سرماديا

سرماديا

من رواية "صوت الحياة"



 صفحات متفرقة 
 من سرد فصول رواية
 "صوت الحياة"
---- 

فى مكان ما، فى هذا العالم طيف.. وسراب.. ودهشة سماء، فى قلب زهرة.. شئ من حقيقة، لن يعرفها أحد..

-----      خالد العرفى





على مسافة من الكورنيش، ينعطف الطريق، إلى شارع جانبى.. حيث يتتابع، بالجهة المقابلة صف من البيوت، تتتابع منزلا، فمنزلا. لم يبق منها ليطلّ، على البحر، إلا عدد قليل، ما زال محتفظا، بطراز تشييد قديم.. كهذا البيت، الذى تطل شرفاته الخلفية، على مسافة غموض بحر، على مرمى البصر
طابقان، بينهما سلم داخلى، برخام سكرى، وترابزين بأعمدة حديدية رفيعة، تنتهى بحافة خشبية ملساء بديعة. وما زال الطابقان يحتفظان، بنوافذهما الخشبية القديمة، عميقة الجوانب. يدخل منها ضوء غامر من النهار. وجميعها ذات ستائر قطيفية طويلة مموجة، ذهبية غامقة، معرقة بأغصان خضراء فاتحة.
ويتوسط سقف ردهة، تلى الباب الرئيسى، ثريا كبيرة، من زجاج عنبرى جميل، معلقاة بسلاسل نحاسية. وعلى يمين الباب، وعلى بعد عدة أمتار، كانت هناك غرفة، على الطراز القديم المدهش، ذات باب عال ونوافذ كبيرة. ذات طلاء أصفر داكن. ينساب سقفها من الداخل، بانحدار رائع، ليمتزج بانسجام تام، مع جدرانها، التى إزدانت بعدة لوحات زيتية مرسومة، بأطر خشبية مذهبة وذات نقوش بارزة، مختلفة الأشكال. تجذب النظر، بجمال، تسكن له النفس، ولا تنفر منه الروح. بينما صنعت الأرضية من خشب مصقول، مطلىّ بالشمع. وينبعث روائح معطرة، تعبق أرجاء الغرفة. فبدت شبيهة بساحة غرفة، فى قصر بهىّ. تطل شرفتها على حديقة البيت الأمامية، موازية لنافورة رخامية سداسية. يزين جوانبها جداريات متوسطة المساحة، من فسيفساء، فى انسياب فاتن.. زرقاء وصفراء، فى تناغم ألوان قائم.
وتلى هذه الغرفة مباشرة حجرة معيشة كبيرة، مفروشة بسجاد فارسى يدوى، بديع. يتوسطها بعض قطع أثاث قديم، من الخشب الداكن. وتغطى جميع نوافذها ستائر طويلة بلون بيج ذهبى داكن. تتوزع بها ثلاث أرائك، بركنها الأيمن مكتبة جانبية ممتدة، ذات أرفف عريضة كبيرة. منها رف خصص لمجموعة أباريق وقنان زجاجية مختلف أشكالها، بنقوش بارزة ورسوم زاهية. وبجوار النافذة، فى جانب الغرفة الأيسر، قد إرتكز، مقعدان كبيران مريحان، بمسندين وظهرين مستقيمين. كلاهما مكسيّ بقطيفة حمراء قاتمة، بورود صفراء مقصبة صغيرة. وتتوسط المقعدين منضدة خشبية مستديرة، من نفس الطراز المريح، للعين والإستخدام، كبقية قطع الأثاث، من ذات النوع الكلاسيكى. يشعر بالدفء من أول مرة يُرى. وفى الركن المقابل مدفأة، مبنية من حجر حرارى بنى، يرتكز على جانبيها، تمثالا إمرأتين، من رخام أبيض. معلق على طرفيها العلويين، محركا نار حديدين، بمقبضيين خشبيين دائرين أملسين. وعلى إرتفاع قريب، يعلو المدفأة، لوحة زيتية كبيرة فاتنة، ما زالت محتفظة بسحرها، لمنظر طبيعى آسر.. غابة أشجار سامقة، يتوزع على جوانبها، جذوع قديمة، ضاربة، فى الأرض. وفى الناحية المقابلة، خزانة خشبية أرو، ذات أدراج رأسية، تشغل نصفها السفلى. بينما يعلوها ضلفتان زجاجتيان.. حيث يوجد، عديد من الكتب، وبضع فازات ومزهريات خزفية، توزعت أمامها. وعلى سطحها، مجموعة قنان وأطباق فخارية بلون بنى، ذات حواف داكنة. تزينها أشكال نباتية. ويعلو الخزانة، على الجدار الخلفى، لوحة زيتية أخرى، متوسطة المساحة، باطار خشبى مذهب عتيق، لسلاسل جبلية مغطاة، بغابات فاتنة..
والمبنى المجاور يمكن رؤيته بالكامل، من شرفة الغرفة الثانية. لم يكن يفصل بين المبنيين، غير بضعة أمتار. يقع فى منتصفها، سور كل منهما، وقد مالت عليهما أغصان شجر متشابكة، من الجانبين.

-------------


على غرار أيام، انصرمت مؤخرا، كان صباح اليوم ربيعيا وضحوة نهاره رائعة. سماء زرقاء صافية،  تتهادى فيها سحابات بيضاء متناثرة. وقد انتشرت أشعة الشمس ساطعة، متسللة بين فروع الشجر، بأرجاء الحديقة. هوءا نقيا وجوا صافيا رائعا، مع تغريد طيور ونسمات ربيع رقيقة. تهتز لها أوراق خضراء زاهية، مبتسمة على أغصان وارفة. وشذى أزاهير حالمة، وأريج ورود وادعة، داعبها نسيم لطيف. وقد تفتحت، بكل ألوانها، فيهب من أريجها، هدوء يتلقاه القلب. ومن شذاها سكينة تحيى الروح.
هبطت وتجولت قليلا، فى الحديقة. جلست، وقد إنتابتنى أحاسيس ومشاعر، تدفقت فى وجدانى، وأنا أفكر بها. يحيرنى ما يدور، فى نفسى. كان أمرا يفوق الخيال. كان لكل شئ، دهشة تتلألأ، فى النفس، أكثر عمقا، من فتنة طبيعة تحيط بى، وأمام ناظرى سحرها. وقد تسللت إلى نفسى طمانينة، وإلى روحى هدوء وراحة. خشيت أن أظل أسيرا، لمخيلتى. لرؤى وهاجة، أبعد من هذه الحياة. أن أظل، بين عقل وجنون. كادت روحى تذهب إلى أفق، لا أرى به، إلا ملامح وجهها. أناجى نفسى:
- لا جدوى من المعاندة فعلا،..
كان قد حدث تغيير، دون تفسير. بدأت بالكاد أفهم كيف أكون؟ كأننى إنسان آخر، لا أكاد أعرف من أنا؟
هذا ما لا أعرفه، حتى الآن، فلم أحب، من قبل. حب، يمنح التعرف، إلى النفس، وحقيقتها. لكن أمر ما، قد غيّر لون الحياة. كما لم يحب إنسان من قبل، لأرى الحياة. لأدرك كل شئ مرة واحدة. فى لحظة واحدة. كما لو، لن يحب بشر، إلا إذا رأى وجها، مثل وجهها. وأنشغل  بما هو أبعد، من ذلك:
- مستحيل، ألا يكون إلى هذه الدرجة التى تجاوزت المعقول.. مستحيل، أن يكون قد حدث، من أجل لا شئ.
كنت أريد أن أصدق ذلك. ولم يكن ثمة سبب واحد، يدعونى للإنكار..
-  بلى أحب. أحب. لكن...!
بت أكثر قناعة، أننى أعيش حلما مستغرقا فيه، منذ رأيتها. وروادتنى لحظة صدق، مع نفسى.. على أية حال، لم أعرف لقلبى موضعا، إلا بين عينيها. 
كانت هذه الحالة تحيرنى. تفقدنى صوابى. كان الأمر يتعقد أكثر، كلما حاولت التفكير فيه، لأدرك من حقيقة الأمر، شيئا. أجهدت نفسى كثيرا. رحت أفكر، فى إختلاق سبب معقول، يجعلنى أتحدث معها، خشية أن تدرك حيرتى. ولاحت لى فرصة، أسعفتنى بها الظروف، بعد بضع أيام قليلة. وليس لى من مبرر للاخفاق، إن حاولت. كنت على وشك الدخول. قابلتها وجها لوجه، على بوابة المجلة، وكنت قد فقدت أملى فى رؤيتها، هذا الأسبوع.
كانت تباشير الصباح، قد هلت وبدت السماء بديعة، بشكل غير عادى، يجلّ عن الوصف. بينما سطع ضحاها، فى دفء وتألق، على وجهها الوضاء، وهى تمشى فى بهاء صامت. تملأها بهجة ملائكية مدهشة، فى يوم نضر جميل. وقد اتجهت ببصرها، إلى عنان السماء الزرقاء، جمالا بجمال. يسحر العين، إشراقها الباهر، وما يفوق وصف جمال روح، أضاء وجها، يُرى، ليظل ماثلا، فى الذاكرة، مثل الحلم، إلى الأبد..
- ها أنت أخيرا.. فأين أنا..؟
همست بها فى نفسى، كيف تظهرين فى نفس اللحظة، التى كنت أفكر فيها، بك. فرصة لن تتكرر، لو لم أكن هناك. تكاد روحى تفارقنى.. كيف يعقل هذا؟
ابتسمت، وكأنها تقول لى:
- هذا صحيح..
التقت أبصارنا، وقد بادلتنى نظرة بنظرة. حاولت عبثا الهرب بعينى، حتى لا تقرأ ما بهما. لم أصدق نفسى. لم أتمالك، أمام ظهورها متألقة، وافرة الفتنة، فى رداء زمردى جميل، مطرزا بحلقات زهرية منمنمة، موشاة بخيوط ذهبية، صفراء وزرقاء. وقد زادت أناقتها، من روعة ملامح، لا تتكرر أبدا. التقطت أنفاسى اللاهثة، وأنا اشعر بشئ من انفعال وارتباك، ودقات قلبى تتردد. بحثت عن كلمات. فشلت فى تذكر ما كان، فى رأسى، وأعددته. اعترتنى حيرة، فيما سأقول، وقد التقت عينانا، بلغة مفهومة بيننا فقط. وقد شعرت بألفة غريبة. لغة، لم أتعلمها إلا عندما التقينا، هذه اللحظة. تملأ معانيها كل حواسى، وتفيض بها مشاعر عميقة. لحظة، جعلت الحياة غريبة غير مألوفة. رأيت كل شئ أمامى كأنى أراه، لأول مرة. أصبحت إنسانا آخرا، غير نفسى. أدركت أن أمرا ما مقبلا، لا شك فى ذلك.. وتوقفت واحمر وجهها، واستقرت، على وجهها بسمة رقيقة:
- صباح الخير..
- صباح النور..
إلى حد ما، تخلصت من حيرتى، ومددت يدى. بينما ترددت أن تمد يدها، لتصافحنى. لم أصدق، أننى سوف ألمس يدها، لبرهات خاطفة، لمسة حياة. قاطعتنى بابتسامة جميلة رقيقة، وهى تصافحنى، وقلبى، يختفى للأبد فى هذه اللحظة، مع صوتها العذب:
- أو سنظل واقفين هنا، إلى الأبد؟
مضت برهات صمت، وقد سبح بصرى، إلى الأفق البعيد، لا أدرى أم غائبا، فى وجودها. ولم أقل كلمة أو شيئا. نطق الصمت، بكل شئ فى صدرى. نظرت فى عينى. لم يكن هناك شئ ينبغى القيام به، غير إجابة السؤال. لم أكن بحاجة، إلا لهذا الصوت، الذى يهدر داخلى:
- أحبك أحبك..
حاولت البحث عن كلمات مناسبة، وقد أغمضت عيناى، حتى واتتنى جرأة، فسألتها:
- هل يمكن أن أراك مرة أخرى؟
نظرت إلى أسفل، قبل أن تجيبنى:
- وأنت؟!




- إلى أى حد، يمكن تجاوز الوهم، إلى حقيقة الحياة؟!
فى الواقع، أورثنى موته حياة غريبة، تدركنى. تتردد أنفاسه مع أنفاسى، كلما تذكرت. كلما عصفت بى نواتها، بين حياتين، وأنا صاغيا إليه، قارئا مذكراته. تفاصيل كافية بذهاب الروح والتفكير وتلاشى الإحساس. حقيقة تمثل أمامى، كمطر ليلة، لا أنساها ولا أنساه. ربما صوتا للحياة، حتى لا تصبح مجرد ذكريات مضت، أو تظل قصة دون أن تكتمل، إلا بالموت. فقبل بضع أشهر قليلة من موته، وكنت أتعهده برعاية واجبة، سمحت لنفسى، أن أدون كل ما سمعت منه. أقرأ مذكراته. مرآة أصحبها، معى فى طريق قرائتى لأوراق، تركها إلى جانب جسد فارقته الحياة. فى بيت تطل شرفاته الخلفية لطابقه الثانى، على مسافة، من بحر غارق، بسبات عميق وظلام بعيد. أمام خارطة لمدينة، كان بإمكانها، أن تموت كصخرة عجوز تتفتت. أن تخفت، كما مصباح منارة، أو تدور. لكنها، قامرت على روح البحر، مثيرة لفضول، من لم يعرفها بعد. منذ هذا الحين، لا أحد يعلم العلاقة الخفية، بين البحر والإسكندرية. يحتضنها نسيمه، صيفا. عاصفة بها رياحه، شتاءا. مدينة، قنع الناس، بأن يروا من أسرار الحياة، تتردد عليها، من عام إلى عام، زائرة. لكن، لا أحد يعرف تماما، هل فقدت عواصف البحر سحرها، أم نستها، مواسم التاريخ. بين هدوء وتأمل. صيد وملح. وحدة وعزلة. شعور يثير النفس، أكثر مما يثيره إحساس غريب، بحياة أو موت، مع أصداء أصوات السفن والنوارس، مطلقة صرخات الوداع. أن البحر سفر. مقبرة شاسعة، ينقبض لها القلب، وتنحبس لها الأنفاس. دهشة غروب ورحيل، مع ضجيج خافت، لأمواج بعيدة..
دوما، فى نوات وعواصف مدينة البحر، الناس يولدون، وتدركهم روحه. حينما، نكون فى مدينة، لا نعرف كيف نغادرها، فبها نموت..
- ولا أحد يعرف تماما، أين ذهبت روح هذا الرجل..؟
وبقدر ما اختار القدر مدينة رابضة، فى حضن البحر،  لأولد فيها، بجوار التاريخ، بقدر ما هناك وما يقابلنى من أشياء غريبة، تأتى على الخاطر،.. تساؤلات وأحاديث مع النفس. وأحمل فى نفسي منها، مثل هذه تلك التساؤلات وغيرها. فما إن قرأت مذكراته، حتى إشتقت، لرؤية وجها ملائكيا فاتنا، تحدث عنه. وقد صورها لى خيالى، أميرة برداء أبيض سماوى ناصع، زادته حسنا. تدلت على كتفيها، خصلات شعر أسود طويل. تاج. على قوام معتدل رشيق، بجمال لا يوصف. يشبع الروح، وجوهر يجلو الذات. إحساس بمعنى الحياة، لا يدانيه خيال. غادرت روحها، فى هدوء وطمأنينة، بين أنقاض وركام روحه. وأسفاه، إختفى كل شئ، من الوجود. ذهبت الحياة معهما. ذهب الجمال. أصبح كل شئ طىّ الموت. مآساتى، أننى لم أستطع إدراكه، ولن أستطيع. مع كل ما عصف بذهنى، لم أستطع أبدا، أن أتصور كيف كانت ملامحها، فلم أرها أبدا. وكأنى رحت باحثا عنها، فى بطلات كل رواية قرأتها. فشلت كل محاولة، إلا من شئ واحد، أن أغبطه، أن رأى جمالا موعودا، بالموت..
لم تعد ذكريات متعاقبة تجتاحنى، بقدر ما كان يجتاحه، كلما مررت، بهذا البيت. كمن يسجن نفسه بقية حياته. فى بناء بلا أبواب، ولا نوافذ. حبيسا لأوهام وظنون، بلا زمن. يكرس نفسه لذكريات بائسة، فى سجن كهذا، لا يملك شيئا. فحياة لا يستطاع تغييرها، أو مبادرة بالرحيل عنها، موت. لا أدرى، أم من أثر ليلة شتوية طويلة، وحتى بزوغ أول ضوء للفجر، من بين غيوم السماء. هل يسعنى أن أسمى هذه الذكريات قصة.. أم حلم؟!
هل فى طاقتى، أن أستعير كلمات ألقيت، على مسمعى:
- "لم تعد مجرد ذكريات. إنما حياة تبعثها الذاكرة، فى لحظات عصيبة لم يعد يشبهها أو يشبهنا شئ. تقودنا معها حيثما تشاء. لا يقطعها واقع ولا حاضر.. "
على أية حال، هناك شئ وحيد مؤكد:
- لا أحد، يعرف كل شئ.. لا يدركه من هذا، إلا إذا وضعته الحياة وأقدارها، فى تلك الحالة. أمر يفوق الإدراك والفهم. ومع شئ لا معقول كهذا، لا تعنى المسافات شيئا. نحاول إدراك، ما لا نفهم، وما تفضى إليه أسرار، نقف أمامها عاجزين. كأن ننتقابل. أن نفترق. فالحب، قد يضع نهاية لحياة، كما يصنع أحيانا حياة جديدة، برغبة عارمة، ضد الموت. وضد الذكريات..
هل يمكن معرفة أمور كهذه.. كأن نكون فى الوقت والمكان المناسبين. أن نعى حكمة قدر؟
من المؤكد، أننى لا أفقه شيئا، من مثل تلك الأمور، التى تضجر. لن أكترث بأى شئ، لو ظل هذا الوضع، حتى لا أضطر أن أحدق، فى أفق فيما لا نهاية، حيث لا يوجد شئ. ويفتننى أكثر عدم إكتراث. هل هى ذكرياته أم ذكرياتى. أكانت فى هذه الحياة، أم بعدها أم قبلها؟!

------------

كان علىّ أن أسرع لرؤيتها.  لن أنسى أول لقاء. مشاعر الدنيا انصبّت، فى قلبى، لتفيض، فى هذه اللحظة المذهلة، وهى تمر أمامى. تفيض شبابا وحيوية ونضارة. كانت الثوانى دهرا. وددت أن يتوقف الزمن، أمام عينيها. وقد غبت فيهما، شيئا فشيئا. لا أعرف من أنا. شعور غريب. شئ ليس له علاقة، بمنطق. لا أعلم من أين جاءت، ولا، إلى أين تذهب؟! 
وقفت مكانى، لا أستطيع أن أشعر بوجودى. إحساس غامض، بميل شديد نحوها. من هذه؟! من هى؟! ماذا حدث لى؟! أأنا فى عالم آخر؟! أعبرت الزمن، إلى مدى حياة أخرى؟!
ألقيت نظرة، عن قرب، على نفسى. تحول فضولى، إلى إندهاش. فقد أخذت الحياة طعما آخرا، كأنها بدأت للتو، بمعنى جديد. إن لم تكن هى معناها، منذ أول مرة رأيتها. رقيقة رشيقة، مشرق وجهها، يشع ضياءا وسحرا. عينان صافيتان جميلتان، تبعثان على الروح دهشتها. مخلوق، ليس من عالمنا. جمال عقل وذكاء، يدهشنى. ملامح وإبتسامة عذبة. ما ينسى الأحزان. ويملأ الروح حيوية وحياة. رغبة شديدة جارفة، إستبدت، أن أقضى باقى العمر، معها. لم أتوقع، أن يأسرنى شعور، بهذا الشكل. حاولت أن أفهم ماذا تغير.لا أعرف هل أصبحت أكثر هدوءا وسلاما، مع نفسى. أم صرت أكثر قلقا، من حيث لا أدرى؟ 
لم يكن هناك أقسى، من فراق محتوم. تأسرنى آخر كلماتنا. لم أعرف كيف مضت الحياة. لم أنس وعدنا. ولم يكن هناك غير نهار يتلاشى وشمس شتاء،  تنحدر إلى المغيب. تتكسّر، متوارية خلف السحاب. تطاردنى نظرة كئيبة، لوجه ديسمبر الشاحب، بسماء مبتعدة، أمامى. لم أنس عهدنا. لم أنس آخر كلماتنا..
- لن أموت أبدا.. دون أن أراكِ
- لن أموت أبدا دون أن أراكَ..
- أبدا؟!
- أبدا..
- أقدر أن ننتظر هذه اللحظة مدى الحياة؟!
- قدر ومصير..
- تذكرنى حبيبى..
- أو أنساكِ؟!
- عهد؟!
- عهد، وإن لم نلتقِ..
- كيف تقول ذلك حبيبى؟! سوف تبلغك عنى روحى..
- أحينما تحين آخر أنفاسى.. سوف أراك..؟!
- لا. أنت من سترانى.. 
كيف أنسى أخر كلماتنا، والغروب مسافر، يلفظ نبضاته الأخيرة، بقبضة أفق أحمر باهت، يسرع بخطواته، إلى رحيل. وغيوم داكنة ترجف منذرة، بغمرة ليل شتوى طويل. أرى حلقات رذاذ ضبابية وهالات غريبة، سكنت ذاكرتى. إمتدت عتمة ظلالها، كأسنة الصخور.  وقد أغرقت نهر الطريق زخات مطر، ببقع ماء كبيرة غامضة، شكلها المطر، على صفحة الأسفلت. تلتمع هنا وهناك، تحت ضوء قرمزى قانى.. شفق، إبتلعته أمواج البحر. 
------------

كنت ما زلت قادرا، على تذكر مكان لقائنا الأول. كما رائحة بحر آتية، من بعيد، لا تنسى أبدا. كما لمسات ريح باردة، على صفحات العمر. تسائلنى نفسى، والموت حقيقة، من خضم حياتنا. يعطيها معناها. ينتزعنا، من تلك الآلام. ويتنزع منا، الحياة.. 
لم أعرف كيف أقترب، من فراشها، قبل أن يسبقنى القدر. كانت نافذة شرفتها مشرعة على مصراعيها، تتلاعب بستائرها الخضراء، نسمات هواء باردة. لمحت، فوق الأغصان سحبا شاحبة، عابرة فى سكون الليل. وقد تسللت، تحت جنح الظلام، مخفية قمرا شتويا، أسيرا لغيوم. وأوراق شجر تائهة، فى ضباب. وقد ألقت ظلالها المعتمة، على الأرض..  

إنقشعت السحب عن القمر، وقد ألقى سنا نوره، على وجهها. تقدمت فى خطى متعثرة، إليها. كانتا ذاتهما العينان الحزينتان. تزاحمت فى ذهنى الأفكار. مرّ كل ما حدث بيننا، وحمل ذواتنا، أمام ناظرىّ. مع كل خطوة، تصدمنى ذكرى. أتنسم من أنفاسها، هذا الحين البعيد. حينما وقع بصرها علىّ، وكأنها كانت تنتظرنى. ظلت صامتة، لا تتكلم. كادت الدموع مختوقة فى عينيها، وقد حبستها، جاهدة أن تخفى عنى ألمها الطويل.
جلست على طرف الفراش، لا أدرى أأودعها، أم أودع نفسى، فى مرارة وألم. توشك عيناها أن تطفر بعبراتها، وهى فى رمق الحياة الأخير. فى نظرة، كنت متشوقا، لرؤيتها. لرؤية الوجه النضر المضئ. للمسة بشرة حريرية مخملية. لملامح ساحرة، بحزن عميق، لا يزال، يضحى في عينيها، كما رأيته أول مرة، مشرقا. تدهشنى، سجيّة صمت، تطهّر النفس، وتأسر الروح. صمت، لم يكن يحيرنى، سواه. وقد مرّت بنا أيام طويلة، باعدت بيننا..
- هل أنا على ما يرام؟!
- أين أنا الآن؟
دنوت أكثر منها. أمعنت النظر فى وجهى. فى روحى. غرقت عيناها، فى أعماقى. حاولت أن تلمس يدى. لم تستطع. أشارت إلىّ، بعينيها أن اقترب. أمسكت بيدها. ضغطت عليها. كانت باردة كالجليد. عروق دون نبض. إنحنيت أقبّلها، تسبقنى إليها دموعى. لم يخالجنى شعور، أن تسبقنى إلى هذه اللحظة. لم يساورنى شك أبدا، فى موتى قبلها. تنازعنى الأسئلة، عاصفة بى.. 
كيف تموتين قبلى؟! أين تذهب نظراتى الذاهلة؟! أين يمضى إشتياقى؟! أين تذهبين؟! أين أذهب، الآن، حائرا،.. كدتُ أصرخ:
  - لماذا نأتى دائما، فى اللحظات الأخيرة؟
لقاء تأخر سنوات طويلة. حديث، بين صمت وضعف. إبتسامة كسيرة، بين شفتين حزينتين، ينازعهما موت، فى لحظة إحتضار. أحدّثك بعجزى، أن ما كان، مضى. أن ابقى معى. لماذا تموتين. لماذا أموت. لماذا يموت الحبّ..؟
تجمدت الكلمات، على لسانى. لم أستطع أن أنطق. أشارت إلىّ، بعينيها، فى وهن. رفعت بصرها، بعيدا، تحدثنى بدموعها، هامسا لى، شرودها، فى أفق بعيد..
- وداعا حبيبى. وداعا. اذهب الآن. إنى راحلة. وداعا قد وفيّنا بوعدنا. آخر ما تراه عيناى، من الدنيا. ها قد رأيتك. لا تبكنى. وفيّت بوعدى. نادتك روحى. لا تنسانى..

لم أحس إلا غياب النهار. كأن ظلام ليل موحش قد هبط، بين عينى، جاريا بين دموعى، مخيما على نفسى. يعتصرنى الحزن. لم يخطر لى أو يدر بخلدى، أن الأجل قد حان. أنى، سوف أرى عينيها والحياة ذاهبة، منها. كانت تنتظر مقدمى، لتمضى، تلك الليلة. لم يستغرق الأمر سوى برهات قليلة معدودة. مرّت كالدهر، كالسنين. انسحبت الحياة، بهدوء من عينيها، لا أدرى أم من عينىّ. قدر أن أراها، وهى تغرب إلى غير شروق. من يستطيع أن يعيد حياة. أن يرد روحا، تنطفأ جذوتها. كملاك نائم، رقدت، فى سلام وسكينة ونور. 
لبثت، فى مكانى جامدا. كيف أستطيع أن أتحرك. توقفت حواسى. درات بى الدنيا. لم أشعر بشئ، إلا بمرارة لحظة أدركنا فيها، ما أدركنا، من مصير. منذ لمسة، لم تكن يوما. ولم تكن أبدا. كل هذا الألم، بين ما نريد، وما لا نستطيع. فى دائرة إنتظار، لِمَ، لن يأتِ أبدا. لِمَ، لم نراه،  إلاّ ألما، وروحانا على موعد، مع الرحيل، منذ افترقنا، بقدر..
لم أقدر أن أسحب يدى منها، وقد أطبقت عليها. أغمضت جفنيها بهدوء. كما أسرنى، منذ أول وهلة، كان الوجه الشاحب فاتنا. لا أدرى أتوقف نبض قلبى، مع نظرة راحلة، إلى السماء. أم توقف الوجود وراحت الحياة. حتى فى موتها، بدت رائعة الجمال. تركت، من روحها، ذكريات أيام بعيدة، جمعتنا، لتذهب بى، إلى مجهول.. فى لقاء دهشة موت، أسبلت عليه عينيها..
من لى الآن، وأنا أتردّى، فى هاوية أحزانى ودموعى؟! 
من لى، وقد كنت لى الحياة كلها؟! 
من لى وما مصيرى؟! 
بهدوء، أغلقت الباب، من خلفى.. لم يتبقَ، إلا شئ واحد.. لمسة يد، دون نبض..
ودعتها، وبقلبى ألم ومرارة فراق أبدى. ما رأيته كان كافيا لتظل روحى سجينة، فى هذا المكان، ما تبقى لى من حياة. هنا، لفظت أنفاسها الأخيرة. هنا، موضع شهد مولدها. وتنفست به. رأت عيناها كل موضع، منه. ضمت جدرانه حياتها. كما ضمّ صدرها حبنا المفقود. آخر نظرة، وقعت عيناى عليها. يا لك، من مكان. هنا دفن قلبى. وأسفاه. ليتنى أستطيع بقاءا فيك، حتى آخر رمق. 
بقيت، ريثما تنتهى شعائر دفن، إنقضت بطيئة. خرجت، لا أرى شيئا. لم يكن ثمة أثر لطريق. لم أتوقع شيئا، من ذلك. أن نضع أحدا ما، ليمضى فى جوف الأرض. بينما علينا مجاراة الحياة، وهى ماضية فى طريقها. كانت المرة الأخيرة، التى أسأل نفسى فيها:
- هل سأراها، مرة ثانية، أم لا؟
سرتُ، لا أعرف كيف تحملنى قدماى.. بعضى يحدث بعضى:
"لم تسمع أذناى كلماتك. سمعها فؤادى، تنادينى. إخترقت روحى، حبيبتى. كيف أنسى، وقد أقسمنا أن تكون لمستنا. أن يكون وجه كل منا، للآخر.. آخر عهد، بالحياة.. "
ليتنى أستطيع أن أحمل شيئا،.. آخر زفرة وشهقة، فى صدرى. شيئا، أحيا به. لا يهم، إن كان فى ساعة نهار مبكرة، أو متأخرة من ليل. فالزمن قد توقف، فى لحظة حزن، لا نهاية لها. تكاد روحى تفارقنى، مع كل تنهيدة أسى، تنبعث من صدرى، عند مغادرتى فناء المقبرة. كل ما بقى يوم بعيد، وقد اختزل حياتى. صوت رحيل، يتردد صداه، فى القلب، وقد فاضت دموع الروح. ما أعرفه يقينا، أن كل شئ، لم يعد غير ماض، تلاشى، مع لحظة وداع. تماما، كما أسر غمام الشتاء جمال السماء، فغابت صفحة الوجود، من عينى، هذا المغرب البعيد..
------------
بت هذه الليلة ساهرا، أواجه نفسى متفكرا، فى كل ما حدث، منذ تقابلنا أول مرة. بدأت أستعيد، كل ما حدث. كأن الموت أعاد لى ذاكرتى المفقودة، منذ عشرين عاما،.. كأن ما حدث، قد حدث الأمس فقط.. وكأنى لم يعد لدى فكرة، وحتى الآن، أنه قد مرّت عشرون سنة منذ رحلت، ولم نكمل الطريق.
كان علىّ أن أعترف فقط، أنى تغيرت. لم أعد كما أنا. أن أحاول إنتزاع أطراف الحقيقة. لم أكن أستطيع غير ذلك، مطلقا. أن أكتم ما أشعر به. لم تكن هناك طريقة، لأنكر ما فى قلبى، رغم ذهولى، باستحالة أن يجمعنا يوم ما معا. ليست لى. لست لها. سائر، لمصير غريب. هكذا أدركت، منذ أول وهلة، لحياة محكومة بقدر.. منذ ذلك الحين، وعلى تغير توقع، تظهر ذكرى، بموجة حزن أكبر من سابقتها، لم تكن قد انتهت.. ذكريات، تذكرنى بمَ مضى، إلى الأبد. أحاسيس ومشاعر، لن أعرفها مرة أخرى. وجوه، لم أعد أراها. وجوه، لن أراها. لن أرى شيئا، من ملامح. كما، لم أعرف نفسى.. تشغلنى أفكارى، أن ينتهى كل شئ، وكيف يصبح المستحيل، ممكنا معقولا.. 
كنت أقرأ مستعيدا، من الزمن، لحظات فراقهما..
كان اليوم قد اقترب من نهايته. وبقيا صامتين لفترة. لم يعرفا كيف يتحدثان.. أو ماذا يقولان..؟
ولم يطل الأمر كثيرا. ترددت. وانتظرت حتى اللحظات الأخيرة. فاجئته بقولها:
- لدى إحساس، أنى لن أراك مرة ثانية..
وصمت برهة، قبل أن تصعقه كلماتها..
- لما تقولين هذا. لا تقولى هذا.. غير معقول!
كانت الكلمات ترتجف، على لسانها، تأبى أن تخرج، من بين شفتيها:
- هذه اللحظات التى قضيناها معا...
سكتت، قبل أن تستطيع أن تكمل بصعوبة، بصوت مرتعش:
- ستظل معى، ما تبقى لى من عمر. سيبقى لى منها، كل شئ..
لم يكن إلا صمت، ونظرة حائرة غامضة. فى الوقت، الذى اشتد انفعاله مصدوما، وقد وعى ما تقول، ولم يدرك له سببا:
- مستحيل. مستحيل. كيف تقولين هذا وقد جمعنا القدر معا..
أجابت بصوت متهدج:
- هو نفسه الذى يفرقنا!
زادت نبرة صوته، كأنه يستيقظ من حلم:
- لا لا. مستحيل..
كانت تغالب عيناها، وهى تفلت يدها شيئا فشيئا، من يده،.. منهمرة دموعها:
- دعنى أرحل حبيبى. لا تنسانى..
احتد وقد اقترب منها، محاولا أن يمسك يدها مرة أخرى، ماسحا دموعها بأطراف أنامله:
- أخبرينى. ماذا يوجد. ماذا دفعك إلى قول هذا. أخبرينى..
صمتت، محاولة أن تخفى آلامها.. جاهدت، لدفع قدميها، لتمضى بها. بينما كان يضغط شفتيه، مستنزفا كل رجاء، ليعرف ما تخفيه..
تسمرت عيناه عليها، بينما كانت تبتعد، والشمس تميل، إلى المغيب.. ظللت أقرأ ما جاش فى أعماقه، هذه اللحظة.. لم أسيطر، على مشاعرى. أبكى، وهو يروى:
- آخر ما رأيت تلك النظرة الراحلة. رأيت فيها غروب الحياة. فهمت لماذا لم أستطع الكلام. لماذا لم تخبرنى. لم أفهم لماذا اختارنا القدر إذا كان الأمر يسير على هذا النحو الغريب. لكل منا. حياته. شأنه..
- لماذا التقينا؟
- لماذا نفترق؟
وددت لو تكلمت. لو أخبرتنى بكل شئ.
- لما لم تصارحنى؟
- أهذه هى الطريقة التى نلتقى بها مع أقدارنا. مواجهة، مع المجهول، ثم فراق..؟
وكلما قرأت، كان يراودنى إحساس غريب غامض، أن هذه لحظات لا تتكرر أبدا.. كنت أستعيد كل كلمة. كل ثانية. وقلبى ينبض حزنا..
أقرأ، وكأنى كنت معهما، وغروب الشمس، قد كتبت لحظاته:
- لم يكن هناك أقسى، من فراق محتوم..

------------------
شعرت بغموض يعترى كلامه. فى حيرة، لم تتوقف، مع صمته الطويل. لم يستطع، أن ينطق. كان يحاول أن يخفى عنى، أمرا، وقد أقلقه. لم تكن غير نظرات تائهة حائرة، هنا وهناك. كان، كمن يبحث عن شئ ما، قد ضاع. ساد السكوت بيننا قليلا، قبل أن أسأله من جديد، لعله ينطق، وقد بدت دهشتى:
- ماذا وراءك. قل لى. إنطق؟!
أجابنى بنظرة سارحة، عبر شرفة مكتبنا، لأفق بعيد، وبصوت خفيض، راجٍ:
- نديم. دعنى الآن..
لم أقدر فرض الحديث عليه، لأبعد من ذلك. ولم تكن طريقته، فى حديثنا. باءت محاولاتى كلها بالفشل، فى جعله يتكلم. ورغم ذلك، تركته لشأنه، وقد شغلنى حال، لم أعهده، منه. لم يكن هو رفيق عمرى، الذى لا تفارق وضاءة البسمة، وجهه الأسمر. ليست هذه تعليقاته الساخرة، التى تنطلق منه، مثل طلقات رصاص، تعلم أين هدفها.  أما زملاؤنا، فقد إعتادوا دعاباته. لم يكن ليترك حتى أخبارنا العلمية، التى تنشرها مجلتنا. كنا، نسميه رائد الفضاء الأعزب، الذى لا ينتمى، إلى عالمنا. أما هو فيتعلل، كلما سألته، وقد جاوز الخامسة والثلاثين:
- لم أجد رائدة فضاء بعد، لأتزوج. تركت لكم الأرض. لا زلت أبحث، فى السماء!
ولم أستطع طرد هذا الموقف الغامض، عن تفكيرى. مما حاول إخفاءه، بصمته، وشغلنى عليه. محاولا، أن يوارى عصبيته الزائدة، ورعشة يديه. قلت فى نفسى:
- ليس الحبّ. الأمر أكبر. ليست تلك نظرات محبّ حائرة. قلق وتوتر. ما المكروه الذى أصابه. ماذا ألّم بناجى ؟!
وانتهى يومنا دون نتيجة أو جدوى. حاولت الإتصال به هاتفيا مساءا، لكننى وجدت هاتفه مغلقا. تمتمت فى نفسى:
- سوف يقتل ناجى نفسه، بالصمت..
وكأننى أول مرة أنطق اسمه.. وزوجتى تنادينى..
- من تحدث يا نديم..؟!
 قلت لها، مستنكرا:
- ناجى.. ناجى زياد
وعدت أبتسم من جديد.. أداعبها:
- ناجٍ، من لم يتزوج!
لم تبتسم. ردّت بلهجة جامدة متوعدة، وقد أعطتنى ظهرها سائرة:
- نديم.. نديم!
قلت لها:
- خارج الآن. لا تنتظرينى. نامى..!
قالت:
- سوف أنتظرك..!
وأردفت:
- لن أغيب طويلا..
- لابد أنك فقدت عقلك. أيخرج أحد الليلة، فى هذا الطقس السيئ البارد..؟!
وخرجت، أهمس لنفسى، مغلقا الباب:
- هذا ليس وقت نوم أو راحة!
------------

ورغم المطر وبرودة الجو، خرجت، وقد عزمت على زيارته، قلقا عليه. كم أحببت هذا المنزل، فى ضاحيته الهادئة الوادعة، وكنت كثيرا ما أفد إليه. كم شهد أياما مضت، سكنت ذاكرتى، من طفولتنا، معا. بحديقته التى تحتل واجهته الخارجية، بسور حديد مشغول، مثبت على جدار متوسط الإرتفاع، من أربعة صفوف من الحجر الرمادى الداكن، كأنه جزء من بناء قديم. تتوسطه بوابة قديمة جميلة، من خشب البلوط، ذات صفيّ مربعات كبيرة، على جانبيها، لا زالت محتفظة بشكلها. وعلى جانبيها أشجار كثيفة الأوراق مستديمة الخضرة، مزهرة. تتخللها مجموعة نباتات عشبية شائكة، كسياج آخر طبيعى.
يسار المدخل، شجرة سفرجل لا أنسى منظرها، وقد نضجت، ونمت ثمارها الشتوية. بينما تبدو أزهارها المفردة كبيرة بيضاء، معرقة باللون البنفسجى. بجوار عريشة عتيقة، ذات أوتاد من جذوع شجرية، مسقوفة بأعواد خيرزان سميكة. 
وما زالت شجرة كمثرى معمّرة، زرعها جدّ ناجى، موجودة وخلابة. وقد تعدّى عمرها ستين عاما. تجاوزت أغصانها حافة المنزل المغطاة، بقرميد أحمر نبيتى. لا أنسى والده، وهو يقلم فروعها المتشابكة وأغصانها المتزاحمة، لترى الشمس. لم أنسَ عناقيد زهورها البيضاء الزاهية، وهى تكسوها، بمنظر مدهش، فى آخر الصيف. هنا، كنت أرى ثمارها الصفراء الخمرية، وهى ناضجة، فى الخريف.

وكان الجو ينذر بمطر أشد غزارة هذه الليلة، إذ كانت السماء قد إختفت صفحتها خلف غيوم رمادية داكنة، وغابت الشمس تقريبا، من أول النهار. دلفت بالسيارة، إلى طريق الكورنيش. قدتُ، وتداعى ذكرياتى، فى هذا البيت يدفئنى.
وأخذنى التأمل، فى حركة الأمواج العالية، تعصف بالشاطئ الممتد، أسفل الطريق، عن يمينى. تعلو بيضاء، والبحر هائج ثائر، يهدر، فى عتمة ليل الشتاء. كانت الرؤية غير واضحة، رغم إضاءة أعمدة الكهرباء واللوحات الإعلانية وكشافات سيارات قليلة مارقة، فى اتجاهى الطريق. كانت معظم المحال قد أغلقت أبوابها، مبكرا، لسوء الطقس.. بينما القليل منها كان مفتوحا، للساهرين.
لم يستغرقنى الطريق غير المزدحم، كذاكرتى، طويلا.. كان المطر قد إشتد، مستمرة زخاته. وصلت إلى منزله، فى الساعة الحادية عشرة. كانت ليلة الخميس. وخشيت ألا يكون موجودا، أو يكون مريضا. لم يداخلنى أسف لزيارته، دون أن أفكر، فى هذه الساعة المتأخرة. كان قلقى عليه، يلح علىّ لأفعل، منذ أن إنقضى وضح النهار، ولم أسمع منه خبرا.
كانت البوابة مغلقة فدفعتها دفعة قوية، فانزلقا مصراعاها. مضيت بخطوات سريعة إلى الباب الداخلى. دلفت بسرعة، من ممر الحديقة، المرصوف، بقطع رخامية سوداء غير مصقولة. حيث تناثر أعشاب مبتلة، متجاورة، على غير ترتيب، منحنية هنا وهناك، على جانبيه. سرت نحو الدرج الرخامى، لباب ذى قضبان حديدية متراصة، ونجوم معشقة من الزجاج الملون. تقريبا، آخر مرة، كنت هنا منذ بضعة أشهر قليلة، مضت..
كانت السماء ما تزال تهطل بشدة. رننت جرس الباب، وقد إحتميت من المطر، تحت مظلته نصف الدائرية. بينما أنار أسفلها، قنديل معلق، يحيط به قفص معدنى رقيق. إنعكست أضواؤه على الزجاج، وعلى جذع النخلة الوحيدة بالحديقة، يمين الباب.. 
لم أستطع أن أستطلع شيئا، من النافذة الأمامية المطلة، على داخل الردهة، إذ كانت الستائر مسدلة. وقفت بجانب النافذة. فعلت كل ما فى وسعى، لعلى أرى شيئا. ضغطت بوجهى، على زجاجها الذى كان باردا كالثلج. غيّم بخار أنفاسى سطحه، فلم أستطع رؤية شئ. لم يكن ثمة أثر، إلا بصيص ضوء خافت، من خلال الستائر. قرعت الباب، ولا مجيب. اختفى صوت طرقاتى، فى جلبة المطر.. 
ومرة أخرى، أعدت الطرق، منتظرا، رغم رداءة الطقس، إذ كانت الليلة تزداد ظلمة وبردا.  ذهبت طرقاتى، على النافذة، سدى.. لم يكن هناك شئ ليسمع، غير صوت تساقط المطر، الذى كان لا زال منهمرا غزيرا، بينما كان الجواب الوحيد الذى تلقيته، الصمت. لا أعرف، ما إذا كان موجودا، أم لا.. حتى ظننت أننى لو ظللت طوال الليل أطرق الباب الموصد، إلى الصباح، ما فتح لى أحد. لم يكن بوسعى، أن أنتظر أبعد من ذلك. كان علىّ الدخول للمنزل، على أية حال..




كانت الليلة قارسة البرد. ألقيت على كتفى، روبا منزليا صوفيا، بوبر خشن. جلست أرضا قبالة المدفأة، معتمدا بجنبى، على وسادة كبيرة، على بساط يدوى وثير. كانت النار، مستعرة مشتعلة، بينما ألسنة لهبها تتمايل. يشع وهجها حرارة ودفئا. وقد اقتربت من مواجهتها، ليدبّ الدفء، فى أوصالى. وازدادت شدة برودة الجو، خلال الساعة الأخيرة. ورحت من حين إلى آخر، أضع مزيدا، من الوقود، لترتفع درجة حرارة الغرفة. ملقيا بقطع خشب وأغصان جافة، مكومة جانب المدفأة، كلما شعرت أن النار، ستخبو وتهمد. وقد فاحت رائحة عطرية طيبة، منبعثة منها، فأدركت أنها من أغصان وفروع شجرة كمثرى، تم تقليمها..

وبشكل غريب، وتحت إلحاح خفى انهمكت فى قراءة مذكراته. وكنت قد بدأت أقرأ ما كتبه، عن هذه الليلة، وكأنها بالأمس فقط.. ليلة الرحيل البعيدة.. وأنا على إدراك تام، أننى لن أعرف شيئا، ولن يكون لفهمى تتمة، إلا وأنا أسبر غور، ما فى ركن ما، من الذاكرة..  
وتأخر بى الوقت. حاولت أن أنام الساعة المتبقية، لبزوغ نور الصباح، إلا أن النوم جافانى. حاصرتنى الهواجس. ولم أتوقف حتى أنهيت قراءة كثيرا، من تلك الأوراق. كانت نهاية ليلة ناجحة حقا،.. غرقت، فى سيل أفكار هاجمت رأسى. صرت، فريسة لظنون وشكوك. تتنازعنى الأوهام ، وقد حاقت بى.. 
- هذا مستحيل. مستحيل.. أيمكن أن يحدث مثل هذا؟
كنت أشعر به، أراها وأراها، مع كل كلمة من كلماته:
- ( لم أستطع إلا أن أسأل الطبيب، بمجرد وصولى. علمت أنه كان يشرف على علاجها، طيلة الفترة الأخيرة. كان يعنى بأمرها، منذ ما يقرب من العام..
سألته فى لهفة:
- أنبأنى بما يحدث..
بلهجة وتأثر شديد، أجابنى:
- للأسف. إكتشفنا مرضها، فى مرحلة متأخرة. فعلنا كل ما نستطيع، من أجلها، لعلنا نوقف آلامها. المرض كان أقوى، من كل محاولاتنا اليائسة..
أضاف، وكأنه رأى فى عينى دهشتى، مما إعتراها:
- هزلت كثيرا فى الفترة الأخيرة. حالتها غير مستقرة. بين لحظة وأخرى، يمكن أن..
وصمت برهات دون أن يكمل، وأنا أحملق تكاد تنهمر دموعى، حتى نطق:
- فى البداية بدأت تهاجمها آلام مبرحة، دون أن نفهم سببا، لذلك. لم تدع شيئا من ألم، يبدو عليها. وربما، هذا هو سبب عدم إكتشاف المرض، مبكرا..
ظللت مذهولا، وأنا اسمع ما يخبرنى به. كنت على يقين، أن الحزن الدفين، لا المرض، هو ما أودى بها، إلى هذه الآلام الفظيعة.. واستمر:
- قد لا يكون هذا واضحا الآن، فى هذه المرحلة. فقد أصاب جسدها كله الاضطراب والتداعى.. لا تستطيع حركة ولا مغادرة فراش. بعدما أصرت، على نقلها من المستشفى، إلى المنزل. واستمر تأثره الشديد، وهو يكمل، بصوت خفيض:
عرفت نهاية الأمر، بشكل حاسم، أنه لم يكن هناك فرصة لشئ. كانت تشعر، أن الموت بات قريبا جدا..
سكت، ولم يستطع أن يكمل عبارته. وهو يحملق خلفى، فى وجوه حاضرين، لا أعرف منهم أحدا. وقد تجنب النظر، فى عينى. إنما أكملت ملامح وجهه، وصوته المتهدج المختنق، كلماته. وبشرود شديد باد، فى عينيه. يحملق هنا وهناك، محاولا أن يمتلك نفسه، ليخبرنى:
- هكذا عاشت آخر أيامها، عذاب على هذا النحو..
من لهجته وأسلوبه، كان كمن يعرفنى تماما، حتى تأكد لى الأمر، بعدما مال علىّ، هامسا:
- طلبت منى أن أستدعيك، إذا قرب أجلها.. أرجوك لا تسألنى،  أكثر من ذلك، الآن، ..
وقف صامتا واجما، وأنا أكاد أسمع كلماته، وما يخبرنى به. كانت الدموع تخنقنى. كنت أقرأ ما سجله، تحيرنى الأسئلة. لم أستطع، عن أن أتوقف، عن التفكير:
- ماذا أخبرت هذا الطبيب النبيل..؟
- كيف عرف اسمه وعنوانه وأرسل له، ليحضر آخر لحظات حياتها..؟)..

---------
كنت أواجه ما أقرأ، وأشعر به، بين دهشة ومقاومة واستسلام، لأحداث أليمة. ظلال ثقيلة لحياة، كانت تتهاوى، أمامى. كنت أريد أن أفهم، كل شئ لأتخلص، من أوهامى. أحاول أن أجيب عما إنتابنى، من حيرة.. 
- لماذا كل هذا الألم..؟
الأن علمت لماذا أخفت عنه، ما ألم بها، من مرض. عاشت حياة قصيرة، لحق بها أذى كبير. جاهدت آلام جسدية ونفسية. ماتت مثل فراشة. سنوات بائسة، مع الحزن والألم، منذ أن إفترقا. أنبل عمل قامت به فى حياتها، أنها تركت له روحها تؤانسه،.. لا أعرف، أم ليتعذب بها..؟
فى الحالتين، لم يعد يمتلك من نفسه، شيئا. لم يبق هناك سوى أنقاض روحه، وظلال ماض. وجدت نفسى، أكرر من عباراته:
- أأبحث عن شئ أفقده، من جديد، وقد فقدتك إلى الأبد. لن أنساك، أبدا..
لم أكن أحلم، بأفضل من ذلك. أن أظل سجينا، لقصة حب مستحيل، أقرأها. يقتلنى، الألم على بطليها. يموتان شيئا فشيئا، فى قاع أحزان فراق كان محتوما. فى اللحظة الأخيرة، كنت مضطرا، لإقصاء هذه الفكرة، عن ذهنى. لم أستطع أن أصدق، أن يكون هناك مثل هذا الحب العظيم. ولا ينبغى التفكير إلا فى هذا، متسائلا:
- هل هذا ممكن حقا؟! 
نمت طاويا أوراقه، جانبى.. وفى صباح اليوم التالى، وبمجرد انتهت حالة الجو السيئة، وكنت أظنها، لن تتغير عن قريب. كان المطر قد انقطع، تماما. صفت السماء، فبدت زرقاء بديعة، لا أثر فيها، لغيوم ليلة أمس الممطرة. كأنها لم تمطر قط. سحبت ستائر الغرفة، وفتحت نوافذها ليتغير الهواء. فى الواقع، كان كل شئ يسير، على ما يرام. وقد ظهر من نافذة الشرفة البحر، بعيدا، فى منظر خلاب، مع السماء. وقد فتحت رئتى مستنشقا، بعمق، هواءا نقيا منعشا، مما زاد، من هدوء نفسى وسكينتها، بعد هذه الليلة العاصفة المطيرة..