سرماديا

سرماديا

من المجموعة قصصية - لون التوت**



شهر يونيو الجرئ
من المجموعة قصصية

(لون التوت)
بقلم /  خالد العرفي
***********
الإسكندرية الجميلة ترتدي الصيف ثوباً شفافاً. تعانق شهر يونيو الجرئ. لا تطفئ شهوتها الأمواج. يلتهمها بحرارته. تبوح له بأسرار الأهل والزائرين. تبنى في صدورهم أساطيراً ومدناً يونانية..هيراكليون،منتيس ،كانوبس ومينوتيس.. هي وحدها تعرفهم . وليس هناك نية بعد لديها، في أن تدوِّن تلك الأسرار في مكتبة، تُشيَّد على أطلال زلزال جديد، مع المكنون من اللاهوت والفلسفة. تتهامس آثارها الفرعونية والإغريقية غارقة . باتت لا تذكركليوباترا
و"أنطونيو" أو تعرف "هيرون" و"أفلاطون"، أو حتى "لورانس جورج داريل. تقلبت تلك الأفكار في مخيلته وهو ذاهب إلى المكتبة الشهيرة. متمتماً على بابها الواسع :
"هم أكثر من أن يحصيهم (يوسف زيدان) في "عزازيل جديدة!"
أرخت طرفها. بصوت ملائكي:
- أهلا أستاذ أحمد.
- أهلا بكِ.
- أخبرني الدكتور منتصر ضرورة المساعدة بصورة المخطوطة والمراجع المتوفرة .
- هو المشرف على رسالة الدكتوراه، التي أُعدّها عن تاريخ الإسكندرية . الواقع أن هذا التحقيق الذي أقوم به من ملحقات الرسالة الأخيرة. أنا شاكر لكِ تعاونك آنسة  ".. "
- تستطيع أن تناديني مدام رُفيدة. بقية ما طلبت من مراجع غداً إن شاء الله تجدها جاهزة.
غادر مكتبة الإسكندرية  شاعراً بالزهو في الحصول على صورة من تلك المخطوطة النادرة التي يقوم بتحقيقها.  تمتم واثقاً:
"الآن لدى أربع صور واحدة من تركيا والثانية من معهد المخطوطات بألمانيا وأخرى من أسبانيا وها هي الرابعة ... "
هرب من الصورة الخامسة.. رُفيدة! .. كأنه يذكر نفسه بعددهن. لم يكن يمكن الحصول على تلك النسخة من قبل إلاّ بعد أن أهدى الأمير الشهير المكتبة في احتفالية ضخمة مجموعة خاصة ونادرة من المخطوطات ورثها. ولم تذهب إلى أيدي المستشرقين!
- الآن يا أحمد أكمل المقارنة. وازن بين النسخ الأربع. لا تنس الإشارة لنوعية الخط، وعدد السطور في الصفحة الواحدة، وعدد الصفحات في كل مخطوطة  ، فقد حصلت بالأمس على ما كنت تبحث عنه !!.. "
-" اليوم يا دكتور أحصل على كتاب عن نوعية الخطوط في تلك الفترة. وسوف تساعدني كثيرا . أشكرك كثيرا على توجيهي"
- أنت باحث ممتاز. لديك روح البحث. تذكرني بنفسي في مثل عمرك. هذه مهمتي بني"
-"بالمناسبة رفيدة تجهز رسالتها عن الفن الإسلامي في الفترة التي تتناولها. أنتما تشبهان بعضكما كثيرا. يعنى أنت التاريخ وهى الفن!! .. "
وقعت على مسمعه الجملة الأخيرة مفسرة له بوضوح إلمام رُفيدة الكامل بالمصادر التي يحتاجها في حديثهما السابق المقتضب متسائلا :
"أيمكن أن يكون زوجها باحث تاريخي، أو أستاذ في الجامعة؟!"
لم يدر سبباً لماذا فكَّر في ذلك. سرعان ما حاول أن يطرد الفكرة التي عاودته، في طريقه إلى الشقة المؤجرة، على الكورنيش للفترة التي يمكثها في الإسكندرية، حتى يناقش رسالته.
لم يجعله شيء ينجح في التوقف عن محاولة التفكير فيها إلاَّ عروجه إلى المطعم الشهير للوجبات الجاهزة. تذكر أنه لم يتناول فطوراً أو غذاءاً. إذن هي وجبة عابرة وبعض السندوتشات لسهرة الليلة بعدما يحصل على صورة ضوئية من كتاب الخطوط.
طرق سمعه رنين هاتفه المحمول بصوت فيروز:
" شط إسكندرية يا شط الهوا" .. لم ينتظر حتى تكمل فيروز:
"رحنا إسكندرية رمانا الهوى". هذا هو رقم الدكتور منتصر يظهر. سارع  متلهفاً دون أن ينتظر سماعاً:
- " أهلا أستاذي"
- لا يا أستاذ أحمد أنا رُفيدة. أتحدث إليك من هاتف الدكتور منتصر. أعتذر لك بشدة . مضطرة أستأذن مبكراً من العمل بالمكتبة اليوم.
- لا عليك لعلّ المانع خير؟!
- اتصلت بي أمي .ابنتي ريتاج حرارتها مرتفعة. لابد من أذهب بها إلى الطبيب .
- أيمكنني فعل أي شيء ؟
-لا أشكرك. سوف يقوم بتوصيلي الدكتور منتصر!! أكرر أسفى على إزعاجك. لم أرد أن تذهب ولا تجدني! غدا إن شاء الله سوف أكمل مهمتي وتجد ما طلبت.
أغلق الهاتف. تذكر أنه نسى لفافة "السندوتشات" في المطعم.  عبر طريق الكورنيش لينعش نفسه بهواء البحر برائحة اليود الطازجة عصراً.. تحت مظلة جاوره على مقعدها فتى وفتاة يتبادلان الحديث على مسمع منه :
-  نتيجة امتحانات الليسانس لم تظهر بعد.
- ولماذا تستعجلين ظهورها؟ أليست سببا للخروج فنلتقي؟!
ابتسم . تذكر الحديث الهاتفي قائلاً: " لديها ابنة إذن ! "
" لماذا يقوم بتوصيلها الدكتور منتصر؟! "
" كيف؟
 ومتى؟
 ولماذا حادثتني من هاتفه؟! "
هاجمه سيل من الأسئلة، متعجبا: كيف يشغله أمر رفيدة هكذا؟!
لم يفارقه وجهها النضر. أبلج أغرَّ. أضوء من النهار. قبَّل النور له فاهـاً. ضمَّه إليه شذى الزهر. شمس بَزغَتْ في يوم دُجنٍ. غشيته من نظرة. سكنته عينان متسعتان هادئتان ساحرتان. لها من الريم عيناه. مــوصول بلحظهما السحر أهداب تتهدهد، تظللهما. تتهادى نهراً . خدان ريَّانان أسيلان يجلوان للناظر بصفاء أزهر كجني الورد !
دخل فردوساً لم يفقده في خياله. اجتنى من حديث الروح لقلبه ثمـاراً ما جني مثلها قبل أن يراها. دفأَّت روحه. قرت بها عـيناه حينما رآها. أراد استنطاق ما ليس ينطق به قلبه، ليفهم ما أصابه به ولا يعقله.. يبثُّه:
" لست بسامع فيها ولا مطيع لقول إلا لك يا قلبي. صحيحٌ من نجا وهو سالم. هل هذا هو الحب ؟!
 فإذا كان هكذا فاكتم علي يا قلبي. أنا راهب العلم أتعبد!
بات فؤاده أسـيرهـا. صارت روحه تدرك ما كانت تطلب!
خشى أن تفضحه عيناه حينما يلقاها مرة أخرى وما هو بصابر على نفسه وما بقلبه كذب!
ملأت الأفق أمامه. حلَّت منه محل الروح من الجسد، ولم ينتبه إلاَّ على صوت منْ يناديه: "أستاذ أحمد.. أستاذ أحمد"
إنه صوت الدكتور منتصر من سيارته على جانب الطريق:
" بسرعة اركب السيارة قبل قدوم ضابط المرور. الوقوف هنا ممنوع مطلقا ! "
- أهلا يا دكتور.
- طبعا لن أعرفكما ببعض.
- كيف حال أبنتك مدام رُفيدة.
- بخير والحمد لله. أتينا من عند الطبيب وطمأننا عليها. ظللنا عنده لمدة ثلاث ساعات حتى انخفضت حرارتها.. حتى أبى أعتذر عن مواعيده اليوم ليرافقني فهو يعشق حفيدته ريتاج.
- الحمد لله .
" لك نصيب تتناول العشاء معنا يا أحمد. ابنتي رُفيدة ماهرة. يشهد بذلك كل من تذوق طعامها حتى المرحوم زوجها!!
سوف ترى بانوراما لقلعة قايتباى من مسكننا لن تنساها أبداً. ربما ترى السلطان قايتباى نفسه! "
تبادل الركب الضحكات. مرقت بهم السيارة مروراً بمسجد سيدي (المرسى أبي العباس) نحو حيّ رأس التين ، ليظهر قصره مستقبلاً.
- حانياً: " كم الساعة الآن يا رُفيدة ؟ "
- التاسعة أبى"
غابت الشمس. لم ينتبه أنه ظل جالساً ساعات يفكر برُفيدة لا تفارقه. ما خال شمساً بليل تسير.. ابتسم. لم يندم على لفافة "السندوتشات" التي نسيَها بالمطعم !



ليس للخريف ورقة أخيرة!
من المجموعة قصصية
(لون التوت)
بقلم /  خالد العرفي
***********

مرت ثلاث سنوات، رتيبة، منذ عودته إلى الإسكندرية، بتذكرة عودة بلا ذهاب. هادئاً مرتاحاً، لا يُعكر صفوه سوى روتين يومي جديد. أراد حياة جديدة، بعيدا عن أكاليل النصر في أمريكا ورصيد يتضخم !

الولد الأكبر طبيب في "كاليفورنيا". الأصغر مهندس معماري، رحل إلى لبنان، بعد الأزمة المالية التي ضربت السوق العقاري. كلاهما تركه، بعد وفاة الأم منذ زمن بعيد. في أكتوبر ُيتِّم عامه الستين .

اشترى شقة في طابية "سيدي بشر"، التي اختفى منها مدفع رمضان الذي يتذكره جيدا خلف ثكنات معسكر البحرية. حلَّت محله أبراج شاهقة، جثمت على ذكريات الطفولة ليلاً طويلاً. يدلف من منزل الأسرة في "فكتوريا" جانب محطة القطار إلى الطابية التي لم يتبقَ سوى اسمها. الغرفتان والصالة في الدور العاشر كل ما يحتاجه. واحدة للنوم، بنافذة زجاجية واسعة يرى من خلالها البحر نهاراً، والنجوم في سماء الصيف الصافية ليلاً. غرفة أخرى للمكتب و"الحاسوب" يُدير به بعض الأعمال الاستشارية ذات الربح المجزى، على فترات متباعدة .

يجرى اتصالات عبر الإنترنت بالولدين من حين إلى آخر. الصالة وضع بها أنتريه على الطراز العربي، صممه بنفسه.. وأصيصان لنباتات ظلّ ورقية، وآخر لنخلة "سيكس" ترى الشمس عبر النافذة الأخرى عصراً . وقفص لعصفورين "كناريا" صغيرين ملّونين، في الشُرفة الصغيرة بجانب أصيص للورد البلدي وكرسي هزّاز. لم يزره أحد الولدين منذ عودته.

دائماً يلتمس لنفسه ولهما العذر:

-"أنا أنجبت وأمريكا ربَّت. هذه ضريبة الزواج والإنجاب في الخارج. تأخرت عودتي كثيرا ! "

هكذا توالت نهاراته، ولياليه متشابهة. الحقيقة أنه يخشى القيام بأي تغيير يخل بالعالم الجديد، الذي يعيش فيه. لم يتخلَ عن صلاته أبداً !

المرة الوحيدة التي غادر فيها كانت للفريضة الخامسة.
اليوم ليس يوم شراء الحاجات الأسبوعية، أو يوم السَحب المنتظم لمبالغ مالية من حسابه المصرفي، سداداً لمصروفاته والفواتير الدورية. يحتاج أن يدس في يدّ البواب إكرامية لقضاء بعض حاجياته من وقت إلى آخر. يدفع لخادمة تأتِّيه  مرتين في الأسبوع وبعضا ممن يتعهدهم من خلال مسجد "سيدي بشر" مع كل صلاة جمعة. جنح في ذلك اليوم ضُحى إلى المقهى على زاوية الشارع في مواجهة البحر. متسللة أشعة الشمس من وراء ستارة سحب أكتوبر الكثيفة رغم وضح النهار. رأى أحد الصيَّادين يخلِّص سمكة فضية من صنارته. كسر برنامجه اليومي. ظلت الحياة تضعه على دروب متعاكسة. تسطع الشمس للحظات وسرعان ما تختبئ خلف الغيوم.
أخذته ثورة البحر وفَوْرته. ترتفع رغوته تتناثر رزازاً عابراً.  رآه بحرا آخراً غير ما يراه من الدور العاشر. صنعت الأمواج العالية شريطاً "سينمائياً" تتابع صوره من الماضي. استرجع كل لحظة بقربها. الدراسة في "فيكتوريا".. الطفولة وزىِّ الدراسة الأزرق والرمادي. (رفيق محمود رجائي) صديق الدراسة الوحيد. عانقته أمسيات الصيف الدافئة المعبقة برائحة الياسمين والورد البلدي في حديقة الفيلا القديمة في "لوران". ارتشف كوبا من الشاي كانت تعده شقيقته أيام الدراسة الباردة. لفحته نار ركية الفحم التي يشوى عليها البوَّاب لهم "كيزان" الذرة الطازجة بجانب السياج الحديدي للحديقة. داوم على مراسلته حتى رحل. أعاد الصورة إلى ما كانت عليه. نظر إلى تجاعيد وجه في المرآة الجانبية. اهتزت الصورة اهتزاز شيب مفرقه. تبعثر شعره الخفيف على جبينه. فحص مرافقه واحداً بعد الآخر. ثارت زوبعة البحر. أخرج الصيَّاد سمكة أخرى. تتابعت صورة الشريط. زينب. صافحه وجهها الوضّاء وعيناها الهادئتان. وقف عندهما. كانتا معه دائماً!  عاش على لقاء الصدفة الوحيد على "كورنيش السلسلة" أمام الجامعة والخطابات التي لم يرسل واحدا منها. لم يستطع البوْح .
- "حبي الصادق الوحيد. ظللت أرى طيفها في كل من رأيت من نساء أخريات"
 لم يتكلف جهداً كبيراً في تذكر ذلك الوجه وهاتين العينين. ازدادت ثورة البحر. جاوزت الأمواج الحاجز. خلا الطريق من المارة. لم يبرح الصياد مكانه. طالته موجة عالية. جال عبر عقود عمره. عاودته الحياة! الأمس موعد عودته بعد إتمام رسالة الماجستير. لم يعد. أكمل الإقامة للدكتوراه. سرقته "أمريكا!"  تابع متمتماً:
- " نعم تلك (زينب محمود رجائي) . لم أنسها حتى أتذكرها جيدا. تركتها معيدة بكلية الطب زوجة لابن عمتها الضابط (محمود حميدة). حب الجامعة القديم . شقيقة رفيق . كنت أتلصص على أخبارها من رسائل رفيق. زواج ابنتها.. وفاة زوجها في حادث إرهابي منذ عشر سنوات. لابد أنها تغيرت كثيرا !"
تتابعت الأسماء على شاشة الحاسوب جارية .. "زينب أحمد .. زينب أيمن .. زينب... زينب .... "قلبه يثب بين أضلعه مع كل اسم يمرّ على الشاشة . يشعر" بالأدرينالين" يتدفق عبر شرايينه .
 "ها هي زينب محمود. دليل الهاتف على الإنترنت لا يترك أبدا زينب محمود رجائي! " فتح باب القفص للعصفورين. انطلقا من نافذة الدور العاشر إلى سماء البحر عائديْن. الموطن هناك!
على عجل طوي ورقة عنوان العيادة في جيب قميصه زهريّ اللون. لاداعي من تعذيب الروح هنا. يكفى عذاب الجسد هناك.
ألقى بتجاعيد السنين في ريح الخريف..  تمسكت به. فرَّ منها. دلف إلى سيارته مرَّ بلوران وشاطئ "الشاطبي". استعاد روعة الماضي ودهشته.. مارقا إلى ميدان "سموحه". دار حول حديقة الميدان. غطت ممراتها أوراق الشجر.. صفراء ذهبية. تتطاير في زوبعة. تصكّه في وجهه. باحثا عن مكان تستريح به السيارة التي أنهكتها السرعة الكبيرة.. أكمل الدورة. استقبلته بروح "كليوباترا" تماثيل "فينوس" البيضاء.
صفع باب السيارة خلفه.
تمتم:
" ليس حتما تتساقط كل الأوراق في الخريف! "

قارئ القلب
من المجموعة قصصية
(لون التوت)
بقلم /  خالد العرفي
***********
ورث عن جده الأكبر المذكور في وقائع الدهور ما سطره بن إياس. أخبرني عن رصيف الفحم، والميناء القديم وساحته التي تنبض بالحياة في قلبه. يحرسه في أكتوبر. أحببت أمه دون أن أراها، عندما رأيت (أم عبده) تجذب "ودان الخرشوف" بين سطوره، وتعد صينية بطاطس ساخنة. لم يكن ببغاء يردد قصة كفاح أمه ومسيرته، بين أوحال الغابة ساعيا للنور!
"دع تيار الوعي ولا تقطعه".. النصيحة الأولى، قبل أن يقف بي على بائع مفارش التريكو على الرصيف. أخبرني أنه سمع من بن خلدون مقدمته ولم أكذبه. طالبه نجيب محفوظ بزيارته في الدور الثلاثين، في صحيفة الأهرام. بل وألقاها ضاحكا:
- " إياك أن تكتب الرواية يا كراوية "
خشاه توفيق الحكيم في صمته. وسع قلبه من حملهم على ظهره فالتهموه ! لم يصلوا إلى قلبه. لم يستسيغوا حلاوة القلب. تسلقوا كما القردة. نقبوا أخاديده كما الفئران. رغم أنه جعلهم يرون "نوال" خلف السور الحجري في جبل ناعسة. ووقف بهم أمام مئذنة العارف بالله سيدي " المرسى" !
كانوا سكارى مما منحهم من رأسه مثل الخواجة "مخاليدس كليدس" على باب محل التصوير في "محطة الرمل" أو في بار قهوة النيل في "المنشية الصغرى"!
تلا عليهم ما قرأه في لفائف الأحلام ولم يفهموا. جلسوا يلعبون الطاولة. لفظتهم شواطئ الإسكندرية عراة. أهداهم ورق توت فوجد نفسه مع عبد الرحمن بدوى.. وجمال حمدان ... !!!
ذات مرة حدثني عن " إدجار آلان بو" وعرج على "تشارلز ديكنز" وعن جامع المهملات في موسكو. سمعته راشفا قهوتي. استحال فيهم. سكنوا وجه المكتنز ببراءة طفل. وصفه أديب آخر:
- " أفكار هذا الأديب مثل حجمه. حتى تستوعبوه، وتستوعبوا ما يكتب يجب أن تقرأوه كله على بعضه ! " 
لا أعرف لماذا وصف لهم مستشفى العمال "بكرموز" وهم ليسوا بأبطال. عمود "السواري" يشهد عليهم بجوار المقابر!!
ولا أحدثك عن بطنه. تُشعرني دائما أنه في حالة مخاض. أقرأ له إحدى روائعه وكأنه يحمل فيها الأدب الروسي! يأتي بما يريد. الحمد لله، لم يصل النقرس إلى البطون!
يصبّ كلماته على أبطاله فيمنحهم حياة : (أم عبده)  والخالة (أم سلامة) وجدته التي أتاه خبر موتها. و(مرسى ابن  الفرطوس).. و(محمد الإدكاوى ) حتى بائعة الحلوى.
ولا أدرى ماهى قطرة العسل المصفى التي أهدى إليها إحدى قصصه! تاهت كل الوجوه من بطله (عبد الرحيم). كتب :
" له ليس له من يُراسله "
هو لا يحب أن يقف على علامات الترقيم والتنقيط .
أضحك من كل قلبي وأستحضر روحه ولكنى أصطدم براويته قارئ الوجه فأتذكَّر قارئ القلب!!


----------------------------------
وشهد البحر
من المجموعة قصصية
(لون التوت)
بقلم /  خالد العرفي
***********
يزور المكان الذى جمعهما لمرة واحدة.. يبثه شوقه.. يتلَّمس ما لمست يداها.. يكاد يقبِّله أمام الورى.. يضمه فضاء استنشقت هواءه.. يطوف مع اللون السماوى فيرى طيفها هنا وهناك.. يتنفس عبيرها.. يتناقشان فى أمر تصميم ديكور شقته كمهندسة ديكور.. أعلمها ما يوَّد أن يكون فى هذا المسكن الذى لا يزوره إلا فى الأجازات من المستشفى العسكرى الذى يعمل به. افترقا لمدينتين بعيدتين لتتابع ما اتفقا عليه.. وقد شهد عليه البحر جاراً ، فى لقاء عابر تحدد بينهما سلفا .
وسط ما هو فيه من ضغوط عمله الصارم فارق عالمه.. تأتيه كلماتها بلون السماء والبحر وأطياف الخيال لتـأخذه بعيدا عن عزلته التى فرضها على نفسه عبر أبعاد غير مرئية للكون المجهول.. دون أن يعلم شيئا عن الأمر.. يطارده هاجس الروح ولا يعرف منه مهربا أو طريقا للفرار.
 ودَّع العزلة.. وما أحلاها  من عزلة تميل نفسه اليها بديلا عن البشر لتؤنس عالمه.. عالمان التقيا.. تفاهما عند حافة الكون دونما تفكير رغم بعدهما الشاسع.. لم تحجب الشمس نورها على خلفية السماء باللون الفيروزى.. تخاطبت روحهما  بدون سابق لقاء.. تناجيا دون كلام بين سطور ماء رقراق يحيى النفس.. لتحمل منهما الطوية والسريرة. غريب هذا العالم وأغرب الصدف والأقدار التى تجمع الأرواح والنفوس المتآلفة.. لم يعد هناك مايخفيه عن قلبه، رأى نفسه فيها ورأى ما كان يبحث عنه.. أخذه الطبّ متنقلا مع كل ترقية عسكرية ينالها. نسى أنه يعيش وحده بعد زواج أختيه وفراغ منزل الاسرة من فترة طويلة بعد وفاة الوالدين.
يستتر وراء كلماته فى إتصالاتهما الهاتفية متابعا التنفيذ.. يختفى وراء حروفه.. يلهث وراء سواتر اللغة وأحاجي الكلمات وطبيعته الخجولة.. ترثى له المعانى أمام هذا الحب الجارف الطاغى.. تعزيه البلاغة فى تردده.. يخشى مصارحتها.. تخذله الجرأة.. لايستطيع أن يعلن ما نطق به الصمت وباحت به العين.. لا يكتفى بطاعة قلبه فيها كما يطيعه المشرط فى جرحاه يداويهم .
سافر.. سرق من الزمن لحظات.. لن تصدق أنه ذهب ليراها عن بعد فى تلك المدينة البعيدة دون أن تشعر به.. يجمع أخبار حبه كما يُشخص المرض. جاءته المكالمة الهاتفية الأخيرة :
-         "انتهيت من التصميم والتنفيذ كما اتفقنا. رائع هو المسكن. سوف أترك لك المفتاح."
-         " سوف أضع لك باقى الحساب فى حسابك المصرفى "
 وضعت روحها فيه.. رحلت ورحل قلبه معها.. غابت وسرٍّه لم يفشيه لها.. هام فى بريتها لاتدرى بوجوده.. غادرته أفكاره إلاَّ فيها.. طابت ثماره ينثرها فى الآفاق ربما ذاقت إحداهن فتعلم!! ربما تشعر بهذا الحب و ربما لا؟!
وضع صورها فى كل ركن من المسكن الخالى الذى لم تسكن فيه.. نسخها من قلبه فى ركن.. تذكر أنه رائد طبيب. حسم أمره. وضع خطته :
" سوف أسلِّمها دفعة الحساب الأخيرة فى يديها.. لن أحولِّه على حسابها المصرفى "
سافر قافلا ً.. أفاق على صوت (مفتش) القطار: وصلنا يا أفندم "!!
--------------

الرجل والنهر
من المجموعة قصصية
(لون التوت)
بقلم /  خالد العرفي
***********
فقط تلك الصخور هي التي تحمل سِّره على أكتافها منقوشة. يعرف مواضعها ولم تبحْ به لكائنات النهر. لم تعطِها الضفة أسرار الغريب لتأكلها. لم تنبس بحرف أو بأقل شيء منه، وفاءً بما له في عنقها، وقصوراً عن اللائمة لها في النوْء عن حمل أسطورته. تنتظر من يحلّ شفرتها ويسبر غورها ويراجع شامبليون !!

يدور في فراغات عزلته في مكان متسع . مفصولاً عن الزمان بين الحقيقة والحلم، مع مستحيلات العرب وأسرارهم عن الغول والعنقاء والخلّ الوفي. تاركاً كل شيء. طاوياً الأرض كأنه هارب من حبس، أو خائف من عذاب. لا ينظر إلى تلك الكائنات في عالمها.. مختفية تحت حوافّ صخور ضفة النهر وسطح الأرض، محتجبة عن الضوء.. بعيداً عن نسائم الصيف التي تهبّ ساخنة وأشعة شمس أسوان الكثيفة الحارقة. تتناغي فيما بينها. لا تحكى عنه فهو ليس منها وليست منه. لا تعرف ما حلَّ به في خلوته وانفراده.. ووحدته !

ولا يدرى إلى أي عمق قد تصل ليختفي معها، أو ليتابعها عن كثب، أو يعترف لها بما صنع أو لم يصنع. حالة فوضى تسود وتُحيِّر الأريب بجوار النهر.. فلا يُحييها حتى بإيماءة عابرة. لا يُخالطها أو يُباسطها. يكاد ينتمي إلى عالم تلك الكائنات رغم السجايا المختلفة. هو وهى أشبه بشخصين يتشاكلان في الظاهر. يتباينان في الباطن. لا يثيره الفضول، أو يجرؤ رغم الجيرة الطويلة بجوار نهر لم تعد تعبث به عوامل التعرية القاسية. هناك حيث تأبى أسوان أن تقترب من المدن.. مبتعدة تُجافى الشمال ويُجافيها، وقد عقد الصُلح فيما مضى العقَّاد بعبقرياته..!!

بوابة مصر يحتضنها حانياً الشاطئ الشرقي عند الشلال الأول للنيل في الطرف الجنوبي. تتدفق المياه من خلال الصخور والأحجار المستديرة منتشرة. تغطيها بساتين النخيل والنباتات الاستوائية يفوح أريجها ، استواء القلوب النقيّة. تعانق سحره. لا تقاومه.. قلادة سبكتها الطبيعة بحياة بسيطة تجاور النيل محتضنة الصحراء !

هاهي قاريَّة المناخ لا تختلف صدور الطيَّبة أصحاب البشرة السمراء ذووا الوجوه الباسمة والقلوب الصافية.. الموشومين بالبشاشة، مثلما تختلف الفروق العظمى والصغرى لدرجات الحرارة. هناك حيث يقع جزء منها في كفِّ السهل الحافِّ بالنيل، ضيق الرقعة في الجنوب، يتسع شمالاً.

***

لم يتخذها مشتى جميلاً لطقس جاف معتدل، وشمس دافئة. هجر ضحكته.. بسمته، كما هجرت الأمطار الوادي وندرت زيارته. لم يُسقِّف حتى بسعف جاف بعض غرف المنزل المنعزل، الذي ضمَّ بقاياه، بهدوء آسر، يُخيِّم على كل مكان، على ضفته المثقلة بالأسرار والتفاصيل الكثيرة. لا تُقلِّه الزوارق التي تنساب على صفحة النيل وهو يشق رحلته نحو الشمال. لا يحرص علي القيام برحلة سِّحريِّة، أو لعلاج برمال وماء !!

زمناً طويلاً لم يره أحد يذهب إلى قنا في الشمال أو شرقا للبحر الأحمر. لم يغادر الضفة الشرقية قط. عرفوه لا يهتم بارتياد الجزء الآخر على تلال حافة الهضبة الصحراوية الشرقية الممتدة شرق أسوان وغرب النيل. لا يشغله أن يخترق عزلته أو يرتاد الربوة العالية.. البلدة القديمة، أو حتى البر الغربي.. هناك حيث غروب الشمس فوق نهر منتظر كل يوم لفجر لم يأتِ بعد.. مثلما تخترق أشعتها هنا كل شيء !

ليس غريباً أن يقطن هنا في تلك البقعة من ليس يدرى به أحد. مرات قليلة رُئىَ فيها يخرج رغم أن الرجل له موعد ثابت لا يُخلفه في الخروج يوم الجمعة مغادراً. لا يتوقّف محدثاً أحداً. 

تبدو سماته أكثر تركيزاً وقوة ودهاء وجنوحاً إلى العزلة. يَنْشِبُ قدمَيْه على الصخر الناتئ على ضفة النيل يمضى بهما على مهلٍ، لا يخطئ موضعاً يجلس فيه.. ما بين تأمل يشبه العزلة والانطوائية، ينظر طويلاً ينشد ضالة.. يبتلع النيل نظرته!!

ذلك اليوم رأوه ناظرا ً إلى السماء أخبرهم دون أن يتكلم أن السماء سوف تمطر فلم يصدقه أحد. أنهم لا يسقِّفون الغرفات. انهمرت سيولا هدَّمت منازل كثيرة!!

رأوه يوما آخر أطال النظر إلى النهر فذكر البعض أنه ربما كان ساحراً يُحضِّر الأعمال. وأنكر البعض ذلك. بل ونهروا من رماه بالسحر. فهو لا يلبس جلباباً، أو حاداً الطبع .. ولا يزوره أحد يطلب السحر!!. وفى كل مرة يخرج فيها يحتدم النقاش. يخشونه هؤلاء الذين رأوا فيه السِّحر والغموض. يحبونه أولئك الذين يدافعون عنه. يقولون انه يُلِّقى السلام عليهم  ولا يعرفهم. ولا يوجد ساحر يفعل ذلك.

على كتفِ الضفة يرسم أحلاما متدفقة تنزف بذكرياته تتلاحق على صفحة الماء .. تسابق الريح لا يلحقها هدير شلالات النهر بالنهار. ومع ذلك تغتالها شمس أسوان وتبددها فلا تسافر به إلى عوالم مجهولة تمنى لو ارتادها.. وحينما يَقتربُ الليل ويرخى سدوله يأسر مملكته فى قبضته فلا تفر منه، فباقيا وحيدا ماضيا بحزنه، يسكر بأحلامه، حتى الثمالة، يقتات من شوقه باستسلام. يولَّي وجهه أينما ذهب شطر ذكريات لا يعرفها إلا هو. ليس بشاد ليغوى النهر بالرقص معه أو ليهديه أغنية حزن تتجاوز حدود الماضي والحاضر فيعزفها له الناي على نسمات النهر. هنا كل ماحوله يسير عكس عقارب الساعة.

غريب أنْ يمر وقت طويل والحال لا يتغير. يخرج قليلاً،  يتابعون حركته إلى قبيل الظهر. موعد لا يتغير. نقاش طويل. فضولٌ يثير كثيراً من علامات الاستفهام المتناقضة. يُغَمْغِمُون بكلامٍ كثير. لم يتلمس أحد السبيل لاكتشاف ما وراء الساكن الغريب  من سرّ ، أو يحاول اختراق عالمه الغامض.
-----------------
-------------

الحب فى طيبة
من المجموعة قصصية
(لون التوت)
بقلم /  خالد العرفي
***********


" الكرنك "
متجولاً بين آثار معبد الكرنك هنا وهناك.. تراءت له الأعمدة الضخمة شخوصاً. ليست بأحجار لا تشعر أو تفهم.. يقرأها. تسللت من بين الظلال إليه نسمة هواء رقراقة أحيت فيه ما تبقى.. كأنها هربت من سجن الزمن .. فاجأته:
-  من أنت ؟!
- بل من أنتِ ؟!
-  لماذا تسألينني هذا السؤال. أنا واضح كالشمس في كبد السماء. أنا مرشد هذه المجموعة السياحية ؟!
-  أأنت المرشد السياحي ؟!
- أراك غير ذلك.. ساهم.. واهم.. كأنك تفكر في شيء خفي كائن.. في عالم آخر.. كأنك شاعر تبحث عن فكرة أو بيت من قصيد ضائع..
تداعب النسمات جبينها الواسع، ناهده، حسنة، تبسم عن أقحوان باهر.. تحرك خصلات شعرها الحالك كظلام الليل، منسدلاً على جانبي وجهها المُـنِـير لا يظهر منه في الفضاء إلا خجل وحمرة خدود وردية الطبيعة، بابتسامة مشرقة هادئة، وببراءة مطلقة. لمس ثقافتها ودرجة وعيها العالية.
سمع بقلبه ما لم يسمعه من قبل.. اندفعت شلالاً هادئاً  بنغمات موسيقية رائعة عذبة. غسلته من أحزانه. أخذته رويدا.. لمست أوتاره يشدو بها قلبه فرحاً..
-  وضعت يديكِ على الجُرح !!
- أي جُرح تقصد ؟!
-  هذا أمر آخر لا شأن لك به ؟!
- لماذا سألتني عمّن أكون ؟! وأنت لا تريد حديثاً معي ؟!
- إنها قصة أخرى يا " نهلة "  !!
- أو تعرف اسمي كذلك؟ إن شأنك غريب حقاً!! .. تسألني من أنا وأنت تعرفني ؟! وحينما أتحدث معك تقطع الحديث وترفض إكماله !!
- سوف أتحدث معك رضيت أم أبيت..
- نهلة.. ليسانس آداب قسم آثار مصرية قديمة.. جئت في هذا الفوج كي أتدرب وأتعلم لمدة محدودة جداً !! .. وباختصار شديد جئت في النهاية كي أراك!!
- أهذا اعتراف منكِ ؟!
- لا تتعجل الأمور.. وبماذا أعترف لك.. فقط قلت لكي أراك في النهاية!
-إن الأمر غير ما فهمت على الإطلاق.. جئت مع الفوج السياحي بتوصية من عمّى الدكتور (فهمي سالم).. كتب لي تلك القصاصة الصغيرة..
  "إن احتجت شيئاً ما.. فاذهبي دون تردد إلى "فؤاد يحي" .. سوف تجدينه شاباً أسمراً.. فارع الطول.. فارسا.. دائم الصمت رغم طبيعة عمله التي تجعله يتكلم ويشرح.. كل المرشدين يثرثرون!!.. أحد تلاميذي البارعين. لا يتأخر عن تقديم أي عون في استطاعته"
ها هي الورقة (.. فؤاد يحي.. الأقصر- قرية القُرنة )
- آسف.. كل الأسف يا أنسه نهلة.. اتصل بي بالفعل..
- دعك من هذا الموضوع وهذا الأسف.. ها هو اعتراف آخر- لك لكنة (صعيدية) تعجبني. كصوت عائد من الماضي البعيد..
- أتدرى ؟! أنت تذكرني بمن يقومون بالتنويم المغناطيسي.. عينان ثابتتان.. صوتاً رتيبا.. فارسا ثابتا على جواده !!
- الوقت يتسرب من بين أيدينا. الفوج قد سار بعيداً ولم يتبقَ سوى الأحجار!!
" قرية القُرنة"
     انزوى فؤاد في شرفته.. تغطيه غصون الكرّمة العتيقة التي طالما شهدت أفكاره وأحلامه.. تبين من خلال أوراقها الندية شعاع الشمس.. يحمل هباءة هنا.. وأخرى هناك في خطوط مستقيمة متقطعة.. يراها مثل ذكرياته يبوح لنفسه ما لا يستطع النطق به:
" إن حياتي مثل هذا الشعاع "  أخذ يحدث نفسه بصوت داخلي يتردد في صدره .. لماذا لم تكن حياتي خطاً واحداً غير متقطع لاعوج فيه ؟! "
لماذا أترك الكنز الذي عثرت عليه بعد سنين ؟!
عدة أيام مضت وعزيمتي قوية في أن أمتلك الكنز العظيم.. كنز ليس مطموراً في سرداب خفي لا يعرفه أحد غيري!! ولكن أين هو في الواقع ؟!
غداً أبدأ رحلة البحث عن تلك الورقة الثمينة التي تحمل فنون المعرفة والحياة والحب.. هذا هو الكنز الذي لا يجب أن يتوه بين ثنايا وصفحات كتاب الحياة !!
واجه نفسه.. تصفح ورقته.. حروف لا يعرف من سطرها.. كلمات ومعاني غير مدرجة في المعاجم.. بداية الورقة.. طفل منزوي على نفسه.. يتطلع إلى المستقبل من طرف خفي.. أحلامه ملكه وحده.. فجأة بلا مقدمات اقتحمت عليه خلوته ترنيمة شجية.. عينان بوّاحتان ..ضاعت الخلوة .. تناثرت الوحدة!!
اهتزت فروع الكرّمة المتدلية .. الدانية من الشرفة .. استيقظ فؤاد من أراجيفه وخيالاته :
"لأدع الخيال واقتحم الواقع قبل أن تضيع الورقة وأفقد الكنز. لم أحضر وفاة زوجتي لأني كنت بعيداً بالخارج. عدت.. ولم أجد ما تركته.. ماتت زوجتي وخلت يداي منها!!
ولا حيلة لي فيما لا أملك!!
- ضاعت لأني لم أعرف كيف أحافظ عليها.. عدتُ لأجد وليداً بلا أمٍّ. يخبروني (تزوج من تناسب من في مثل حالتك هذه.. الولد محتاج أم) .. أحارب عادات.. تقاليد.. ومازلت !!
أعلم جيداً أنها قريبة منى.. قريبة من نفسي طالما تنطق بالصمت!!. طالما تحاول أن تخبرني.. وأنا كذلك..  دون صوت !!
اشتعلت الرغبة.. قويت العزيمة.. إذن فلتكن الرحلة للحصول على الورقة الوحيدة التي حَبىَ الله بها مثله.... دون أن يلمسها أحد!!
- "غداً .. بل الآن أجمع كل المعلومات.. كل خبر.. كل همسة عن ورقتي قبل أن تضيع في سرداب الحياة.. قبل أن تحترق أو يُضَيّع معانيها عابث أو غير مدرك لأهميتها!!
- "حلّ الرمز. اكتشف اللغز.. اهتدى إلى السرداب الخفي.. لا تخشى اللعنات المرصودة..لا تخاف السحر.. لن يضيع عمري هكذا.. لا تتردد.. بداية الخيط ..عندما يضيع شيء فإن السبب الرئيسي هو تركه عُرضة لأيدي العابثين.. لصوص الحياة الذين يسرقون كل غالى وكل ثمين.. أليس كذلك ؟! .. نعم يا فؤاد .. "
 أخذ قراره.. انتظر الصباح.
" وادي الملكات"
لم يعد يعرف ما هذا الشيء المبهم الذي أصابه منذ رآها لأول مرة.. استقر حبها في عقله وفؤاده. استحكمت في أمره. تمكنت منه. لا تغيب عن ذهنه في يومه وليله، ألهبت أحاسيسه، أججت رغباته ومشاعره. شىء أشبه بالسحر.. بل هو السحر بعينه.. يحوّله من حالة إلى حالة.. نار تشعل قلبه ..بَرَد وثلج فيرتعش.. مشاعر متناقضة!!
في الأقصر.. لا يهدأ.. يتخيلها دائما بين ملكات الوادي يفكر بها كعروس النيل يخرج إلى ضفاف النهر تستدعيه نسماتٌ قبَّلتها. أسرته. يرى وجهها على صفحة النهر المتلألئ. يترك كل ما يشغله عندما يحين موعد لقائها. انقلب كل شيء في نهج حياته. عادت الشمس تشرق من جديد!!
أراد أن يخبرها صباح هذا اليوم. لم يستطع. تلعثم.. تلجلج كوليده. يسمع صوتها يناديه من الغيب يوَّد لو أنه ظلَّ يسمعها طوال عمره. يلتمس كل سبب وحُّجة ليسمعها.. يملأ صوتها الحنون الدافئ قلبه.. تشعر به من نبرة صوته.. من نظرته الهاربة.. من إطراقه الطويل وحتى صمته.. !!
لم يكن يدري من أين أتاه هذا الحب. لا يستطيع مقاومة جاذبيتها برقة الكلمات وسحر المشاعر. لملم شتات نفسه.. لملمت شعث روحه المبعثرة. بعثت قلبه من جديد! أخرجته من أحزانه التي يعيشها بعد وفاة زوجته منذ أربع سنوات. يراها حتى في وجه طفله الصغير الذي تعلق بها، في المرات التي رآها فيها. جذبته بحنانها غمرته بحبها، يضّمها بيديه الصغيرتين ويناديها " بماما".
أخرجتهما من يُتمهما. عادا من غربتهما. يحادث نفسه :
" ما الحب إلا جنون.. أشعر بحبها لي ولوليدي. أبلغُ الحديث الصمتُ في الحب. الحياة لحنٌ .. له بداية ونهاية.. الغروب لا يحول دون شروق جديد.. الحياةُ بسمة ودمعة .. لابد أن أُصارحها.. الوقت يمضى... لن أتخبط بين الشك واليقين".
ويسأله ابنه:
- " أبى: متى تأتى أمِّى لتعيش معنا؟! "
- " أبى: أريد أمِّي! .. أبى: متى تأتى ؟ "
" الصوت والضوء"
- لم نكمل حديثنا يا نهلة!!
- نعم يا فؤاد.. فقد مرّ الأسبوع سريعاً .
- سوف أشرح للفوج ما يدور هنا.. في عرض الصوت والضوء!
- ها أنت ستتكلم اليوم أمام كل هذا الحشد !!
- لن أُكمل معكم.. اليوم ينتهي تدريبي يا فؤاد..
- ولما؟!
- سوف أستقبل " أسامة " في مطار الأقصر الليلة..
- من هو ؟!
- خطيبي. ابن الدكتور فهمي سالم.. صاحب شركة سياحة.. عائد لتوه من غربته بفرنسا.. نُجهز لحفل زواجنا الأسبوع القادم. ثم نغادر معاً بعد شهر العسل لأوربا.. سوف ندير عمل الشركة سوياً.. نحتاج لمساعدتك في عمل الترتيبات اللازمة!!
" الكرَّمة !! "
اضطجع على فراشه.. منتظراً الموت شاعراً بالحزن العميق.. لا حميمَ عناق.. بلا شــريكٍ أو رفيــقٍ يؤنس وحْدَتَه وحين هبط الليل وألقى ستائره شعر أنه سرمدي ولن ينتهي. انتبه.. شعر أن داعيا يدعوه لينتبه من سباته العميق.. استيقظ في هجيع الليل كعائد حمل تفاصيل حياته المتفرقة معه في حقائب سفره. خرج إلى الشُرفة الخشبية ليُخرجها.. يفرغها.. متمرِّداً في هذه البقعة. عاد إلى مرسمه المنتصب في طرف الغرفة ليصنع حلماً جديداً.. ضربات متتالية بأنامل تعرف سُبلها كما يعرف تفاصيل حياته. يتوقف ليغمر الفرشاة في البحر المملوء أمامه بألوان الحياة!
عيناه تتناوبان ما بين النافذة المفتوحة على الجانب المقابل طالّة على النيل واللوحة أمامه يحادثها.. تنفلتُ منه آهة تلو آهة.  يُنشدَ منفرداً. يطلق اللحن الشجي الحزين لمن لا يسمعون منه.. ليس له مزاميراً يألفونها.. غريب.. وحيدٌ.. في فضاء وَحْشَته يتأمل. ينظرُ عبر النافذة في تجاعيد النهر العجوز. يربِّت بالفرشاة على صفحة اللوحة الممدودة عبر أفق حياته. احتضن ملاكه الصغير يحدثه:
" استخدمت كل لون ولم تكتمل هذه اللوحة "
  ------------------


العائد إلى الحياة *
 من المجموعة القصصية "لون التوت"
--------------------------------------------
يوشك النهار على الرحيل بشمسه الملتهبة . توجَّه فى طريقه إلى وحدته الجديدة على طريق يمتد على جوانبه  كُثيبات رملية فوق سهل منبسط بالرمال وقطع صخرية كلسية. تتناثر فوقه أَكَامٌ متباعدة ، من الحشائش الجافة كرؤوس شياطين. وأشباح بأنياب حيَّات متوقّدة، على طول الأفق. تهبط السيارة "الجيب " العسكرية صاغرة على انحدار بسيط، يُواجه ثكنات ثابتة على الأرض شاخصةً مثل المقامات تنتظر أولياء يمنحون البركة بالدعاء الصالح. وصل إلى الكتيبة. تحيط بها مرتفعات رملية. هضاب ملتفة كأفعى تعصر فريستها. حزام من تلال غير عالية، كموج يعصب وسط قيادة الكتيبة. يشد أزرها، في وجه الريح، حين تهب عواصفها فى الصحراء. استقبلته على الدرب أغنام هزيلة وجِمال مُشتتة بدون راعٍ لم ترَ كلأ ربيع في حِما بلا سياج !
الوقت ليس وقت سراب لغدير تغيض بمائه رمال الصحراء!
القطا والعصفور والحبارى طلقي . حيوان الصحراء الوحشي كامنٌ ينتظر فرائسه. وليل مظلم يغشى الصحراء. وتتلوّن في أثوابها الغُول. أدى التحية العسكرية للقائد الذي غادر " طابور" المساء . بثبات:
-"تمام يافندم“. عقيد (مصطفى الدمرداش). قائد "الاستطلاع" الجديد منقول بقرار رقم .... "
يرى الجميع أن النقل نوع من " التكدير" والعقاب. يراه متعة لا حدود لها. سياحة وتطواف. توارثها من جدِّه الأكبر جيلاً بعد جيل. شاقاً الأودية والسهول، صاعداً الجبال والتلال. عن ظهر قلب يحفظ قصص وحكايات علماء الفلك. تتآلف روحه مع أرواحهم. يبثهم آماله. يكره التنجيم والمنجِّمين والعِرافة والعرَّافين. يعلم أن هناك كواكباً أخرى لم تخلق عبثاً أو باطلاً.. يرى وينظر.  يمقت الآبق عن ربض الدين !
 يتدبر روعة الكون الأخاذ، وأسراره.. تم بناؤه بإحكام شديد عجيب. لا يعقله مَنْ يبع وهماً. لم تتدبره بطانة السوء لفرعون وهامان وقارون. ورغم ذلك يصوم الصائمون . ويسيح السائحون في يوم القيظ ، برداً على القلوب.
نال ترقية حديثة فهنأَّوه. معانقة نسراً، لمعت النجمتان الذهبيتان، تُزيّن كتفيه. تلألأت. التمعت بارقةً في عيون الغيلان المتربصة. أرعبتها. خشيت مخالب النسر وهويان النجوم. فرَّت هاربة إلى حين. دخلت كهفوها !
مرَّت على نقله بضعة أشهر. ألفه الجميع وألفهم. تَقبله القلوب وتَتبعه العيون. سبق إلى قلوبهم من محبّته ما هو أسرعُ من الماء إلى قراره ، ما لم يألفوه..  يجنُّ عليه الليل. يكسوه  بسكينته. يدرى جَمَاله. يُعاين أنهار لبن وأبراج السماء. لم تغب نجومها. تتلألأ في ظلمتها. لم يفقد إحداهن. سماء شديدة.. قوية.. دقيقة.. متماسكة.. محكمة. مرآة تعكس صورة البحر الواسع الكبير تسكنها مجرَّة عجيبة يعرفها بسيماها.. ترسم طريقاً لبنياً. سكة التبِّانة.. منزوياً بها الإنسان. صيفاً ماء الإسكندرية هدية من بعض القادمين من الزملاء، أو "جركن التعيين" عشرون لتراً من ماء الآبار المصفّى.. تمنحه الأرض الطيبة للعطشى. يُحب التّين. يذهب أحياناً إلى قرية "بقبق". تبيعه الأعراب بالشجرة، وليس بالقفص. أحياناً تقايض به مؤنة من المعسكرات المتناثرة هنا وهناك. راهب الليل يشترى نفسه. لا يُسكره التِّين وليس إلى ذلك سبيل. ماء السماء أحلى من الشهد فى الشتاء، وطهورا. يَردُ الماءَ، يرتشف من برك الأرض الصخرية بيديه. يرى صورته صافية، بوجهه الأسمر، بخلفية السماء. يرتوي من الفرات قبل أن تمتصه بشراهة وَوَلَهٍ، في بطنها رمالُ الهجير والقيظ. وترابٌ عَطِش لدماء الأعداء. بات يعرف رائحة الزعتر والريحان والنعناع والبردقوش. يجمع الأعشاب والنباتات. يقطف الأزاهير البريّة، والسُّم الزُعاف ترياقاً لنفوس ضعفاء.. والأريج. هنا بكور وبكارة. ليل أخاذ. ونجوم يعرفها من سيناء. يسامرها. يودعها سرَّه. يعرفها آخرون كما عرفها كثيرون. يتفكر في مواقعها. تستهويه أسماؤها. تَسْبَح روحه معها، في أفلاكها.. تُسَبِّح. بظلمة الكون تنير له الدرب. تنطق. يتمنى أن يمتطى شهاباً أو مذنباً. تشق ظلمة الليل سفنا بيضاء اللون، تخرج به إلى عالم آخر، من فروج وأبواب السماء.. عالم لا تسكنه غيلان الأرض. لا يكتفِ بِمَ يراه. يريد ما لا يراه أحد الآن. يتعدى ما يُبصِر إلى ما لا يُبصَر، من المجرَّات، عبر مادة مظلمة قوية، وشديدة.. غير مرئية. تملأ الكون. بنظام دقيق جداً. لا تُرى. عن ذلك، يُخبر الجنود. يريد سبر غور تلك المادة. تنتشر محبوكة على شكل طرق، أو على شكل نسيج. تتخلق فيها المجرات. تجري أشبه بطرق سريعة. مادة تتحكم بما هو مرئي في الكون. يزيده حباَ الجحود.
- يافندم“ هل تعرف أن الجنّ تسكن الصحراء؟!.."
لم يغير ما نوى الحديث فيه. يخبرهم بعض الشيء عن تحكم مادة الكون بتوزع المجرات. عن سنن الله وآياته.
-"هذه النجوم والمجرات والنجوم البعيدة اللامعة مثل المصابيح المعلقة. تكشف ما حولها. صورها الله كما شاء...، الجنُّ، الجنَّةُ ، الجانُّ ، واحدةٌ مخلوقة من نار.. !"
كاد يُنهى حديثه للجنود التي جلست على الأرض، في أمسية تدريبية صيفية، في صحراء مصر الغربية. خلف أرض "طابور" الكتيبة. استحالت محاضرة التدريب المُركِّز لحكاية أسطورية. ترهف لها آذان متعطشة، وقلوب وِجِلَة. تدفئ جُمله الأفئدة  تأسر كلماته العقول. في كهوفها المظلمة تحارب الغيلان كلمات الشهداء. لم تنتهي رحلته. طالبته الجنود بمزيد من الغيلان لقتلها. بأسلوب يجذب القلوب ويفتنها، يَشرح. أمثلة تأسر الأفئدة، يُعطى. مضي متحدثاً كأنه يخبرهم عن حبيبته. يرونه فارساً جاءهم ينثر على رؤوسهم وأمامهم نورا. تعرفه الأندلس. غرناطة. قرطبة. القاهرة. بغداد. ودمشق الفيحاء. ومدن للتِّيه  هُدِّمِت. وألف بحر ونهر وألف سور.
- " إحكِ لنا يا “ فندم“ . إروِ لنا"
-" عن الجنّ ولاَّ الغيلان ولاَّ النجوم؟! "
-"عن أىّ الأشياء تحبُّ ؟!"
-"ها هي السماء فوقنا مبنيّة. مزيَّنة بِمَصَابِيحَ. ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. بناء محكم.. !!"
- "يافندم“ هذه ليست محاضرة. هذا شيء كما ألف ليلة وليلة. حضرتك تجعلنا نُّحب الجيش والعلم والنجوم. حبَّبَّتنا في الليل ونجومه و نُّحبك والسماء والكون "
- "هل تعرفون أن كثيرين. ماتوا، أو أُسروا في الحرب بسبب جهلهم النجوم. وقعوا في التِّيه. لم يقرأوا الكتاب. كثيرون أولئك مَنْ تاهوا في الصحراء"
- "هل هذا يعنى أن نُصبح عُلماء ؟ "
- "ليس هكذا. على الأقل يجب أن تعرفوا ماذا ينقذ حياتكم.  تستدلون بالنجوم ليلاً. بالشمس نهاراً. إذا جرى لكم شيء أو تُهتم  أو جاءكم الأعداء ! .."
عاشقاً النجوم والـتأمل في السماء. يخبرهم أنها آية من آيات الله. يخبرهم عمَّن تاهوا لأنهم ضلوا الطريق . لم يعرفوا شرقاً من غرب، ولا سنناً للكون. سُنة الله التي قد خَلَت من قبل وليس لسُنةِ الله تبديلاً. لم يهتدوا..! أكمل حديثه في حُبٍ :
-"أنظروا هذه "مجموعة الدبّ الأكبر. أحبِّوها تعرفكم.. وتُحبكم! يعنى كما تحبون نجوماً زائفةً، اعرفوا نجوم السماء..."
-" هذه المجموعة تتكون من نجوم.."
-" يافندم “ من أين أنت ؟! "
تجاهل الإجابة عن السؤال. استمر شارحاً :
-"أتعلمون أن للسماء طرقاً وأبواباً وفروجاً. أشبه بطرق سريعة فى مدينة مزدحمة  "
–" يافندم “ كيف جِئت هنا ؟! كيف أصبحت هكذا. من علمَّك، فعِلمت كل ذاك؟!
- نحن نرى هذا في الريف والصعيد ولا نعرفه ، هكذا مُضاء؟! نحن لا نراه أصلاً في المدينة. هنالك الدخان والغبار والعادم والزحام والآثام "
لاحقه الجنود بالأسئلة. عزف لحناً يحبّه. أصَّروا. لم يتململوا. تشوَّقوا. أذاقهم خمره. استزادوا. جاءتهم كائنات الصحراء. ومخلوقات الليل من الماضي السرمدي . زادهم نشوة. الكل حضر يسمع اللحن الجميل. لم يداعب النوم جفونا مرهقة. لم تملّ الأرواح. سمعوا صوتاً رخيماً تتردد أصداؤه، تدوي عذوبته في الفضاء.
-"لست بقادر على وصف جمال السماء وبناءها الذي يذهل أولى النهى ويسحرهم. من يستطع أن يرى كل نجوم السماء. من يرى تلك السماء كما أراها .. "
-" يا “ فندم “ إحكِ لنا.. "
- " لففتُ ودُرتُ. سيدي برانى. سيوة . الواحات . السويس . الإسماعيلية. فايد. الفالوجة ..، وطفت سيناء. والآن هنا معكم في "حباطة ". وغداً لا أعرف أين أكون.. لكل شيء وقتاً لا يعدوه"
-" يعنى كعب دائر " يافندم “ ؟! "
" الحكاية بدأت بجدِّى العارف بالله . أصل من لا يعرف ربَّه. ربُّه لا يعرفه. لا يورثه الأرض."
كبيرةٌ الأرض. واسعةٌ. لا يقدر أحدٌ لّمها! جدَّى طوّاف سوَّاح. عارفٌ بكل شبر. لا يقع في متاهةٍ، أو يبتلعه تِّيه. تالٍ للكتاب "
- ماذا بعد يا “ فندم “ ؟! "
- " كيف عاش ؟! "
- " يمدّ كفيه في هجيرها يفتح صفحاتها، يبْسطها، ولا تصكّ بوهجها اللافح وجهه. لا يخدعه السراب كبريق سيف. عارف بلغة كتاب الصحراء. جبالها وسهولها.أوديتها. وِهادها. رياضها. رمالها. أبارقها. هجيرها. جدبها. شراستها. قسوتها. جفافها. والحياة كاسية الأرجاء. عطاءاً واسعاً رحباً، وأثراً لا تمحوه الأيام. يعرف ما يكون بما قد كان. وما عاقلٌ في أرض بِغَريب
- " أكان يخاف، أو يخشى شيئاً ... ؟! "
- "جدّى لا تُخيفه السحب الثقيلة، تحت أصوات الرعد العنيفة. لا يهاب الغيوم السوداء. يسمع للجنّ في الفلاة أصواتاً، تزعق. تعانق صوت الريح. يُميّزها. لا يخشاها. ليس له أراجيف أو خيالات. تتراءى له، في تسبيحه، كثبان الرمال أجساداً للعذارى وحُوراً تتنفس الصبح ، ونسائم الربيع. يخشى الله "
ذهبت عسعسة الليل وانتصف. نجوم السماء لم تغرْ. العيون لم تهدأ. بدأ رواية حكاية جدِّه. عاد للحياة فرأوه. انطفأت "ماكينة الكهرباء " في المعسكر بموعدها. أنارت النجوم ظلام الليل. أنارت كلماته القلوب. طهَّرتها. أكملَ للجنود الحكاية عن جدّه، وفى حُبّ وَلِهَ الجنود. استحالت السماء بنجومها المتلألئة، قُبةً وبـسـاطاً زمردي. بحراً خضماً. دراري من عقيقٍ. تتسربلُ الأزرق. تكسوه سِحْراً، يشفى القلوب بذكر الله. بدأ في وصف نجوم مجموعة " كثيوبيا". انسلخ الليل عن أسحاره. انقضى الدجى. انشق بفجر جديد. انقضت شهب السماء رعداً  يكاد يخطف سناه الأبصار. أحرقت الشياطين. لم تخطف عيون الجند الأطهار! نادي المُنادى : الصلاةُ خيرٌ من النَّوم . الصلاةُ الصلاةُ‏!!