لم يكن أمامى، سوى أن أقوم بالتجول، بهدوء وببطء، بين أعمدتها، وأروقتها الأنيقة. أمرر ناظرى هنا. وأنظر هناك، بين المناضد الخشبية الكبيرة، بلون الأرو. لعلّ بصرى، يقع على الكتاب.. إنتهيت، من هذا الركن، إلى ركن آخر.. ومرّ وقت غير قليل. كنت، على وشك اليأس، من عثورى عليه، مع هذا العدد غير القليل، من مرتادى المكتبة، فى كل أركانها. بين زائر وقارئ ومتصفح..
وفى اللحظة التى هممت فيها، بإنصرافى، وقد مرت فترة، وشعرت بالحرج، ويأست أن أجده.. قائلا فى نفسي:
" هذا الكتاب لعنة..!"
 ولحسن الحظ، لمحت على بُعد مترين منى، كعب الكتاب.. وقد إستطعت قراءة العنوان، واضحا عليه، وببنط كبير عريض:
" الإليكسادا".
كان يفصلنى عنه، منضدة كبيرة، محاطة من ثلاث جوانب، بمجموعة من الكراسي الخشبية الثقيلة. رأيته، وقد ثنيت بعض صفحاته، على بعض الأوراق البيضاء، من الحجم الكبير. كان هناك، شبه مفتوح، بين أنامل دقيقة، تقبض عليه. إقتربت، لأجد، على المنضدة، كتابين آخرين، مفتوحين. مجموعة متنوعة، من الأقلام. تجاور عديدا من الأوراق، لنسخ ضوئية مصورة. كان واضحا أن، قد تم تعليم بعضها، أو تخطيط البعض الآخر. أو تظليل، مواضع منها، بين سطورها، بألوان مختلفة..
لم أستطع، أن أتبين وجه، من يفعل ذلك. ولم يكن غيره، يجلس على هذه المنضدة. إقتربت أكثر.. كنت واقفا وراءها تماما. كانت جالسة على مسافة، نصف المتر، تقريبا. ألقيت برأسى، من خلف كتفها، الذى إنسدل عليه شعر أسود، مضموم، على جانب واحد، بشريط وردى قانى. درت أمام المنضدة. حتى هذه اللحظة، لم تكن تشعر، بوجودى، مطلقا. كانت هناك غارقة، فى تلك الأوراق، فى عالم آخر.. قلت، فى نفسي:
- " هذه هى إذن، من تسبقنى، دوما.. هنا، فى بيزنطة!"
وترددت، قبل أن إقترب منها، بهدوء، قائلا:
- " صباح الخير.."
وكررت قولى:
- " صباح الخير.. يا آنسة"
لكنها، لم ترد، كأن لم تسمعنى. لم أشأ رفع صوتى، حفاظا على هدوء هذا الركن، من المكتبة.. إنخفضت بكتفيّ، مستندا بيدى، على طرف المنضدة، مكررا، مرة أخرى:
- " صباح الخير.. يا آنسة، آسف لإزعاجك.."
أرخت طرفها، تحت زجاج نظارة شفافة رقيقة، بإطار أسود رفيع رائع. إختفى ذراعاه غارقان، فى موجات شعرها، على جانبي، جبينها الأبيض.. لمحت من يحدثها، أخيرا. وبصوت ملائكي، ردّت :
- "صباح النور.. أيمكنني فعل أي شيء، لك يا أستاذ ؟"
قلت:
- "مؤكد.. وأكرر مرة أخرى، أسفى .. "
صمتت، ثم قالت بعد برهة:
- " وماذا..؟"
أجبتها، بسؤالى:
- " هل لى، أن أعرف متى، يمكننى أن أقرأ، هذا، الذى بين يديك..!"
وعادت إلى الصمت، برهة أخرى، قبل أن تجيبنى، بإستغراب:
- " وما دخلى بالأمر..؟!
أجبت:
- " حضرتك مستحوذة على الكتاب، منذ أسبوعين، قدمت فيهما ثلاث مرات. وفى كل مرة أجدك، قد سبقتينى إليه. لا يوجد غير هذه النسخة.. وهو هام، يلزمنى العودة إليه!"
إبتسمت نصف إبتسامة، وهى تهزّ رأسها، قائلة:
- " آه.. فهمت الآن.. وما شأنى وحضرتك تأتى متأخرا.. المكتبة تفتح أبوابها، فى العاشرة، والآن الواحدة ظهرا.. !"
كدت أغضب، ويرتفع صوتى،. كان على أن أكتم غيظى، للمرة الثانية بعد حديثى مع ذاك الموظف، ثم هذه التى، كانت تلقى باللوم، علىّ أنا. تقول لى، بطريقة غير مباشرة، أن الخطأ خطئى. قلت لها:
- "ليس لأحد أن يحدد لى، متى أحضر..!"
وردت هى قائلة، بحدّة:
- "ليس لأحد، أن يقرر لى، متى أقرأ.. ومتى أنتهى، من قرائتى..!"
أحسست أن عبارتى، خانتنى، فقد كنت حادا، أنا الآخر، وكأننا فى شجار نفسي مكتوم، وغريب.. إعتذرت بلطف، مجددا:
- "لا تعلمين أهمية هذا الكتاب، لى. وقتى ليس بيدى. أرجو أن تتفهمى هذا.."
(3
كنت واقفا، فجلست، إلى كرسي خشبى بجانبها. لم يمنعنى حديثنا، أن أستشف، بمقارنتى، لمستوى رأسينا، بالمنضدة،.. أنها كانت أقصر منى قليلا.. قارب عمرها، على الثلاثين، وربما أقل من عمرى، بعدة أعوام. قوامها متوسط.. بيضاء. ذات وجه دائرى، بملامح هادئة جميلة. وجنتان رقيقتان. عينان عسليتان صافيتان، بحاجبين طبيعين رائعين.. وفم رائع، بشفتين ورديتين دقيقتين. يتبوأ، بينهما أنف ملائكى.. دون أثر، لأى مساحيق. تحاشيت النظر إليها مباشرة، وأنا أحدثها.. ولبرودة الجو، كانت ترتدى بنطالا ثقيلا داكنا، يتناسب لونه مع "جاكت" من الجلد الطبيعى، طويل، بلون بني داكن. يصل إلى ركبتها، وهى جالسة.. مخفٍ تحته "بلوفرا" صوفيا، بلون كريمى غامق.. ذى رقبة واسعة جميلة، مثنية طبقتين.. وقد أحاطتها، بسلسلة ذهبية رقيقة. بها ثلاث أحرف عريبة متشابكة، مشغولة، بدقة، على شكل هلال. إستطعت تبيّن حرف الجيم، يتوسط حرفين آخرين. يحيطان به، حرف الدال يمينا، وحرف العين، يسارا. كانت تلمع، مع إنعكاس أشعة الشمس عليها، التى تتسلل، من سقف المكتبة الشفاف، فوقنا..
وشعرت بصدق إعتذارى، وما أقول. هدأت، وكأنها أرادت الإعتذار، هى الأخرى، لكنها توارت، قائلة:
- " حسنا، أو تعرف الإليكسادا..؟!"
فابتسمت، ملتفتا إليها بوجهى، أجيبها:
- "وكيف آتى ثلاث مرات، باحثا عن الكتاب. كيف أعرف، أنه لا يوجد منه، غير نسخة واحدة فقط، هنا؟!.."
لكنها أردفت:
- "ليس هذا ما أقصد. إنما، أنت الذى قلت، بأهميته، بالنسبة لك..!"
قلت:
- "من المؤكد، أنك تعلمين أن "الإليكسادا" للأميرة البيزنطية المؤرخة "أنّا كومينا "ابنة الإمبراطور ألكيسوس كومنين.."
وقبل أن أكمل، قاطعتنى:
- "طبعا، أرخت فيه لعهده، وما شهد من وقائع، فى هذه الفترة"
وأكملت أنا، بجرأة:
- "دوّنته باللغة اليونانية. وأنهته بعد عشر سنوات، بأحد الأديرة، آنذاك.. هذه هى النسخة المترجمة، بالعربية. لا غيرها رأيت..، قطّ..!!"
وأخذنا سجال الحديث، بيينا عن الكتاب. قالت لى:
- "أنت تقريبا، تعرف كل شئ عنه.."
فقلت:
- " إن شئت، قولى: تقريبا كل شئ.. وكثير من المصادر التاريخية الأخرى .."
صمتت واجمة، كأنها إستغربت ما أقول.. شعرت أنها كظمت غيظها.. تجنبّت أن تسألنى عمّا ذكرت، وعادت إلى الحديث، عن الكتاب، مرة أخرى، قالت:
- "مصدر تاريخي هام. قيمته كبيرة، لكل دارس لهذه الفترة، التى أرّختها الأميرة أنّا .. "
قلت:
- "أعلم، فهو يعتبر مصدرا أساسيا. يرقى إلى درجة الوثائقية، وإلا ما بحثت عنه مطلقا..!!"
سألتنى:
- "تراك فيما تحتاجه.. ؟"
أجبت:
- "هو نفسه السبب الذى تقرأينه من أجله...!"
سألتنى، وكأنها حددّت لى الإجابة:
- "أتُعد بحثا، أو رسالة ما، عن هذه الفترة .. وفى أى كلية باحث أنت..؟"
أجبت، بإستنكار:
- " لا.. لست بباحث تاريخ!"
إستغربت، من إجابتى، وسألتنى، مندهشة:
- "لا بحث. لا رسالة تاريخية.. ماذا إذن.. ! "
مشيرا بيدى إليها، وقد إستندت، إلى المنضدة، قلت لها:
- "مهلا مهلا.. وهل الباحثون فقط، هم من يقرأون التاريخ ومصادره.. ؟!"
أجابتنى:
- "لم أقل ذلك.. ولم أعنيه، مطلقا.."
قلت:
- "حسنا، لست أحتاجه، بسبب ما ذكرت.. لا هذا. ولا ذاك.."
قالت:
- "أثرت فضولى.. نوعية هذه الكتب،لا يعرفها إلا المتخصصون"
قلت:
- " وجهة نظر سليمة،.. لكن، هناك غير ذلك.."
سألتنى:
- "إذن، ما السبب الملح، الذى جعلك تأتى، من أجله، أكثر من مرة؟"
- " أولا، لأننى أعد رواية تاريخية، فى نفس الفترة. ثانيا، لم أجده، إلا هنا... ثالثا، لأنه معك الآن..!"
وكنت سأقول :
- "رابعا، أننا معا الآن.. " غير أن الكلمات، وقفت على لسانى.. وبكلمات قليلة، سألتنى هى، مندهشة:
- "أو كاتب أنت. أديب..؟! الآن أفهم.."
ولم يعنها أمر روايتى، فى شئ. فلم تسألنى عنها، كما توقعت، قبل أن تضيف معلقة، على كتاب الألكسيادا، نفسه، وأمرى معه..
- "رائع، كتاب واحد فعل ذلك، بك.. مؤكد أن هناك كثير، من الكتب غيره..!"
قلت:
- " طبعا،.. لابد أن أغطى فترة الرواية، قبل كتابتها تاريخيا، من كافة المصادر، للوصول لحقيقة تاريخية مجردة.. موضوعية كاملة، تجبرنى على كتابتها.. "
سألتنى:
- "منذ متى، بدأت فى هذا..؟"
قلت، بإختصار:
- " خمس سنوات تقريبا.."
سألتنى:
- "أليست هذه بفترة طويلة.. ؟"
قلت:
- "لا أعتقد ذلك. هناك من إستغرق أكثر منى، بكثير. إن أردت عدّدّت لك، من الأدباء والكتّاب عدد لا بأس به.. ولذكرت لك ما أبدعوه، فى فترات أطول.."
لكنها أجابتنى: 
- "لا تغضب من سؤالى.."
- "لا بالطبع.. لكنه الأدب والإبداع. لذلك يبقى فيما بعد. يكون له أثر، لا يُمحى أبدا.. الكاتب وإنتاجه..."
(4
وعدنا إلى حديثنا، من جديد، عن الكتاب، الذى جمع بيننا.. قلت لها:
" الكتاب فعلا هام.. يحتاجه الباحثون، فى هذه الفترة، من التاريخ الوسيط!"
وعلقت:
- "لا يوجد عليه، سوى إنتصارها دائما لأبيها، على حساب الحقيقة التاريخية. ألا ترى ذلك..؟"
قلت:
- "لم أقرأه بعد .. وسوف تكون ملاحظتك فى ذهنى، وأنا أقرأه؟!"
قالت، مستطردة:
- " رغم ذلك، يبقى فى النهاية، من أبرز المؤلفات التاريخية اليونانية، فى العصور الوسطى .."
وعلقت بدورى:
- "أعتقد أن له أهمية كبيرة أخرى، لم يذكرها من قبل، دارسو المصادر التاريخية، وناقدوها، من قبل.."
وإبتسمت، قائلة:
- "وما هى..؟!"
أجبتها، دون شرح..
- " بالطبع، شئنا أم أبينا، هذا الكتاب فعلا هام.. بل هام جدا!"
وتلاقت إبتسامتنا، وكان لها مغزاها.. قبل أن تسألنى، عن إسم الرواية التاريخية التى أكتبها، ولم تسألنى معرضة عنها، حينما أشرت لها..
- "وما إسم روايتك..؟"
أخبرتها :
- " أحاديث شيزر"
ولم إستطرد. بدورى، سألتها، عن عنوان رسالة الدكتوراة، التى تعدّها.. فأجابتنى:
- "التاريخ والمؤرخون: فى القرنين الحادى والثانى عشر الميلاديين- دراسة نقدية موضوعية مقارنة "
رددت عليها، مندهشا متعجبا:
- "هكذا نلتقى معا، فى جنبات التاريخ. فروايتى تدور أحداثها، فى أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجريين، بما يتفق مع نفس الفترة، التى تغطيها دراستك العلمية التاريخية.."
لم تبد تعليقا، غير إبتسامة صامتة، ودهشة عينيها.. حينما وقعت كلماتى، على مسمعها، موقعها. إستإذنتها، فى تصوير الكتاب لى، حلا للمشكلة.. ووعدتنى. وهكذا أتيح لى فرصة، الحصول على صورة ضوئية، منه. لكنها نبهتنى أن :
- "لوائح المكتبة تمنع من تصوير، إلا قدر أو نسبة معينة، من الصفحات، فى كل مرة.."
ورددت :
- "أتعنين، لن يتم تصويره مرة واحدة؟!"
أجابت:
- " بلى.."
وبدهشة، أنها لم تسألنى، عن إسمى، حتى سألتها أنا:
- " يوسف فهمى.. أتعلمين، أننى لم أعرف إسمك، إلى الآن.."
وإبتسمت إبتسامة، أشرق لها وجهها، غاضّة طرفها، وهى تجيب:
- " جنى. جنى عبد الحافظ"
وفى الوقت، الذى كنت أفكر، فى نفسي، بمعنى إسمها الجميل، أشرت إلى سلسلتها الذهبية الرقيقة، وحروفها، وكأنها فهمت ما عنيته.. قالت لى، وهى تمسك بها:
- "إنها أحرف إسمى، وأمى، وأبى.. "
وإستحييت أن أسألها، عن الحرف الثالث، الذى يبدأ به، إسم والدتها.. إلا أننى عُدت أسألها:
- " منذ متى تعدّين رسالتك..؟"
وعن الفترة التي سوف تمكثها، حتى تناقشها.. ووجدتها فرصة أخرى. ولم أدر سببا، لماذا فكَّرت في ذلك:
- " بإستطاعتى إمدادك، من مكتبتى الخاصة، ببعض المصادر والمراجع الهامة، تتصل بموضوع رسالتك.."
- "أشكرك جدا أستاذ يوسف.."
- "لا، بل أنا، الذى أشكرك كثيرا أستاذة جنى.."
وقبل أن نفترق على موعد، بعد غد، فى نفس الموعد.. وجدت نفسي، بدلا من أقول لها إلى اللقاء، أقول:
- " أهلا بك أستاذة جنى.."
ردت بإبتسامة هادئة:
- " أهلا بك أستاذ يوسف.. أراك يوم الخميس، إن شاء الله"
وقمت من مقعدى، أعيده إلى مكانه، وأنا أجيبها:
- " إن شاء الله.. الواحدة ظهرا.. أتركك الآن، مع الأليكسادا..!! وربما نتكلم عن رسالتك..!"
وإختتمت لقاءنا قائلة:
- " وربما تحدثنى عن روايتك..!"
(5
لم أدرِ، كم إستغرق حديثنا، من وقت، حتى نظرت إلى ساعة يدى. كانت تقارب الثانية وعشر دقائق. مر الوقت كانه لحظات، وليس ما يزيد عن ساعة. غادرت المكتبة، وقد أخفيت سرورى. كانت فرصة، لنلتقى مرات أخرى. تمنيت، ألا تنتهى أبدا، من إعداد، تلك النسخة المصورة. يكفى، أن أطّلع على الأصل. ونتبادل الحديث، عن الأدب والتاريخ.. لم أستطع أن أهدأ، وأنا أستعيد تأثير تلك اللحظات، التى جمعتنى بها. هذا القدر الغريب. عبرت باب المكتبة الزجاجى الواسع،.. يتمتم فى أعماقى، صوت:
- " أيمكن أن يكون هذا القدر الغريب..؟!"
سرعان ما حاولت ألا أفكر، فى هذا الهاجز، الذى عاودنى. قائلا، فى نفسي، كأنى أوقظ نفسي من حلم:
- "أنه مجرد لقاء عابر. لقاء عابر. صدفة يا يوسف. صدفة، ويحدث لك هذا..؟!"
ورغم ذلك، لم يجعلنى شيء أنجح، في التوقف مطلقا، عن التفكير فيها، منذ هذه اللحظة. وفي طريقى، على الكورنيش، عائدا.. وجدت نفسي، مستغرقا تماما، فيما حدث. كان وجهها الجميل، بملامحه الهادئة، يملأ الأفق أمامى. لا أرى غيره. بثقتها فى نفسها، والأثر، الذى تركته فى كيانى. كان إحساسا مدهشا. وشعورا غامضا. تملك منى الروح، والعقل، معا.. شئ لم أعرفه، فى نفسي، من قبل. وألفيت هذا الصوت داخلى، من جديد:
- "قدر غريب..غريب!"
- "تُرى، أكان هناك حرف رابع، لم أره.. أم، لم يوجد بعد، فى السلسلة الذهبية؟!"
وقد ظهر لى بُعدا آخرا، فى روايتى. لم أكن قد فكّرت، أو شرعت به، من قبل.. كنت أفكر فقط، فى الأميرة " أنّا كومينا ".. وأميرة "شيزر"!!
-----------------

سرديات متفرقة
من فصول رواية جذور
"محور يوسف/ جنى"
  خالد العرفي ------



شتاء 2000 


(1

لا أنسى يوم أن رأيتها. يوم، أن تبادلنا الحديث، لأول مرة . وكان عن كتاب الإليكسادا ، الذى جمعنى بها، فى مكتبة الإسكندرية.. فى ظهيرة يوم الإثنين، بالأسبوع الأول، من يناير 2000. كنت أختلف إلى المكتبة، أثناء عملى، فى روايتى التاريخية "شيزر". للرجوع، لبعض المصادر التاريخية، التى لا توجد، فى مكتبتى الخاصة. منها، كتاب المؤرخة البيزنطية "أنّا كومينا" ابنة الإمبراطور البيزنطى "ألكيسوس كومنين". أرّخت، لفترة حكم أبيها، فى هذا الكتاب. كنت أعلم، أنه لا يوجد، إلا نسخة واحدة منه، فى المكتبة، التى كانت تحتفل، ببداية ألفية العالم الثالثة، فى هذا الحين.. كنت فى حاجة، لأنهى فصلا من الرواية، وكنت قد توقفت فترة. وكان لابد من الرجوع، إلى الكتاب، بصدد بعض المعلومات، عما قام به، البيزنطيون والفرنجة، بسبب أطماعهم، إزاء إمارة بنى منقذ، فى شيزر سنة 532هـ/1138م.. وعلاقاتهم، التى بدأت مبكرا، وتنوع صورها، مع الوقت، بحكم الظروف والأحداث، بين الجانبين.. بناءا على إرث سياسى وحضارى للإمارة، وموقعها الإستراتيجي. بالفعل، الكتاب، كان يمثل أهمية كبيرة، بالنسبة لى. لذلك، سبقت زيارتى هذه للمكتبة، زيارتان أخروان، مؤخرا.. فشلت فيهما، فى الوصول إليه ، والإمساك به، رغم وجوده يقينا، بالمكتبة. لم أكن أجده، فى مكانه، على الرّف المخصص، لمجموعة الكتب، التى ينتمى إليها.. وعدت، من كلتا الزيارتين، خاوى الوفاض.
كانت الساعة، قد قاربت الواحدة، ظهرا. ورغم ذلك، كان الجو ضبابيا، وباردا إلى حد كبير.. وقد أثقلت علىّ، من ملابسي. كنت أرتدى بنطالا رماديا ثقيلا. وكنزة صوفية بنفس اللون، لكن أشد درجة. وهذا "البالطو" الإنجليزى الداكن، وكوفية صوفية سوداء.. لا تفارقنى، طوال أيام وليال البرد.. نسجتها أمى، لى، برائحة يديها.
ذهبت، إلى المكتبة. رأيت الأكتاف، من حولى، مضمومة. تكاد تلتصق برؤوس أصحابها، من شدة جو، قارس البرودة. إنحنى بعضهم، واضعا يديه، فى جيوبه. بينما إرتدى البعض الآخر، قفازات جلدية.. بينما معظم الشباب الجامعى، كان يرتدى "طواقى" صوفية، بألوان متعددة.. كان"الجينز" السمة الغالبة، على ما يرتديه جمع المارّة،.. متنقل هنا، أو متسكع هناك.. قبل أن أدلف، إلى ساحة المكتبة، أمام البوابة الحديدية، لجامعة الإسكندرية، بمجمع كلياتها النظرى.. تحديدا، أمام مدخل كلية التجارة.
دخلت المكتبة، آملا فى نتيجة مرجوة، هذه المرة. وقد حرتُ، فى الأمر.. ربما يكون، قد تغير مكانه. ووقف عدم معرفتى به، حائلا دون وصولى، إليه. إستفسرت، من أحد العاملين، على الحاسب، برقم الكتاب وبياناته، التى معى. كان شابا مهذبا، ضمن مجموعة عاملين ذكور وإناث. رأيته، بقميص أبيض، ورابطة عنق زرقاء مقلمة كبيرة، بعقدة كبيرة، وبنطال أسود، ذى نسيج لامع. حدثته، عن الأمر:
- "قدِمتُ مرتين. وفشلت، فى الحصول على الكتاب.. كيف، يمكننى الوصول إليه؟"
إلا أنه، قد أكد لى:
- " الكتاب موجود فعلا. مؤكد يا أستاذ، هناك من يسبق حضرتك، كل مرة، إليه.. للأسف نسخة واحدة فقط، موجودة منه.."
سألته، مستفسرا:
- " والحلّ..؟!"
صمت قليلا، ثم أجابنى، وقد رأى، أنه قد حلّ لى المشكلة :
" تعالى مبكرا.. لعلّ، وعسى.."
كتمت غيظى، وقلت له:
- " ليست بمسابقة، فيمن يحضر، قبل الآخر.. كل، له مواعيده. وظروفه، التى يستطيع أن يأتى فيها.."
عاد إلى صمته، من جديد. ولم يجبنى، كأنه يسخر منى.. لكننى، قرأت بين عينيه:
- " وماذا أفعل لك، أنا..؟!"
(2
هذه المرة، عزمت، على عدم مغادرة المكتبة، قبل أن أرى هذا، الذى يسبقنى، كل مرة، للكتاب.. وقد حرص دائما، على أن يحوزه، قبل غيره.. لم يكن أمامى، سوى أن أقوم بالتجول، بهدوء وببطء، بين أعمدتها، وأروقتها الأنيقة. أمرر ناظرى هنا. وأنظر هناك، بين المناضد الخشبية الكبيرة، بلون الأرو. لعلّ بصرى، يقع على الكتاب.. إنتهيت، من هذا الركن، إلى ركن آخر.. ومرّ وقت غير قليل. كنت، على وشك اليأس، من عثورى عليه، مع هذا العدد غير القليل، من مرتادى المكتبة، فى كل أركانها. بين زائر وقارئ ومتصفح..
وفى اللحظة التى هممت فيها، بإنصرافى، وقد مرت فترة، وشعرت بالحرج، ويأست أن أجده.. قائلا فى نفسي:
" هذا الكتاب لعنة..!"
 ولحسن الحظ، لمحت على بُعد مترين منى، كعب الكتاب.. وقد إستطعت قراءة العنوان، واضحا عليه، وببنط كبير عريض:
" الإليكسادا".
كان يفصلنى عنه، منضدة كبيرة، محاطة من ثلاث جوانب، بمجموعة من الكراسي الخشبية الثقيلة. رأيته، وقد ثنيت بعض صفحاته، على بعض الأوراق البيضاء، من الحجم الكبير. كان هناك، شبه مفتوح، بين أنامل دقيقة، تقبض عليه. إقتربت، لأجد، على المنضدة، كتابين آخرين، مفتوحين. مجموعة متنوعة، من الأقلام. تجاور عديدا من الأوراق، لنسخ ضوئية مصورة. كان واضحا أن، قد تم تعليم بعضها، أو تخطيط البعض الآخر. أو تظليل، مواضع منها، بين سطورها، بألوان مختلفة..
لم أستطع، أن أتبين وجه، من يفعل ذلك. ولم يكن غيره، يجلس على هذه المنضدة. إقتربت أكثر.. كنت واقفا وراءها تماما. كانت جالسة على مسافة، نصف المتر، تقريبا. ألقيت برأسى، من خلف كتفها، الذى إنسدل عليه شعر أسود، مضموم، على جانب واحد، بشريط وردى قانى. درت أمام المنضدة. حتى هذه اللحظة، لم تكن تشعر، بوجودى، مطلقا. كانت هناك غارقة، فى تلك الأوراق، فى عالم آخر.. قلت، فى نفسي:
- " هذه هى إذن، من تسبقنى، دوما.. هنا، فى بيزنطة!"
وترددت، قبل أن إقترب منها، بهدوء، قائلا:
- " صباح الخير.."
وكررت قولى:
- " صباح الخير.. يا آنسة"
لكنها، لم ترد، كأن لم تسمعنى. لم أشأ رفع صوتى، حفاظا على هدوء هذا الركن، من المكتبة.. إنخفضت بكتفيّ، مستندا بيدى، على طرف المنضدة، مكررا، مرة أخرى:
- " صباح الخير.. يا آنسة، آسف لإزعاجك.."
أرخت طرفها، تحت زجاج نظارة شفافة رقيقة، بإطار أسود رفيع رائع. إختفى ذراعاه غارقان، فى موجات شعرها، على جانبي، جبينها الأبيض.. لمحت من يحدثها، أخيرا. وبصوت ملائكي، ردّت :
- "صباح النور.. أيمكنني فعل أي شيء، لك يا أستاذ ؟"
قلت:
- "مؤكد.. وأكرر مرة أخرى، أسفى .. "
صمتت، ثم قالت بعد برهة:
- " وماذا..؟"
أجبتها، بسؤالى:
- " هل لى، أن أعرف متى، يمكننى أن أقرأ، هذا، الذى بين يديك..!"
وعادت إلى الصمت، برهة أخرى، قبل أن تجيبنى، بإستغراب:
- " وما دخلى بالأمر..؟!
أجبت:
- " حضرتك مستحوذة على الكتاب، منذ أسبوعين، قدمت فيهما ثلاث مرات. وفى كل مرة أجدك، قد سبقتينى إليه. لا يوجد غير هذه النسخة.. وهو هام، يلزمنى العودة إليه!"
إبتسمت نصف إبتسامة، وهى تهزّ رأسها، قائلة:
- " آه.. فهمت الآن.. وما شأنى وحضرتك تأتى متأخرا.. المكتبة تفتح أبوابها، فى العاشرة، والآن الواحدة ظهرا.. !"
كدت أغضب، ويرتفع صوتى،. كان على أن أكتم غيظى، للمرة الثانية بعد حديثى مع ذاك الموظف، ثم هذه التى، كانت تلقى باللوم، علىّ أنا. تقول لى، بطريقة غير مباشرة، أن الخطأ خطئى. قلت لها:
- "ليس لأحد أن يحدد لى، متى أحضر..!"
وردت هى قائلة، بحدّة:
- "ليس لأحد، أن يقرر لى، متى أقرأ.. ومتى أنتهى، من قرائتى..!"
أحسست أن عبارتى، خانتنى، فقد كنت حادا، أنا الآخر، وكأننا فى شجار نفسي مكتوم، وغريب.. إعتذرت بلطف، مجددا:
- "لا تعلمين أهمية هذا الكتاب، لى. وقتى ليس بيدى. أرجو أن تتفهمى هذا.."
(3
كنت واقفا، فجلست، إلى كرسي خشبى بجانبها. لم يمنعنى حديثنا، أن أستشف، بمقارنتى، لمستوى رأسينا، بالمنضدة،.. أنها كانت أقصر منى قليلا.. قارب عمرها، على الثلاثين، وربما أقل من عمرى، بعدة أعوام. قوامها متوسط.. بيضاء. ذات وجه دائرى، بملامح هادئة جميلة. وجنتان رقيقتان. عينان عسليتان صافيتان، بحاجبين طبيعين رائعين.. وفم رائع، بشفتين ورديتين دقيقتين. يتبوأ، بينهما أنف ملائكى.. دون أثر، لأى مساحيق. تحاشيت النظر إليها مباشرة، وأنا أحدثها.. ولبرودة الجو، كانت ترتدى بنطالا ثقيلا داكنا، يتناسب لونه مع "جاكت" من الجلد الطبيعى، طويل، بلون بني داكن. يصل إلى ركبتها، وهى جالسة.. مخفٍ تحته "بلوفرا" صوفيا، بلون كريمى غامق.. ذى رقبة واسعة جميلة، مثنية طبقتين.. وقد أحاطتها، بسلسلة ذهبية رقيقة. بها ثلاث أحرف عريبة متشابكة، مشغولة، بدقة، على شكل هلال. إستطعت تبيّن حرف الجيم، يتوسط حرفين آخرين. يحيطان به، حرف الدال يمينا، وحرف العين، يسارا. كانت تلمع، مع إنعكاس أشعة الشمس عليها، التى تتسلل، من سقف المكتبة الشفاف، فوقنا..
وشعرت بصدق إعتذارى، وما أقول. هدأت، وكأنها أرادت الإعتذار، هى الأخرى، لكنها توارت، قائلة:
- " حسنا، أو تعرف الإليكسادا..؟!"
فابتسمت، ملتفتا إليها بوجهى، أجيبها:
- "وكيف آتى ثلاث مرات، باحثا عن الكتاب. كيف أعرف، أنه لا يوجد منه، غير نسخة واحدة فقط، هنا؟!.."
لكنها أردفت:
- "ليس هذا ما أقصد. إنما، أنت الذى قلت، بأهميته، بالنسبة لك..!"
قلت:
- "من المؤكد، أنك تعلمين أن "الإليكسادا" للأميرة البيزنطية المؤرخة "أنّا كومينا "ابنة الإمبراطور ألكيسوس كومنين.."
وقبل أن أكمل، قاطعتنى:
- "طبعا، أرخت فيه لعهده، وما شهد من وقائع، فى هذه الفترة"
وأكملت أنا، بجرأة:
- "دوّنته باللغة اليونانية. وأنهته بعد عشر سنوات، بأحد الأديرة، آنذاك.. هذه هى النسخة المترجمة، بالعربية. لا غيرها رأيت..، قطّ..!!"
وأخذنا سجال الحديث، بيينا عن الكتاب. قالت لى:
- "أنت تقريبا، تعرف كل شئ عنه.."
فقلت:
- " إن شئت، قولى: تقريبا كل شئ.. وكثير من المصادر التاريخية الأخرى .."
صمتت واجمة، كأنها إستغربت ما أقول.. شعرت أنها كظمت غيظها.. تجنبّت أن تسألنى عمّا ذكرت، وعادت إلى الحديث، عن الكتاب، مرة أخرى، قالت:
- "مصدر تاريخي هام. قيمته كبيرة، لكل دارس لهذه الفترة، التى أرّختها الأميرة أنّا .. "
قلت:
- "أعلم، فهو يعتبر مصدرا أساسيا. يرقى إلى درجة الوثائقية، وإلا ما بحثت عنه مطلقا..!!"
سألتنى:
- "تراك فيما تحتاجه.. ؟"
أجبت:
- "هو نفسه السبب الذى تقرأينه من أجله...!"
سألتنى، وكأنها حددّت لى الإجابة:
- "أتُعد بحثا، أو رسالة ما، عن هذه الفترة .. وفى أى كلية باحث أنت..؟"
أجبت، بإستنكار:
- " لا.. لست بباحث تاريخ!"
إستغربت، من إجابتى، وسألتنى، مندهشة:
- "لا بحث. لا رسالة تاريخية.. ماذا إذن.. ! "
مشيرا بيدى إليها، وقد إستندت، إلى المنضدة، قلت لها:
- "مهلا مهلا.. وهل الباحثون فقط، هم من يقرأون التاريخ ومصادره.. ؟!"
أجابتنى:
- "لم أقل ذلك.. ولم أعنيه، مطلقا.."
قلت:
- "حسنا، لست أحتاجه، بسبب ما ذكرت.. لا هذا. ولا ذاك.."
قالت:
- "أثرت فضولى.. نوعية هذه الكتب،لا يعرفها إلا المتخصصون"
قلت:
- " وجهة نظر سليمة،.. لكن، هناك غير ذلك.."
سألتنى:
- "إذن، ما السبب الملح، الذى جعلك تأتى، من أجله، أكثر من مرة؟"
- " أولا، لأننى أعد رواية تاريخية، فى نفس الفترة. ثانيا، لم أجده، إلا هنا... ثالثا، لأنه معك الآن..!"
وكنت سأقول :
- "رابعا، أننا معا الآن.. " غير أن الكلمات، وقفت على لسانى.. وبكلمات قليلة، سألتنى هى، مندهشة:
- "أو كاتب أنت. أديب..؟! الآن أفهم.."
ولم يعنها أمر روايتى، فى شئ. فلم تسألنى عنها، كما توقعت، قبل أن تضيف معلقة، على كتاب الألكسيادا، نفسه، وأمرى معه..
- "رائع، كتاب واحد فعل ذلك، بك.. مؤكد أن هناك كثير، من الكتب غيره..!"
قلت:
- " طبعا،.. لابد أن أغطى فترة الرواية، قبل كتابتها تاريخيا، من كافة المصادر، للوصول لحقيقة تاريخية مجردة.. موضوعية كاملة، تجبرنى على كتابتها.. "
سألتنى:
- "منذ متى، بدأت فى هذا..؟"
قلت، بإختصار:
- " خمس سنوات تقريبا.."
سألتنى:
- "أليست هذه بفترة طويلة.. ؟"
قلت:
- "لا أعتقد ذلك. هناك من إستغرق أكثر منى، بكثير. إن أردت عدّدّت لك، من الأدباء والكتّاب عدد لا بأس به.. ولذكرت لك ما أبدعوه، فى فترات أطول.."
لكنها أجابتنى: 
- "لا تغضب من سؤالى.."
- "لا بالطبع.. لكنه الأدب والإبداع. لذلك يبقى فيما بعد. يكون له أثر، لا يُمحى أبدا.. الكاتب وإنتاجه..."
(4
وعدنا إلى حديثنا، من جديد، عن الكتاب، الذى جمع بيننا.. قلت لها:
" الكتاب فعلا هام.. يحتاجه الباحثون، فى هذه الفترة، من التاريخ الوسيط!"
وعلقت:
- "لا يوجد عليه، سوى إنتصارها دائما لأبيها، على حساب الحقيقة التاريخية. ألا ترى ذلك..؟"
قلت:
- "لم أقرأه بعد .. وسوف تكون ملاحظتك فى ذهنى، وأنا أقرأه؟!"
قالت، مستطردة:
- " رغم ذلك، يبقى فى النهاية، من أبرز المؤلفات التاريخية اليونانية، فى العصور الوسطى .."
وعلقت بدورى:
- "أعتقد أن له أهمية كبيرة أخرى، لم يذكرها من قبل، دارسو المصادر التاريخية، وناقدوها، من قبل.."
وإبتسمت، قائلة:
- "وما هى..؟!"
أجبتها، دون شرح..
- " بالطبع، شئنا أم أبينا، هذا الكتاب فعلا هام.. بل هام جدا!"
وتلاقت إبتسامتنا، وكان لها مغزاها.. قبل أن تسألنى، عن إسم الرواية التاريخية التى أكتبها، ولم تسألنى معرضة عنها، حينما أشرت لها..
- "وما إسم روايتك..؟"
أخبرتها :
- " أحاديث شيزر"
ولم إستطرد. بدورى، سألتها، عن عنوان رسالة الدكتوراة، التى تعدّها.. فأجابتنى:
- "التاريخ والمؤرخون: فى القرنين الحادى والثانى عشر الميلاديين- دراسة نقدية موضوعية مقارنة "
رددت عليها، مندهشا متعجبا:
- "هكذا نلتقى معا، فى جنبات التاريخ. فروايتى تدور أحداثها، فى أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجريين، بما يتفق مع نفس الفترة، التى تغطيها دراستك العلمية التاريخية.."
لم تبد تعليقا، غير إبتسامة صامتة، ودهشة عينيها.. حينما وقعت كلماتى، على مسمعها، موقعها. إستإذنتها، فى تصوير الكتاب لى، حلا للمشكلة.. ووعدتنى. وهكذا أتيح لى فرصة، الحصول على صورة ضوئية، منه. لكنها نبهتنى أن :
- "لوائح المكتبة تمنع من تصوير، إلا قدر أو نسبة معينة، من الصفحات، فى كل مرة.."
ورددت :
- "أتعنين، لن يتم تصويره مرة واحدة؟!"
أجابت:
- " بلى.."
وبدهشة، أنها لم تسألنى، عن إسمى، حتى سألتها أنا:
- " يوسف فهمى.. أتعلمين، أننى لم أعرف إسمك، إلى الآن.."
وإبتسمت إبتسامة، أشرق لها وجهها، غاضّة طرفها، وهى تجيب:
- " جنى. جنى عبد الحافظ"
وفى الوقت، الذى كنت أفكر، فى نفسي، بمعنى إسمها الجميل، أشرت إلى سلسلتها الذهبية الرقيقة، وحروفها، وكأنها فهمت ما عنيته.. قالت لى، وهى تمسك بها:
- "إنها أحرف إسمى، وأمى، وأبى.. "
وإستحييت أن أسألها، عن الحرف الثالث، الذى يبدأ به، إسم والدتها.. إلا أننى عُدت أسألها:
- " منذ متى تعدّين رسالتك..؟"
وعن الفترة التي سوف تمكثها، حتى تناقشها.. ووجدتها فرصة أخرى. ولم أدر سببا، لماذا فكَّرت في ذلك:
- " بإستطاعتى إمدادك، من مكتبتى الخاصة، ببعض المصادر والمراجع الهامة، تتصل بموضوع رسالتك.."
- "أشكرك جدا أستاذ يوسف.."
- "لا، بل أنا، الذى أشكرك كثيرا أستاذة جنى.."
وقبل أن نفترق على موعد، بعد غد، فى نفس الموعد.. وجدت نفسي، بدلا من أقول لها إلى اللقاء، أقول:
- " أهلا بك أستاذة جنى.."
ردت بإبتسامة هادئة:
- " أهلا بك أستاذ يوسف.. أراك يوم الخميس، إن شاء الله"
وقمت من مقعدى، أعيده إلى مكانه، وأنا أجيبها:
- " إن شاء الله.. الواحدة ظهرا.. أتركك الآن، مع الأليكسادا..!! وربما نتكلم عن رسالتك..!"
وإختتمت لقاءنا قائلة:
- " وربما تحدثنى عن روايتك..!"
(5
لم أدرِ، كم إستغرق حديثنا، من وقت، حتى نظرت إلى ساعة يدى. كانت تقارب الثانية وعشر دقائق. مر الوقت كانه لحظات، وليس ما يزيد عن ساعة. غادرت المكتبة، وقد أخفيت سرورى. كانت فرصة، لنلتقى مرات أخرى. تمنيت، ألا تنتهى أبدا، من إعداد، تلك النسخة المصورة. يكفى، أن أطّلع على الأصل. ونتبادل الحديث، عن الأدب والتاريخ.. لم أستطع أن أهدأ، وأنا أستعيد تأثير تلك اللحظات، التى جمعتنى بها. هذا القدر الغريب. عبرت باب المكتبة الزجاجى الواسع،.. يتمتم فى أعماقى، صوت:
- " أيمكن أن يكون هذا القدر الغريب..؟!"
سرعان ما حاولت ألا أفكر، فى هذا الهاجز، الذى عاودنى. قائلا، فى نفسي، كأنى أوقظ نفسي من حلم:
- "أنه مجرد لقاء عابر. لقاء عابر. صدفة يا يوسف. صدفة، ويحدث لك هذا..؟!"
ورغم ذلك، لم يجعلنى شيء أنجح، في التوقف مطلقا، عن التفكير فيها، منذ هذه اللحظة. وفي طريقى، على الكورنيش، عائدا.. وجدت نفسي، مستغرقا تماما، فيما حدث. كان وجهها الجميل، بملامحه الهادئة، يملأ الأفق أمامى. لا أرى غيره. بثقتها فى نفسها، والأثر، الذى تركته فى كيانى. كان إحساسا مدهشا. وشعورا غامضا. تملك منى الروح، والعقل، معا.. شئ لم أعرفه، فى نفسي، من قبل. وألفيت هذا الصوت داخلى، من جديد:
- "قدر غريب..غريب!"
- "تُرى، أكان هناك حرف رابع، لم أره.. أم، لم يوجد بعد، فى السلسلة الذهبية؟!"
وقد ظهر لى بُعدا آخرا، فى روايتى. لم أكن قد فكّرت، أو شرعت به، من قبل.. كنت أفكر فقط، فى الأميرة " أنّا كومينا ".. وأميرة "شيزر"!!
-----------------

نسيت كل شئ، هذه الليلة. وجدت نفسي، لا أريد أن أتوقف، عن الكتابة.. تنساب داخلى كلمات ومعان. أكاد أسمع صوتها، فى عقلى. تتزاحم كلها، لتقول وتبوح عنى.. ونادرا ما أجد نفسي هكذا، أو أشعر بتلك الحالة. لكن أصعب شئ، أن يكتب الإنسان نفسه، أو عن نفسه..
– " أهذا حُلم.. أهذا غموض فكرة، لم أكتبها، وتكتبنى.. ؟!"
وليس بجرأة أن تموت الكلمات قبل أن ننطق بها.. ربما نموت نحن وتبقى الكلمات.. لم يكن الوقت مناسبا، لكى أخبرها عن أى شئ، فى ثانى لقاء، لنا.. وقت الحقيقة، لم يحن بعد.. ومضت الليلة طويلة.. وهكذا، طلع على ّأول فجر، منذ أن تبادلنا الحديث لأول مرة، بالمكتبة، يوم الإثنين، بينما كان موعدنا الخميس.. كان علىّ، أن أنتظر يومين.. كنت محتاجا، لتغيير حالتى، هذه.. وما إن ظهر نهار صبيحة الثلاثاء، بعدما إنتهت النوة الشتوية العاصفة، التى إستمرت عدة أيام.. وكان الجو صحوا، خرجت فى الساعة الثامنة، إلى طريق الكورنيش. سرت لمسافة شاطئين من (ثروت باشا) حتى وصلت فيما بعد طابية السراى.. هبطت إلى الشاطئ الرملى، بدلا من رصيف الطريق، لأتمشى قليلا، على هذا الشريط العريض المتعرج، من الرمال الرطبة. كان كل شئ رائعا.. سماء زرقاء، تتناثر فيها سحب بيضاء، متعانقة بأشكال قطنية عجيبة، فى ضوء جميل، لضحى شمس شتوية.. وقد نامت أمواج البحر، بهدوء غريب.. كأنها قد أتعبتها رياح النوة العاتية. لم يخلُ الشاطئ، أمامى، من قطع أخشاب متنوعة. أوراق سميكة. بقايا حبال. شباك، تعلقت بها طحالب خضراء طويلة. شظايا أصداف. وقواقع بحرية متناثرة، على الرمال.. مما قذفته الأمواج العالية، هنا وهناك، فى ليالى النوة السابقة. وعلى المدى أصوات النوارس، صادحة فى السماء، فوق سطح البحر.. فيما على يسار الشاطئ، كنت أرى سوارى صنارات الصيد الطويلة، بألوانها، التى تلمع فى أشعة الشمس، بأيدى الصيادين. وقد إعتلوا الصخور، أو المكعبات الأسمنتية، لحاجز الأمواج الرمادى الممتد.. واصلت سيرى. وصلت إلى صخرة عريضة بارزة، من الرمال.. كانت جافة. جلست عليها، قبالة البحر مباشرة. بعد دقائق، لاحظت على القرب منى، مجموعة من الحفر، والثقوب، ظاهرة فى الرمل. وقد أحاطت بها حركة غريبة، من نثر للرمال وقذفها، إلى أعلى.. كانت مساكن "للكابوريا" من مختلف الأحجام.. تلذذت، وأنا أرى هذا المشهد الحيوى.. من بقايا طحالب وقطع أخشاب ميتة طفت على الماء، أو قذفها البحر، بعد ثورته.. ولفائف أوراق ثقيلة مشبعة، بالماء.. وقد مررت بها،.. إلى هذه الحركة الدائبة للحياة.. ، حول الصخرة..
– "يا له، من وجود.. ويالها، من حياة، وموت.."
مددت ظهرى، وقدمىّ، على تلك الصخرة، مستلقيا تحت صفحة السماء.. ووجهى إلى رحابة زرقتها، أتابع حركة السحاب.. بينما كان رذاذ خفيف للبحر، يرتطم بوجهى، من حين لآخر، على صوت وشوشة الماء، لحافة الشاطئ. ذكرتنى رائحة الهواء المنعشة، بإبتسامات جنى.. فيما ظهر فوق خط الأفق، بعيدا، قوارب صيد وهى تتمايل، بألوانها الفاتحة، منتشرة فى كل إتجاه. تتهادى، على صفحة البحر الفضية، مع حركة التيّار، متلألأة،  بأشعة الشمس. إنتهز الصيادون فرصة إنتهاء العاصفة، منطلقين لعرض البحر. رأيت نفسي مشوشا، فى هذا المشهد الطبيعى. بين هدوء ذهنى، أخذنى إليه كل ما حولى وأمامى. وبين فكرى فى جنى ومعاناتى مع الكتابة.. ثم موعدى اليوم مع دكتور مصطفى.. لكننى فى النهاية، إستطعت رؤية ماحدث.. كان لدى شيئا جديدا، فى حياتى.. وجدت نفسي أضغط بقبضة يدى أسفل ذقنى، بحركة تلقائية.. ببساطة، كان الأمر كله:
– "من هى؟! من أين أتيت؟! لما هى هناك، دوما فى عقلى.. "
قبل أن أجيب نفسي:
– "أليس كذلك؟!"
حسنا، إنها حقيقة، ما كنت سآتى إلى هنا، لو لم تكن كذلك.. هذا أمر مؤكد..
كنت أنظر إلى زبد أمواج البحر،.. كان لازال الكثير منه، أمامى.. مثل خط رفيع.. يتكوم، مجددا، بمحاذاة حافة الشاطئ، ثم سرعان ما يتلاشى، رغم جماله الخاص.. كان هناك الكثير، ما زلت لا أعرفه. أفكر كيف تذهب هذه الأفكار، من رأسي هى الأخرى، مثل هذه الرغاوى، التى يذهب بها الموج، إلى نتوءات الصخر، على طول الشاطئ، فتنفجر، إلى لا شئ، بالمرة.. للأسف كانت تفاصيل الأمر كله، فى هذه اللحظة، مثلها.. تكبر وتكبر، فى غلالات شفافة لامعة.. تتراكم هنا وهناك، قبل أن يفجّرها تحليلى المنطقى.. أقمت ظهرى، وأشعلت سيجارة، قائلا فى نفسي، وسحابة الدخان تتلاشى، فى الهواء:
– "من الذى سيقول ذلك.. الأمر أكثر عمقا، مما كنت أتصور.. حصيلة تعيسة، لحياة غريبة. مجرد إستثناءات، لا تزول عن الوجود، وكادت أن تأسرنى.. شئت أم أبيت أن أتقبّل هذا.. "
كان هذا الحديث الدائر، من جديد فى نفسي، فيما ألقى بنظرى بعيدا، مختليا بنفسي.. كان كل شئ مثيرا، فعلا.. تطورات يومية، لكنها لم تخدعنى، عن الحقيقة، التى توصلت إليها.. كان علىّ أن أرى المسألة كلها، بحجمها الطبيعى، رغم مسافات الوهم البعيدة.. هذا هو المهم، الآن.. أن أضع الأمر، فى مكانه الصحيح.. وفى النهاية:
– "هل هذا، كل ما كنت أريد أن أكتب عنه.. لا أعرف.. أم أكثر، من ثمن للحياة نفسها، لإدراك معناها.. هل هذا ما سأفعله؟!"
وعدت أفكر فى دكتور مصطفى، وفى موعدى معه هذه الليلة.. وفى نفس اللحظة، وبالكاد، من مكانى بعيدا، ألقيت نظرة، على عابر، على بُعد أمتار، منى.. وقد رمقنى بنظرة غريبة، تماما كمنظره الغريب.. كان يميل إلى البدانة.. بما بدا من ثنيات شحمية سميكة، إمتلأت بها أعضاؤه، خاصة بطنه، وفخذية التى تتأرجح بمشيته.. كان شعره خفيفا، وأطول قليلا، عن المألوف، ويصل إلى كتفيه.. وقد إنتشر هائما، على وجهه، بفعل الهواء، كشكل السحاب الذى رأيته.. قلت فى نفسي، متهكما:
– "ربما أراد أن يعوض قصر قامته الواضح، بطول شعره الذى أطاره الهواء!"
وحينما مرّ قريبا منى، بزيّه رياضى أخضر، قريب من لون الطحالب، التى مررت بها.. كان الأمر الأغرب، أننى لم أتبين ملامح وجهه. كنت أنظر هناك، فى عمق البحر، وقد أبحرت مجددا، لا أعرف متى سأعود.. والنوارس تهبط. وتعلو. وتطير، فى كل إتجاه، إلا إتجاه المدينة.. فقط، البحر كان هناك،.. وكانت أصوات النوارس..  وعدت أحدث نفسي عن جنى، من جديد:
– "حسنا، مرّت ثلاث ساعات، من اليومين المتبقين، حتى يحين لقائى، بجنى.."
-----------------
وتقابلنا بالفعل، يوم الخميس.. ثم تعددت لقاءاتنا، حتى حصلت على صورة كاملة من الكتاب.. بينما كنا نتحدث.. عن كل شئ، رسالتها العلمية، وروايتى التاريخية.. علمت منى عن والدىّ، وأمى، وكيف أعيش.. وعلمت منها، أنها وحيدة والديها، مثلى.. والد، لواء شرطة، فى أمن الموانئ .. عبد الحافظ سليم. ووالدة، أستاذة عمارة، فى كلية الفنون الجميلة.. دكتورة دريّة عطا.. وتذكرت حرف الدال، فى سلسلتها الذهبية ، الذى لم أسألها عنه حياءا، فى أول مرة، رأيت فيه سلسلتها، فى المكتبة.. كانت قادرة على أن تجعلنى أتكلم معها، بدون إختيار لكلمات.. لا أريد أن أنتهى، من الحديث معها مطلقا. لا أعرف لذلك تفسيرا، فعقلى يقف عاجزا.. أحيانا نظل نبحث عن شىء، ولا تجده.. وعندما تجده، لا تصدق أنك وجدته.. حينها فقط، تعرف بكل بساطة، أنك وجدته لتفقده.. أو فى النهاية، تفقد نفسك أنت، للأبد... فى نفس أخرى.. وهكذا قويت علاقتنا، وتعمقت أحاديثنا:، فيما بعد:
– "شئ غريب لم أعهده فى نفسى. لم أعرفك من قبل أو تعرفينى. رغم ذلك أشعر أنى أتحدث مع نفسى.. وليس معك جنى..
– "وأنا يا يوسف كأنى أعرفك، منذ سنوات.. ما تكلمت مع أحد هكذا، من قبل.."
– "شئ غامض لا أعرفه.. لا أستطيع أن أتبين ماهو.. "
– "وكأنك تتحدث بما يدور داخلى. أكاد أرى ما خلف كلماتك، من إحساس.."
– "هكذا بغير سابق موعد أو إنذار ؟ "
– "ألديك تفسير ؟"
– "لا أريد أن أفكر، فى أى شىء غير أنك معى الآن.. هذا هو المهم .."
– "لا أعرف ماذا أقول بعد ماقلت أنت.. "
– "يالها من صدفة عجيبة جمعتنا، وضعتك أم وضعتنى، أم وضعتنا معا هذا اليوم.. قدر وجدنا، أم وجدناه نحن.."
– "قد تكون صدفة فعلا، لكنها بالنسبة لى فرصة،.. وجدت نفسي أخيرا. أدركت ما كنت أبحث عنه.. أنت يا يوسف.. أنت.. لهذا، لن أضيعك منى.."
– "تصورى، ما زلت إلى الآن وقد مرت أشهر.. ما زلت لا أصدق هذة الصدفة، يا جنى.."
– "أبدا، لم تكن صدفة.. لا تقل هذا أبدا.. بل تدبير قدر.. لم تكن أبدا، بيدك أو بيدى.. "
– "ما كان بمقدورنا، أن نمنع ماكان فى الغيب .. لحظة قدر.."
– "إذا كنت تسمى ما حدث، مستحيلا..  لتعلم أن المستحيل، يوجد من يقهره ويحطمه.. أن نكون معا بقدر.. ثم نظل إلى الأبد.. بقدر.."
وفى لقاء آخر، كان حديثنا:
– "أشعر أنك تحمل داخلك حزن كبير.. مرارة أشعر بها فى كلماتك.. يا يوسف"
– "لا أعلم مصدرها .. لكنها الحياة ومعاناة الكتابة.. جنى.."
– "حدثنى عن ذلك.."
– "هى طبيعتى فعلا.. لا أدعى لنفسي، غير أننى أحاول.. ومازلت حتى الآن أحاول .."
– "رفقا بنفسك وبعقلك .. أشعر أنك تخفى الكثير.. والآن لم يصبح لك الحق فى ذلك.. "
– "لا تستعجبى أو تندهشى.. لى عالم خاص بى .. هذا ما يجعلك تتساءلين.."
– "ثق أن ما تنطقه سوف يظل داخلى.. ملكى وحدى.."
– "ليس هذا جنى.. ليست الثقة !"
– "كيف تطلب منى أن أسامحك.. أنا لن أسامحك إذا توقفت عن الكتابة.. "
– "لتعلم جيدا أنك وجدت الحقيقة .."
– "اعذرنى لجرءة كلماتى. لكننى لا أقصد أى شىء.. واثقة من تفهمك لكلماتى.. أعلم أنك سوف تحتويها وتتفهمها.."
– "وأنا سعيدة اننى وجدت عندك ما كنت أبحث عنه.. نفسي.. من فضلك يا يوسف، لا تبخل عليّ بها .."
– "وأنت لا تحرمينى منها ،أرجوك ..جنى"
– "كلماتك القليلة تسلل فى هدوء .."
– "لهذا أنا متمسكة بك وبحوارى معك، فى هذا الطريق الصعب.. أعرف كيف أحافظ عليك.."
---------------
سان ستيفانو- أواخر يونيو 2000
(1)
إلتقينا عدة مرات فى بضعة الأسابيع التى تلت مقابلتنا الأولى.. أمضينا بعضها فى التجول.. ولطالما خطفت منى نفسي، أحاديثنا، فى مواجهة بعضنا البعض. الفرق الوحيد أننا لم نعد نحن، كما كنا من قبل.. جذوة غريبة، تيقظت فى الروح فى الوقت نفسه، كان من المستحيل، أن نعرف كيف كان ذلك؟
كان موعدى، هذه المرة مع جنى، لأول مرة خارج المكتبة. لم تؤكد موعدها معى، إلا بعد أن إستأذنت والدها، هاتفيا أمام باب المكتبة، فالهاتف ممنوع إستخدامه، بداخلها.. حرصتُ، أن يكون موعدنا مساء يوم الجمعة، فى السابعة والنصف. فى مكان قريب، من بيتها، فى سابا باشا، لئلا تتأخر.. إخترت الكافتريا الملحقة، بالتجمع الفندقى، بسان ستيفانو، على الكورنيش، الذي يمتد في موقع رائع، مطلا على البحر، مباشرة.
وصلت الساعة السابعة مساءا، إلى الباحة الخارجية، قبل موعدنا.. كانت أمسية، ببداية صيفية، وهذا الجو الرائع. حيث رؤية واضحة. هواء نقي. وسماء المغرب قد تناثرت فيها، بقايا شمس، قد ذهبت منذ قليل، وراء الأفق.. إكتظ المكان بالناس، بين جلوس ووقوف، ومشاة عابرين.. وبركن جانبي، على الرصيف الرخامى، الذى يلامس الطريق، إخترت منضدة دائرية، بمقعدين ذى مسندين. جلست حيث أستطيع رؤية تلك البانوراما.. دار فى خلدى، أن المكان، لم يعد كما هو، كما كنت أراه، فى الماضى. الفندق، لم يعد هو نفسه، الفندق القديم الضخم ذى الطراز المعماري الجميل، بمبناه الرائع، الذى شاهدته بطفولتى. كان يجاورنا، راقدا ممددا، على الكورنيش، ليس بمسافة بعيدة، من بيتنا، وإلى وقت قريب، قبل هدّه، لإقامة هذه المبانى السياحية الحديثة. أتذكر شرفاته الساحرة ذات المشربيات الخشبية، التى كان يتميز بها. وكشك الموسيقى. ومنشآته الشاطئية. ولا أنسى حدائقه الخلفية، بنخيلها، وأشجارها النادرة.. كل رواده، كان يعلمون أن تاريخه، يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر.. تحديدا فى عام 1854، حينما إستقر المقاول الثرى "الكونت زيزينيا"، أحد أصدقاء محمد على باشا، كأول ساكن أجنبي، يقطن منطقة رمل الإسكندرية العريقة.. هنا، كان يتجمع نخبة المدينة. وأثريائها، فى أوائل القرن العشرين. وكم من زاره، من شخصيات عامة، ومنهم أفراد الأسرة المالكة، وقتها.. مرّ كل هذا، بخاطرى، حينما كنت أختلف قريبا، إلى الفندق لأتصفح، بعينى الكتب والمجلات الأجنبية، خلف زجاج محل قريب، من الفندق.. كل ما ما مرّ بخلدى، إختفى، كشريط سينمائى. إختفى كل شئ الآن. حلّ محله، هذه المنشآت الفندقية الحديثة. ومتاجر ملابس، ومحال عطور لماركات عالمية، وغيرها.. حتى رواد المكان، لم يصبحوا هم، كما عهدت المنطقة، من رؤية أجانب.. خشيت، أن يأتى يوم ولا يتبقى من الإسكندرية، سوى إسمها.. فى الوقت، الذى توقف هذا الشريط فى ذاكرتى، كان النادل، قد جاءنى.. طلبت منه:
– "فنجانا من القهوة.. زيادة، من فضلك.."
وبإيماءة من رأسه لطيفة، ردّ:
– "حالا يا فندم.."
---------------
(2)
ولم يمر وقت قليل، حتى جاءنى بها ساخنة، فى الوقت، الذى كدت أقف لأرى جنى، من خلفه، وقد لمحتها قادمة، نحوى.. كان هناك شرطى فارع الطول بزي أزرق، بيده كلب بوليسى ضخم. وقد قبض، على مقوده، ولفّ باقى سلسلته الحديدية، حول معصمه.. كان يمرّ به، متفقدا الحالة الأمنية، فى هذا الزحام.. والكلب يشمشم هنا، ويتشمم هناك.. مرّ من جانبنا، وقد وقفت، لأستقبلها.. مددت يمينى، إليها.. صافحتنى برقة.. وقد إبتدرتها:
– "أهلا أهلا، أستاذة جنى.."
ردّت بإبتسامتها:
– "أهلا بك، أستاذ يوسف.. تأخرت قليلا .. أنت ترى زحام الطريق.."
قلت بكل رقة:
– "لا لا، أنا الذى جئت مبكرا، قبلك.. موعدك مضبوط تماما، لا تقولى ذلك، فالساعة ما زالت السابعة والنصف.. تفضلى. تفضلى إجلسي.."
وأردفت هى قائلة:
– "أعتقد أن كلانا يسكن قريبا من هنا،.."
قلت:
– "نعم، فأنا جئت سيرا على قدمى، من البيت.. فى ثروت باشا.."
بينما أشارت بيدها إلى خلف كتفها، مشيرة إلى الإتجاه الذى قدمت منه:
– "أسكن فى سابا باشا.. مجرد محطتين بالترام، فقط.."
كانت الأضواء قد بدأت تسطع، فى كل مكان، وتتنامى الضجة من حولنا. بالكاد أسمعها وتسمعنى، بعد أن أجلستها من الداخل، فى مقعدى.. وخلفها زاوية الركن، من السور الجانبى، والجدار الخلفى، وكلاهما من الرخام الفاخر.. بينما جلست أنا، فى جهة المنضدة الأخرى، الملامسة، للحركة، بين بقية المناضد.. فيما إقتربت من حافة المنضدة، ووضعت مرفقى، عليها.. كان كلانا، يفهم الآخر، حتى لو لم يتحدث. ندرك كيف نستفزّ، بعضنا بعضا، بطريقة خفية.. هذا الإحساس الممتع.. كنت أتسائل قبل المضى قدما، ولا زالت المسألة عالقة، بذهنى:
– "كيف.. ولماذا؟!"
أشرت للنادل، الذى كان قريبا منا، يلبى طلبات المنضدة، التى تلينا، فى الجوار.. طلبت هى عصير مانجو، وطلبت فنجان قهوة آخر، بدلا من الآخر الذى برد، فى هذه الأثناء..
أشعلت سيجارة، فقالت لى:
– "لم أكن أعرف أنك تدخن.. "
فى الوقت الذى كان فيه الدخان، قد تبدّدّ، فى نسائم هذا المساء الصيفى.. قلت:
– "للأسف.. القهوة والتدخين.. شيئان فى حياتى.. ربما سهرى المتواصل، هو السبب.."
قطبت جبينها، ورغم ذلك، قالت:
– "لست وحدك مدمنا.. فأنا مدمنة " شيكولاتة ".. والدى للآن، لا يترك يوما، إلا وأحضرها لى، وهو عائد، من عمله.."
هززت رأسي مبتسما، قلت:
– "كلنا نظل أطفالا، فى نظر آبائنا، مهما كبرنا.."
ومدّت يديها، إلى حقيبتها الجلدية الصغيرة، جذبتها نحوها. كان لونها أزرقا غامقا، بلون يقارب لون ردائها.. فتحتها، وأخرجت منها، قطعة شيكولاتة كبيرة، بغلاف بني، من الخارج، وفضي لامع، من الداخل.. قسّمَّتها بيننا، وهى مازالت، فى غلافها الجميل.. قائلة:
– "تفضل تذوقها. إنها بالبندق التركى.. يحضرها والدى خصيصا لى.. "
قلت لها:
– " والقهوة..؟"
ضحكت قائلة:
– "طالما أنت معى، تذوق هذه الشيكولاتة.. إلى أن تأتى قهوتك.."
قلت لها:
– "بل، دعينى أحتفظ بها،.. سأتناولها هذه الليلة، وأنا أعمل.."
تناولتها منها، ووضعتها، فى جيب قميصى بغلافها.. بينما، كنت أسمع قرمشتها، لنصفها الآخر، وقد قضمت منها، قضمة.. بأسنانها البيضاء الجميلة، بتلك الثنايا الرائعة، بين شفتيها الورديتين، الطبيعيتين. وعدت إلى محادثتها:
– "هل تسمحى لى، أن أناديك "جنى" بدون لقب..؟"
ولم أنتظر إجابتها، فقلت لها:
– "جنى، هلا حدثتينى، عن نفسك قليلا.."
قالت لى :
– "لما، لا تفعل أنت، أولا.."
قلت لها، وقد إرتحت بظهرى، إلى ظهر مقعدى:
– "إسألى ما شئت.."
قالت:
– "يوسف، منذ رأيتك، وأنا فى حيرة، من أمرك.. أقول، لا أمرى أنا.. ماذا تريد؟!"
صمت قليلا.. قبل أن أجيبها، ولم تسألنى غير: "ماذا تريد؟"
– "حسنا، أأحدثك عن نفسي.. وأجاوبك عمّا أريد.. ؟ كلاهما، أصعب من الآخر.. !"
قالت:
– "كما شئت.. !"
أردفت قائلا:
– "عادة، لا أتحدث عن نفسي، وحياتى الشخصية.. أما الثانى، فسؤال الحياة نفسها.. ماذا نريد منها، وماذا تريد هى منا.. لى أحلامى جنى.. أن أكون.."
أجابتنى، بتركيز:
– "أنت وأحلامك شئ واحد.. إبدأ بما شئت.. قل ما تريد أن تقوله.."
فى ذات الوقت، جاءنا النادل، بعصيرها وقهوتى.. وبدأنا نتكلم، فى الوقت، الذى تزايد فيه الضجيج، من حولنا.. إرتشفت رشفة.. وقلت لها:
– "ليس الآن.."
عجبت من قولى.. وقد باعدت بحاجبيها، إلى أعلى، مندهشة من قولى.. قبل أن أكمل :
– "تسمعين هذا الجلبة.. دعينا نكمل مشروبينا، ولنننهض، لنتجول قليلا، بعيدا عن هنا.. هل يمكننا ذلك..؟!"
أجابتنى، بأن أغلقت جفنيها لبرهة.. وقد بدونها برعشة خفيفة، فهمت منها موافقتها، قبل أن تقول:
– "على شرط ..!"
وقبل أن تكمل، قلت لها:
– "أعلمه..!"
ضحكت.. وقد أضفت بسرعة:
– "أخبرك كل ما تريدين، أن تعرفي جنى.."
---------------
 (3)
دفعت الحساب، بعد قليل كنا قد نهضنا، وعبرنا طريق الكورنيش، سائرين، بإتجاه الشرق.. بينما إتصل بها والدها، ليطمئن عليها، فى هذه اللحظة، فقالت له:
– "أنا مع أستاذ يوسف الذى حدثتك عنه يا أبى أنت، وأمى.. "
وفجأة أعطتنى هاتفها، وهى تقول لى:
– "والدى يريد السلام عليك يا يوسف.."
كانت نبرة صوته حنونة رخيمة، وهو يقول لى:
– "أهلا يا بُنى.. كيف حالك يا أستاذ يوسف.. جنى حدثتنا عنك، كثيرا.. "
بدورى سلمت عليه مرحبا به كثيرا.. وشكرته على هذه الثقة.. وسألنى أين نحن الآن..، فأخبرته، ثم قال لى:
– "إحرص، على أن تقوم بتوصيل جنى، حتى البيت.. لن نتعشى بدونها..!"
---------------
(4 )
وكنا قد وصلنا فى هذه اللحظة، سيرا على رصيف الكورنيش، إلى قبالة شاطئ السراى الصخرى. وكان قد مرّ، على لقائنا، منذ تركنا سان ستيفانو، قرابة ساعة ونصف.. فى الوقت، الذى جاوزت الساعة فيه، التاسعة بقليل.. وقد حان موعد عودتها، فإستوقفت "تاكسيا"، لأقوم بتوصيلها، إلى منزلها.. قلت لها، ونحنى فى السيارة:
– "جنى، سلسلتك ينقصها حرف رابع.."
قالت لى، وهى تبتسم:
– "أرانى سأضعه قريبا.. يا يوسف.."
مرقت السيارة عبر طريق الكورنيش، فى دقائق قليلة، ثم دلفت إلى شارع جانبى، وقد تركنا طريق البحر، ثم محطة الترام.. عبرنا مزلقان الشريط الحديدى، إلى الجهة المقابلة، لشارع جانبى آخر، ليس ببعيد. وأمام المنزل، الذى طلبت منى إيقاف السائق أمامه، هبطت من السيارة، حتى رأيتها تدخل باب منزل، مكون من ثلاثة طوابق لا أكثر، محاط بحديقة جميلة. وقد طلّت أغصان أشجارها، إلى خارج سورها.. طلبت منها، أن تطمأننى هاتفيا، وكنا قد تبادلنا فى المكتبة، رقمىّ هاتفينا، منذ لقائنا السابق فقط. ثم قفلتُ عائدا، إلى بيتى، بالترام.. ولم أنسَ، قطعة الشيكولاتة بالبندق التركى، فى جيبى الأيمن..
---------------------------
ما مضى يوم، طيلة هذه السنوات الماضية، إلا وأنا منغمس، فى عالم شغفى بالكتب، خاصة القديم منها.. أعشق رائحته. ملمسه. أمُرّرّ أناملى، على أوراقها وصفحاتها، كما أمرر بصرى، على الحروف.. أشعر بملمس الحبر، فى الحفر الغائر.. أستنطق كل نقطة فيها.. تحمل أجواء القدم العطر. أعشقها، وأذوب فيها، بهدوء وطمأنينة. وكلما قدم الكتاب وسنة الطبع، تعتق شعورى بهذه الأمور، بقدر ما يشع منها، ويفوح شذاها.. بل أكاد أشعر بلمسة كل يد، أمسكت بالكتاب. وقد أذهب للإستبصار مسافرا، فى عقول أولئك الماضين. أرى مسكن هذا الكتاب، على رفّ، بمكتبة عتيقة.. قطنت بيتا أو قصرا، أو إستقرت بركن، بين جدران تكية أو قاعة. أو جاورت قنديلا، بمسجد أو زاوية. أسفل أريكة مخملية، بألوانها النادرة الصافية، لرسوم ونقوش وتكوينات، متجاورة. تتداخل صلاتها وتتبادل. نمارق. أرى معانقته، لتحفة، أو أثر فضى أو نحاسي أو قطعة آنية. فى تناغم رائع. أوغل عينيَ، فى صندوق بنى، حافظ لها، بمقبض وزوايا نحاسية. أو بين ثقوب أشكال أرابيسك مخروطية، مضفرة توريقاته، بدقة متناهية، جاورتها. بارزة كانت، أو مجوفة ومحفورة.. تلك النفوش المعشقة، بالصدف والآس والباغ. وفى أحيان أخرى، مطعمة بالعاج والأبنوس. متوائمة، بجماليات زخرفة. تتماهى فى تموجاتها الطبيعية المرئية، وإيقاعاتها البصرية المحسوسة، بأشكال الكائنات الحية والجماد. ترتسم فى الذهن، وتنحفر فى الوجدان، وقد أصبحت جزءا منه. أتلمس ما لكعوبها العظمية الملساء المصقولة، من حيوية ماض. وأشم في الخشبي منها، رائحة طراز معتق، وراء العالم المادى. وقد صبغت تلك الكتب القديمة، برائحتها، منسجمة مع روح عصرها. منغمسة، في غلافها وورقها وخطوطها وأحبارها وأصباغها،.. ذكية الأريج. آخذة بالروح وخاطفة بالبصر، بتأثيرها. يمرّ إليّ صوت خرخشة الصفحات وقَسِيب الورق. أسمعه. أصغى إلي ركزة الحرف، وصرير القلم وحفيف ريشة، كتبت ودونت... وليس لغيرها، من ذلك شئ.. وفى أحيان كثيرة، أسير وراء تاريخ وسنة طباعة الكتاب. وقد أجده مطبوعا فى حاضرة، من الحواضر أو المدائن العتيدة. القاهرة. بغداد. دمشق. أسطنبول. لاهور. ودلهى. وليدن، وغيرها من مدن. رحلات، بين أيدى وعقول، إلى أن وفد إلى يديّ. أراه بين عينيّ، كقطعة من جسدي. كأنى أوقظها، من سبات عميق. لذة لا تنتهى، ونهم لا يزول أثره، بشموخ الماضى ولمسته السحرية. يفرضها على النفس، ويفتح لها بابا للروح... أتبرم، حينما أجد عشرات النسخ، من نفس الكتاب، ولا يقرأها أحد، فى الوقت، الذى يبحث كثيرون، عن كتاب واحد محدد، فلا يجدونه... هذا سبب جوهرى، يحفزنى دائما...
------------
كان كل شئ من حولى نابضا، بالحيوية. يدل على ذوق فني راق.. أناقة متكاملة، وتناسق، وتناغم تام، فى الألوان، ودون مبالغة.. كان هناك أنتريه كبير، من الطراز، المريح.. أربعة مقاعد، بمساند عريضة، وأريكة كبيرة واسعة.. مكسيّ، بنسيج كتانى سميك، ذى لون بني فاتح. يسود، مع الأزرق الملكى، ودرجات الأبيض الجذابة، مما منح المكان أجواء دفء، وأناقة كلاسيكية، لا تقاوم.. كان هناك أكثر، من لوحة أبيسونية، لمناظر طبيعية خلابة، بأطر خشبية بارزة ومذهبة. إحداها، وهى اللوحة الكبيرة، معلقة على الحائط خلف الأريكة، فقد كانت مشغولة، بلون أزرق فاتح، بلون زغب البحر، وقد إمتزج فيها، درجات البني والبيج، بهدوء رصين. بينما الثانية، ، فتقارب الأولى، فى حجمها0 وفى الجهة المقابلة، على نفس مستوى الإرتفاع.. بلون ذهبي ممتلكا مكانه، بين البرتقالي والبيج الكريمي.. أما الثالثة، فكانت لوحة متوسطة الحجم، معلقة على الحائط الأيسر، تحت مصباحين، مثبتين، بالحائط. كل منهما على شكل شمعدان فضى، لجينى غامق.. بينما اللوحة ذاتها، فكانت، فى مزيج لوني أنيق، يبدأ من الأزرق الفيروزي، ثم البنفسجي الفاتح، مع الأبيض والأخضر بدرجاتهما، بينما يزهو بينها، الأصفر اللايم، مع الرماديات.. كانت، لوحات يدوية رومانسية وهادئة.. ينّمّ إختيارها، على ذكاء، لا تخطئه العين.. فى إختيار أماكنها، التى وضعت بها، وفى تواكبها مع ألوان بساط الأرضية اليدوى، أيضا. وفى تناسب كل منها، مع الإضاءة، وقطع الأثاث، الموزعة، بوعى، من حولها،.. ولم تقل غرفة السفرة، بأثاثها الخشبى الكلاسيكى، وإضائتها الدافئة والمريحة للعين، عن روعة هذا الركن الكبير، الذى جلست فيه، ورأيت بشغف تفاصيله الأنيقة، من قبل.
  ---------------------
إنتظرنا نحوا من ساعة، إلى أن لاحت فى الأفق، شمس الخريف الباردة. وقد طالعتنا بادرتها.. ما إن رأيتها، حتى شعرت بصدق إحساسى، أن هناك فى الأمر شئ ما.. وبصرف النظر، عن إعطاء نفسي فرصة، بعيدا عن قلق لا يطاق، فقد قالت عيناها أكثر مما أتوقعه.. شعرت أنى طائر، لا يدري أين يختبأ الموت، فى وجه السحاب.. كان لابد من وضع حد، لحلقة مفرغة، يجتاحه الدوران فيها.. طريق خوف يودى به، إلى دائرة موصدة.. منفى أبدى للروح. أحسست بأنى متعب حقا، منهك.. ملق فى سماء رمادية..
حتى إلتفتت إلى قائلة بحسم:
– "إما أن تكون أنت كما أعرفك، أو لا.."
وبنظرة متفائلة، برقت على ثغرها إبتسامة مشرقة، تشدّ من أزرى، قائلة لي:
– "واصل الحياة. قاوم اليأس.."
كنت انظر إليها لا أملك، إلا أن أنصت إلى روحها، لا صوتها.. ثم أردفت:
– "لا تقسو على نفسك. غالب فى نفسك متاهات الإحباط. لا تستسلم، أبدا.. "
شرحت لها كيف أكتب روايتى ، فقالت:
– "رائع،.. كنت متوقعة أن الثلاث روايات سوف تتحول إلى رواية واحدة. لكن مفاجئة تحول شخصية عهد إلى شخصية وهمية، فى مخ، صديقك الطبيب.."
قلت لها:
– "هذا حقيقى.. كل ماذكرت لك اصبح بالقرائن.. مع فارق بسيط، أنها شخصية حقيقية فى الواقع.. بينما يعيش دكتور مصطفى معها فى الخيال.."
قالت:
– "هذا تطور مذهل. أكيد، مجهود رهيب، سيلزمك لتجميع تلك الشخصيات والأماكن والأحداث.. رائع، سوف تكون رواية مذهلة.. أتوق شوقا لقرائتها كاملة. أنا أنتظرها.. هذا، هو من أحببت.."
إندهشت، أنها وجدت الخيط الضائع.. أنى فعلا أكتب رواية واحدة، منذ أن بدأت. لكن الأشد دهشة، هى أنها أعطتنى مفاتيحها. بدت للوهلة الأولى، أنها مجرد صخور منخفضة، متعددة الطبقات.. كم كنت بدونها، أحمقا. كيف كان الأمر، إلى هذه الدرجة، تائها مختف، غارقا، فى عقلى. تماما، مثل الأراضى الغارقة التي وصفها "سترابو" الجغرافي اليوناني، الذي زار الإسكندرية، عام خمسة وعشرين، قبل الميلاد. أدهشنى وصفها الدقيق، والمركز، إلى هذا الحد المذهل.. حتى أنى خلتها أمامى، برجا رائع الجمال.. صرخت، فى نفسي:
– "كانت هناك!.. كلها، كانت هناك.. كم كنت تائها أحمقا !"
ولم تمر الليلة حتى رأيت فيها، حلما غريبا. حدث ما حدث. رأيت ما رأيت، قبيل الفجر. ولا أعرف كيف أصفه، لأننى لا أدرك كيف حدث. وإتصلت هاتفيا بجنى وأخبرتها به. سألتنى مستفسرة أكثر:
– "هل يتعلق ذلك بالرواية التائهة فى عقلى..؟"
لكننى أجبتها:
– "فى هذه اللحظة، كنا بشر، ولسنا ببشر. كفيتينى وكفيتك، عن كل شئ. لا يحول بيننا أى حائل، من مكان ولا زمان. كنت أنا حقا، وكنت أنت حقا. كنا معا. كنا أنا واحدة. كيانا واحدا..:
– "وما دخل ذلك بالرواية..؟"
– "ماذا أقول، ولسانى عاجز عن الوصف.. "
قلت لها:
– "إنه مشهد كامل سأضعه فى الرواية.. "
فالآن إحساسى، هو الذى يتكلم بما رأيت، ولم أرَ مثله من قبل. لا فى حقيقة، ولا فى حلم. ما زلت، أجد طعم كل شئ. لون كل شئ. همس كل شئ. حتى مسيرنا معا، فى هذا الطريق الذى مشينا به.. الهواء الذى تنفسناه. ما رأيناه معا. يداك فى يدي، وذراعى يحوط بك. شعرت بدفئك، يلمس روحى.
وكانت صماتة لكنها علقت بكلمات قليلة:
– "أفهم.. أفهم. الإحساس الصادق يصل مباشرة إلى القلب والعقل معا.."
أحسست، بما لا يمكن أن أعبر عنه، ما حييت. إستيقظت، وكل ماقلت حقيقة. كل شئ حقيقى، ألمسه. أشمه. أراه. وأسمعه. إكتشفت، أن لى حواس، وجوارح. لم يكن لى، من كل هذا أى شئ، قبل هذا الحلم، لا أدرى أم الحقيقة. كل ما ذكرت الآن، ولم أقل ماذا رأيت بعد. ربما يوما، أستطيع أن أصف، أو أعبّر هذه الحقيقة أقول، لا الحلم.. عاجز إلى الآن، أمام حيرتى فى تفسير هذا..
-------------------------------------
رغم هذا الصباح الشتوى، من يناير، كانت السماء صافية، والجو صحوا، إلى حد ما.. لم يكن هناك تأثير، لمجموعات السحب البيضاء الصغيرة المتناثرة، هنا وهناك. نظرت، إلى البحر، وصفحة الأفق أمامى. ومن خلفى حركة، لا تتوقف أبدا، على طريق الكورنيش، ولا من أمامى، داخل البحر. حيث تتجول زوارق الصيد، قريبا، من الشاطئ. تماما، كما كانت تفعل، قبل ألفي عام، من الآن. أقول فى نفسي:
– "دوما، هى الأسئلة. تطاردنى.. أسئلة.. أسئلة.. "
حاولت، أن أبتسم:
– "ربما تكون كل ما تبقى، من العالم داخلى.. بعيدا "
وربما كنت أقول ذلك، فى نفسي، كثيرا، ولا أصرح به،.. قبل أن أضيف:
– "كل شئ تغير.. "
بينما، كان نسيم البحر البارد، يهمس لى بأفكار غريبة، من حين لآخر. وقد هبّ، من ناحية الشاطئ، الذى بدا، على غير حقيقته، أمامى، كما كان فى الأيام الغابرة، لسان ستيفانو. كان يمتد منه، إلى داخل البحر، لسان حديدى، مكون من أعمدة كبيرة سميكة، مغروسة فى عمقه. بينما يعلوها ممشى، من عوارض خشبية. يصل إلى مسافة عشرات الأمتار، أعلى صفحة الماء. هو نفسه الآن، الشاطئ، الذى أخفته حواجز أمواج أسمنتية مرصوصة، ممتدة، على غير مبعدة، من جزيرةة صخرية صغيرة، قد غمرتها مياه البحر. بالعودة، إلى زمن طفولتى، كنت أصل إليها سباحة ثم أقف عليها، بينما يصل الماء، إلى ما فوق كعبىّ قدمىّ، بقليل. وحينما هدّدّ البحر المدينة، بالتآكل والتعرية، جاءوا، بحمولات، من كواسر الأمواج، لحمايتها. صخور إسمنتية، وكتل خرسانية جاهزة.. مكعبات. سداسيات. وأنجم غليظة رمادية، من كل نوع. من عام إلى آخر، إقترب، ماكان بعيدا. وغرق، ما كان ظاهرا. إختفى تماما، كالصخور الكلسية الجميلة بنتؤاتها، وأغوارها.. كانت تغطيها الطحالب، ومازالت متجذرة، فى ذاكرتى.. الصخور.
جلست، على السور الخرسانى، المثبت على أعمدة دائرية، وقد أعطيت ظهرى، للبحر.. تلاشت من ناظرى، حركة الطريق، هلامية، فى إتجاهيها. بات كل ما أراه، نقاطا بارقة مضيئة، إزاء تلك الحركة الهادرة، فى عقلى، التى لا أعرف لها، إلا إتجاها واحدا.. تساؤلات، عاصفة برأسي:
– "ما هذا، الذى أنا فيه؟! "
– "هل أخبر جنى، بحقيقة الأمر، وظنونى..؟!"
– "وماذا، إن لم أخبرها..؟!"
فى الوقت، الذى أيقظنى من هذا، فتى عشرينى. كان هناك، يحاول عبور الطريق، الذي يمتد مطلا، على البحر. راقبته، فيما يندفع مرتفعا، بقدميه، من نهر الأسفلت، إلى الرصيف. هاربا، ألا تصطدمه سيارة مسرعة. كانت حركته، كبندول الساعة. يهبط مرة، يحاول أن ينتهز فرصة خلو الطريق، من السيارات. لكن سرعان ما يرتفع، وهو يثبت عيناه، على إتجاهها. أدهشنى سرعته، إلى هذا الحد. فى هذه اللحظة، فكرت، فى جنى.. أخذنى القلق، مع خطر ما رأيت.. كيف ستعبر الطريق، ولا يوجد، نفق للمشاة، هنا. كل ما إستطعت فعله، حينها، وقد نسيت هاتفى،.. أنى قمت، لألمحها، حينما تصل، لأعبر لها، أنا.. وكنا قد تقابلنا، بضع مرات، من قبل، فى نفس المكان. وأصبحنا نتندر، أنه :
– "أصبح أول شئ، نملكه معا.. "
– "أو غير ذلك..؟!"
– "تعرفين بالطبع لا. إنما تلك الفترات التى، لا أتذكرها. سقطت من ذاكرتى.."
– "حسنا هيا بنا.. نبحث عنها.."
– "وأين نبحث..؟ّ"
وتبادلنا ضحكنا.. قمنا للتمشى قليلا،.. نظرت إليها، قائلا:
– "أتذكرين أول مرة حدثتك فيها، عن دكتور مصطفى..؟"
– "بلى بالطبع. أذكر.. هذا الطبيب النفسي، صديقك.."
– "هنا مربط الفرس.. لقد كنت أفكر فى علاقتنا، منذ أول مرة قابلته، فيها.."
– "وماذا؟!.."
– "أمس، كنت فى النادى. وداعبنى النادل النوبى أدريس، كعادته. وحينما أحضر قهوتى سألنى :
– "أدريت أن صديقك د/ مصطفى.. "
وقبل أن أعلق، على ما أخبرنى به، أضاف قائلا:
– "يا أستاذ يوسف لم أنس أول مرة، سألنى عنك، وعن مواعيد حضورك، إلى النادى.."
– "أتعرفين، كنت أقلب تلك الأفكار، في مخيلتى.."
----------------------
هذا الصيف كانت الإسكندرية قد إرتدت ثوبها الصيفى، من النسيم. وقد حاولت حرارة شهر يوليو إلتهامها.. بشهوتها، التى لا تطفأها أمواج.. بينما، أسرار زائريها تتناثر، على شواطئها الشهيرة، بين ما تبقى، من رطوبة جو، ومن أساطير ومدن يونانية.. هيراكليون. منتيس. كانوبس. ومينوتيس.. أسرار مكنون المكتبة، من علم ولاهوت وفلسفة.. تتهامس، وآثار فرعونية وإغريقية غارقة، عن كليوباترا وأنطونيو، وعن زلزال قديم..
كانت تعلم مكانى حينما أغيب أو أختفى، ونفسي فقط.. كان هذا اللقاء أول مرة، نتقابل فيها فى هذا المكان.. قالت لى وقد فاجأتنى أمامى:
– "أأنت هنا.. يا يوسف!؟.. تغلق هاتفك وتختفى.. ولا أجدك..!"
– "وأى غرابة.. أنا والبحر.. "
– "منذ متى..؟ "
– "منذ كان صديقى.. "
– "لم يخبرنى.. "
– "لم تسأليه!! "
– "أو أنتما كذلك..؟ "
– "منذ كان بحرا ومنذ كنت.. "
– "لو كان الأمر، كذلك لأخبرنى.. "
– "إسأليه. إرهفى سمعا لصوته تسمعينى.."
– "أمناجاة..؟! "
– "أحاديث بيننا وحياة.. "
– "وماذا تقولان..؟ "
– "ربما كنت نتحدث عنك!"
– "أأسرار..؟ "
– "هى كذلك.. وأنت.. يا جنى..؟! "
– "أنت يا يوسف حياتى.. "
– "وأمر البحر معك..؟! "
– "عرفته منذ عرفتك.. "
– "هذا مالم يخبرنى عنه البحر بعد.. "
– "منذ الآن سوف يفعل حبيبى.. "
وفى مرة ثانية، جاءت إليّ، ذات صباح يوم أربعاء صيفى، من شهر يوليو. كان الجو صحوا هادئا. وجدتنى ممددا، مختلٍ بنفسي، على مقعد حجرى، مباشرة، فى مواجهة البحر. وفى الخلف، هذا المسجد، على ربوته العالية. عبثت بأناملها، فى شعرى، تداعبنى، حتى خيل لها، أنى إستيقظت..
– "أرأك، كنت نائما، لا تدرى بأحدّ قط.."
– "لا.. كنت فقط مغمضا عينى.. إستيقظت، حينما تنسمت رائحتك، فى نسيم البحر.."
جلست بجانبى، مواصلة حديثها:
– "منذ متى وأنت هنا ؟.."
– "لا أدرى ربما منذ ساعتين، أو أكثر...."
– "وبعد..؟ .."
– "كنت أفكر.. أتأمل.. هذه هى الحياة.."
– "وأنت هكذا.. الناس تمر عليك، وأنت فى هذه الحالة ..!؟"
– "لا يعرفنى أحد هنا.."
– "أترين هذا المسجد على الربوة العالية.."
– "أراه.."
- "بالطبع، تعلمين لمن هذه القبة، فوق الضريح؟.."
– "أجل.."
– "غالبية أولياء الله فى الإسكندرية، سكنوا بقعا نائية، عن الناس، خلوة بأنفسهم.. حتى كانوا.. فزارهم الناس. وسكنوا من حولهم، أنسا بهم، وبركة.."
هزّت رأسها، وأكملت هى:
– "سيدى بشر. المرسي. الشاطبى. القبارى.. وغيرهم.."
وقد أضافت:
– "تراك ستكون مثلهم بنومتك هذه، على مقعد حجرى، بعيدا عن الناس ؟!.."
– "لا،.. لكن مازالت هذه المسألة تحيرنى.. أفكر فيها.."
– "الأولياء؟!.."
– "لا...."
– "وماذا، غيرها؟.."
– "تراك، إذن فيما كنت تفعل هنا؟.."
ظللت صامتا، لا أدرى ماذا أقول. وتماديت فى ذلك، رغما عنى، حتى إشتد غضبها، من سكوتى. لم أستسلم لليأس. وإنصرفت نفسى، عن كل ذلك. وقد عزمت على الكلام. وأقدمت، على مجازفة الحديث معها. لكن كيف أخبرها، بما إعتزمته. لم أر مناصا، من مواجهة نفسي، أولا، بهذه الحقيقة، فى نفسي  :
– "أنى أحبها فعلا.. على الإعتراف بهذا.."
وتواريت خلف إجابتى لسؤالها:
– "أحادث صديقى البحر.. .."
– "وأى حديث هذا؟.."
– "مناجاة.. .."
– "آه بين صديقين..! وماذا كنت تقول له ..؟ .."
– "أسررت إليه، بقصيدة.."
– "وماذا قال لك؟.."
– "أوصانى بك .. أهدانى شيئا. أنا بدورى أهديه إليك: قصيدة أغنية البحر.. أو تقول شيئا منها؟! .."
إنحدرت الدموع من عينيها، تعاتبنى، على طول صمتى...
--------------------
 كالسحاب، كل يوم فى سماء، فكيف يعرف أين مستقره السابح، ساكن البعاد.. كنت أحادث نفسى. أصارعها. أريد أن أخرج من عقلى أبطال قصصى. هذا التاجر اليهودي (الصولدى) فى روايتى، يؤرقنى..
" -كيف يلبس. كيف يمشي. كيف يتاجر فى الرقيق. كيف يرابى. وكيف.."؟ كيف كان معه دوما خادماه، يلازمانه على طريق الحرير، من فارس إلى الشام، مرورا بشيزر. أحدهما، فكان أسودا طويلا ذا بسطة، فى الجسم والقوة. لا تخطئه العين، من مسافة بعيدة. أما الآخر، فكان ضامر القوام، قصير، أشبه بغلام يكاد يلاصق الأرض. مختفيا، بين التاجر وخادمه الأسود الضخم. كثيرا ما تسائلت:
" - لماذا لا يشترى عبدا، يستبدل به هذا ضئيل بنية الجسم؟ وذلك فى قدرته ووسعه، بل أكثر.. "
كم من مرة دار بذهنى، وهممت فيها لأسأله:
" -ما بال ذلك؟ "
وكأنه قرأ ما يدور فى رأسى، فيداعبنى ويذهب ضاحكا بجملته، يلقيها على مسمعى:
" -ويكأنك تتعحب من أمرى، مع "ميمون". إنه عبد أسود مخلص وخادم أمين. يتبعنى دائما، فى كل فجّ.. يأتى بما لا يستطيعه المملوك الزنجى الأسود "سِيفان" .."
" -أخرج أيها التاجر اليهودي، من رأسي. أخرج.. تعالى، مكانك هنا فى هذه الفقرة. لا تحادثنى أنا.. بل، حاور هذا الأمير، الذى تأتيه بما يريد، عبر طريق الحرير. هيا تحدث. أنطق. أخرج لا تقبع، فى مخيلتى أنا.
وأنت أيتها الفتاة الأنطاكية:
" -لا تتوارى خلف التل الصغير. سوف يأتيك فارسك، فى موعده. أنا سأكتب هذا فلا تقلقى. هيا أرينى هذا الرداء، الذى جعلتك ترتدينه.. لا. لا. فليكن لونه أسودا، فأنا أحب الأسود. لا. لا. فأنا ليس البطل، فلترتدِ ما ترتديه نساء أنطاكية. لا بل أرمن الشام أو الروم.. لا . لا. بل ما بحثت عنه، من ثياب هذا القرن.. كوني عربية.."
كانت الأفكار تصدعنى كل ليلة،.. ألقى بالأوراق والقلم. أمزق ما كتبت وأعيد كتابته. أترك نفسى، فأجد نفسى، على درج القلعة الحصينة، بعدما أعبر مخاضة النهر. ولا دليل له. أرتقى. أصعد. أنظر فى الأفق منتظرا، مرتقبا غائبا بعيدا. يرتد طرفى إلى ربض القرية، مع عودة رعاة القرية.. أتمثل :
" -من أنتم ؟ " ..
أخرجوا من رأسي: أنت أيها التاجر. أنت أيتها الفتاة. أنت أيها الأمير. أنا البحر.. أنا النار. أنا الدم.. أنا بركان.. هذا هو الجنون. هذا هو الجنون ..لا أريد أن أسمعك أيها الشيخ الكبير. لا أريد حكمتك.. اجعلها،  لمن يقصدك، من الرعاة. أنا لست جزءا من هذه الرواية. كونوا هناك على الورق، كونوا فى هذا المقطع، مع صوت طبول الحرب. لا بل مع ترنيم الراعي. يحدو. يرفق بالقوارير. هو عاشق. لا بل أنا العاشق. بل الفارس. بل نحن جميعا. أنتم لستم أبطالى. لا تعذبوني. لو كنتم كذلك لخرجتم، من رأسي. لا تسكنونى هكذا. لا تعبثوا بي.. أطلقوا سراحي. لا تأسرونى أنا. فكّو قيدي. عليكم بالفرنج الملاعين  جاهدوهم. هذه تروسكم فخذوها. هذه سيوفكم فحدوها. هذه راياتكم فارفعوها.
إرتفع صوتى محادثا نفسى. ألقيت بجسدى المنهك، على الفراش وحيدا. يوما ما، أيها الوحيد الغريب، سوف أكتب قصتك.. لن يعصانى القلم فيك. لن تخذلنى المعانى أو الكلمات.. صرخت بها :
" -أين أنت الآن؟ .. أين أنت؟ "
يوما ما، سوف تستقبلك أشجارا وارفة الظلال. وضعت بيديك بذورها، فى أرض، أعلم أنها لك أرض، وسماؤها لك سماء. ألم يخبرك بهذا أولياء ؟ لم أشعر، بأنك بعيد عني. سرتُ تحت المطر. كلمتُ قطراتها. أخبرتُ البحر عنك. أعلنتُ سرى. أيها البعيد القريب. غالبت النوم فلم أنم. إستدرت على جانبى الأيمن، لم أستطع أن أقرّ. إستدرت على الجانب الآخر.. رقدت على ظهرى، ناظرا إلى سقف الحجرة فرأيتها. ارتد طرفى فرأيتها. لا أستطيع أن أهرب منها. أينما وليت نظرى، وجدت عيناها تطاردنى. قمت لأكتب، فكتبت عنها. سكت عن الكتابة، ففكرت فيها. قلم لا يخرص أبدا..
" -لا لست أنا. لست أنت. لم أكن هكذا أبدا.. "
لا أريد ورقة.  لا أريد قلما.. قلمى يروى للنهار، فيرى ما كان، وما أنا فيه،.. ما كان بالليل الطويل، بحثا عن الروح، أمام ما طوته الكتب..
" -أهذا ما بك ؟ "
" -نعم"
ولكن لأسباب خفية، هذا المعنى شارد هناك، لا أستطيع أن أكبله، كمن يحمل رسائل فلا تصل إلى عنوانها الصحيح.. فتطيش.. ولا تضل الريح أبدا عما تعصف به. تعصف بي أنا، وحدى،.. تنتزعنى من جذوري. تدعني قاعا صفصفا.. ولا يضل الغيث، عما يحييه من أرض فتهتز و تربو.. لا أستطيع أن أأوب من رحلتي، إلا متشحطا فى دماء معان. تتساقط مني، دون أن أقبض على قلوبها .. فلا الليل ليل. ولا النهار نهار.. كل ليلة، شاهدة المعركة هى الأوراق، بخوف بين عينيها تخشى بوحه. فهو يريد. ويريد. ولا يعرف كيف؟ ساترة عليه تلك الغربة الجامحة. ولا أحد يعرف، ما تشهده تلك الأوراق، كل ليلة.  نهضت من فراشى، وقد تذكرت حديثى مع الطبيب:
" -لا . لا.. لم أذهب لطبيب.. "
عبرت الصمت هاربا، إلى الأساطير:
" -لست مجنونا. ليس مجنونا.. الموت للكلمات. للكلمات الموت. أنا لن أموت. الصمت طبيبي. هو لن يموت.. الموت للكلمات. للكلمات الموت.. الموت الموت.."
أثار فضولى ما أكتب. هذه خواطر. لا بل قصة. بل شيزر. بل أنا. بل رواية. بل هو.. افترستنى معان أسطورية. افترستنى.. لم تنته المعركة، إلا على أشلاء أفكار، لا أعرف ماذا سأجمع منها، أو كيف أختار.. توزعت دماء أبطالى، وأهريقت بين الفرنج، على مشارف الشام. على ضفاف النهر. حاولت مرة أخرى أن أنام. إكتشفت خلو فراشى، كأنها أول مرة أراه خاليا. هكذا كان، دائما. نهضت. أغلقت الباب خلفى. هرعت إلى هناك :
" -عليّ بالبرد. عليّ بالبحر. بجوه البارد "
ركضت على الشاطئ الخالى. ركضت. وظللت أركض. وأركض. اصطدم  بوجهى رذاذ البحر. رائحة اليود. علا هدير البحر. هربت موجة عالية. عبرت السور. استوعبتنى. تحممت بها. بلعنى البحر الكبير. عدت، ولم أشعر بالبرد القارس. حاولت أن أستغرق فى النوم، ولكنها فاكهة الدوحة النائية عند التل. تلك نكهتها. هذا أريجها. نعم أريجها.  لم يكونوا أبطالى أبدا من فعلوا بى هذا. لم يعبثوا بى. إنما هى هناك بعيدة فى رأسى. فى عقلى مجتنة فى قلعة حصينة، مستترة.. فى عقلى.. فى التل البعيد. كنت أدرك ذلك. أعرفه جيدا. أهرب منه بحكمة الشيخ الكبير. بفطنة وجسارة الفارس. حتى، برقة الفتاة. إلتحفت بكنزتى الصوفية، فى فراشى الخالى مرة أخرى، أتلمس قطيفتها. مخمليتها. وترتفع حرارتى، تطاردنى شهوة الإرتحال إلى البعيد. أرهف السمع، لخرير جدول شيزر الصغير. أريد أن أنهل منه. أختفي فيه، فلا أعرف كيف. الجدول غائب. وراء أفق غيبى، أتعبنى التفكير فيه. فلا أدري :
" -كيف؟ ولا متى أغيب عما حولى بجدولى الرقراق؟ "
ومارت أفكارى بسماء عقلى مورا. بدأت أكتب من جديد، ممزقا ما كتبت من قبل. لا أريد سوى الجدول لأنهل منه، عذبا  فراتا ذكيا. ادخرته لغائب أسطوري منفردا به، فى دوحة العقل و الروح. أنا وجدولى العذب فقط.. وراء التل الأرجواني.. زهوا بهما  الغيب. وكلما اقتربتُ، ظهر أننى مازلت على ساحل غريب غامض. هناك تجوب جاريات أعلام بمصابيح. يتراقص نورها، خلف الأفق تراقب من يختفي. وترتقب من يحلم. تهدى الغريب. فقط أحاول منقبا، لا عن مجهول. أعرف أنه هناك، بين تلال شيزر ومروجها. تحيط بها أشجار التين. يحنو عليها نهر العاصي. تسامرني، على نغمات نواعيرها الخشبية، عن فتاة أنطاكية، وفارسها العربي، الذي يقطع الأرض، كل يوم مسيرة نصف نهار، ليراها، لا تعلم بلاد الشام شئ. وتتراءى أعمدة "أفامية" البيضاء، خلف الأفق، كعرائس الجن. ويوقظني صوت " فارس" يذكرني، بمن يقول :
" -أكتب فارس. أكتب.. شيزر"
وبين فارس "فتاة أنطاكية" و"فارسي" الوحيد الذي طوته ليالى الشتاء الحزينة، تسكن ذاكرتى تلك الزاوية البعيدة. تحرسها أمينة نوارس البحر،  ربما يأتى "هوميروس" بحروف فريدة، عارجا بى، بين سطور التاريخ. أشغله، فلا يضع إلياذة ولا أوديسا، غير روايتى!
أوصى" المقريزي " بعيدا، عن صفحة بحر، التحمت بسماء الليل، غائبة فى جوفه. بعيدا عن الحاكم بأمر الله:
" -ألا تسجننى بخططك القاهرية مجنونا. أريد حيزا، لا يقدمه لى البحر..أريد قصرا ببغداد، بعيدا بعيدا. لا يعلمه من بين الرافدين .. "
وتظل تطاردنى كلمات ساحرة بابل :
" -هناك سأكون وحدى بعيدا بعيدا!  "
تريد أن تسكن آهات حزني. لا تعرف أنها لن تستطيع، فهى لا تعرف الملكين ببابل هاروت وماروت. لم تستنطق طلاسم سومر أوتفك رموز أشور. تريد أن ترانى، وكيف ذاك وأنا فى عينيها، ترانى وترى بهما، فأرى !لا تدري أن الجنون لا ينطفئ، بعبور مستحيل، تسجنه جدران أطلانطس، بقلب دواوين الشعر. تحمله خيالاته كل ليلة وحيدا، ليفك تعويذة الساحرة. قاصدا ما لا يرتاده إلا هو وحده. غريبا، فيرى عينيها، ويختفى هناك. حيث يعرف، أنه لن يقبض على ظلها. فلن تأتيه جدران أطلانطس، لتخفيه بين أربع، فيدخل صرحا، من قوارير، ممردا غير لّجيّ .. وترتفع أصوات الحافلات، خلف ظهري على شاطئ البحر. تناديني، فابتسم لتلك السمكة الصغيرة، التى طالعها زوجان، أمام ناظري بعد صبر وانتظار، ومصارعة ضاحكة بينهما. أعاداها للبحر لتحيا، وأسمع كلمات الساحرة:
" -هناك سأكون وحدى" !
ويسكن رأسى صوت القطار، مسافرا. أشتاق لهديره، عابرا المستحيل. لا يقطعه سوى صوت سنابك الخيل، على جسر شيزر الحجرى، وقد اختفت روايتى فى رأسى، باحثا عن فارسها العربي. ومازلت، أنتظر صرحا أغشاه، فوق حدائق بابل. فيه أختفي. أنزوي. أذوب. فلا تعرف طريقي أساطير أو ملاحم هوميروس. وأظل أشتاق فقط، لطيف الساحرة، وصوتها ينادي:
" -هناك سأكون وحدى!.. هناك. سأكون وحدي بعيدا بعيدا !" ..

فلا أسمع صوت أبدا الحافلات، وراء التل الأرجواني ..
----------
ومرّ بنا متسول بعمّة بيضاء غريبة، وقد لفها حول رأسه، بإحكام، منسدلة على كتفه الأيمن.. كان يرتدى جلبابا أبيضا، فوقه جاكت داكن. وبيده مسبحة عنبرية طويلة، وبالأخرى عكاز معدنى، ممتدا حتى مرفقه، وقد قبض عليه، مستندا إليه، بجانبه الأيمن. به عرج.. يجرّ بقدميه.. يدفع بهما دفعا، على الأرض، فيسمع معهما صوت إزيز غريب صادر من زحف حذائه، على الإسفلت. أشبه بصوت لوح خشب، يُجرّ على الأرض. كان، كأنه ينزع نفسه منها، لا ليتحرك بهما. كان يتوقف، بعد كل بضعة خطوات، يجرّ نفسه بها، من حين لأخر. ينظر إلى السماء، مرة. ثم إلى الناس يمينا ويسارا، مرة أخرى. منادٍ هنا وهناك، مستعطفا، بصوت جهورى، ليصدع قلوبهم:
- " أنت العالم وغيرك لم يعلم يارب. ساعدوا العاجز. يربّى فى أيتام يارب.. يجعلها أيام مفترجة عليكم يارب. يارب"..
أخذتنى الدهشة باسما، من مفارقة المكان، وطريقة إتقان هذا المتسول، ملبسا ونداءا. وقد إنتقى أن يتسول، على شاطئ البحر، شاحذا، بين مصطافين ومرتادى كورنيش. وهو يضغط، فى ندائه على حرف الراء، يكرره بعمق. لم يختر مكان تسوله أمام مسجد، أو فى الشوارع الأخرى. قلت لجنى، وقد لفت نظرها هى الأخرى، هذا التناقض العجيب:
- " مؤكد أنه عبر النفق أسفل الطريق. هذا الرجل أكثر من متسول. أراه غير ذلك. أو ترينه..؟!"
وبادلتنى إبتسامتها، ضاحكة، وقالت:
- " ربما لو أراد أن يكون إمرأة لفعل بهذا الإتقان. أتخيله بهذا الشعر الطويل.."
وعلت ضحكتها.. قلت لها:
- " إنه عالم التسول والمتسولين. هذا أحدهم يا جنى. مجرد صورة من الحياة.. نقابلها فى كل مكان.."
وكان صوته مازال يتناهى، بعيدا عنا.. ولم نر أحدهم، قد وضع بيده شيئا، منذ رأيناه.. حتى إختفى نداؤه، بين ياء النداء والراء يشددها، والصوت يتلاشى ببطء.. إلى عمق بعيد، ذهب صداه، مع هواء البحر المنعش:
- " أنت العالم وغيرك لم يعلم يارب.. أنت العالم وغيرك لم يعلم يارب.. يارب"
-----------
وقفت متكأ على جذع رمادي لشجرة ساقطة، واشتعلت رغبتى، فصرخت بها:
"انتظرى لحظة علينا إزالة بعض الأشواك بعناية، حتى يمكننا المرور، والمتابعة بعيون يقظة" ..
تجمدت الدموع فى عينيها قبل أن تنساب على وجنتيها.. مخبرة عن كل شئ.. لم تمض فترة قصيرة، قبل أن تتردد صرخة، من الجانب الآخر. تشبه ريح، إنطلقت من وراء ظلام الفضاء.. بدت مثل أصوات ساحرات ثملة.. همهمات كانت تسرع وراءنا.. كان من الواضح، أنها غير مهتمة، إلا باللحاق بمصدر الصوت، غير عابئة بخطر.. كانت الأرض أسفلنا مغطاة بعشب خشن، وأوراق شجر متشابكة.. بينما رأيتها، متوسطة القامة، شعرها منسدل إلى الخلف، فى جدائل متموجة منسابة على كتفيها..كانت ممشوقة.. عارية القدمين.. استطاعت بالكاد التحرك، بين كل هذه الأشياء القديمة، التى تكومت متناثرة، متحللة
هنا وهناك.. اصطدمت بجذوع سميكة مقطوعة، وأغصان متكسرة.. تتقلب ألوانها بين الأحمر والأصفر والبنى.. خدشت أشواكها ساقيها.. قبل أن تتعثر بفرع بارز، من جانب الطريق الضيق.. تسلقت إلى الأمام، بصعوبة كبيرة. نزف دمها بشكل كبير.. غير أنها في بضع ثوان، فصلت نفسها، بحذر عن الفروع، كانت لا تزال ماثلة بيننا.. فى النهاية، بدأنا فى إختيار طريقا ممكنا وآمنا.. وقد أضافت:
"ليست هناك على الإطلاق، أى فرصة غير ذلك لننجو"..
وسرعان ما جاءنا، صوت تساقط قطرات مطر رقيقة. تتلألأ بوضوح بين شجيرات بعيدة تهتز.. هناك حيث لفت نظرنا، ممر جانبى آمن، إلى اليمين، دليل لنا..
------------------------------