سرماديا

سرماديا

مجموعة بين الحلم واليقظة * قصص قصيرة *


مجموعة 
(بين الحلم واليقظة) 
ثلاثون قصة قصيرة
------- خالد العرفى
1 - بلا ذاكرة  2 - البندول
3 - نظرة شاردة  4 -  قنديل  5 - لست بيولوجيا
6 - التائهون 7 - أليس كذلك  8 - موعد بلا ساعة 
9 - فى منتصف كتاب
(1 -  30) تباعا.. تنشر على غير ترتيب

----------------------------------------


لست "بيولوجيا" **


---- خالد العرفى


(1) من نافذة كبيرة تطلّ، من ناحية الغرفة الشمالية، على حديقة، أمامى مباشرة، ورغم صيفية الطقس، كانت فى الأفق، غلالة كبيرة من سحب رمادية، ذات حوافّ بيضاء.. تتسلل من بينها، أشعة الشمس، فى منظر خلاب.. بضعة رؤوس أشجار كافور وسنديان عتيقة، ومجموعة أشجار موالح، بجوار سور خارجى، لفيلا قديمة، ينتهى جانبها الأيمن، بمبنى مرآب قديم. ترقد به كومة سيارة، أكلها الصدأ والتراب، لم تستخدم، من سنوات طويلة.. قمت لأطل برأسى، على الحديقة، التى إختفت ممراتها الحجرية الدائرية، تحت بواقى أوراق وأغصان وأعواد نجيل وأعشاب، جافة. لم يرفعها أحد، منذ فترة.
كانت درجة الحرارة قد تجاوزت الأربعين، فى مكتب بالطابق الثانى، حيث لا هواءا، غير هواء ساخن حار، من مروحة سقف متهالكة، بصوت ينازع رمق الحياة الأخير..  بمكتب يجمع أربع محررين، بحسنة وحيدة.. تلك النافذة، التى تُطل على الحديقة، والمرآب المنزوى، بجوار العامود الأيمن، لبوابة حديدية. 
- ماذا يمكن أن يكون مألوفا، وأنا أفكر فى نهايات قصص بائسة وموت، فى الفضاء؟!
- ماذا يمكن أن يكون أكثر، من ستارة أمواج هبو ساخن، قادم عبر نافذة حجرية، مع حرّ، قد غزانا. لم يعتد مثله، من قبل.. استولى على الحياة. وعلى الأحياء؟!
كاد كل شئ يشتعل. يتوهج. جفت الكلمات. إحترقت العبارات، مع إرتفاع كل درجة، وصيف ينفث حرارة أحشائه، فى الوجوه. تبلل الورق، بالعرق.. بالأنامل، إلتصق.. بحثت أوراق الشجر، عن نسمة هواء، تحييها.. الطريقة الوحيدة، أن تكون ذرّة جافة، في صلاة صامتة، تحت وطأة الحرّ.. أن أجلس إلى مكتب، ذى أدراج متتالية رأسيا. أعبث، من حين إلى آخر، بمقابض نحاسية مصبوبة. وقدماى مفرودتان أسفل قرص غليظ، بأرجل مخروطية سميكة. تغطيه أكداس من الأوراق والملفات. تحيط بأرفف كبيرة، لكتب، ترتكز على جدران الغرفة، وتملأ الأركان. 
إسترخيت، في مقعد خشبى، ذى لون بنى داكن، بظهر عريض عال، ومسندين  ناعمين.. أتسائل، ونفسى، وسراب الصيف الخادع:
- ما هذه الخيالات.. ما تلك الظلال؟!
- ماذا يحدث،.. ما هذه الحرارة.. ليتنى كنت، فى كوكب آخر؟!
منعنى صوت المروحة، أن أفكر  بهدوء، أو حتى بصوت عال، بغرفة مكتب، مجلد سقفها وجدرانها، بالخشب.. معدّة لتخزين البشر. لا.. لعمل محررين، بمجلة علمية.. بين ألواح، بملمس طبيعى وأرضية باركيه. هذا، ما لم أكن أعرفه أبدا، حتى هذه اللحظة..
- كيف تنشر كل المجلات والصحف أخبار إكتشافات علمية جديدة، فى عالم الضفادع، ولا ننشر خبرا واحدا ؟!
- لا بد أن يكون فى عددنا، بسبتمبر شئ ما، عنها..
حقيقة الأمر، لم أكن قد قرأت شيئا قبل ذلك، عن هذا الموضوع الحيوى. حاولت إخفاء جهلى، أمام رئيس تحرير غاضب، وهو يلقى باللائمة علىّ،.. إحمّر وجهه، حانقا.. يواجهنى، بنبرة حادة:
- هذا عملك هذا الأسبوع.. إنجزه..
مللتُ إقناعه، أنى مختص بشئون الفلك وأخبار الكواكب الجديدة!
أجبته بحدّة مكبوتة:
- لست بيولوجيا.. ما لى، والضفادع !
ببساطة شديدة ردّ، مشيرا إلى بإبهامه، بإصرار عكسته عيناه، من خلف زجاج نظارته، قائلا :
- الأمر منتهٍ. المحرر البيولوجى بأجازة مصيف. لن يعود، قبل عشرة أيام.. عليك بالأمر..!
فى هذا الطقس الحار، كان جحيما محاولة جمع مادة، عن عالم مخلوقات، لا أعرف عنه، غير اسمه.. لا رتبة. لا فصيلة. لا نوع. ولا مثل مصطلحات، إنفرد بها علماء الأحياء، دون غيرهم. ما كنت على دراية عميقة، بمصطلح واحد منها. وربما منذ عقود، لا تبلغ ربع عمر مبنى، نعمل به، وتقع به مجلتى..  تلك الفيلا القديمة ..
نهاية الأمر، لا مفرّ. كان علىّ إنهاء المقال، بشكل أو بأخر، للنجاة، من مأزقى. علىّ أن أحب الضفادع، هذا الأسبوع، لأكتب عنها. حاولت إقناع نفسي، أن أكتب. أن أحبها أكثر.. أن هذه فرصة كبيرة، ومصدر إلهاء كبير، عن حرارة الجو، ورطوبته العالية. ليست صدمة، أو إحباطا. أو شيئا، من هذا القبيل. 
حسنا، ليست مشكلة، أن أكون بصحبة الضفادع. أحبها سبعة أيام، قبل أن يحلّ موعد الإصدار القادم، لعددنا الشهرى الجديد. مفارقة غريبة.. يوم، يوافق نهاية عامى الرابع، كمحرر مختص، بالفلك وأخباره. كان ما ينقصنى، فى هذا الطقس الصيفى القائظ، أن أكتب عن الضفادع،.. إحتفالا، ببداية عام خامس، بالمجلة!
*****
(2) لم أعرف من أين أبدأ.. سرعان ما وضعت ورقة بخطوات وجدول إنتهائى، من المقال.. كان لا بد من وضع موعدا محددا، لإنجازه. عملت أكثر من سبع ساعات متصلة. وقد نويت تعديل صفحات، قمت بجمعها وترتيبها حسب أهميتها. تركت الحاسب. أخذت موسوعتين وبقية أغراضى، لأكمل عملى، بالمنزل. حاملا قلة معرفتى وأوراقى.. متابعا مسيرى، إلى عالم ضفادع مجهول. لكننى كنت غير متأكد، مع هذا القيظ والمعاناة،  من نهاية اليوم، وبقية إهتماماتى وشئونى.. تركت للظروف، وما يتاح لى من وقت، أن أقوم بكتاباتى الأخرى.
كان علىّ أولا، الاتصال أو مقابلة أحد المتخصصين، من علماء الأحياء، فى الجامعة. صباح اليوم التالى، إلتقيت بدكتور صلاح فرج الله، أستاذ علم الحيوان،  بعد تحديد موعد معه. قابلنى بإستقبال حافل، جعلنى أتفائل أنى سوف أخرج، من مكتبه بكلية العلوم وقد إستحوزت منه، على كل ما أريد.. إجابات عن أسئلة، قمت بتحضيرها، مسبقا.. 
إستقبلنى عند الباب،.. قدّمت له نفسى:
- ناجى زياد .. محرر علمى.. مجلة شئون علمية
مادّا يده مصافحا، كأنه ينتظرنى منذ سنوات:
- أخيرا، هناك من جاء يسألنى عن الضفادع!!.. أهلا أستاذ ناجى تفضل..
سألته مستثارا بإستقباله الحار، لا أعرف، أم لأهمية الضفادع:
- ما هى آخر إكتشافات حديثة، يتحدث عنها المجتمع العلمى العالمى؟!
- كيف تأخرنا، عن نشر أخبار، هامة مثل هذه، تزيل أميّتنا العلمية، عن الضفادع؟!
فوجئت به هو، من يدير دّفة الحديث، لكن عن الضفادع المصرية وتربيتها. كان قد غرق، فى مقعده الجلدى الكبير، بجسمه الضخم.. لم يترك لى فرصة واحدة، فى مقاطعتته. ولم أستطع، من نبرة صوته العالية، كأنه فى محاضرة.. 
كتمتُ غيظى، وقد إستمر فى إخبارى:
- كيف تُشكل الضفادع مشروعا، مربحا للشباب وهو يشير إلىّ .. ولم يترك لى فرصة أو أخرى، للسؤال مرة ثانية، شارحا:
- مشروع تربية الضفادع مربح جدا. جيد فعلا. مشروع مستمر وبدون توازن بيئى. إنتاجا وتصديرا. حية أو مذبوحة. والتعبئة تحت إشراف بيطرى كامل، لضمان الجودة. أرباحا طائلة هائلة. 
 سألته، لأخفف من حدة غيظى، ربما نعود، لموضوعنا :
- كم يلزم للمزرعة؟ وهل هناك علاقة لهذا بأمر الاكتشافات الحديثة؟!
أجابنى سريعا:
لا تحتاج، لرأس مال كبير. ليس له أى أدوات. مجرد، مبان مزرعة مفتوحة، فحسب، لإنتاج ضفادع التصدير..
وحاولت أن أجاريه، حديثا، حتى لا أياس ربما يعطينى إجابة عما أريد. لكنه، إستمر على نفس الوتيرة، كمن يسُّمع شيئا ما، يحفظه.. اضطررت، وأنا أكاد أنفجر، إلى تصّنع الإستماع، لأهمية حديثه.. متصّنعا بهزّ رأسى.. إلى ما يخبرنى به، وقد رجع بظهره إلى الوراء، قائلا :
- حقا الشباب، فى حاجة إلى مثل هذا المشروع الفريد..

ودون أن أسأله  أجابنى، عن الأرباح وغذاء الضفادع مبينا، ومردفا بإسهاب أكثر:
- العائد كبير جدا مقارنا بالتكاليف. تربية الضفادع غير مكلفة، لأنها تتغذى على حشرات الماء وديدان الأرض والطحالب والحشائش، بشكل رئيسى. يصل سعر الطن، إلى حوالى خمسة وعشرين ألفا من الجنيهات شتاءا، جديرة بأن تدفئك.. وثمانية عشر ألفا، صيفا، تزيل عنك هجيره..
حاولت مبادلته الحديث، محرجا.. لكن بإقتضاب شديد، مجبرا، لعلى، أقتنص إجابة ما.. وقد ناولنى من ثلاجة صغيرة بجانبه، مشروبا مثلجا.. وعلى مضض، مرغما سألته:
- من فضلك اشرح لى..

وبصلابة رد، ولم يترك لى فرصة توضيح، ماذا أريد  بينما كنت أجول بناظرىّ، بأركان المكتب، مستجمعا تركيزى، الذى تشتت وهو يشرح أكثر: 
- تربية الضفادع الخضراء سهلة للغاية. يحصل عليها، من الفلاحين. يقومون باصطيادها، بأوقات متأخرة ليلا. عليك شراء خمسمائة ضفدعة يافعة، مرة واحدة. كاملة النمو. سوف تتكاثر، بعد ذلك. والأوزان تتضاعف، سنويا. ستضطر إلى التوسعة. أحواض أكثر. ومساحات أكبر، سنة بعد أخرى.

وأضاف، مرة أخرى، وبإثارة شديدة، وهو يعدل من جلسته، فى مقعده، وبصعوبة:
- لا غذاء. ولا دواء. فهى تلتقط الحشرات. فقط مساحة مياه نظيفة، تضمن استمرار حياتها وحصولها على ما يكفى، من حشرات. ذباب. نمل. جراد. عناكب. عقارب. يرقات. وكذلك الديدان بأنواعها..
ورغم أنى شعرت أنه إنحشر، فى مقعده الوثير، الذى هبط بوزنه، فقد كان مهتما جدا بمَ يقول:
- عليك حرث أرض الحشائش. تقليمها، على فترات، للإحتفاظ بارتفاع مناسب، يمكنك من إصطيادها. موسم التكاثر، فى أشهر أبريل. مايو. ويونيو، من كل عام..
اضطررت، إلى سماع كيف اكتسبت الضفادع المصرية شهرة واسعة، من خلال حسائها ووجباتها، خاصة أرجلها الخلفية، بالمطاعم الفرنسية والإيطالية والسويسرية.. فى الوقت الذى كنت فيه مشغولا، بالتفكير كيف سيقوم من مقعده الذى أطبق عليه

أخبرنى باسما، وكادت ابتسامته، تعلو شاربه الأبيض المقوس:
- حساء الضفادع المصرية الطبق الرئيسى الأشهى، على موائد الفنادق والمطاعم الكبرى.. يطلقون عليه:
- " رنا ريدو نيدا "..
استولى على ذهنى شاربه الكبير، وقد وقف على جانبيه، ضفدعان أخضران، ينظران إلىّ.. أفقت من خيالى، وهو يطلب مساعدته، فى القيام، من مقعده.. 
أصّر وهو يودعنى، بعد أن ساعدته، فى النهوض، أن يمنحنى كتابا، من مؤلفاته، بعنوان:
(رنا ريدو نيدا.. الضفادع المصرية الخضراء إستثمارك الأمثل) كانت قد مرّت ساعتان، دون جدوى.. فقدت أملى، فى معلومة أو إجابة واحدة عمّا جئت، من أجله.. ذهبت.. وفى طريق عودتى، والكتاب تحت إبطى.. طاردتنى مخيلتى، من جديد، جموع ضفادع تعدو وتقفز فى الطريق، على الأشجار.. بين البنايات.. على السيارات.. وقد علا نقيقها أصوات أبواقها.. تندّرت:
- حقا، ضفادعنا وصلت، إلى العالمية.. تتربع، على عرش أرقى وأشهر المطاعم الفرنسية والأوروبية، فى وجباتها الرئيسية   لكننى نسيت أن أسأله، إن كان قد تناول شيئا أو تذوق، حساء الضفادع الخضراء.. أم لا؟
*****
(3) عُدت إلى المنزل، حاملا ثروة معلومات قيّمة عن ضفادع، تنتظرها مطاعم العالم.. ولم أكن أنتظرها.. وهيّأت نفسى لإعداد المقال.. عدت لمراجعة وتنقيح ما كنت قد كتبته بالأمس، لأوسع مداركى قليلا. جلست إلى مكتبى، وأوراقى. قرأت بعض فقرات الإفتتاحية:
- مازال ممكنا، قيام علماء الزواحف والبرمائيات باكتشافات غير متوقعة. فصائل فقريات جديدة، بأماكن، نادرا ما تكون ذات تنوع بيولوجى. كل عام، يتم إكتشاف أنواع غريبة، من الضفادع. 
وقرأت فقرة أخرى، مما كتبت بعدما عدّلتها:
- الضفادع حيوانات فقارية برمائية عديمة الذيل. تعيش في وسط مائى أو شبه مائى. برك. بحيرات. مستنقعات. وجداول.. تضع بيوضها فيها. تنتشر على نطاق واسع. موجودة بمعظم القارات. أنواع  كثيرة. أشكال عجيبة. ألوان غريبة. حيوانات ليلية، غالبا ما تخرج عند الغروب، بحثا عن طعامها. وفي النهار، تختبئ في جحورها. 
وإستوقفنى كيف تدخل، فى الشتاء، ببيات شتوى.. نائمة بلا حراك. تستهلك أقل طاقة، لتبقى حية، لأطول مدة، بدون طعام. تظهر وترى بكثرة، بعد سقوط المطر. وفى موسم التزاوج، تخرج الذكور ليلا، فيسمع نقيقها، منادية الإناث.
وأكملت قراءتى، متنقلا، فى رحلة علمية ممنهجة، بين صورها الملونة، بالموسوعات، والتعليق العلمى، عليها هنا وهناك:
- تتغذى الضفادع في بداية حياتها، على الطحالب. يمكن أن تكون مفترسة. تتغذى على صغار الأسماك. على أقرانها. على المفصليات. الديدان. الحلزونات. على صغار الطيور. السحالى والفئران. أما الحشرات، فغذاء مهم لها. يساعدها لسان طويل دبق لزج، على إلتقاطها، بحركة سريعة..
ولم تفارق ذهنى، مقابلة الدكتور صلاح وأحداثها.. وسرعان ما وجدت بغيتى، فى موسوعة طبيعية، أشارت مؤخرا، إلى عدة إكتشافات حديثة عنها، فى ثلاث مناطق. جزيرة أندونيسية، ونيويورك، والإكوادور. ولم أكن قد إنتهيت، من فقرات مقالى، فأعدت قراءة بدايته. وأكملت ما بدأته.. ومضيت ساخرا، من نفسى، أعجب، من قدر غريب، جمعنى والضفادع، فى صيف قائظ ملتهب:
- ها أنا، ومقال عن الضفادع، وماذا تقتات.
- ها أنا، وضفادع سامة، جراء أكلها النمل ومفصليات سامة. 
- ها أنا، أحدّق فى غدد تفرز سموما، تحدث نوبات. هلوسات. سمية فى الأعصاب. ضيق بخلايا دم جسم فريستها. سموم مفيدة لسهام الصيد، وصناعة الأدوية، والمواد المخدرة !
- ها أنا، وضفدع سهم.. يحتوى جلده على مادة قلوية سامة. جلد مسموم بالكامل. بمجرد  مسّه يتوقف نبض القلب، بأقل من دقيقة. ينتج كل يوم، ما يكفى للقضاء، على عشرة أشخاص مجتمعين. 
ظللت هكذا، على هذه الحالة، غارقا، فى صدفة، فى عالم ضفادع مثير. أخذنى القلق، أن أصبح واحدا منها...
وفى المساء، ورغم سخونة الطقس، حيت لم تهبط درجة الحرارة كثيرا عن نهار اليوم. ورغم ذلك، كان لابد أن أتقدم أكثر.. وجدت ضرورة تناول بعض إكتشافات أنواع الضفادع الغريبة، حول العالم.. وقد بدأت ملامح مقالى تظهر، وتتضح، شيئا فشيئا..
تركت المكتب.. كافئت نفسى بتناول عشاءا خفيفا، عبارة عن حساء خضروات مسلوقة. سرعان ما تركته، بعدما تذكرت حساء الضفادع الخضراء. لم أستسيغه، بعدما قرأته، وأخذ يهاجم مخيلتى، ضفادع مذبوحة. أرجل مقطّعة. ألسنة، تلتصق بها حشرات وطحالب ومفصليات.. 
وعدت، مرة ثانية، لإنتقاء بعض أخبار حديثة. رتبتتها تاريخيا. صنفتها نوعيا وجغرافيا. إستوقفتنى مسميات وأنواع.  رأيت، فى أشكالها خيال كتّاب الخيال العلمى، عن كائنات الفضاء. عيون جانبية جاحظة. وجوه غريبة.. أمر ما، ذكّرنى بالفضاء، وأخبار الفلك..
وإحتسيت فنجانا من القهوة ساخنا. بدأت أركز معلوماتى. خططت، بقلم برتقالى فوسفورى، تحت بعض السطور. غير أن هاتفى، لم يسكت عن الرنين. صرفت سمعى عنه، دون النظر لشاشته.. كان علىّ أن أنهى ما بدأت جمعه، من معلومات. ودخنّت بضعة سيجارات. وتعبأّ جوّ الغرفة بالدخان، رغم  دوران مروحتها. كانت سحبه، تدور معها، رغم فتحى للنافذة، على مصراعيها.  
وتوقفت عند ضفدع ذهبى. يتميز ببشرة لامعة مشرقة، بلون برتقالى وأصفر.. زاهية. نوع فريد. له حويصلتان صوتيتان زرقاوان، على الجانبين. وأسنان قوية جدا. ومنه، إنتقلت إلى أكتشاف حديث، فى ساحل المحيط الأطلنطى بعد شكوك، تأكدت مؤخرا.. الضفدع الفهد !
ولم أشعر بمرور الوقت.. قبل، أن يأسرنى الضفدع الطحلب، الذى يشبه بشكله الخارجى الطحالب الخضراء والبنية، التى تنمو على الصخور. شكلً رائع، من أشكال التمويه الماهرة، والتخفى المثير. 
ومن ضفدع الحليب الأزرق بالغابات المطيرة فى البرازيل، إلى الضفدع المهرج، الذى يعيش في أمريكا الوسطى والجنوبية. للأسف نوع مهدد، بالإنقراض. ربما لن نراه مرة ثانية، مستقبلا. 

*****
(4) وعاد الهاتف، للرنين، من جديد.. فجعلته صامتا. وقد أخذت خطوة أعمق، لإكتشافات حديثة، فى عالم الضفادع. على سبيل المثال، زوجان أمريكيان. إكتشفا، بغابة رطبة، في الإكوادور، نوعا من ضفادع صغيرة، قادرة على التغير والتحول. طولها، ثلاث وعشرين ميليمترا. ظهورها، مغطاة بالشوك. وقفت، عند أول دليل جينى، على وجود فصيلة أخرى غامضة. ظلت غير معروفة لفترة طويلة. يصعب تمييزها. لها صوت مميز. تحيا، فى نيويورك المنخفضة الرطبة. أحد أزحم مناطق العالم.
وأكثر ما أدهشنى حينما وصلت، إلى ضفادع كورورو المشوهة، بجزيرة فيرناندو دى نورونها البرازيلية، التى تعج بها، إذ اجتاحتها منذ عقود. أصابها العمى والتشوه، فتغير أسلوب حياتها، تماما. تقريبا، أصبح نصفها مصابا بتشوهات، فى  الأفواه والعيون والأطراف. غير سوية الشكل.. ذات طبيعة جسدية مختلفة. وبعضها، له فكّ أو أنف أو فم غير طبيعى، بالمرة. تأكل أى حشرة، تسير فوقها. لا تختار فريستها!
ووجدت تعليق العلماء:
- ليس معروفا سبب تشوهها أو سبب إصابتها بالعمى؟!
مضيفين:
- لا يعرف أحد متى أو كيف وصلت، إلى الجزيرة؟!
الغريب، أننى وجدت إشارة مثيرة، بأحد الموسوعات.. إذ يُروى أن كاهنا أو راهبا نقل معه بعض الضفادع، من البرازيل إلى الجزيرة منذ حوالى مئة عام، لمكافحة حشرات، تتلف مزروعاته. ويتساءل المختصون، عن سبب تشوه الضفادع، بهذا الشكل؟!
ربما كان السبب بكتيريا. طفيليات. فيروسات. ما زال، لم يُعرف إجابة هذا السؤال بعد ! 
لكن، من المؤكد أن العوامل ذاتها، يمكن إمتداد أثرها، مستقبلا على كائنات أخرى فى الجزيرة، بحيث يعتبر ما جرى، للضفادع بمثابة إنذار مبكر، فينتشر الضرر والتشوه والعمى..


*****

(5) كتبت ومضيت قدما، فى المقال، الذى بدأت سماته وأفكاره تنجلى.. لكن، لم تمر دقائق، حتى رنَّ جرس الهاتف مرة أخرى. أضاءت شاشته، فأغلقته. وقد أوشكت أن ألخصّ معلومات مثيرة، عن نوع آخر جديد، تم إكتشافه حديثا.. وأنا أحتسى فنجانى الثالث من القهوة..
- فصيلة نادرة من نوعها، على وجه الأرض. ضفادع أسيوية برمائية صغيرة الحجم. ذات أنياب، تعيش في جداول أنهار وبرك ضحلة صغيرة، بغابات مطيرة، لجزيرة أندونيسية. المثير، هو تشابه نمط تكاثرها الحيوى، مع تكاثرنا البشرى. تلد صغارها مباشرة، بخلاف ما هو معروف، أنها تبيض. لا تتبع طورها المعهود، فى دورة الحياة. تفعل ما بوسعها، لئلا تقع فريسة، لأنواع أكبر، من ثعابين وطيور. تتغذى عليها.  تختلف نهائيا، عن أكثر من ستة آلاف وأربعمائة نوعا، من الضفادع، في العالم.
واستزدت قليلا، متذكرا مقابلة دكتور صلاح فرج الله، وتزايد أعداد الضفادع، فى مزرعة، غير مكلفة:
- معظم الضفادع تبيض، لكن عثر على نوع جديد، يعيش فى جزيرة سولاويزى بإندونيسيا.. يلد. إكتشاف جديد غريب تماما. غير متوقع، إطلاقا. وضع تناسلى جديد وسلوك فريد، من نوعه بدلا من إخصاب خارجى. ولا تزال كيفية  إخصاب الذكور البويضات داخل الأنثى لغزا، لعدم وجود أعضاء تناسلية تقليدية.  شئ نادر. بدأت أتخيل مزرعة ضفادع، يمكن أن أنشئها
قارنت هذه معلومات الأنواع الثلاث، بضفادع المطر الصحراوية، التى تتواجد، في المناطق الجافة والشواطئ الرملية. عديمة الذيل. فكتبت باللون الأحمر:
- أنواع  كثيرة. أشكال وألوان غريبة. تبيض كل سنة. وتقوم بالبيات الشتوى لتظهر مرة أخرى، عند هطول المطر، من مخابئ، تحت التراب، بقيت فيها، لأشهر عديدة. جائعة، طوال هذه المدة، باحثة عن طعام، بمجرد خروجها. وعندما يحل الليل، تنادى الذكور الإناث، ملبية نداء الطبيعة، ليبدأ موسم التزاوج. تدفن الأنثى نفسها، مرة أخرى، دافنة معها الذكر، ليقوم بمهمته البيولوجية. يخصّب بيوضها، تحت الأرض. بانتظار هطول المطر، من جديد. وسط رغوة، تحمي نفسها وبيوضها، من لهيب الشمس وحرارتها اللافحة. ثم تخرج فى الربيع، عائدة للحياة.. بعد فترة  حرجة جدا..
وأكملت باللون الأسود:
- تلك التى لم تقم بالبيات، حتى شهر يناير تموت أو تعيش عقيمة. ليس هناك فائدة من بيضها، فهو لا ينتج ولا يخصب. فى حفرة تحفرها بأرجلها الخلفية، هابطة، بالأرض بمؤخرتها، لتختفى، مختبئة، تحت التراب .
وإنتهيت بمقارنة ضفادع زجاجية، تظهر للعين المجردة، فى الماء، فتبدو خضراء شبه شفافة. مع ضفادع مقرنة  ذات فم واسع. نوع شره جدا، تبتلع أى شئ، بقرب أفواهها. حشرات. قوارض. سحالى. وضفادع أخرى، حتى، وإن تسبّبّ ذلك، فى خنقها.
شعرت بقليل من الرضا، بعد أنى قطعت شوطا كبيرا، فى مقالتى، عن الضفادع. ونويت تنقيحها، صباح الغد. ولم أستطع مقاومة إرهاقى، إذ كان منتصف الليل قد حلّ، وشربت كثيرا من القهوة، وانتهت علبة دخانى.. وبدأ الحرّ يتزايد فجأة، وبشدة، رغم الليل. على غير عادة مثل هذا الوقت. حرارة لم يعتد مثلها، من قبل.. فإنتقلت إلى الفراش.. فتحت الهاتف، قبل خلودى للنوم، لأرى من المتصل. وجدت الرسالة التالية:
- ناجى.. قطعت أجازتى. أبلغت رئيس التحرير. أعود غدا لكتابة مقال الضفادع، ليلحق العدد الجديد!!..
ورغم هذه المفاجأة، لم أشعر، بخيبة عدم إكمال مقالى. وقد أنهكنى، ما جمعته عن الضفادع، وأتعبنى. ولم يمرّ كثيرا، حتى كدت أسمع نقيقا، بضجيج، يطرق رأسى.. لم ينقذنى منه، غير أنى تذكرت ما أخبرنى به دكتور فرج الله، عن ثمن  الضفادع، المرتفع.. شتاءا وصيفا. ولم أنس شاربه، وطرفاه اللذان يشبهان، رأس عصا معكوفة.. كغصنىّ شجرة، جافين..
شكرت المفارقة الغريبة، التى جابت بى أطراف الأرض، بين غابات وصحارى. على الأقل، كوفئت بفكرة مزرعة رائعة، لإنتاج الضفادع. لكننى خشيتُ إن أقمتها، ألا  تدخل ضفادعى، بياتا شتويا، حتى الربيع. خفتُ أن تعيش أو تموت عقيمة. ألا يكون هناك فائدة، من بيض، لا ينتج ولا يخصب، أبدا.. كرحلة فى الفضاء، بلا عودة،..
إبتسمت، فلم أعرف كيف سيكون اسمى، على مقال عن الضفادع، وليس الكواكب والنجوم.. وعدت محادثا نفسى، مرة ثانية، وقد إنقشع دخان، الغرفة وتبدد،.. أمام دوران المروحة، ودوران رأسى، هائما مع الضفادع:
- لست بيولوجيا. ما لى ومخلوقات، مثل الضفدع الفهد أو الطحلب. ضفدع الحليب الأزرق أو الذهبى المشرق. ضفادع سامة، أو زجاجية شفافة. مقرنة،  أو قادرة على التغير والتحول، والتخفى. 

ولمتُ نفسى كثيرا:
- ما لى وما يشابه نمط تكاثرنا البشرى. تلد ولا تبيض. ما دخلى، بضفادع مطر صحراوية، تدخل بياتا شتويا مختبئة، لتظهر مرة أخرى، عائدة بعد إختفاء. 
وأخذتنى دوامة:
- لماذا أفكر بضفادع مشوهة، أصيبت بالعمى، دونما سبب معروف. لست ذاك الراهب الذى نقلها معه، إلى جزيرة، منذ حوالى مائة عام.  لست بيولوجيا..
هكذا قضيت وقتى سُدى، بطقس حار، وجحيم صيف لافح، لا يطاق. أخيرا، وصحبة مشروع مربح جدا، الضفادع المصرية الخضراء. هكذا، دنتُ بمعرفة بيولوجية جديدة، لأجازة محرر علمى زميل، لا أعرف.. أم لرئيس تحرير مجلة غاضب. أم لمتخصص عاشق للضفادع!
غالبنى النعاس، وأنا أتخيّل طبقا، من أرجل الضفادع، فى هذه الليلة الحارة.. كيف يبدو شهيا، فى أحد مطاعم أوربا..!  ورغم كمية القهوة التى إحتسيتها،  أخذت جفونى تتثاقل.. ذهبت مع سحاب صيف يتهادى، بحوافه البيضاء، وقد تسللت أشعة شمس ذهبية، خلاله. عبر رؤوس أشجار كافور وسنديان عتيقة. منظر النافذة الشمالية المطلّة، على الحديقة.. مشرفة، على أفق بعيد.. نمت، وصدى صوت، يتباعد، مع السحاب، فى السماء:
- " رنا ريدو نيدا ".. "رنا ريدو نيدا "..!! "

----------------------------
 

(3) نظرة شاردة **  
---- خالد العرفى 
منعطف هلالى، أعبره مرتين يوميا. صباحا وعصرا. صيفا وشتاءا. هنا، حيث تهتز الأرض، مثيرة أتربتها، فى وجوه وقوف منتظرين، لعبور مزلقان قديم. كل صباح، نفس الحافلة. كل يوم، نفس الروتين. إنتظار. إنتظار. إنتظار. إنتظار لحلم، يسافر بى. أصبحت قطعة إنتظار. كم وددت أن أذهب، لمكان آخر. لكن، هنا.. حيث يبتسم لى سائق قطار، كلما مرّ بى، بوجهه الأسمر المريح. شئ ما ربطنى بهذا المكان، بضجيجه. أمر ما يجعلنى أنتظر إبتسامته المشرقة. أنتظر صافرته، من بعيد، فى رحلته، إلى شرق المدينة، راحلا، بدبيب الحياة.  يلقى لى بنظرة، وهو يهدأ سرعته، مارا بمزلقان، وتوقف إشارة مرور. مختفيا، فى سحابة غبار، وإختفاء نداءات الباعة، وهديره، على القضبان. عادة، لا يمرّ سوى دقائق قليلة، من إنتظارى، حتى يعبر مكتظا. يترنح، بحمولته البارزة، من الأبواب. يمرّ بمزلقان، إحتل طول جانبيه، باعة جائلون، قرب إشارته الضوئية. وعامود كهربائى، لجرس مزعج. يؤذنان بقدومه، من أحد إتجاهي المدينة، إلى محطة مجاورة. لا أعرف كم شركة، قدمت أوراقى إليها، طيلة السنوات الماضية. لا أتذكر. لا أتذكر. نسيت كم مضى، منذ تخرجّى. نسيت. نسيت، كم أجريت إختبارات إلتحاق بشركة ما. تبينت مؤخرا، أنه قد مرّت أحلام لا تحصى. أخيرا، إستلمت خطاب معنون..
(المهندس/ فتحى  رشيد: 
المركز الرئيسى
راكودة للكيماويات والصناعات التحويلية 
الحضور تمام الساعة العاشرة صباحا، الإثنين أول أبريل، لمقابلة مدير عام الشركة - ومعك مسوغات التعيين.
مدير الموارد البشرية)
بالأحرى، كان علىّ ترتيب رزمة أوراق رسمية. ملف جديد، بدلا ممّا إهترأ. مجموعة أختام زرقاء وحمراء.  صور وكلمات ضاعت ملامحها، على مستندات، بشعار، جناحىّ نسر.
مضيت قبل الموعد، لخارج المدينة. كل ما خطر على بالى، كيف أكون هذا اليوم، جزءا من حمولة، تلقيها، غربا، كل صباح؟ قائلا، فى نفسي:
-"لابد أن الشركة مهتمة بتوظيف مهندس كيميائى، ليصمم الموقع ويشرف عليه. تضمن تحويلا آمنا وإقتصاديا، لمواد كميائية خام"
حرصت أن أصل مبكرا. خطوت خطوات قليلة.. وقفت، تحت ظلّ شجرة كبيرة. إستندت إلى جذعها الضخم، تظللنى أغصانها.. وعلى مرمى مسافة قريبة، رنوت إلى بوابة حديدية سوداء كبيرة، علت خلفها، واجهة مبنى زجاجية زرقاء. يفصل أشكالها الهندسية، أعمدة معدنية بيضاء، وقد لمعت فى ضوء الشمس، وزرقة سماء صافية.. حروف صفراء كبيرة " راكودة.."  أقنعت نفسي:
- " أخيرا.. لا شكّ يحتاجون لى. فرصة تعيين جيدة. فرع شركة جديد. تصميم. بناء. إدارة مصنع. تفاعلات كيميائية"
وقفت ممسكا ظرف أوراقى. أراجع مع نفسي، وقد لمعت الواجهة أمامى، بزخم دفء شمس صباح ذهبية. أتمتم.. مبادئ الهندسة الكيميائية الأربعة:
- " مبدأ التفاعلات الكيمائية. حفظ الطاقة. الاتزان الكيميائي. حفظ المادة"
أخذت أكررها. أذكر نفسي بها، تارة أقول:
-"الطاقة حفظ. المادة حفظ.."
وتارة:
-" تفاعلات تفاعلات. اتزان اتزان"
وكأنى لم أدرس منها شيئا طوال سنين. نظرت إلى ساعتى. كانت التاسعة والنصف. ورغم الطقس الربيعى، كنت قلقا. واستحضرت، من جديد:
- " المهندس الكيميائي أربع مبادئ  أساسية.. المادة المادة. الطاقة الطاقة. الاتزان الكيميائي الاتزان. التفاعلات  التفاعلات"
إستوقفنى رجل أمن، بزىّ برتقالى داكن. أظهرت له، هويتى والخطاب الممهور بختم الشركة، لأدخل. كان هناك عددا من الخيالات، من بعيد. منيّت نفسي، أن إنضم إلى صفوفها، بموجب الخطاب. تذكرت، حينما سألتنى لجنة إختيار من قبل، عن معنى الهندسة الكيميائية. أجبت:
- "التصميم الهندسي للصناعات الكيميائية. تصميم أمثل لاختيار عملية صناعية. ظروفها. موادها. والأجهزة اللازمة.."
لم تقتنع اللجنة. ببساطة كانت مجرد "ديكور". همس لى أحد المتقدمين:
- "لا تتعب نفسك. لا فائدة. الأمر كله عبث.. مجرد شكليات.. هيا بنا.."
أدركت حينها، أن الأمر أكبر بكثير، من مجرد تصنيع  مواد كيميائية. شككت فى إنتهائى، من دراسة هندسة الكيمياء وتفاعلاتها. راكودة.. الأمر ليس فقط طحن مواد كيميائية صلبة أو خلط. تقطير وبلورة. ترشيح وتذويب. استخلاص نتائج. لابد من واسطة، لأتعين مهندسا كيميائيا. رغم ذلك، كررت لنفسي، من جديد، المبادئ، ربما أكون قد نسيتها:
- "قانون حفظ المادة. مادة. حفظ الطاقة. طاقة. الاتزان الكيميائي. اتزان. التفاعلات الكيمائية. تفاعلات"
وأمضيت وقتا فى التمتمة، قبل المقابلة:
- "هندسات المواد والتحكم والبيئة. انتقال المادة والحرارة. كيمياء عامة وعضوية. وتآكل"
أسمعت نفسي، كأنى أعرف هذه المصطلحات، لأول مرة. لم أيأس من عدد مرّات، تقدمت فيها، بدون واسطة.. ذهبت.. ومازلت أنتظر، فى نفس الموعد. صباح كل يوم. جانب نفس الإشارة، بالضبط، لأستقل حافلة. أرى المركبات نفسها. نفس القطار. نفس الركاب. الباعة. المنتظرون أنفسهم، على جانبى المزلقان. ذات المسار. نفس الطريق المملّ. الهرب، من مدينة، لا يمكن أن تكون شيئا آخرا، فى أفق بعيد. كما لو كانت غير موجودة، بالمرّة. لا يسعها أن تكون كذلك. تبقت هناك نداءات الباعة الجائلين، والضجيج. أكوام متراكمة، حول صندوق حديدى كبير. المنتظرون أنفسهم. وقد توقف القطار على "مزلقان"، فوق جثة. ذكر أحد شهود الحادثة:
-" كان يحدث نفسه، بصوت عال، عن أمر ما، فى الهندسة الكيميائية. قبل أن يدهسه القطار، ويبتلع صوته، صدى هديره. سمعته يقول:
- "حفظ المادة. مادة. طاقة طاقة. اتزان  اتزان. تفاعلات تفاعلات.. راكودة راكودة.."
الحقيقة الغائبة دوما تكشف عن وجهها. حيّة سافرة، وإن تأخرت. بلا حراك. بين حديد وأرضية بازلتية. تحمل هموم البشر. لم يكن هناك أكثر من بقايا لحم. شظايا عظام. وظرف أوراق أصفر مهترأ. إلتصق بأشلاء شطرى جثة، ممزقين.  تلاشت نداءات الباعة. بلادة موت. لزوجة غريبة، لسحابة غبار. طوت أحلام مارين ووقوف. مصير محتوم. نهاية دوامة. من سافر للشرق بعيدا، راحلا، فى ضحى الشمس. لن أرى نظرة السائق الأسمر، مرة ثانية. لن أرى إبتسامته المشرقة، أبدا. غابتا، فى لحظة حديث نفس، وإختفاء نظرة شاردة، إلى السماء..

--------------

(2) بلا ذاكرة*

---- خالد العرفي



لا أتذكر الأشياء جيدا. لم يكن بإمكانى معرفة ماذا أصنع هنا. لا أتذكر شيئا قط.. لا أعرف. لا أعرف كيف وصلت إلى هنا. لم يكن أمامى سوى أن أنظر. كنت فى ورطة، لا أعرف من أنا. أنا من أكون..؟!
لابد أننى كنت أعرف شيئا ما، حتى آتى إلى هنا. ربما قابلته ذات مرة. لا أتذكره. من أنا. من هذا.. ؟!
صوت هذا الجرس يطرق فى رأسي. يفلج جمجمتى. ربما كنت أحلم. ربما كان كابوسا. لا لا.. كنت أضحك. تلك ضحكتى. كتمتها. الكوابيس، لا تُضحك. كانت هناك عينان جميلتان، وكومة من الشعر ملفوفة بعناية تحت غطاء طبى. أسمع وقع أقدام مثل مطارق حديدية، على سلالم معدنية، تؤدى لطوابق، لا نهاية لها. أرى أضواء ليلية كاشفة لطريق. تقطعها أصوات سيارات مارقة، مثل طنين النحل. ورائحة نفاذة غريبة. لم يمرّ وقت طويل حتى تبينت غرفة عمليات، على مرمى أمتار، من حائل زجاجى وستائر زرقاء طويلة. مجرد منضدة معدنية ترتكز فى الوسط، على أرضية بيضاء. كل ما فى الأمر، جرّاح وبضعة أجهزة، وطاقم طبى. حفنة من العيون، لم أرى غيرها، خلف كمامات طبية خضراء، بلون أردية كتانية. فقط، رجل ممدد، تحلّقوا حوله. في معزل عما يجري، وراء زجاج سميك. رأيته هناك، يخرج من رأسه شئ مثل جبل، أو سحابة شبحية كبيرة. ورم غريب. يجرى عملية جراحية لإزالته. لم أدر، لماذا أنا هنا. كيف رأيت هذا. لست بجرّاح، ولا طبيب تخدير. ربما كنت شقيقه. أو أحد معارفه. ربما كنت أنا. كان مثل التفاحة تماما، بلون أحمر قانى. متحجرا. شعرت بالأسى، له. كدتُ أضحك من جديد. كتمت إستغرابى من شكل ورم مثل مخلوق كرتوني، لكائن فضائي بيضاوى. ندبات سوداء على دكنة اللون، هذه. كأنى أسمعه، يحاول أن يخبرنى أمرا ما، كمن يعانى صعوبة كبيرة، فى التذكر. يقطب جبينه محاولا أن يتذكر، لينطق. شعرت به يحاول إعتصار فصيّ مخه، باحثا عن مكان خبّأت به ذاكرته ما حدث. ظننت أنه سيصرخ متسائلا:
- أين.. أين.. أين أنا.. ؟
كان منكفئا، فاقدا وعيه..  والورم ما زال بين أصابع الجرّاح. حادثت نفسي:
- فلأكن هادئا متزنا، فى عملية جراحية لإستئصال ورم خبيث..
- علىّ أن أظهر حزنى. الجميع فى حزن، فى برود غرفة العمليات..
- لمَ لا أكون مثلهم؟
ليس علىّ أن أضحك. لكننى عُدت أضحك ثانية. كان الجراح لا زال عابثا، بورم رجل، ممدّدّا راقدا، لا حول له. يهرب من بينه أصابعه مثل"الجيلى".. كان مازال مخدرا..
مرّت دقائق، قبل أن يصبح الورم أكثر هلامية، وأكثر طراوة، والجرّاح ما زال عابثا به، مرة بعد أخرى، كيفما أراد. يضغطه يمينا ويزلقه يسارا.. كدتُ أصرخ فيه:
- أتعبث بورم الرجل.. أتتلذذ.. ؟!
لكنه لم يرنى. لم يسمعنى، والورم ينضغط أكثر بين أصابعه، منفلتا. تارة يضغط عليه، برقة. تارة يعتصره. صاعدا هابطا، منزلقا، بين أنامله..
قلت لنفسي:
- هذا ليس وقت نظر فى عينين،.. باغتنى صوت الجرّاح:
- مقصّ.. مقصّ..
يمينا، مدّ قبضة يده مفرودة بالقفاز الجلدى. إلتقطه من ذات العينين. كنت بينهما. مرّ خلالى المقصّ. شعرت بدغدغة خفيفة. ملت برأسى، لأرى ماذا يفعل به. كان هناك شئ يشبه دودة بنيّة سميكة، تصل ما بين الورم والجمجمة المثقوبة..
حدّقت فى عينىّ الجراح، محاولا النظر مرة ثانية. لم يرنى. إتسعت عيناه. إرتفع حاجباه لأعلى. وضع المقصّ من يده، على ظهر الرجل. لم يكمل..
لم يقطع الصمت سوى هزتين من رأسه، لأعلى وأسفل. وفى برود شديد، فى عمق الرائحة الطبية الغريبة، نطق:
- مات ..
مع توقف نبض الأجهزة، كان الضوء البارد لايزال  يسطع فى أرجاء الغرفة. لكنه كان مركزا من كشّاف، على مؤخرة رأس مثقوبة أعلاها حلقة من عيون محدّقة. وبخط أخضر مضئ لشاشة سوداء. وبصوت مكتوم، يزوم، كان هناك بضعة سنتيمترات فقط، تفصلنى عن كتلة لحم غريبة داكنة، وسط إناء معدنى لامع. أحدقّ فى شكل هلامى، تدّلت منه زائدة سميكة، كحبل قصير، بين أصابع قفاز جرّاح خضبت، بالدّم. إرتدّت الخيالات الرمادية،  بظلالها، بين أضواء الغرفة. نسيت تماما أمر العينين، فى إنعكاسات الضوء، على الحائل الزجاجى. فى النهاية، لم يبق إلاّ خط  أخضر  مستقيم، على شاشة سوداء. حسنا، رجل عادى يتعرض لمتاعب غير عادية. حسنا، سأكتب هذا السطر ربما أعرف كيف أكمل القصة. لكننى لم أعرف كيف أكمل الأحداث التى تدور رحاها فى مستشفى. كانت الأمور على غير ما يرام وأنا ما أزال أفكر فى أبطال قصة أكتبها فى مجموعة بين حلم واليقظة، ولم أنته منها بعد. فكرت أن أعدل مسارها السردى، أو ألغيها. من الواضح أننى كنت منساقا لا شعوريا بأحداث غامضة تحركنى لأكملها. وهى فى الطريق. عدت أقرأ بعض الفقرات. ربما كنت لا أعرف معانى هذه الكلمات.. كنت كمن فقد الذاكرة والوعى. أسماء نباتات. أشياء كثيرة. مسميات عديدة. لكن ماهى؟! أسماء بشر. من هؤلاء..؟!
أمسيت وأنا أحاول فكّ لغز هذه الحروف التى وجدتنى كتبتها ليلة أمس لكننى لا أدرى كيف. ولا كم إستغرقت من وقت كان يداهمنى لأسرع، كأننى فى سباق مع القصة. مازلت لا أفهم أو أدرك شيئا. اتهمت نفسى تارة بالغباء وتارة بالجنون. لكننى بالتأكيد كنت قد كتبتها، ليلة أمس. لم يكن أحد معى. هذا خطى. هذه آخر ورقة أتذكرها. فما هذه الورقات التى وجدتها  بخطى.، الآن. متى كتبتها. متى. لماذا. لماذا..؟!
شغلنى تلك الكلمات التى وجدتها بين الفقرات. عدت أقرأها من جديد. ربما كنت لا أعرف معانى هذه الكلمات. كنت كمن فقد فعلا الذاكرة منذ ليلة أمس وأنا أفكر ماهى أسماء تلك النباتات. من أصحاب تلك الأسماء. من هؤلاء..؟!
ليس علىّ أن أقضى بقية حياتى أتذكر هذا الأمس البعيد. فشلت فى حلّ اللغز، كنت قد كتبت سطرا فى قصة. إستغرقت وقتا، فشلا بعد فشل لعلى أتذكر. من يأبه بمثل تلك الحال سوى طبيب نفسي فى رواية جذور نفسية. كان الأمر قد إختلط علىّ. لا شيء يبدو غريبا، حتى الموت يصبح شيئا عاديا، أكثر من أي وقت مضى. أتذكر فقط عينين جميلتين. إمرأة غير عادية تتعرض لمتاعب عادية. ترى رجلا يموت بورم. وأنا أحاول أن أتذكر متى رأيت ذلك. لا أعرف من بقى منا، على قيد الحياة. تائه فى هذا البرود الزجاجى أمام صمت إبتلع اللحظة، وسكون أسر المكان، حتى سمعت نفسي أردد:
" لا أستطيع تذكر أى شئ.. لا أحد يعرف من قضى نحبه.."   
ضحكت من جديد.. حتما لن تكون متاعب عادية فهى غير عادية. لا لا.. لا متاعب على الإطلاق. بل تهاجمها أفكار وتشنجات نفسية. عدت أقول لا يوجد ما يسمى تشنجات نفسية، فلأكن دقيقا.. نوبات إكتئاب. إحباط. أكاذيب بصرية. أوهام نفسية، تحاصرها منذ تذكرت تلك الليلة البعيدة.. كتبت قصة جديدة بعنوان.. بلا ذاكرة.. إبتسمت وأنا أضع القصة فى مكانها..