سرماديا

سرماديا

نصوص مختارة ***




نصوص مختارة 
فى القراءة والكتب
--- خالد العرفى
1 - فقرات من رواية جذور
--- 

ما مضى يوم، طيلة هذه السنوات الماضية، إلا وأنا منغمس، فى عالم شغفى بالكتب، خاصة القديم منها.. أعشق رائحته. ملمسه. أمُرّرّ أناملى، على أوراقها وصفحاتها، كما أمرر بصرى، على الحروف.. أشعر بملمس الحبر، فى الحفر الغائر.. أستنطق كل نقطة فيها.. تحمل أجواء القدم العطر. أعشقها، وأذوب فيها، بهدوء وطمأنينة. وكلما قدم الكتاب وسنة الطبع، تعتق شعورى بهذه الأمور، بقدر ما يشع منها، ويفوح شذاها.. بل أكاد أشعر بلمسة كل يد، أمسكت بالكتاب. وقد أذهب للإستبصار مسافرا، فى عقول أولئك الماضين. أرى مسكن هذا الكتاب، على رفّ، بمكتبة عتيقة.. قطنت بيتا أو قصرا، أو إستقرت بركن، بين جدران تكية أو قاعة. أو جاورت قنديلا، بمسجد أو زاوية. أسفل أريكة مخملية، بألوانها النادرة الصافية، لرسوم ونقوش وتكوينات، متجاورة. تتداخل صلاتها وتتبادل. نمارق. أرى معانقته، لتحفة، أو أثر فضى أو نحاسي أو قطعة آنية. فى تناغم رائع. أوغل عينيَ، فى صندوق بنى، حافظ لها، بمقبض وزوايا نحاسية. أو بين ثقوب أشكال أرابيسك مخروطية، مضفرة توريقاته، بدقة متناهية، جاورتها. بارزة كانت، أو مجوفة ومحفورة.. تلك النفوش المعشقة، بالصدف والآس والباغ. وفى أحيان أخرى، مطعمة بالعاج والأبنوس. متوائمة، بجماليات زخرفة. تتماهى فى تموجاتها الطبيعية المرئية، وإيقاعاتها البصرية المحسوسة، بأشكال الجماد والكائنات الحية. ترتسم فى الذهن، وتنحفر فى الوجدان، وقد أصبحت جزءا منه. أتلمس ما لكعوبها العظمية الملساء المصقولة، من حيوية ماض. وأشم في الخشبي منها، رائحة طراز معتق، وراء العالم المادى. وقد صبغت تلك الكتب القديمة، برائحتها، منسجمة مع روح عصرها. منغمسة، في غلافها وورقها وخطوطها وأحبارها وأصباغها،.. ذكية الأريج. آخذة بالروح وخاطفة بالبصر، بتأثيرها. يمرّ إليّ صوت خرخشة الصفحات وقَسِيب الورق. أسمعه. أصغى إلي ركزة الحرف، وصرير القلم وحفيف ريشة، كتبت ودونت... وليس لغيرها، من ذلك شئ.. وفى أحيان كثيرة، أسير وراء تاريخ وسنة طباعة الكتاب. وقد أجده مطبوعا فى حاضرة، من الحواضر أو المدائن العتيدة. القاهرة. بغداد. دمشق. أسطنبول. لاهور. ودلهى. وليدن، وغيرها من مدن. رحلات، بين أيدى وعقول، إلى أن وفد إلى يديّ. أراه بين عينيّ، كقطعة من جسدي. كأنى أوقظها، من سبات عميق. لذة لا تنتهى، ونهم لا يزول أثره، بشموخ الماضى ولمسته السحرية. يفرضها على النفس، ويفتح لها بابا للروح... أتبرم، حينما أجد عشرات النسخ، من نفس الكتاب، ولا يقرأها أحد، فى الوقت، الذى يبحث كثيرون، عن كتاب واحد محدد، فلا يجدونه... هذا سبب جوهرى، يحفزنى دائما..
 2 - فى القراءة والكتب
---- خالد العرفى
العزلة مملكة الأفكار ومُلك النفوس،.. وكم من خلوة حلوة، وكم فيها من عِّز وراحة.. والقلم هو النديم، والكتاب هو الصاحب فيها،.. خير جليس، وأفضل ما يحفظ به الوقت، ويعمر به الزمن والعمر.. يجلو الأفهام، ويسرّ القلب، ويؤنس النفس، ويشرح الصدر، وينمّي الفكر.. أوجد للعظماء مكاناً تحت الشمس.. وكتاب نافع مفيد يجلب السعادة كالروض الأخضر،.. بستان وارف وحديقة غنّاء، وغيث هنيئ، من نسائم الحياة.. هكذا صحبة، ومسامرة، ورفقة علم وأدب ومعرفة..، سفرا إلى عوالم أخرى ومشاهدة لمعالم جديدة، وسعة للأفق.. سموا بالنفس، وهجرة بالروح.. ولذة القراءة من وجوه عديدة، أبسطها أنها تعطى الحياة الحقيقية، وحقيقة الحياة التى لا نعرفها، إلا بعد أن نفقدها، فإن لم نكن عرفناها، أعطاها لنا الخيال.. ومن هنا، تحتل القراءة مكانة كبيرة.. أعتبرها من السعادات الكبرى.. ألتمس لقلبى منها، فنون الحكمة، وأنواع المعرفة.. ببساطة تجعلنى أحلم.. تدخل سرورا عظيما على النفس، بما تجعله من إثراء للعقل، وصقل للقريحة.. تطوي الزمان والمكان، بلوغا للأرب.. توسع مدارك النظر، وتفتح الآفاق أمام الروح.. وأتمتع كثيرا بالقراءة الخالصة.. أندمج كلية.. أود ألا تنتهى قراءتى، حتى لا تنتهى متعتى.. وتتعدد وتتداخل مستويات تلك المتعة البالغة،.. أحاول بعناية بالغة أن أكتشف في كل موضع جمال ما به.. وأحيانا، أعود متشوقا،.. أكرر إحساسى بالمتعة، فى كثير مما قرأت من كتب،.. وحبذا لو كانت نصوصا تاريخية،.. أعيش عصرها، متخلصا من الخيالات والأوهام، لا أصرف نفسى إلا لحقيقة تاريخية.. ولا يخلو التاريخ من فائدة، يمكن استخلاصها من أحوال جنونية، وأحداث بائسة،.. مرّ بها البشر، تقول بعدما تقرأ فى ذلك الزمان كان الأمر مختلفا، أو أن شيئا لم يتغير على الإطلاق. لذا كثيرا ما أقرأ التاريخ، وأتفكر في عجائبه، وأتدبر غرائبه، مستمتعا بقصصه، سابرا غور أخباره.. ويلفت نظري حكمه ودروسه.. 
من جانب آخر، لا يساوى هذا أبدا المتعة، التي يمكن أن ألقاها فى قراءات أخرى.. ولكل لذته ومتعته.. أقرأ بنوع من طمأنينة توقظ ما غفا فى الوجدان.. فهناك ما يولد دائما.. وثمة أمر جديد دوما.. لذا أتأمل فيما وراء غوامض وشوارد النصوص، وما أقرأ،.. أحاول أن أفصل بين الواقع والخيال، فى حالة أقرب إلى ما تبينه السماء فى جو متقلب،.. أدرك أن ثمة أمرا ما وراء الكلمات، كما لو كنت أنتظر شيئا مجهولا... أتلهف لقدومه، حيث تتجلى لى الحقيقة، ترفل فى بهاء قشيب، يؤمن لى متعة ذهنية لا تتكرر.. مثل لحظة هطول مطر، أو هدير موج لا يتوقف.. وأنى لهذا أن يتوقف فى النفس، كضوء الشمس وحرارتها.. يشعرنى بنبض الحياة، وصوتها عن بعد... فقد كان حلما سماويا، لم أشعر بنفسي حتى سمعت حينها "أتحلم وأنا بجانبك لم أعرف أم داخلك؟" ولم يوقظنى من الحلم شئ، إلا أن ليس لى فى هذه الدنيا من أمر إلا ما قدر لى.. على أن أحيا بتلك الحقيقة، ما بقى .. لم أستطع إلا أن أستسلم لحلم لحظة قدرية.. أحيا بها وعليها، وأنا أعرف أنها لن تكون أو تتكرر.. أستمد منها ما أعلم أنه عمر جديد، بمنأى عن بشريتى.. هدوء، أعهده فى نفسي مع طيف روحانى نورانى.. يرافقنى.. كتبت ما كتبت، وسطرت ما سطرت، ما لم أتوقع أبدا.. وكانت وديعة ثقيلة على كاهلى،.. وسوف أظل أكتب، فى عالم آخر،.. وما زال لدى جذوة روح أضعها فيما أكتب.. تسبكنى سطرا فى تاريخ،.. فى عالم الأرواح.. حيث أنتمى، وينتمى ما بى مسيرا ومصيرا فى عالم الكتب والأقلام، إصدارا بعد إصدار.. إنتماء قدر.. قرّ فى كيانى، وتغلغل بروحى، كلما حاولت إلى ذلك سعيا.. وليس هناك ما يحول، أو يمنع من أن تفقد بعض وجودك الى الأبد.. أن تفقد روحك، لا تعرف، أم تجدها، لتبقي جذوتها موقدة فى الأسفار، من بعدك.. أحيا فيما أكتب، حلما،.. ربما لن يتكرر مرة ثانية.. رفقة صنو روح وشطر حياة فى عالم آخر... من يستطيع أن يعيد أمسا،.. والمقدور واقع، ودقائق الحزن والألم بأيام، وبرهات السعادة نتذكرها كأعمار، كخيال أو أحلام لا تتحقق.... ونحن بين هذا، وذاك من ذكريات.. فما مضى ذهب وانقضى ،قضاءا محتوما، إختيار الله.. شيئا لم يكن من رزق مقسوم، إلا أثره على الروح والنفس،.. فتّح السمع والبصر وأحيي القلب.. وعلىّ ترك المستقبل غير مستسلم لأراجيف.. قوي القلب ثابت النفس.. فلا إحباط ولا يأس ولا قنوط.. هكذا، لا يدوم الحال على حال واحد.. وفي الله كفاية، ومنه الرفعة والعزّ...
3 - حقيقة ما له معنى
----- خالد العرفى
يقال أنه إختفى.. ذهب ولم يعد. جاءت أرواح من السماء، وإختطفته من الأرض. إستقر فى خبر مجهول. لكننى لا أصدق، فالكتاب باق.. ولأسباب أخرى، عديدة، الكتب خير من الناس. لا جدران بيننا.. هى الجسور، مع الحياة..‏ فمن قبل كتبوا ثم ذهبوا..‏ وتركوا، بعدما ماتوا.. هؤلاء، هم الأحياء. قرأت لهم وما زلت. فتعلمت،‏ كيف أعلم نفسي الحياة. ربما يوما، أكون واحدا منهم. ولآخر لحظة، لا أعرف حقا، ما سوف يأتى به القلم، من عواصف للنفس. تجعل الأفكار أمامى، كأنها ذهبت هى الأخرى، ولم يرها أحد. إختفت، فاستقرت هناك، فى فوضى عقلى، لا فى الفضاء. ولم يكن لى لأندم كثيرا، لو فعلا أحببيت يوما، أى شئ آخر، غير الكتابة. فكأنى أعانى، من غريزة الشعور الدائم، أنى بين خطأين،.. خطأ ما كتبت، إلى وقت قصير مضى، وخطأ ما لم أكتب، بعد.. هو داء لابد منه،.. عادة ضرورية.‏ فكدأبى،  إكتشفت مجددا، أنى لا أكتب شيئا، له قيمة.. لايزال الكثير، الذي يجب على أن أفعله، حينما يتوقف الليل البارد، فى النفس، وتكنس عواصف  الخريف، الأفكار البالية.. وتمسك قبضة الفكر، بما توارى فى عقلى، مختفٍ، من أصوات غريبة، ليس لها أثر..
وتوقظنى مقولتى من غفوتى. فأهم مما كتبت، وما مزّقت.. أهم من الإثنين معا، هو ما لم أكتبه بعد. حقا لو كنت جادا، مع نفسي لحققت شيئا، ذا معنى.. أن أجد ما يربطنى، بأوهام الخيال، لأجعلها أقوي من الحقيقة.. أتمنى أن أكون بارعا، في هذا الكذب الجميل، المسمي بالخيال.. خطيئة، أحاول دائما أن أقترف إثمها. ليتنى أفعل أو أستطيع... تصور، أن هذا من جوهر القصّ. قوة الإيهام.. تماما، أن أجعلك تحبّ مثلى. تعشق مثلى، أو حتى تكره. أن تذوق الحياة. تحلم بها. تحب الماضي‏. أن أجعلك ترى ما لا ترى. أسمعك ما حولك، فتندهش. وتسائل لتعرف. أن تشعر بالموت. حينما تقرأ.. للأسف أفشل فى ذلك، دوما... فأنا ألقى مجرد قشرة بذور أفكارى، خارجا.. وفى عقلى، منبتها، وأرضها، وجوهرها. وحينما أصمت، أمام نفسي، فليس هذا معناه، إلا أننى، ليس لدى ما أقوله. لكن لدى ما أفكر به..أتأمله.. للأسف أحيانا كثيرة، لا أكتبه.، وتفوتنى إثارته.. أعتقد أن هذا، هو سبب فشلى المستمر، فى الكتابة... لكننى، أتمنى أن أموت بين ذراعى الفكر، أرصّع الفراغ، بلآلئه، بدلا من الكتابة.. محاولا النجاة، من هذه الحالة. تلك هى الجنة، وأين هى.. إلا أننى أعود، وأذكر نفسي بمقولة أخرى، ذاهبا إلى أبعد من ذلك، أن لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا بمفرده، وهى مقولة خاطئة مدلسة.. لو صدقها أحد، فلن يفعل شيئا أبدا. يضطر إلى ذلك الفشل، إضطرارا. لذلك أصدّق ما أفعل بمفردى، بمفهوم أول المقال، والحديث عن الكتب، غير الخادع. لذلك الذين جربوا يقولون، إنها الحرب مع النفس. من يموت فيها، لا يرى شيئا، من هزيمة، ولا نصر. وأنظر حولى، ولا أجد شيئا قد تغير.. أنا الذى تغيرت لأشعر، وأحس بذلك. ربما هذا أفضل كثيرا.. بل هو كذلك، وأواجه نفسي به دوما،لأترك بصمة.. أعطيها لنفسي أولا، خاصة، حينما، لا أنظر خلفى، إلا قراءة لماض، لأتعلم... أصدم نفسي خيرا من أن يصدمنى واقع مؤلم.. من هنا، لا أتوقع شيئا لا قليلا، ولا كثيرا، من أحد. لا شيء يدعونى إلي ذلك، البتة. إنما القراءة، وهى تلك النظرة العميقة، مع نفسي. فإن فعلت أنت، سوف تعجب كثيرا،.. أعجب أن يفكر البعض، أن البعض يفكر بهم. فماذا قدموا، وماذا كان، ليحدث هذا. حقا، أندهش من ذلك كثيرا، لكنه يقع فى الحياة. فى النهاية، نقول أن الأيام والليالي تعلمنا، وفى الحقيقة، نحن نعنى الألم.. نقصد مرارة ما عايناه. تلك حقيقة، نقرأها فى الحياة، والواقع، لنكتب دائما، ما له معني.‏ فلسفة فارغة، لا أنصحك، أن تلتزم بها.. فأنا لا أعرف ما الذى إختفى، الكتاب، أم الخيال، أم الأفكار، أم أنا...
والنص وجمال التعبير والقراءة، كشجرة نجلس في ظلها‏.. وهناك موانئ للنفس تستقر فيها سفينتنا،  وتطرب‏ فيها الروح. والكتب، أمر أشبه بحب بلا زواج، فتظل تحب إلى الأبد‏. بين هدوء وصخب. ومنها، بالطبع الكتب.. ولا يذهب ذهنك بعيدا، منها ما مجرد أن تقرأ فيه صفحة لا تكمل، ملقيا عليه يمين الطلاق البائن..  ومنها ما أشبه بالعانس لا طعم له.. ومنها ما هو كإمرأة خلاب جمالها،... تحف، تجد فيها المتعة مع الكلمات، والمعنى‏ تراه ولا تلمسه‏..‏ وأنت وشأنك إن وجدت نفسك..صدي راقص مع الظلال، بلا مواجهة..  شئ في القلب،‏ تسمعه ولا تسمعه.. ينظر في وجهك، ويحدق فى عينيك، ولا تراه.. لا يخطئ‏ من روحك موضعا، كنوم هادئ‏ مرة، أو سير على الماء، أنت غارق بينهما.. ولا تفقد شيئا، إلا نفسك. القراءة هى القانون الذهبى، من يمتلكها، ‏يتملك ذهب اللغة، بشقيها، من مبنى ومعنى.. تقضى على الهموم، وتهرب بها إلى الحياة. هى كنوز الدنيا، تجعل للحياة  معنى، وقيمة، بأن تجد من تشاركه فيها.. وجاءك إبداع فتقرأه، بهذا المفهوم، الذى لا يعطيه لك، إلا القراءة.. وإمتلاكك لقلم من ذهب، لن يجعلك أديبا، أو كاتبا، دون أن تقرأ.. كمن يمتلك إمرأة، ولا بد أن يكون أبا، فربما لا تنجب، وتظل أنت منتظرا للبنين والبنات، للأبد.. وهو الإحساس العميق.. و‏تحديد الهدف الفكرى، من الكتابة، هو نصف، أو شطر طريقك، إلى بلوغه، وما تواجهه. فلا تقف في منتصف الطريق‏، كمن ينتظر من لن يأتى، كأرملة طروب.. حتى تجد نصرا، فى نهايه حربك، مع فكرة تراودك، ويشتعل فكرك، بها‏. إقرأ، فتكتب، ولا تشعر أنك ولدت بلا ضرورة‏،  ويظل كذلك، من لا يقرأ، وتختفي الدنيا كلها من أمام ناظريه، من يجد نفسه وحيدا، بدون القراءة‏.. أنا أشعر بأنها كارثة تلاحقنى، إن لم أقرأ فى يوم، يمضي علىّ، فأشعر أننى فيه، لا زلت حيّا. فلا أشعر أبدا، أن الحياة لاحكمة لها، أو أن لاسعادة فيها.. فقط القراءة، هى ما تجعلها كذلك، وما يجعلنى، بحكمتها وسرورها.. أخشى ألا يفعل أحد ذلك، فلا يقرأ..‏ ولو عاد بي الزمن، لظللت أقرأ، كل ثانية، من عمرى.. فكل يوم‏‏ علىّ، ينقص من عمرى يوم، لكن يضاف إليه، ما أقرأ..‏ 
4 - وقع الكلمات
----- خالد العرفى
أسير على البحر أعواما عديدة، وصولا لمنارة، لم تغص فى البحر. أحيانا يصبح من طقوسي أوسم بها نفسي، ركوبى قطارا أصفرا، يشق بطن مدينتي. حينما أفعل، أخرج من جلدي. جسمي كلية.. أرتحل..
أحب آخر مقعد قبل الممر، بين عربة وأخرى. أحجزه لنفسي، بذهابى لأول محطة. أضمنه، فلا ينازعنى فيه أحد.
هناك زاوية كاميرا ممتازة، أرى من خلالها وجوه بشر..
 تصعد.. وأخرى تهبط.. هذا عجوز. ذاك شاب. كهولة. طفولة. رجال. نساء. أجساد مشحونة بملح..
قلّما تجد من يتفرّس وجها مثلي. حفظت وجوه كل من رأيت. رتبتها فى ألبومات. ألبوم الأطفال يستهوينى. براءة. ابتسام.  بكاء..
فى القطارات، أسمع أصواتا، لا أسمعها إلاّ هناك.. تحمل ملخص حياة. يفاجئك نداء بائع متجول!
فاصلا لمشهد تراه عينا عقلك. تصبح الصورة هكذا..
الزمن .. نهارا. ليلا " لا يهم "
المكان .. داخل عربة قطار سائرة. متوقفة " لا يهم "
الصوت.. منولوج داخلى. مشاجرة. نداءات. أو صمت..
الكاميرا.. إقتراب. تجول. تركيز. محمولة. ثابتة " إختيارات "..
رجل.  شاب. طفل. عجوز. إمرأة " لا يهم "..
يجلس منفردا. أو ينضغط بين الزحام. على سطح قطار، يقابل دفقات هواء.. الحياة
الإضاءة.. خافتة. ساطعة " إختيارات "
إبدأ ليلا. إنتهى نهارا. أو إعكس الإتجاه. إختار..
" كلوز " للكاميرا. تحرك للأمام، بدون علامات تعجب، لسنياريو.. فاصل..
فرح. حزن. حياة. موت. مسميات. دلالات. وجوه مستعارة. ذهول!
تتكون عشرات الصور. ثابتة كصنم. متحركة كطائر. ملامح وسيناريوهات. دراما شكسبيرية. نصر. هزيمة.
شريط يمضى. صورة وراء صورة. تلاشى. نبض. وقوف. تحرك. تعثر. تقاطع. بصوت فى الخلفية.. كوميديا سوداء..
خروج من " الكادر". أحمل زاوية " كاميرتي" لشارع. لمدينة. لرصيف. لميدان. لسرداب. لدهليز. لصندوق. لقبو. لممرّ. لسوق. لمولد. لمعبد. لمسجد. لكنيسة. لحاضر. لمستقبل.
أو أعود لماض. لمدينتى. لبحري. لسمائي.
للنهار"فلاش باك" ..!!