سرماديا

سرماديا

خواطر عابرة **



خواطر عابرة
----- خالد العرفى
وصلت إلي موقع النصب التذكارى على الكورنيش.. جندى مجهول ذكرنى بتمثال للجندى الدانمركي الوحيد الذى سقط أثناء غزو الألمان لبلاده في بداية الحرب العالمية الثانية، فلم يقتل إلا هذا الجندى فخلدوه بإقامة تمثال له. وأخيرا.. الشاطئ.. متسائلا ونفسى وسؤال لطالما تمنيت له إجابة. فلما لم أحصل عليها، دون أن يمر زمن طويل. ذهب يوم. وجاء يوم. وولّت ليال. أربع أو خمس سنوات من يدرى. أكثر من ألف يوم مضى..
ليتها كانت خمسة دقائق أو ساعات أو أيام أو أشهر.. لكنها خمس أعوام كاملة لتلقى ما يذكّر بأن هناك ثمة حياة.. حاولت أن أقيس شعورا طوال ما مضى.. فأكتب وما كتبت شيئا.. لا أدر أحقا أأستطيع أن أكمل نصوصا أخرى.. رواية وأخرى.. وكتاب وآخر.. ولا يكتمل شئ كما أريد.. تغيب الروح أحيانا.. ويغيب معها أنفاس الحياة فى دوامة سراب خادع.. ولطالما كانت وديعة غيب.. بين ثنايا ذاكرة أو سنا فكرة وما زلت منتظرا.. لعل ما غاب من معنى يرد من غربته.. أن يحيا فى الكلمة مخاطرة الحياة، فكرة ومعنى.. حقا لا أدرى غير ما هو كائن من توق غريب وطول انتظار.. لعلى أرصد بارقة أمل.. ولا أعرف بالتحديد منذ متى وإلى متى سيظل صمت الأفكار فى شرانقها..

وفى مقياس الزمن لا يهم ما مرّ بقدر ما يبقى من أشياء نتذكرها.. تتقاسمنا ذكريات أيام بعيدة ذهبت بنا. تظل كصخور بحر رمادية. مكعبات ذاكرة ناتئة حوافها مصدات أمواج تشرف على ما قد يأتى منتظرة عواصف البحر. جدران أم أسوار. حطام ذكريات غشتها ستائر سماء شتوية تنذر بغياب بصيص ضوء خافت بأفق ليلة قارسة البرد. ربما كان علىّ أن أتذكر بضعة سنين أخرى. ربما يعود كل شيء إلى ما كان عليه، من دفء. ربما تعود لى ذاكرة تلاشت بين سطور صفحة كتاب يسكن مكتبة عتيقة. يوم أن عصفت بذاكرتى نوة بحر لتقف بى هنا أخيرا.. أمام نصب تذكارى لجندى مجهول.. أقف متسائلا عن ذلك الطائر المهاجر فى أفق السماء ولم أعد أراه.. مرّت برهات وقد غاب.. لا أدرى أأسى يبهج النفس أن أراه راحلا قبل بضعة لحظات أم كان شيئا من مقاومة برودة الجو القارس.. لحظة أردتها لكى أدرك أننى لم أعد إلا مثل هذا الطائر الذى هاجرت روحه بين سطور ووعد مع غيب.. وما زلت أنتظر هذا الشئ الساحر الذى يجعلنى أكتب ما أشعر به فعلا منتظرا لمسة حياة دافئة..
ومضيت صوب مقصدى.. جاليرى بزاوية قديمة ضيقة تحتل ميمنة شارع خلفى متفرع من ميدان المنشية.. في نفس المكان وقد جلس الخواجة، يسامر سنين عمره، لكنه يفيض حيوية بلمسته كل تحفة أو لوحة. هنا كما أراه دائما بشعره الفضى وملامحه الدافئة.. تحت بضعة قناديل مذهبة لا يبيعها أبدا. معلقة فى مقدمة المحل تحت يافطة زجاجية تحمل اسم الجاليرى. سألته مرة عن سبب ذلك فقال أوصاه والده بذلك.. وقد سمّاها المعلقات الخمس. ولم يتغير موضعها مطلقا. دوما فى صدارة الرؤية كما رأيتها أول مرة. وفى الجانب الأيسر أرفف خشبية سميكة عديدة يتوزع عليها عديد من التحف الفضية والمنحوتات الخشبية.. مسارج ومسابح.. وعلى الجدار المقابل لوحات زيتية قديمة بأطر مختلفة الأنواع حتى تظن أنك فى متحف فنى.. ومن حين لآخر ربما وجدت بحوزته عدد من الكتب القديمة وأغلبها بلغات أجنبية تحمل تواريخ تعود لأواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.. صور تأسر العين من أول وهلة. أنظر فى هذه البنايات والعمائر والقصور وكأن أرواح من عاشوا فيها  تسكننى.. أسمع أصوات وأرى أطياف.. وكأننى فعلا أسمع ما حدث فيها. أرى ما كان بين جدرانها وخلف أسوارها من أحداث مضت فى يوم ما أو قصص وقعت فى تاريخ ما... تقول الحقيقة كما هى.. حياة كما حدثت وذهبت تماما، أو حياة لم تكن لتحدث هكذا إلا فى هذه اللقطة.. شئ غريب حقا، لطالما حيرنى سرّه.. لم أدر سببا وراء هذا التعلق لهذه الدرجة فى تأمل هذه الصور القديمة على نحو عجيب ربطنى بها بخلاف الفن المعمارى وطرازه.. أثر عميق غامض للأبيض والأسود ودرجاتهما.. لكنها الحقيقة، فى تسليط عدسة الكاميرا واختيار اللحظات الأكثر أهمية النابضة بالحياة.
ومضيت أستعيد بضعة ملاحظات متنوعة كتبتها قبل وقت غير قليل وقد إنزويت فى مقهى قديم مجاور شدّنى إليه دفء غريب وصوت تقاسيم على العود عميقة الأثر من مقام الصبا. وجلوس بين تلك الجدران المكسية بخشب ذى لون بنى يشدّ العين والروح. بدأت أستعيد بضعة أسطر عابرة كتبتها.. فثمة سؤال شغلنى طيلة أربع سنوات لم أدر له إجابة.. كما لم أدر اسمه الحقيقى فكل من يتعامل معه يناديه بهذا صار كاسمه.. وغالبا ما راودنى السؤال دون التوصل لشئ، هل ينبغى أن تمر سنون وسنون وينقضى الزمن قبل أن نعرف. ألم يكن أفضل أن أتسائل ونفسى بحثا عن إجابة لماذا ينصدع الفؤاد شوقا لإنسان ما. لما يتعذب بين الحزن والحنين. لما تلك الشهقة من الروح كلما لمَا بالخاطر ذكرى. ربما كلمة. ربما إحساس. ربما لحظة حزن تحملها نسمة يقينا من روح. ربما مسحة حزن على ملامحنا وأشياء تسكن القلب نحاول أن نخفيها وراء الضباب. هذا ما أدركته مؤخرا أن من المستحيل أن يكون ما كان وأبدا ما يكون بلا سبب أو غاية.. إنها الأرواح ولا غيرها التى تتآلف نورانيتها وتتفق جواهرها. مشاعر تلّم بنا لا تتركنا إلا فريسة لوجد وسرحان فى الأفق.. سحر يخترق الوجدان ويأسره دون سابق إنذار. فى غمضة عين لا نشعر بالحياة ولا معناها إلا بمثل هذه الأحاسيس.. سرّ من أسرار الحياة. وتيرة من المشاعر تحمل من بشرية وسجية فطرة راحلة لنصف آخر بعيد بعيد بعيد. رغم إستحالة. رغم أن تكون غير ما أنت كائن عليه. إنها غرائب الروح وأعاجيبها. يصمت الإنسان وداخله نار.. سلطان شوق على الروح لا فكاك منه. ورغم كل شئ نشتاق ونهفو.. نتألم. ولغيب نرنو. نتمنى لو لم يكن. نتمنى لو لم نكن. ألم الإشتياق ألم يقتل. ومرارة البعاد كما نغم حزين. حنين يشّق الروح حينما نشتاق. تود لو عرفت كل صغيرة عن شطر روحك. كيف يصحو. كيف ينام.. كيف به تمضى اللحظات والأيام. تود لو كنت نفسا من أنفاسه. أو لمحة من لمحاته. تتمنى سماع كلمة منه أو يسكنك صوته فتحيا. تود نظرة بعينيه ثم تموت. ورغم كل شئ نظل نتعذب. نظل نأسى بمثل هذه المشاعر التى تصهر أرواحنا وتغيب فيها.. لا أوهام. بل فيها وجودنا والمصير.. حقيقة ومن ينساها. ولا نشعر بهذا إلا هذه اللحظات الصادقة التى نشتاق فيها فتبرق شهقة الروح هادرة، لا الفؤاد، وربما تذهب منا الحياة.. حتى أننا نغلق أعيننا ربما نرى من لا نراه إلا بعين الروح.. آهات وآلام.. أشجان عجيبة هى ذات الحياة ومعناها. فسبحان من خلق فى البشر هذه المشاعر العظيمة فى القلوب والافئدة.. من يقدر على وصف مثل هذه الأحاسيس. من يستطيع لنفسه أن يختار. لم يستطع أحد ألاّ يشتاق ولن يستطيع. الحب ليس بيد أحد. والشوق مأساته. لطالما أحبّ البشر وسوف يحبون. ولطالما إشتاقوا وسوف يشتاقون. ولسوف يوجد مثل هذا الشعور طالما كان هناك ثمة حياة.
وكما تظهر فجأة قد تختفى فجأة.. الأفكار.. كيف للعقل ألا يبحث عنها وهي سبب بقاؤه وجوهره.. أكسير حياة الكاتب ووحي إلهامه متى حلّت بين عقل وجنون. وكما ترفع الحمى درجات حرارة الجسد فخيوط فكرة ما قد تأخذنا إلى وادٍ من هدوء عميق.. سلسلة نغمات رقيقة وادعة في بوتقة لحن سحرى.. أو سيمفونية هائلة ترفع من توتر القلب وتزيد دقاته.. تعصف بنبضه بحضورها الطاغى فى الروح.. وربما تناثر وذاب شيئا فشيئا كقمر ساهر نرى نوره قبل أن يغيب.. قبل أن يقيدها القلم مع أول شرارة.. قبل أن ينتهى الأمر كما بدأ، مثل حلم لا يؤول أو رؤية لا تتحقق.. سنا برق وقد ذهب.
نوّمت نفسى تلقائيا فى حلم عميق بألم ذكرى بعيدة تنتابنى بشدة. تهاجم عقلى بضراوة تسحبنى من واقع اللحظة إلى ماض بعيد، لعلى استطيع التفكير فى شئ جديد بعيد تماما.. مع انفاسى ونبض القلب.. أن أتحكم فى ادراكى لا فى ذكرى آسرة لعقل ووجدان.. تضيع معها الحواس وتتلاشى.. تثير زفرة الفؤاد على ما مضى.. عبور قضبان وهم لا أدرى أم حلم.. آمال بعيدة وأشياء أكبر من النسيان ومن هروب من ألم.. جزء من حل ذاتى أجده دائما لنفسى بدلا من التحديق فى أفق غريب على جانب آخر من الحياة.. أن أستقبل إراديا تيار ذهنى بارد من شرود فى تفاصيل أحاول أن أتخطاها.. تلك الحالة التى تعتيرنا.. ومعنى من التواصل النفسى الغريب.. تفكر فى شخص فى لحظة معينة فتدرك أنه بالفعل أنه بالمثل يفكر بك.. استحضار تخاطرى وطلب نفسى أثيرى فى ذات اللحظة.. طاقة متبادلة من الشعور النفسى المتبادل فى لمح البصر.. مرده فقط إلى الروح ولا غير ذلك من سبب.. ما يسمى تارة بالشفافية وأخرى بالتخاطر.. انجذاب عجيب يزداد ويقوى مع الزمن ومع مرور الوقت حتى أنه يمكن أن نعرف نوعية الأفكار على الجانب الآخر وكيف يتم التفكير بنا والاستحواذ علينا.. تقرأ عقل الآخر.. تكتشف طريقة هذا التفكير فى الوقت المناسب.. وخلاف ذلك من مشاعر وربما تمثل طاقة سلبية.. وربما إيجابية تبدأ مع نظرة أو مع ابتسامة من اللحظة الأولى.. لحظة خارقة لكل ممكن.. تغير حياتك إلى الأبد.. شئ مذهل يخطف الأنفاس. صعب أن تتجاوزه. يفصلك عن الواقع ويطير بك. غريب تماما.. حيرة فى ألا تعرف وألا تشعر بمعناه.. يأخذك لكون آخر.. يظل فى عقلك سؤال دائم ما السبب وراء ذلك.. أفكار وأسئلة ملحة لا تنجو منها إلا وانت تتشظى.. ولا يبق إلا مزيد حيرة وفكر.. شئ لا يصدق كلما تذكرت كيف بدأت هذه المشاعر التى تستحوذ على الوجدان.. ينفتح لها القلب لتغيب فى لحظة غير متوقعة بعالم آخر.. لا تدرى أن كانت حقيقة أم حلما..

هنا ندرك أن مخيلتنا تطير فوق الحدود وتتغلب على كل الحواجز لترسم صورة غائب مفقود أو نحاول إستعادة كل ذكرى كانت معه. لا يستطيع أحد تحديد سبب هذا الصوت الغامض فى أعماقتا، وصداه الذى يتردد بعيدا.. هناك فى عالم آخر..  يختفى بعد أن يأسرنا فى لحظة زمن مضت نسترجع فيها هذا الإحساس العظيم.. وفى النهاية تظل تنتظر إلى الأبد مثل هذه اللحظات. يتمنى المرء أن يهبه الله لحظة واحدة يشعر فيها أنه ما زال حيا إلى جوار شقيق روحه ولو مجرد طيف في حلم.. الغريب أنها تكون نفس اللحظة التى ندرك معها معنى الواقع وحكمه على النفس.
وكم تتشعب بنا الأيام والليالى ونحن نرتاد الخيال، لكن ما نراه وما نقابله فى حياتنا.. ما نكابده ونعانى منه.. مشاعر وأحاسيس.. بين مرارة فراق وفرح بلقاء.. مثل هذا هو ما يجعلنا على ما نحن عليه.. أن نكون كما نحن أمام جدر حياة مؤلمة.. نسميها الواقع تارة.. والمتسحيل تارة أخرى، لكنها على كل حال تجعلنا على ما نحن فيه بين حيرة وشرود.. آمال يتحقق منها ما يتحقق ومستحيل أبدا ما يكون.. كشتاء نبحث فيه عن دفء شعاع شمس لروح غريبة تائهة وقلب لا يتحمل مثل هذه الأفكار.. هكذا أوهمت نفسى بالانتظار سنوات ربما يأتينى شئ من سحر الخيال.. أتوق لقطع مسافاته ربما أعرف ماذا يدور فى عقلى دون أدرى.. لماذا يسكننى هذا الصوت الهائل ويملأ أركان نفسى عامرة به روحى.. ودوما يظل السؤال: أانتظار آخر لأفهم ما كان يبدو فى البداية بعيدا.. أانتظار أبدى للمسة حياة مستحيلة، وكأن أفضل ما لم نحياه هو أحلامنا المؤجلة.. تلك اللحظات التى ننفعل فيها فتوقظ الروح وتشعل القلب كمصباح.. تبهرنا حينما نغيب فيما نكتب.. وكأننا ندرك أننا نحلم فعلا.. فعلا حلم.. حلم.. حلم..
ومضيت وقد طوقت رقبتى بكوفية صوفيّة سوداء أحبها ومعطف ثقيل وقد احتضن أناملى جيبان دافئان تحت سماء ممطرة. لم أعط لنفسى سببا إضافيا طوال هذه الليلة الشتوية لماذا امتلكت هذه المدينة روح أفكارى، لا شك أن طوال هذه الأعوام الماضية كنت لها أسيرا. باختصار نادرا ما غيرت وجهتى صوب غيرها.. فقط صوب التاريخ والخيال.. لا يمكن أن أتتبع حاضر قلم أو فكرة إلا بين ماض ومستقبل رغم تناقضهما.. يبقى دائما هناك هذا الإغراء لإكتشاف المجهول وأمل إعطاء يوم واحد لنفسى بينهما بعيدا عم المواجهات النفسية الثائرة داخلى.. مع مرور الوقت استحالت مهمتى إلى مهمة شاقة. وعندما نغيب فيما نكتب تستعيد ذاكرتنا الخاصة ما سكن فيها.. وبغض النظر نكتسب الأكثر سحرا من مجرد حروف أو كلمات حول الهوية الحقيقية. يمكننى الآن العثور على لا تاريخ من أمس أو حتى قبل يوم أمس، لكن على حد سواء ما تظهره عناوين الأغلفة من أفكار وذكريات البشر وأمالهم وآلامهم.. وهو ما نطلق عليه الكتب. وبطبيعة الحال، ما نقرأه ويؤثر فينا ولا نستطيع مقاومة الرغبة في قراءة سؤال اللحظة الذى تثيره فى النفس نصوص مؤثرة.. تغرينا وتثيرنا ونحن نقرأها.. لا نتردد في فتح صفحة أو قلب أخرى. حاولت أن أبتعد بتفكيرى فى هذا الإحساس الغريب أو أقاومه قبل أن أجد كل مرة نفسى غريق فى محيطه بين غربة واغتراب.. لا آنس إلا لوحدة وبحر وأشياء أحبها.. هناك حيث ترسم الحياة ملامحها على صفحة بحر ووجوه الناس أو فى قلب عاصفة.. وتيرة حياة مستمرة بنا أو بدوننا.. وفى كل مرة كأنى أراها لأول مرة.. أتوقف هناك لأرى كم هو غريب هذا الشعور وكم هى مسافات بعيدة..
وأخيرا لم يخرجنى من التفكر فى هذه الحالة وما ينتاب البشر بين فرح وحزن.. بين ذكرى وذكرى، إلا صوت نغم أصيل.. نهر تقاسيم بعذوبة حزن يثير النفس.. تغاريد بديعة على آلة القانون من مقام النهاوند إلى مقام الصبا للعازف الراحل محمد عبده صالح.. وما زال للإذاعة صدى يحلق بالروح ويأخذ القلب مثلما تفعل بنا القراءة.. ويا لروعة الخيال الذى يرينا ما لا نرى ويسمعنا ما لا نسمع. وربما من مثل هذا ما يأخذنا إليه الأدب والفن عموما سواء ما نقرأ أو ما نسمع أو ما نرى. ومنه ما قصد إليه فى دّرته وجوهرته، والتي عمل عليها زمنا طويلا الراحل الدكتور ثروت عكاشة فى موسوعته الضخمة "العين تسمع والأذن ترى"  فى تاريخ الفنون التشكيلية بأجزائها التسعة عشر وفضاءاتها الخصبة والتى تبدأ بالعمارة فى الفن. وهى موسوعة بخلاف العمارة لفنون النحت والرسم والتصوير، كما غطت مدارج الفن خلال تعاقب حضارات الإنسان المتتالية.
-----
وسؤالان آخران لطالما سألتهما. لما أو بالأحرى لمن نكتب. أما الثانى فكيف نكتب. الأول احتفظت بالاجابة لنفسى شعرا فيما يربو عن إثنى عشر ديوانا. وقصّا وإن لم يكتمل لغياب الروح عنى. أما الثانى فقد استغرقت وقتا غير قليل فى كتاب فى ماهية الكتابة والابداع. وهى تجربة لم أفكر من قبل أن أنحى فى طريق غريب مثلما هو طريق الكتابة، ولكن مع القراءة تكون الصورة أوضح كما نقرأ ونتمعن فى رواية مثل رواية (جسر على نهر درينا) للأديب اليوغسلافى (إيفو أندريتش) أو رواية مثل رواية (الزئبق) للأديبة البلجيكة (آيملى نوثومب). رغم إختلاف المنظور أو الاتجاه الأدبى الذى ننظر من خلاله لكيلهما.. الأولى رواية تاريخية والثانية رواية نفسية.. وعامة، أن أكتب عن ماهية الغياب النفسى فيما نكتب. فقد جاءت عدة مقالات غريبة لا أعرف أم تعبر عن حقيقة ما يحدث ونحن نكتب فضفضة عن هموم الواقع والحياة. أملا فى مستقبل أفضل فلولا نسمة إلهية تسرى فى الروح ما كانت كلمة ولا كان مدادا من نور. لولا ما ثار فى النفس أو كمن نخفيه حتى عنها، ما كان دافعا لحرف يسبكه قلب قبل أن يسطره قلم. نور تراه بصائر. يخترق آفاقا، لتنبع الكلمات رقراقة عذبة، فتصفو بها الأنفس، بصدق الإحساس وطيب المعنى. هؤلاء هم الكتاب وهذه هى الكلمات. حقيقة طالما يبحث عنها تائه، ليكمل ما بدأه، ليحيا من بعده، روحا بها جوهر نفسه.  فكرا ولغة. فريدة مضمونا. نادرة سمتا. هكذا أقرأ وأحب من أقرأ له، من كتّاب. وهكذا أحببت العزلة والوحدة رغم وجود بين الناس، أنسا بالكتب والقراءة. وربما قرأت كتابا عدة مرات، يلمس منى جملة أو عبارة أو حتى كلمة. نثرا أو نظما. روح لقصيدة أو قصة أو رواية أو حتى مقال. أو قل إن شئت شيئا من عمق معنى الحياة. وهكذا القراء والقارئ. من يقرأ لا يدرى بنفسه ولا يشعر، إلا مسافرا فى غيب. وثمة كتاب وأدباء يمتلكون الأنفس من أول سطر. يأسرون الأرواح من أول فقرة. يستأثرون بنا بكلمة أو جملة أو عبارة. تقرأ مرة بعد مرة بعد مرة. مرات ومرات. منتظرا تدرك ما سبب يدفعك للتعلق بمثل هذه المعانى وصاحبها. لا تستطيع أن تبتعد بناظريك إلى ما يتسلل نافذا إلى أعماقك. وكأنهم يعلمون أثر ما يكتبونه مسبقا. الكتابة الحقيقية المؤثرة هى ما تفعل بنا ذلك. تشرع بنا إلى كل درب وغربة نفس أو أنس بالمعنى. تثير انطباعات لا يثيرها غيرها. وتأخذنا إلى كل مأخذ. شعور بالغربة فى حين أو سكون عميق فى حين آخر. أو ميل إلى ذكرى. إنها روح الكلمة من روح الكاتب، وليس غيرها، وإن تباعدت بنا الأرض أو تناءت بنا المسافات تحت السماء. خيال يصبح حقيقة. وحقيقة تصبح خيالا. ونحن بينهما تائهين ولا دليل فى عرض بحر، إلا هذا الضياء الساطع. وفى نادر الأدب عربيه وأعجميه من ذلك ما نقابل فريد أثره. حتى تشعر بنفسك تحت سماء نفس اللحظة التى كتب فيها ما تقرأه وتتنفس نفس الكاتب فى كلمته.
ومن هذا القبيل رواية (جسر على نهر درينا - The Bridge Over the Drina) للأديب اليوغسلافى (إيفو أندريتش Ivo Andric) رواية عميقة تستلهم وقائع وتستوحى أحداث شهدتها مدينة فيتشى جراد أثناء الحكم العثمانى فى القرن السادس عشر. ونهر درينا هذا يقسم المدينة الى شطرين، وكان الجسر يجمعها ويوحدها. من خلال ذاك الجسر الرمز، ألغى لغة الانقسام وعلى هذا الأساس يمكن بناء صيغة جديدة للتوحد. فحتى فى قطعة الحجر الصلد يمكن أن يغمرنا جمال وسلام. أو يهبنا القوة، ويشعرنا بهذا القدر من الجمالية والساعرية التى تحملها. وأندريتش كاتب بارع للرواية التاريخية فى التاريخ المتأخر لعصور الوسطى. وتلك الرواية العميقة من أعماله الرئيسية التى تظهر بوضوح وتعبر عن أثر نشأته الصلبة فى عالم غريب.. وقد إمتزجت به إثنيات متباينة وأعراق مختلفة.. تأثرت به طبيعة إبداعه الأدبى من لون إلى آخر. لولا هذا ما كتب ما ظهر معه بجلاء من بصمة جلية فى إنتاجه الأدبى خاصة روايته الحائزة على جائزة نوبل والتى تتسم بالواقعية التاريخية، إلى جانب نظرة فلسفية عميقة ونزعة إنسانية تصرخ من أعماق الرواية. وهى رواية كتبها خلال سنوات بجهد هائل ودأب مستمر، تبين أن الإستنتاجات لا تتكون دفعة واحدة، وإنما تظهر على مراحل تدريجيا. ومما يسترعى الانتباه فى السرد القصصى لهذه الرواية هو إستخدام التاريخ كوسيلة لإلقاء نظرة زمنية واسعة عن الوجود، والإظهار المتأنى لـلكيفية التي تطنّ بها أجنحة التاريخ فوق الرؤوس، ومن جانب آخر على أساس أن الموضوع الرئيسي لرواية " الجسر فوق نهر درينا" شمال سراييفو في بوسنيا على الحدود مع صربيا، يظهر من خلال عدد شخصيات يناهز المئات، بل يختفي العديد من هذه الشخصيات تماما عن النظر دون سابق سبب عن إختفائها، فى ظل أن الحدث المركزى هو " الجسر القديم " أو بالأجدر العلاقة بين الجسر ونهر درينا العاصف، بوجودهما الحقيقى الملموس وارتباطهما بالزمن دوما.. ثلاثة قرون ونصف من الزمن، حيث تبدأ الرواية في منتصف القرن السادس عشر وتنتهى مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914.. علاوة على الدلالة الرمزية فى تصوير  أندريتش والكشف المستمر عن الزمن الذي يؤثر بشكل منتظم في الحياة، الإنسان والطبيعة معا والكيفية التي تتقارب وتتدانى بها القرون بأعجوبة من خلال جسر حجرى يربط الماضي بالحاضر.. لحياة مدينة رابضة وكل ما يحيط بها من حياة للناس والأجيال الراحلة منذ زمن طويل على ضفة النهر.. سكان عابرون للجسر فى رحلة جماعية الى الأمام فى تيار الحياة وحركتها المستمرة بأحداثها تحت أحد عشر قوسا للجسر عبر نهر درينا. والروائى التاريخى تصطبغ كتابته بالحقيقة التاريخية الموضوعية، بعيدا عن الأهواء الشخصية والحكم الشخصى. وعلى وجه التقريب كعالم أثرى أو مؤرخ. كمن يجمع بقايا ما تحطم، ليعيد بناءه، باعثا فيه الجمال لإنسان ما عندما كان حيا، فى زمن ما أو تاريخ ما على الأرض. ظل أندريتش ينقح الرواية وينتحت محاورها.. يقلصها،  فيحذف تارة منها، ويصقل تارة أخرى، ليظهر بريقها الذهبى.. فحذف مائة وستين صفحة وأبقى على تسعين فقط. كنوع من التأمل وسليقة فطرية من النقد الذاتى الموضوعى لما كتبه. وكأنه يكتب ليقرأ لنفسه فقط وليس لقارئ، في كل مرة يقرأ النص المخطوط، إلى أن وصلت روايته على هذه الشاكلة المتكاملة الأثيرة لدى قرائه. وهى بالأصل مائتان وخمسون صفحة كما يذكر نقاده. تظهر من خلالها المعاناة الشديدة والمصاعب الجمّة التي رافقت حياته، وحلمه ببناء عالم أقل عذابا ومعاناة.. أكثر انسجاما مع حقائق الحياة وعدالة الأقدار. وهي نفس صورة عصر عاشه فى  ترافنك التى ولد فيها فكانت مصدر إلهامه وجمال أعماله ومحور كتاباته حتى رحيله. ولعل هناك شئ من ذلك المعنى فى كلمته  التى ألقاها فى سنة 1961م بحفل تسلم جائزة نوبل وهى كلمة عميقة معبرةعن هموم كل كاتب وأديب:
- (أينبغي، اذن للقاص أن يساعد الإنسان على إيجاد نفسه وتدبير أمره ؟
أم ربما تدعوه مهنته لأن يتكلم باسم الذين عجزوا عن التعبير؟
أم أن القاصّ يروى على نفسه قصة حياته، شأن طفل يغنى في الظلام كى يتغلب على خوفه ؟
أم أن الغاية من سرد الحكاية هي إنارة طفيفة للطريق المظلمة التي غالبا ما ترمينا الحياة اليها، والإفضاء بما لا تستطيع معرفته وإدراكه عن حياة نحياها ولا نراها ولا نفهمها بسبب ضعفنا؟)
فى النهاية منح أندريتش وسام الجمهورية الذهبى من الرئيس تيتو عام 1962م والذى قدم لمنحه الوسام بالقول :
- " ليشرفنى أن أعلق على صدرك هذا الوسام " .‏
وأيضا كما فى رواية (الزئبق) المنشورة 1998م للأديبة البلجيكة (آيملى نوثومب - Amelie Nothomb) التى  بلغت مرتبة عالية مسرجة ولغة شيقة سلسة، مع جاذبية السرد حيث تشعر وتلمسك من هذه المشاعر العظيمة ما يؤثر فى وجدانك. غريبة كلوحات نفسية ثائرة أو مألوفة طبيعية هادئة. ورغم ندرة أعمالها تجد أثرا عميقا لا يدعك إلا وأنت ونفسك والغيب. روحك تندفع، لتذوق أكثر. ورغم عدم إكتمال الرواية إلا ينهايتين متباينتين فهى تدور حول فتاة محتجزة بكامل إرادتها فى جزيرة منعزلة.. وهى رواية ذات نهايتين كختام غريب لعمل أدبى ببداية مشوقة.. وربما روادت مخيلتنا نهايات أخرى ونحن نقرأ وقد اختارت الكاتبة لروايتها الخاتمتين، فأفردت لكل خاتمة منهما فصلا أخيرا، نهاية إثر الأخرى ليتشتت بينهما القارئ فى النهاية مفكرا:
- (تتضمن هذه الرواية خاتمتين. لم أقصد ذلك عمدا. حدث شيء غير عادى عند وصولى إلى هذه الخاتمة السعيدة الأولى. شعرت برغبة قاهرة لاقتراح خاتمة أخرى. عندما تم ذلك، لم أتمكن من الاختيار بين الخاتمتين لفرط تأثرى بكل منهما، ولتكشف كل منهما عن منطق للشخصيات مثير بقدر ما هو صارم. وعليه، قررت الاحتفاظ بالاثنتين معا. أحرص على الإشارة إلى أنه لا ينبغى ربط ذلك بأى حال من الأحوال بتأثير العوالم المتفاعلة التي تعيث فسادا في وقتنا الحالى في تكنولوجيا المعلومات وميادين أخرى. هذه العوالم غريبة عليّ تماما)

ويمتد جسر حميم مع هذه المعانى كأنى أعرفها منذ زمن، أو كأنها امتداد لعلاقة لمن من لا نعرف عنهم إلا أقل قليلا. ونبدأ فى تحين كل فرصة لكي نستمع.. ولا أمل من حالة ميؤس منها يضعنا القدر فيها. مستحيل رسخ في  الوعى مما لا طائل منه أمام دوائر موصدة. ورغم ذلك تتمنى أن تعرف أكثر وأكثر. لتضح فى النفس صورة تفاصيل الحياة الغريبة بلون الروح، بعد إبهام. تسأل نفسك بعد كل هذا الغياب فى القراءة أما من إجابة شافية على ما نشعر به، ونحن نقرأ. ودوما تجرى الأمور هكذا ليمضى عمر قبل أن ندرك من الحقيقة شيئا جديدا، ونتوه أكثر وقد استقرت جذورها فى النفس والروح. حقيقة التضور جوعا لقراءة ما له هذا التأثير. هذا ما أبحث عنه دائما وأنا أقرأ. ربما هذا سبب أننى لا أستطيع تخيل الحياة دون أن أقرأ. فلا حياة بدون قراءة. وقراءة الحياة غير قراءة الكتب. وإن تشابه كثيرا كلاهما. ألفيت نفسى أقرأ وجوه البشر من خلال منظور جديد. وكما قال إيفو أندريتش صادقا فى معاناة الكتاب:
- " أن أحدا لا يعرف مايعانيه إمرؤ يولد ويعيش على الحد الفاصل بين عالمين يعرفهما ويفهمهما، وليس بوسعه فعل شىء ليجعلهما يتصارحان ويتقاربان.. يمضي حياته وهو متردد، يعيش فى وطنين لا يملك أيا منهما. يشعر في كل مكان وكأنه في بيته، ويبقى غريبا إلى الأبد.. "
----------------------------------------------------------------
------