سرماديا

سرماديا

سرديات مختارة ***






من
 سرد  رواية
عيون زهرة الربيع
----- خالد العرفى
بطريقة ما حفظت قدماه طريقه، إلى هذا الركن، الذى يعشقه فى الإسكندرية، قبل أن يغادرها، ليتنقل فى عمله، بين محميّات مصر الطبيعية، عائدا إليها، بأجازات شهرية.
هناك تستوى إقامته بقلب مدينة الإسكندر المقدونى، على حافة البحر واليابس. كينونته محفورة، كحلم لم يُعبَّر، بأسرار غامضة. تعانق حنين ماضٍ ساحر عريق، على أمل عودة، من جديد.
كم يعشق ملهمة "كافافيس". علّق قلبه قنديلا ، فى كل مكان بها. هناك، حيث يقبع "مقهى بسترودس". يعانق المسرح الرومانى بجواره، بواجهته المطلة، على شارع فؤاد..
يتسكع قليلا، فى شارع سعد زغلول، بعد عبور ميدان محطة الرمل. يرمق العابثين فى شوارعها، التى غسلتها أمطار ودموع. يتفرس وجوه المارّة، خادعا زجاج الواجهات. لا تنعكس صورته عليها كشبح، من الماضين، فلا ترى شعره الفضى أو تقرأ قسمات وجه. من يراه لا يستطيع إدراك عمره .
أدمن هذه المنطقة، التى تتوارى خلف البورصة التجارية، ممتدة لتلتحم بميدان المنشية. إعتاد كل مساء الخروج، إلى "مقهى بسترودس" ليغطس، فى مقعد جلدى قديم ذى مساند خشبية، لايغيره أبدا. يحب هذه التفاصيل الدقيقة .
يجول بفكره يتذكر أمسياته الصيفية، فى بهوه الكبير ذى الطراز اليوناني الأنيق، بعبق "جريجى" حاضر. لا تحمل الجدران الدافئة إلاّ بعض صور قديمة وذكريات ماضى متناثرة، وقعت من أدمنوا التاريخ. أيام  تمنى لو كان فيها، وودَّ لو عاشها.  تحتفظ برونق قديم، لا تزال تديره أرواح الجالية اليونانية، برائحة تاريخ شوارعها ونكهة أزقتها. كأن الزمن توقف، منذ بداية قرن مضى، بين المتناقضات. مفتونا بقمر الإسكندرية، ومفتونا هو بها..
شعاره " ما أروع أن أشرب قهوتى، على رائحة طحن حبات البن.. الشعور بدفء نار ماكينة حديدية عتيقة، فى الجوار. ينهى قراءة صحيفته محتسيا " فنجان " قهوته، الذى يضعه كل يوم النادل، فلا يسأله كما يسأل الغرباء كيف يريد قهوته؟  يعلم جيدا، أنها لا بد أن تكون " سادة " وساخنة ..
طوال تلك السنوات، لم يتغير ما يشربه. ولم يسأله النادل العجوز إن كان يريد غير ذلك. لم يطلب يوما، من رواد المقهى الدائمين أن يعيروه تاريخهم وذكرياتهم البعيدة.  ودًّ  لو فعل فأعاروه. ينتهى به طوفانه، مختفيا بين جموع المارّة، منزلقا عبر بوابة، لا يراها أحد غيره.
مضى يومان، من أجازته هذه المرة، قضاها، فى وحشة شقته القابعة، خلف هذا الحى الشعبي. لم يكسر روتينه، سوى زيارة المقهى أمس. أرهصت الليلة بمطر غزير. كم يحب دائما السير، تحته دون مظلة. المطر يدفئه !
ماذا لو يحدث ما يكون كل ليلة؟
ماذا لو أنني حولت طريقى الليلة، فى هذا المساء المطير، ذاهبا لهذا المقهى المنزوى، بالممّر الضيق، بشارع النبي دانيال.."  ما السبب الذى يدفعه للممر؟
ربما حوانيت الكتب القديمة. ربما بعده عن " زنقة الستات " حيث تتلاحم أجساد، لا يجيد عبور بينها. عقد كفيه. نفخ فيهما علّه يستدفأ. لم تسعفه أنفاسه. نفخ أكثر. لم يتحرر، من ألم برد قارس، فى كفيّه .
لماذا لم يكسر المطر البرد هذه الليلة؟
انزلقت الصحيفة، من تحت إبطه، لتغرق، جانب الرصيف العالى. تأرجح ليمسك بها، كانت أسرع منه. سقطت قبله. دوّى صوت الرعد. شقّ البرق السماء الرمادية. إنشطر الغمام. إنزلقت قدماه، سقط فوق الصحيفة، التى إهترأت، فى الماء .
-  تبا لم أدقق لموضع قدميّ. هذا الرصيف الرخامي الناعم اللعين. تبّا للبلدية. تبا "لتفنيناتها". تبا لهذه المرايا الملساء. إنها لا تصلح لبشر.
زحف ليمسك بحافة الرصيف. كان كقطعة ثلج صلدة. تسمرت أنامله،تجمدت فوقها. شعر بثقل ملابسه الصوفية وحذائه " نصف بوت". كل شئ شرب الماء، كظمآن فى هجير صيف، بقلب صحراء جاءت صورتها أمامه. إشتد هطول المطر، تجمدت أطرافه، كأنه هارب من موت بطئ .
يؤنب نفسه والسؤال يلاحقه، يقذف به إلى بئر عميقة ومجهول سحيق.. شرد بأفكاره.. 
هذا تزييف للحقائق، ليست البلدية وليس الرصيف. أنا الملوم:
-" لمَ غيّرت طريقي الليلة؟.. أهذا كل ماتبقي لي من جنوني؟
"ليتنى ظللت بوادى العلاقي أو ذهبت لمحمية النيل.. 
على عبد الكريم..
 موسم الزرانيق..
النوبة.. 
هربت من برد ليل الوادى لأقع هنا.."
باءت بالفشل محاولته، فى النهوض. تربصّت به ذاكرته. صوت وراء صوت. صورة إثر أخرى. حديث علي عبد الكريم ببشرته السمراء ووجه البسوم. حديثه الذى لا يمله أبدا عن النوبة وتهجير أهله.
همس شوارع الإسكندرية الذى يعرفه. الحوانيت القديمة. كتبه. أوراقه تنفتح بسرعة. تنغلق على عجل. تتداخل. تتقاطع. وتثبت صورة هذا الطيف الذى يعيش به. أرعبته صورة ضبابية، لم يفلح فى رؤية تفاصيلها الباهتة. تسابقت، فى خلده مختلطة غائمة.
سمع صوته:
" لماذا أعيش بطيف يعذبنى. لمَ أهرب دائما. هذه  نتيجة هروبى. بقايا رجل بطيف إمرأة"
قطع صرير باب سيارة جدار ذاكرته تتداعى..
"- هاتوه " !!
أطبقت على كتفيه قبضات حديدية. "جرجرته "،حملته. ألقت به فى سيارة الشرطة سقط متكورا فى أرضيتها، لم ير شيئا من كتلة أجسام "المخبرين" التى سدّت كوتها. شعر بكتلة جسدية أخرى أطبقوا عليه. أحاطت به من خلف رأسه. يتخبط مصطدما بأقدامها. تكاد تزهق روحه..
مرَّ وقت قليل أشبه بدهر، حتى توقفت السيارة. بدأ إلقاء الأجسام تلو الأخرى. جاء دوره فجُرّ مرة أخرى، لم يستطيع النطق كأنه يرى كابوسا. تذكر الممّر  الذى لم يدخله. إستيقظ، من الغيبوبة التى دخل بها. سمع مرة أخرى: 
-" هاتوه"
"-بطاقتك .. "
-   أظنها سقطت منى حينما سقطتٌ. 
تحسس جيبه فلم يجدها ..
-  ما اسمك ؟ "
-  مروان المصرى
-  ما وظيفتك ؟
-   باحث بيئة
-   إلى ما تنتمي ؟.. من معك ؟ "
-   لست إلا رجلا غير باحث عن إنتماءات غير موسمية. أحيانا أكتب لنفسي، لكننى" أحب إحتساء القهوة، فى بسترودس .."
-    نعم يا روح.. !"
-   الحكاية أنى غيّرت عادتى هذا المساء. كنت ذاهبا لممّر متفرع من شارع النبي دانيال. انزلقت. سقطت فى الماء. غرقت..
-   من كان معك.. وهرب منا ؟ "
-  هناك تأكيدات بأن هذه الأرصفة اللامعة الملساء تضر بالمواطنين. لم يكن معى أحد. انزلقت بمفردى. على "المحافظة " تغيير الأرصفة "ده مش بلدية ده "
- ماذا؟   أرصفة ماذا... ؟
-  قلت لك كل شئ. أظننى أحتاج لطبيب. أعتقد أن قدمي كٌسرت!.. لدى شكوك بأن البلدية تستهدفنا ..
- ممكن أعرف أين أنا ؟
- هنا لا تسأل.. نحن الذين نسأل..
تناهت إلى مسامعه تأوهات وصرخات: 
" لم يحدث " .." لا أعرف" .. " لم أرى شيئا "
 جُرّ لمرة ثالثة.. لا يستطيع وقوفا على قدميه. أُلقي فى حجرة ضيقة ضعيفة الإضاءة، ولا تصلها مباشرة. سقط أرضا لا يرى شيئا. شعر بالماء أسفل منه تلمسّ  بجانبه جسدا يرتجف بأنين مكتوم.. تتنامى إلى سمعه الصرخات المجاورة.. " آه .. آه .."
-    من انت ؟ "
لم تأتيه إجابة واضحة. اختلطت الحروف بأنين ضعيف وصوت خفيض متقطع.
-    سعيد. اسمي سعيد .
ابتسم متهكما من المفارقة.. اسمك سعيد؟! "وأنت بهذه الحالة". حاول أن يقعده. أسند ظهره إلى الجدار البارد. أزاحه عن الماء زاحفا إلى جانبه من فرط ألمه، تكاد تتلامس رأساهما على جدار  رطب
-     أين نحن يا سعيد؟!
-     ها ها .." وعلت قليلا صوت ضحكته المتقطعة بنفس يقطع أنينه الخافت :-
-     لست أعرف أين نحن ؟!! .. نحن فى" السينما".. لا. بل فى " شيراتون المنتزة". استمرت ضحكته  واهنة
-     أتسخر منى؟.. مستنكرا جهله العميق بمكان تكاد تصطدم فيه حافة رأساهما بسقفه وهما قعود .
-    هذا مقر .. ولم تقل لي بعد ما اسمك ؟
-   لماذا.. لم أفعل شيئا، كل ما أردته أن أحتسى القهوة، فى مكان آخر، غير بسترودس..
-    أنت مُلك خالص؟.. بسترودس ماذا ؟"
-      أتهزأ بى ؟!
عادت له آلامه المبرحة. أسند رأسه على كتف رفيقه الغريب و لم يدر ِ له إسما بعد.. سرعان ما علا أنينه، ارتفعت حرارته رغم جلوسهما فى الماء بأرض الحجيرة الضيقة التى أكلها البرد الشديد، فأطبقت على الرفيقين.
مضت الليلة طويلة، قارسة البرد بطيئة. يقطع صمتها أنين وصرخات واهنة أحيانا وتقطع أوصال القلب وسويدائه أحيانا أخرى. لا يغلبها إلا صوت الرعد، يتردد، يشق صمت الليل من بعيد، ولا يعلوها سوى ومضات برق خاطفة تتسلل منعكسة على جدران قصيرة خُط عليها عبارات ورسوم حفرت وتواريخ كثيرة تنبئ عمن كان بها.
تمنى لو طالت لحظات البرق ليقرأ ويستبين أمرها. تتابعت الومضات بسناها يكاد يخطف بصره. أنارت وجه جاره المحموم، فبدأ يتبين قسمات وجهه الطفولي الجميل لولا هالات زرقاء وسجحات حمراء حلّقت عينيه. أخذ يمسح حبات عرقه المتصبب عن جبينه من أثر الحمّة هاذيا :
"-ياسمين .. ياسمين.." .. " آه. آه "  "ياسمين.. ياسمين.."
لم يستطع سؤاله:
- من ياسمين..؟!
ارتفعت أصوات خطوات ليلية آتية، ولا زال الليل فى منتصفه. لم تسافر ساعاته إلى خيوط فجر، لن تنشق قبل ساعات كل منها دهر طويل.. ، تمتم :
 "-الكائنات الليلية لا تننشط إلا ليلا. يزداد نشاطها فجرا  "..
استمر يمسح عن جبين المتألم المحموم. نقل رأسه على فخذه ممسكا بساقه الكسيرة بيده الأخرى. بدأ يشعر أكثر بألم قوي ينخر عظامه.. تندّر: "
لن أعرف كيف أجرى مرة ثانية؟!
تقصد  لن تعرف كيف تهرب ؟ !!" .. جاءته من رفيقه الذى استيقظ عائدا لوعيه:
"لم أكن أحب قهوتي، إلا فى بسترودس بركني المفضل، على أريكة وثيرة. لماذا تمردت إذن؟.. مالى و هؤلاء ؟ ماذا حدث لى؟ ماذا حدث؟
تبا للرصيف. تبا للبلدية والمحافظة .. "
ما هى إلا فترة صغيرة حتى إندفعت بجنون أهاجيسه متناثرة. دخل فى صراع مع صور استولت على ذاكرته تسخر مما حدث له. ما هى إلا لحظات وحجب دخان كل شيء. لا يسمع إلا تأوهات وراء الجدران وقد أضاء البرق الهارب وجه رفيقه. لكنه دخل فى حديث آخر مع نفسه علّه ينسى ألم قدمه الكسيرة فى برد ديسمبر. ربما نسى مأزقا، قد وقع فيه.

صفحات
 متفرقة من الفصل الثانى
----- خالد العرفى
أغرقته فى عمق أوجاعه موجة هاربة من غىّ الليل الطويل. ترتجف ذاكرته الآسنة، كلما تردد صدى نشيد أو أغنية حزينة للوطن، تنادي على شمس أدارت له ظهرها، لتشرق من جديد. وقد سربله الخوف، ألا يجد سبيلا إلى الخلاص. مقسوم داخله. صراع نفسي لا ينقطع. يستلقى مختبئا على كتف لياليه وحيدا بروح تنزف مرارة الوجع، وقلب يذرف أحزانه على صباح مزعوم، سيأتى. قلق يساوره دوما. يستولى على روحه. كأن هناك دوما شيئا ناقصا، من عذاب، لم يروه.  شيئا رهيبا ينتابه. غارق فى وسطه. لا يحكمه عقل ولا منطق. ورغم ذلك لا يكاد يدركه. ليس له ملامح واضحة  أو محددة، ليس بعصا، ولا سلك كهرباء، و لا كرباج..
----------
أشياء غريبة، تأتيه كفلاشات متقطعة، تصيب عقله وحيدا. أحيانا كألوان غريبة وظلال باهتة. أحيانا كومضات لامعة وراء ومضات.. تنعكس على الحوائط الملوثة متسارعة. كتيار مندفع برهبة، لا يستطيع أن يوقفه أو يقف أمام تتابعه. تطارده عيناه، حتى تدرك له كنه. وحينما تقترب لا يجد إلا سراب خوف وفزع. يجدها تأكل ما يحاوله، من هدأة لنفسه، فى صمت هذه الزنزانة على ساحل القلق والاضطراب، مما قد يراه غدا واقع به أو بغيره، تحت ناظريه أو مسمعه. يتسلل إلى كيانه يشقّه. وتتتوه حينئذ يقظته ويفقد الوعي، مرتميا، دون حراك في أرضها..
---------------
في كل مناسبة يصرخ في أعماقه، كأن حياته ستنتهى إن لم يصرخ ويستجب لنداء الألم. وتزداد مرة بعد مرة، كلما تكررت نوبة التعذيب والإهانة والذل، حتى لو لغيره في الجوار.  يسمع تأوهات وصرخات، ذاهبة أدراج الرياح، خلف أسوار الحزن وجدران الغرف المظلمة. تحاصره فى سجن آخر، داخل سجنه. يهزم الروح ويعذب الجسد. ويفقد كل رغبة فى هذه الحياة.
وهكذا فى دائرة لا تنتهي من النوبات. وحينما يفيق لا يكاد يستبين معنى ما حدث له. ولا يعرف متى تنطلق نتائجه على وجهه. فهى موجودة بالفعل على وجهه، هائما  مشدوها، باحثا عن سبيل، بكون آخر وزمان آخر، لينجو. فقد زاد من هم على شاكلته به واحدا..
ونفرته الكلمات، وكأن الشمس لم تعد دافئة مضيئة. يستلقى مختبئا على كتف لياليه وحيدا، بروح تنزف مرارة الوجع، وقلب يذرف أحزانه على صباح مزعوم سيأتى..
-----------------
كاد يلحق به اليأس ويطوقه مما نفثه ظلام إنتظار طويل يحذرعاقبته. فما كان يخيفه سوى عيون الليل يعلن عن نفسه قادما كأنه يركض صوبه فقط.. فلا يدرك فيه نجاة وهو أعزل من كل خياراته فيجد نفسه في أول غرقاه. أنّى له يطلب الحلم، في غمرة ما هو فيه. ليست الأحلام لتراود من هو مثله..
لولا رفيق عالجه من حالة يأس مطبقة على روحه. وكم من مرة دار بينهما :
 - لا أحد يعرف ماذا ألّم بنا. لا أحد يعلم ما أصابنا من ألم
 - لا تقل لى ذلك. لن تجدي منا مقاومة.  بتنا لا نعرف أنفسنا. نتظاهر أننا ما زلنا أحياء هنا.  لن نخرج من هنا أبدا..
 - علينا تذكر من ودعناهم
أخشى أننا سوف نعيش بذكرى من رحل
 - يحتلون فى أنفسنا وأرواحنا ما لن ننساه. لن يغادرونا أبدا..
-----------------------------------------------------------------------
صفحات متفرقة
من سرد  رواية
غصن الحياة
----- خالد العرفى

من يستطيع التنصل من اسم وطنه.. من مدينة ولد فيها؟!
 لم أستطع أن أخلع عليها اسما غير ذاك الإسم العريق، حاملا تاريخها.. ولدت ذات يوم، ذات سنة.. لن أكلف نفسي ذكرهما.. أوعناء ذلك.. بينى وبين هذا اليوم، عمرى.. فترة طويلة، نقشتها أحداث، ربما تستغرق صفحة واحدة، لو سجلتها مبكرا، يوما ما.. أو ما لا أعرف ما سيكون اليوم، أم غدا.. علىّ أن أستحضر هذا اليوم البعيد، حتى أتوقف لعلى، أكمل ما حدث.. كان خليقا بهذا اليوم أن يودعنى أبى مع العمّ الوحيد لى، ترافقنا زوجته، التى لم تنجب.. فكنت الإبن لهما، حتى حين.. ورغم أنى لست أميل، إلى أن الإنسان يفارق وطنه، ومكان مولده.. فليس حتما، عليه أن يعود إليه، فى حادث أليم، أو سعيد، قبل مماته.. لم أكن أدرك آنذاك، هذه الحقيقة.. الحنين، إلى الوطن. الواقع أن مخلوق مثلى، فى هذه السن المبكرة، كان عليه أن يدرك وجه أب، يُلوح بيد واحد، وأخرى قد إرتكنت إلى جنبه ساكنة، ملازمة، إثر شلل لازمه سنتين، بعد وفاة أمى.. لم يكن يملك سوى أخا وحيدا، ذا زوج عاقر.. وسنوات عشر من ذكريات، مع أمى الراحلة.. وثروة لا بأس بها، حوّلها كلها باسمى، بوصاية عمى، الذى إحتضننى إبنا له.. راحلا بى إلى السودان، حيث مقر عمله، كبيرا لمهندسي الرى، التابعين للبعثة المصرية.. لم يكن ليشغلنى، السبب الذى أجبر والدى للتضحية، برفقة ابنه الوحيد،  وهو الميسور ماليا.. كان يمكنه إستبقائى معه. يستحضر من يعتنى بى، من غير عُسر، أو مشقة.. رحمة عمى بى، أنستنى الكثير.. منعتنى أن أفكر، ماذا كان.. وماذا ألّم بى؟!
لم أقلق على مستقبل.. لم ترجح كفة إرتيابات، لا يستوعبها عقلى الصغير.. من غير ريب، أحاطتنى ذكرياتى، مع عمى الرؤوف. لم يكدر صفوى، شئ غير مألوف. طوقنى بذراعيه، كلما هممت النظر من نافذة قطار، شقّ الصعيد الأعلى، بعد مغادرتنا الإسكندرية فالقاهرة.. وصلنا إلى الحدود المصرية، لنكمل رحلتنا بالسيارة، برا، داخل الأراضى السودانية.. لا أنسى تنفسي رائحة السافانا البرية، ورائحة حطب الرعاة، المتناثرين على طول الأفق، مع الماشية.. لفحة الحرّ، والهواء الساخن، يضربنا بسياطه، كأننا نتوجه نحو النار، أو داخل مرجل نغلى به، طوال طريق طويل.. كانت زوجة عمى، تغطى وجهى بوشاحها، تضمّنى لصدرها، لئلا أصطدم، بالجدار الحديدى للسيارة الغليظ، كلما هبّت ريح ترابية، أو مررنا بأرض، غير مهيئة للسير.. كانت السيارة أشبه بأرجوحة، ترتفع لأعلى، وتهبط لأسفل.. فجأة، نرتفع، ثم نسقط مرتطمة رؤوسنا، بسقف السيارة المعرّش بالخوص،.. كم مرة، شعرت أننا فى سفينة وسط الأمواج، تتلوى فى حركات جانبية كأفعى، ليتفادى سائقنا العجوز، مخاطر وحش الطريق.. إختلست النظر إليه، من الكوة الفاصلة بيننا وبينه. أرفع رأسى، أشبّ فوق كتفى عمى قليلا، لأرى ماهناك.. فزعت صائحا، أكثر من مرة:
- "عمى. عمى. السائق العجوز نائم. السيارة سائرة لوحدها، دون سائق" فيضحك قائلا:
- "لا تقلق يا أمجد.. إذا نام، فالسيارة تعرف طريقها السودانى جيدا.."
وترتفع ضحكات المرافقين لنا، والسائق يفرك راحتيه، يخبط بها عجلة القيادة، مغنيا، يطربنا بلهجته، يدندن، بموال غريب، لم يغيره.. يأسرنا صوته الأجشّ الحنون، كأنه قادم، من عمق أفق بعيد.. بينما تمدّنى زوجة عمى الحنون، بالماء.  أصبحت أناديها "أمى"، .. لم تتوقف عن توصيتى، أن أناديها بذلك، حتى إنتهت رحلتنا، والكلمة، كالماء الذى شربت منه الكثير، فى فمّى.. لم تفارقنى بعد ذلك، بعد وصولنا.. 
تلقّانا مُستقبلنا، بالماء البارد، وشراب الدوم.. أسرع الحمّال الأسمر البشرة، بحمل حقائبنا، واحدة بعد أخرى.. إلى السكن.. وأثقلت عليه إحداهن.. وقبل أن يساعده آخر، تندر قائلا:
- " ماذا بها تلك الحقيبة الثقيلة.. أأحضرتوا فيها أحد الأهرام؟!"
ورد عليه زميله:
- " يا أباىّ.. هذه الأهرامات الثلاثة وأبو الهول معها، يا عثمان!!"..
كنت مشغولا بالجدار الشجرى الضخم المحيط، كحزام كبيير، بمجموعة المساكن الإدارية المتراصّة على مسافات قريبة، من بعضها البعض.. كان جذع كل منها، قادر على أن يبتلع عدة رجال.. مال على أذنى أحدهم، باسما:
- "أراك سوف تحب المكان يابنى.."
وبادرنى عمى:
- " هذا عمك المهندس إسماعيل يا أمجد.. "
- " وهذا أمجد يا إسماعيل من حدثتك عنه .."
وشقت أسماعنا صرخة طفلة عن قرب ولا نراها.. وإشتدت الصرخات المتلاحقة، ليخرج الجميع مندفعين.. وتبينت مصدر الصوت فكنت أسرع منهم.. وتسمرّت أمام إحدى الأشجار الضخمة، لتلتقى عيناى بثعبان أسود ضخم، وسط أوراق الشجر الجافة، على الأرض، وأعلاه تلك الفتاة الصغيرة وقد إلتقت عيناها بعيني.. تشاور لى مرتجفة على الثعبان، الذى أخذ بالزحف، على جذع الشجرة، نحوها.. وبينها وبينه، تلاحقت نظراتى، لا أدرى ماذا أفعل...  ووقع نظرى، على غصن جاف طويل ملقى، بجانب حبل أرجوحة مقطوع، طرف على الأرض، وطرف على الشجرة،.. وبيدي الصغيرتين، سحبت الغصن، لأنخز به ظهر الثعبان، غير عابئ، إلا بتلك الفتاة الصغيرة المعلقة، على الغصن، تكاد تنزلق نحو الأسود، ويوشك أن يصعد إليها.. كان مصمما على العروج، ملتصقة بطنه بجذع الشجرة.. كادت تتهاوى يداى، من ثقل الغصن، لا يفصلنى عنه سوى مسافة قريبة.. لم تمر ثوان، حتى إنطلق صوت طلقة رصاص، مرقت، فوق رأسي.. لتخترق رأس الأسود، ليسقط مضرخا، فى دمائه.. كان أول الواصلين للفتاة "عثمان الحمّال" الذى تسلق كالقرد الأغصان ليهبط بالفتاة على الأرض، أمامى، وأنا غير مصدق، ما يحدث.. وقد أسرع نحوى، متخبطا أوراق الشجر.. مناديا بأعلى صوت:
- " أمجد.. أمجد.."
يقطع صوته صوت المهدنس إسماعيل:
- " إبتسام... إبتسام "..
تحلّق الجميع حول "المهنس إسماعيل" يهنوئنه على سلامة إبنته التى سارعت بالعدو نحوى،.. بسطت كفها الرقيق نحوى.. ماسحة على رأسى.. ثم صدرى، لتزيل أثر الغصن الذى كافحت، وهششت به، عنها.. ولم تنطق كلمة واحدة، وطبعت قبلة دافئة على جبينى.. قبل أن يحملنى "عثمان" أنا الآخر.. وأعاد زميله"متولى" حمل إبتسام بين ذراعيه. وتوجه بنا الجميع، صوب إستراحة العاملين.. وبقى رجلان، فحفرا للثعبان الضخم، وسط حشاش الأرض الجافة، وأشعلا النار فيه..، كنت أسترق النظر إلى الفتاة، وأن أُهبط "عمّة عثمان" البيضاء، لأراها.. وهى تفعل مثلي، تخفى ضحكة صغيرة بيديها الرقيقة.. ويغشى وجهها كله، إبتسامة ملائكية، كاسمها.. لم أعرف، لما تذكرت حديث عمى مع زوجته، قبل مغادرة الإسكندرية، وقد إقتحمت كلماته أذنى:
- " لا تتحدثى أمام الولد عن الثعابين ولا الموت...".. "
- " والله، يا أخى لو رزقنى الله، من الأولاد عشرا، لما أحببتهم، كما أحب أمجد.. لا تقلق أخى الحبيب..  أمجد وديعة الله"..
وما إن وصلنا باب الإستراحة، والمساء يهم بأن يغشي كل شئ، حتى وجدنا أمامنا أمى، وإمرأة أخرى،.. ما إن نادت عليها "إبتسام" " أمى.. أمى"، حتى سقطت المرأة مغشيّا عليها
---------------------------------------------------