سرماديا

سرماديا

سبحان الله فى كل آن وحين

مع شروق الشمس، أتذكر درويش سيّدى ياقوت، بصدى صوته، صدّاحا شاديا، مؤنسا الذاكرين : "سبحان الدائم. سبحان الحي القيوم. سبحان البديع". لم يغب عن حضرة الذكر، بدكانة عمِّته الخضراء، منسدلة وراء ظهره. يفرد عباءته الخضراء، على أفق الروح. بيمينه، سبحته، من الصندل. تفوح من لبّه، رائحة ذكيّة. منتهاها،  قرمز الحرير، مغزولا، يعلوها. يعقدها، حول يمينه، إسورة ذهبيّة، نضّاخة. وهبها أبي، لتتعتّقّ بها رائحة عرقه، بمسكّه الطيّب، سنينا.  لم يكن تاركا التخضبّ به. صارت عنبرا. دوما، لم يترك ذكر الله، وَلِهَا، مشدوها، مع الذاكرين، مسبّحا للرَّحمن"سبحان الدائم. سبحان البديع. سبحان الحي القيوم. سبحان الدائم. سبحان الله"
-----------
فقرة من " غربة طفل ذى تميمة"

عالم صاف

عالم صاف
الخيال والحقيقة
(مقال مجمع)
------ خالد العرفي
الحياة فى جوهرها، ودون تشذيب، وزخرف من قول، هى الحقيقة المفقودة، التى تظهر شيئا فشيئا، للعقل، دون ألوان، إلا لون الحقيقة المجردة. فى عالم صاف، بلا زخرفة، أو إنتقاء. تفسح المجال لتُظهر، ما نسميه بالتجارب، تفاصيل خافية عن العقل، فتعبّر حينئذ، الحياة ذاتها، عن نفسها، بكل مافيها، بصورة واضحة، غثا وسمينا، فلا يشطح الفكر، ولا يندفع، إلا سعيا وراء حقيقة، بلا رتوش. هى الحقيقة المفقودة، دوما. غائبة فى معين عميق، ودرب طويل. ومنذ ذلك الحين، الذى يقف الإنسان على هذا، وتظهر له تلك الحقيقة، يشعر فعلا أنه على قيد الحياة، متلألئا كالجوهر، متفجرا وهج فكره، متدفقا ذهنه. يعبر العواصف والدوامات. لا يجمح به جامح، إلى مخمل حريرى، فيستكين، ولا إلى لا معقول شائك، فيتوه، فى خضمّ كينونته. وبكل معنى الكلمة، يبدأ الإنسان، وسط تأثير فراغ الحياة من هذا الجوهر، ليعى ويدرك لب الحقيقة. الأمر أشبه برؤيا كشفية له، ليس لها علاقة أو صلة، بمكان أو زمان، ولا حدود، إلا أن عين العقل، وبصيرة تمسك بها، تأويلا وتفسيرا. دون شك، إن الأفق العقلى الذى يحدّ الأمر، لا يكون فى متناول كل إنسان، فهى قدرات خاصة، الأصل فيها هبة إلهية، وعطاء ربانى. وغريب الأمر، إن ثورة العقل هذه على نفسه، هى الأخرى أشبه بمعجزة مؤقتة بقدرها، وثيقة الصلة بتلك الرؤية الغيبية، التى تجعل الإنسان، ربما يسخر من كل شئ مرّ عليه من قبل، لإنه لم يعٍ الحكمة، آنذاك، وهو فى حقيقته كان أمرا، يفسح له طريقا، إلى الحقيقة. ولكل شئ حقيقة، وشيئا فشيئا، يمدّ العقل به ومعه، بخطوة إلى الأمام. يجاهد كل شئ، دون أن يدرك، أن هذا فعلا ما يحدث فى زمان محدد، أومكان معين. ولا يحدّه العقل، فى حينه. ولولا هذا، ما إجتاز العقل آفاقا، ولضاعت أفكار، إلى آخر الأبد.
قليل من البشر، من يحيا هذه التجارب العميقة. تختارهم لها الأقدار، ويختارهم القدر، لها. مثل الوقوع على قطعة أثرية مطلسمة، لا تكتشف سرها أبدا، إلا إذا انفصلت عن الواقع لتغوص فى تاريخ غير مرئى، وتتمعن أبعادا غير منظورة، وكل شئ لازال، فى مكانه، أمام ناظريك. حينئذ، فقط، يُضاف سطر جديد لتاريخ البشرية، عبر الروح، يُعلى من قيمته المسطورة، فى بطن الزمن، كيفية إكتشافه، وإستعادة ما فقد منه، جوهرا نفيسا، فى مسيرة الإنسان، خلال حياته. وحتى لو لعبت الصدفة القدرية، دورها فى الوقوف على فكرة أو إبداع، أو إكتشاف، فلو لم يكن هناك مثل هذه النظرة الكاشفة، بعين العقل وراء الأفق، ما تقدمت البشرية، ولما قرأ إنسان شيئا، يحمل من إبداع، من قبل. والواقع المتراكم من تجارب الحياة، ليس وحده كافيا، دون هذه النظرة الثاقبة، تعزوها روح خيال خلاق مبدع. لذا، وقطعا لهذا السبب، فإن العلماء والمفكرين والأدباء الحقيقيين، ندرة وأشد من الندرة، نفسها. فالألوان وحدها فى يد الفنان أو الرسام، ليست كافية أبدا، دون روح محلقة بعينى العقل،  والخيال. وهنا فقط، لا ينفصل كلاهما، لا العقل، ولا الروح، عن بعضهما. وفلسفة الجمال لها دور كبير، فى هذا التذوق. وفى الأدب، هذا الأمر قلما نصادفه، وهو فقط، الذى يؤثر، فى النفس، كما تؤثر تماما الحقيقة التاريخية، التى لاشك فيها أبدا، مغادرة بنا، إلى جهة أوسع من العالم نفسه، سالخين جلد الزمن، فيحيا الإنسان الجمال، لا أن يتذوقه فقط.. يترك نقطة زمنية، إلى بقاع أخرى رحبة، فيصل إلى جوهر ما يحمله الزمن، نفسه، من حقيقة وحيدة، بعين العقل، ولكنه يعيشها جمالا بعد جمال. تنظر بها الروح، وتقرأها غاصّة فى كل فريد وفذّ، تحررا من الجسد. هى خطوات، بعد خطوات. صفاء من بعد نشاز. بشكل أفضل كثيرا جدا، مما نتخيل أى شئ يحوى حقيقة، فى غير ذلك. والأدب، وإن حمل أسئلة من قبيل، كيف نكتب، ولمن نكتب، وماذا نكتب، وكينونة الكتابة ذاتها، إلا أنه يحمل من ذلك كثيرا. وربما هذا هو السبب الأساسي الذى جعل "جان بول سارتر" يؤلف كتابا كاملا عنوانه (ما الأدب). هى دائرة عملاقة، من الجمال والفكر والإحساس، وكلما تقدمت خطوة وتوغلت داخلها، لم ترغب فى الخروج منها، بعيدا عن كل شئ، بحثا وراء حقيقة لكل شئ، بعينى العقل والخيال.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
جمال الماضى
لا يعرف كثيرون كيف هو جمال الماضى وروعته، عندما تنقله أنامل الفنان. عصور مضت وتفاصيل فنت من الواقع. سجلت لحظاتها ألوان وظلال.. وإستخدام للضوء لا يمكن أن تراه، إلا فى مثل اللوحات الزيتية.. لانعرف، إن كان هو الضوء الذى يظهر الألوان، أم الألوان هى التى تظهر الضوء. وتسمع فيها موسيقى من نوع خاص، لتحيي النفس، وتسافر فى الزمن.. كثيرا ما قضيت وقتا، على فترات متباعدة، فى تأمل مثل تلك اللوحات المدهشة. مدن، ومناظر طبيعية، ومشاهد إنسانية، وبورتريهات بشرية،.. وقائع وأحداث. أحتفظ بها.. وكم أهدأ كثيرا، عندما أعيش فى تفاصيلها، وألوانها. ترينى أماكن لم أرها، وتحيينى فى أزمنة لم أعشها. كم هى دهشة أن أرى الشرق قديما. كل شئ أعيش تفاصيله. أنظر للوحة كأنى فيها.. الألوان. الأشياء. الخلفية. السجاد. الستائر. الملابس. الأثاث. ملامح الوجوه. الحركة.. كل شئ يتناغم فيما بينه بألوانه ومكانه وأتناغم فيه، متنقلا بين تفاصيله المدهشة، وأنا جزء منه.. هدأة وسكينة وإحساس، لا يشبهه إحساس.. وحتى اللوحات، التى سجلت مشاهد لأوربا، فى العصور الوسطى.. بصرف النظر عن الدين والعقيدة.. رأيت ما سجلته أنامل الفنان، لمعابد وكنائس وشواهد قبور، إستوقفتنى كثيرا. من لم يرَ فلورنسا وبيزة وجنوة وغيرها من مدن إيطاليا، فى هذه الفترة، لم يرَ جمالا لعمارة ولا شعر بجمال الفن، وروعته.. هذا موضوع كبير، لا يكتب فيه أسطر.. يحتاج لسِفر بمفرده.. أما عن البورتريهات وحكايات الفنانين الكبار، معها، فمشكلة فكل كان له ملهمة.. ويكفى أن يقع بصرى على لوحة، تسرقنى من نفسي، وأتمعن، وأضع نفسي فى نفس اللحظة، التى رسمتها فيها يد الفنان، بروحه ودمه.. لا يمكن أن تشغلنى تفاصيل الوجه فقط، ولكنها تصبح تعبيرا فى مجمله، ترى من خلاله روح الفنان، وروح العصر .. جمال وروعة .. وربما ألهم الفنان مكان، أو لحظة تاريخية .. ومن ذلك اللوحات، التى سجلت الحروب الصليبية. وقد جمعت منها كثيرا، من باطن المراجع والمصادر القديمة، حتى كدت أسمع رحى الحرب، وهى دائرة، وأسمع هسيسها.. لوحات قبل أن تعطيك الروعة، فى تفاصيلها، فهى تأسرك برهبة، تتسلل إلى كل كيانك.. كم أتمنى أن أرى كل ما أبدعته يد الإنسان، الذى سجل روح الإنسان الحقة.. وأحيانا لا أصدق نفسي وأنا أحيا فى مثل تلك اللوحات، التى تأسر الروح. تصبح أعظم من الرواية والشعر، وكل فن أدبى .. فهى تطلق عقال العقل، وتفك أسر الروح.. لا أنسى أبدا اللوحات، التى سجلت القدس قديما، أو كما يسمونها أورشليم، وكما نسميها نحن بيت المقدس.. حتى سيناء بطورها وجبالها وشعابها وأوديتها.. رأيت تفاصيل قديمة مذهلة، لها لم يرها كثير من المصريين، ولا توجد إلا بين دفتى الكتب القديمة، بروعتها وجمالها وروح عصرها. وعلى رغم، أن للوحات الزيتية سحرها، وللصور الفوتوغرافية القديمة جمالها، إلا أن هناك فرق كبير ببين جمال كل منهما وسحره..  بين الظلال والنور، والأبيض والأسود، بكل التباين والتفاوت والإختلاف، فى الدرجات.. فهذه شئ، وتلك شئ آخر، ولكل جماله وعبقه .. أما عن مصر بقاهرتها ومدنها خاصة أقليم الصعيد، فقد وقفت على شئ من ذلك كثير، فى الكتب القديمة، خاصة كتب الرحالة.. يذهل له من يراه، ويتمنى لو عاش فى هذه الفترة، من الزمن، ورأى تلك التفاصيل.
أما عن الثغر.. الإسكندرية بتاريخها، فلا حديث يجدى عنها إلا مع رؤية تلك اللوحات فعلا، التى سجلت ما فيها.. ثم مع بدايات التصوير الفوتوغرافى، ومع وجود الجاليات الأجنبية فيها، سكنا وعملا ورحلة. التى سجلت سحر وجمال الإسكندرية، آنذاك. فقد رأيت الإسكندرية منذ ما مضى.. ورأيتها منذ قرون غبرت.. ولا يمكن وصف إحساس الإنسان وشعوره، وهو يرى مدينته، منذ مائتى عام مثلا.. كل ركن فيها .. كيف كان.
الجمال كما هو موجود فى الطبيعة، بقدرة وإبداع البارئ البديع.. فقد منح الإنسان من جنسه، ما يعطيه جمالا تسخيرا له من الله، وفتحا للعقل البشرى، الذى أبدع بقدرة الخالق، لما تراه الروح، لا العقل فقط.. شئ لا يمكن إلا أن يشبع جميع الحواس والجوارح، فتستكين معه الروح، وتهدأ .من لم يتذوق الفن، ويرى مافيه، ويلمس ما له، من جمال وروعة، فليس يحيا بشئ.

الحياة والذكريات

الحياة والذكريات 
------ 

1 -  الذاكرة بين سطوع وأفول
2 - ماذا نذكر حتى ننسى؟!
3 - الألم وقوة الحياة
4 - من تجارب الحياة
5 - الحياة والذكريات
6 - رهبة الذاكرة  
------ خالد العرفي
كأنها المرة الأولى لك، لا تفعل شيئا قط، غير أن تعيش تبدلات، وتغيرات، لا تكاد تلحظ، أو يلاحظ أهمية أمرها، إلا أن تواصل الحياة بها، بينك وبين نفسك. لا أحد يستطيع مشاركتك فيها. وهكذا، نحن، وهكذا أمر الإنسان، بصفة عامة، مع الذاكرة، كحركة دوران الشمس عدة مرات فى اليوم، على نوافذ مشرعة منها ومفتوحة، فيضاء له كل شئ، من حوله.. بين سطوع وخفوت.
إلى هذا الحد، لا جديد في الحقيقة، غير أن تكتشف، أنه ما هناك ضرورة إنتظار أن يمر عمر طويل، أو أمد، دون تفكر فى طبيعة الأشياء، من جديد. فما عليك إلا أن تنطلق، دون عائق.. حلّق وحلّق، إلى أعلى، لترى الأشياء فى جوهرها. وفى حقيقتها مجردة ناصعة. 
حينما تفعل، قد يصبح من المحتم عليك، التوقف مرات قليلة، أو مرة وحيدة حقيقية، كي تلتقط أنفاسك، قبل أن تبلغ المنعطف الأخير، من حياتك، مع الذاكرة، وتشك فى نفسك، أو فى  أنك كنت موجودا، أثناء انقضاء ذكرياتك الماضية. دون أن تفهم مسوغات، أو مبررات محصول عمر، قد مضى. ولتقدم غير نفس الجواب الدائم، متسائلا ماذا هناك، أو ماذا يمكن أن تفعل...؟ 
ولا يكون هناك مهربا، من عهد على النفس، لإستكمال ما بقى من العمر، ومن الحياة بأكملها، بعيدا فى سلام، مع الروح. فلا تصرعك، أو يذيبك قهر أسئلة تقطن بداخلك، وتتوغل بأعماقك، فى يمّ، بلا ساحل. تساؤلات تجرفك بقوة غريبة، لا مرّد لها.. ليس لها إجابات، مطلقا. هكذا تظن. وتحسب الأمر، حتى لا تخدع نفسك، أو تخادعها بزيف، فتتلاشى. 
إذن، لم يكن سوى متابعة أيام، كضرورة يوجدها القدر، فى مأمن من ذكرى تباغتك، فجأة. تهاجمك باصرار.  تُلمح طالة من عينيك، كضوء الصبح.  فتهزمك، مخيلة لا تزال، تحمل تلك الصور، لملامح، مثل هذه  الذكريات، ساكنة خلدك. تتجدد دماؤها، فى عروقك. تحيط بالروح. تحوطها بكل شجن.. ورغم ذلك، منها ما يُضئ القلب، ويُلامس وجده، رغم فى بعض الأحيان، نبل ألم دفين فى جوانح النفس، وشجى حزن، في خفايا الذات. 
وبلا شك، لا يستطيع أحد أن يأخذ حيطة أو حذر، أمام ذكريات، لا يستطيع حظرها، أو أسرها خلف جدار. لمجرد طمأنة، أنه فى طريق سليم، وبداية حياة جديدة، وكل شئ وراءه...، وأن الأفق الفسيح أمامه. فيظن أنه ملكها، وملك السيطرة عليها، لكنها تصبح أحيانا، كالزئبق، تنفلت، من بين ثنايا الذاكرة. تخترق الفؤاد، فتصيبه، كأنها سهم من السهام القاتلة. مهما حاول أن يمارس الحياة بشكل طبيعى، أو صورة معتادة. كأن يبدأ بسرد جراح أيام صعبة، فتقفز فجأة إلى ذاكرته، تلك الذكريات مسترسلة، كدم ثائر متدفق، حاضرة بكل تفاصيلها، بخضم من الألم. حينئذ، تتبدل المشاعر، وتتقلب بين شوك ونار، وألم وعذاب.
حينها يتأكد، أنه لا من شئ منها إلى زوال، أمام حقيقة واحدة، ووحيدة، أنه ليس كل شئ ينتهى، أبدا، إلا بالموت. ولكن، تحكيم المنطق والعقلانية دائما يحاول الإنسان، معه وبه، أن يسدل ستارا على ذكريات أوجاع مزعجة، تطارده، أوآلام ثقيل عبئها، ويعجز عن تحملها. ليمنح نفسه شعورا بالأمان، يتردد في صدره. ليواجه الحياة وما يتغير من حوله، دون صدى  ماض، قد فارقه، بالفعل. 
ولكن بعد مرور الزمن، قد لا تكون بادية هي نفسها، على كما كانت عليه، ذى قبل. ومع الوقت، تضحى، فى العقل، أكثر  وضوحا، لا تنكسر بشئ. لاغيامة، فيها، ولا اختلاط  بينها، أو فيها. أو تبدو كمصباح شاحب، أو خافت، شيئا ما. ولا سبيل لإستردادها أبدا. تخلفك بعدها، في أسوأ حالات وهن، وضعف، أمام محاولة تذكر، ما كان يوما. 
والحقيقة هي أن أول تبدلات الذاكرة، تكون شديدة البطء، لا تكاد تلحظ، ويواصل أحدنا حياته، بينه وبين نفسه، مثلما كان على الدوام، إلا أن التبدلات، قد تكون سريعة، مع الفكر والتدبر. كأن تمحو شيئا، منها. أو تحتفظ بما قد تجد فيها لك، واحدة من أنواع الحياة، تصدح بنقاء الفطرة، أفضل مما توقعته أو أردته أنت، ذات مرة، لنفسك.. وهى نفسها، هذا الوجه الغريب، من الذكريات، الذى يتلألأ نورا، فى النفس، كلما تذكرته.  
وعليك أن تذرع تلك المسافات، فى عقلك، أو ذلك الجزء المسمى بالذاكرة، ذهابا بلا عودة، للبحث والمطابقة بين وجوه وأسماء تظهر وتتلاشى، خفية دون تعيين ملامح لها، بين حين وآخر. فتنجز مهمتك مع الذاكرة على أكمل وجه، ومع ذلك، لا كمال. وإن أخطات طريق الذهاب، أو تأخرت لسبب ما مجهول، فلا تواصل شيئا. تلك ليست بموهبة كبيرة، ألا تتمسك بالسير قدما، في اتجاه معاكس تماما، لما كنت فيه، ولم يكن متوقعا لك، يوما.
وهكذا، تنتقل من نافذة إلى أخرى، وينتهى الأمر كيفما أمكن بك، بلا مزايا بريق، يغريك أمام ذاكرة تعود بك إلى ماض. وتشعر بدونها، أنك حى، وتبقيك بمثل حيويتك، قبالة مقبرة كبيرة، لذكريات مرّة. لأنه لم يكن لك لتملك سوى أن تدعها فيها بائسة، فتشعر، آنذاك، أنه لا وجود لها. أو أنها كانت  مجرد خيال مر عليك مرورا عابرا،  لما كانت عليه، ذات يوم، حتى لا تفقد الطمأنينة، مع الذات. الأمر دائما، أسوأ مما تتخيل وسط هذه الدائرة.  أو لما كنت ترغب، فى السنوات التالية من عمرك. 
إنما هو قدر غريب، يتوقف على الظرف والأسلوب، الذى تحيا به. لتبدأ حياتك الحقيقية، دون مقدمات، أو إنذار مسبق. بالطبع هذا نصر جديد وكبير لك، فى الحياة، أن تتغلب على مثل تلك الفجوات، من الذاكرة. وما من شئ به نعبر، أو يمضي علينا، إلا وأصبح أعمق بُعدا، وأقوى معنى،.. فقط أن بقَينا بعده، نتفكر ونتدبر. وإن إتقينا من الأفكار تُقاة، فلا نتيحة لذلك أبدا، مع مرور زمن. وحتى لو تولَّينا بعيدا، وخَلَوْنا بأنفسنا، إلى ظلّ ذاكرة، نستطيع خلف أسوارها، إعادة نبض ذكرى، أكملنا بعدها الطريق، إلى مجهول، أو أجل مقدور، صامتين. وإنْ مسَّ القلم ضُرٌّ، لئلاّ يعلن شيئا، من أصداء ذكريات تُدمى النفس، بصورة أكبر، من أن تطمرها مآرب، أو ظنون. فلا تتسائل ماذا تذكر حتى تنسى؟! وماذا يوجد حتى تراه؟! وما من شئ.. وإنها لبصائر.. وهى فحسب، مكاشفة، وحديث روح، لروح، عبر الذكريات. فى النهاية، نظل نذوق بصمود، وَبَالَ ما كان، وما لم يكن. نُحيله إلى ذهب، بين ألم وذكرى، وسرّ وجهر. تخشى الروح بينهما، أن يصيبها شئ من  دائرة نسيان، تُسلم بعدها. أو يجف مداد القلم، فيجثم، لا تأخذه رجفة حياة، فلا يستطيع أن يحرر ذاكرة، من قيد، لا يمكن أن يتكرر معه، أو يكرره قدر.


الألم وقوة الحياة 
--------------
ولكل شئ ألم. للصمت ألم. للإنتظار ألم. للذكريات ألم. الحياة بدون نور. ترقب ما لا يأتي.. الوحشة.  العودة إلى ماض. المستحيل. عمق الألم تذكر رحيل ووداع. الحياة بدون روح. أن تكون ولا تكون. أن تتلاشى فى أسى. أن تغرق فى حزنك. أن تغيب عيناك وراء أفق بعيد كل لحظة. أن تصبح الثانية دهرا. إفتقادك لروحك. أن تعيش بذكرى أحد. إشتياقك لروح. هفو الروح لروح. رحيل الروح، لما ليس لها أبدا. ألا تعرف ما أصابك. أن يسألك أحد ماذا بك؟ ولا تستطيع أو تعرف كيف تجيب.. ألا أحد يعلم قدر ما بك. ألا تعرف نفسك أو تتظاهر أنك ما زلت حيا. ألا تعرف تعبيرا عن ألمك. عجزك. قهرك أمام آلامك.  يأسك أن تعود كما كنت. أن يحتل غيرك جنبات نفسك.. محاولات لا تجدي أمام ما تبقى منك.. صراع النفس مع نسيان فاشل، وجبرها على ذلك. قمة الألم بقاء ما لا يمكن نسيانه.. يظل بك، لم، ولن يغادرك أبدا. ألم أن يعاندك القلم ويعصاك. أن يعلن ما بك رغما عنك. أن يسلمك هكذا، وأنت تنظر. أن تخونك إرادتك. أن تظل تتحدث بما فى نفسك. الألم يسكننا ونسكنه.  ومع هذا كله، نحقق المستحيل بالألم،  رغمصلابة الحياة، التى تصرعنا، بقوتها دائما. وهى كذلك. فلا تنظر بغرابة، وإندهاش مذهولا، متعلقا  بأذيال واهية. أنت من تختار، إما تنهض بقوة الحياة فيك، أو تلتصق بالأرض، ضعفا ووهنا، فلا تقوم. القوة الحقيقة، داخل أعماقك، هى قوة الروح، تشق طريقك، بها. وما أحرى الإنسان بها، ليتمسك بالأمل، فيستحثّ طاقته الكامنة، وليمتلك زمام الأمور، ونصابها، بهذه القوة الخفية. وهكذا، كل يوم، يتفقد ذاته، ويكتشفت سفور الحياة، فيُماط له اللثام، كأن عيناه تتفتح، لترى النور من جديد، وينفتح، على مصراعيه، باب الحقيقة، شمسا مشرقة، للروح.. حينئذ، يستطيع الإنسان، التغلب على الألم.