سرماديا

سرماديا

مقالات و خواطر أدبية 2 - 3






يوميات عابرة
--- خالد العرفى

طالما وجدت حقيقة، فثمة معنى شئ ولغة. والحقائق دائما، فى مكان ما وزمان ما. هى ما يمنح الكتابة لغزها. المدهش أن تبقى الحقيقة مجهولة، حتى نبدأ. الكتابة ليست كلمات وحسب. ليست فراغا أو صمتا. إنما هى وجود. لكن هل تجعلنا نتألم بشكل أفضل؟
أم عن الحياة بها نعبّر؟
أم تجعلنا نحتج على متناقضاتها؟
أم نستعيد بها وجود الحياة وروح كل شئ؟
هل الكتابة محض خيال أم  ترتبط بحقيقة ما، على نحو ما؟
هنا تكمن تلك اللمسة المباغتة للروح، مثل شعاع قوي مبهر، يخترقك، فيجعلك تكتب، أكثر مما تقوله الكلمات، ولا يمكن تصوره. حيث تمضي قيمة الكلمة، فتتحرك الحياة بموسيقاها، مفرحة كانت أم حزينة، بألوان غروب. هذا، ما يمنح النصّ حياة. هذا  الحسّ الغريب الذى نلاحقه. نبحثه عنه، وأحيانا كثيرا يستحيل علينا اللحاق به. ومع ذلك فإن الكاتب يظلّ يحلم، ولا يستطيع أن يفعل شيئا، إلا أن ينتظر لحظات، يحترق فيها، كطائر غريب، لا يغرّد إلا إذا تألم. وآلمته الحقيقة. ومع ذلك يظلّ يحلم، ليكتب. والفن على العموم، حضور أو معنى له أثر معنوى، ينفلت من التوقع والتصور المسبق والعقلانية. فى إطار لا يرتبط بمَ قبل أو تقليدية. سلوك حرّ، يشيّد المعنى. وبهذا يمكن إدراك الجمال والحكم عليه، مما ينعكس قيمة، فى الكتابة..
ومن الأسئلة التى تتعلق بقضايا الإبداع ما تثيره طبيعة الكتابة نفسها وأبعادها، والعلاقة بين أجناسها المختلفة. إلى ماذا يستند الكاتب فى كتابته، أنّى كان مسارها بين قوالب وأنماط الكتابة؟ 
وأية قيمة تلك التى تأخذها كلماته فى إنشاء المعانى، فيما تحدثه من أثر وإرساء لدلالات؟ 
وما هى القيم الجمالية التى تمنح نصّا ما، أصالة وفاعلية وحياة؟
إن الإفتنان يأتى من هذا الأثر اللا محدد، الذى يستمر الى ما لا نهاية، نافذا إلى النفس. يبقى ويدوم فى العقل. أن تستمع بعمق، إلى حقيقة ما، من خلال النصّ. من خلال واقع قائم، فى فضاءاته، ممّا قد لا يكون واقع حياة، بقدر ما يكون تمثلا لعالم متخيّل. وهذا ما يقصد به أن يكون العمل مشيّدا لمعنى. وفى قدرته على إيجاد قبول وأثر جوهرى ينبع من مصداقية، تتغلغل فى الروح. 
والأمر لا يتعلق بمجرد فرادة وندرة أسلوب، فهناك شئ من معيارية يمكن الاحتكام اليها. تفكير حول طبيعة السرد القصصى. وكيف يستمد الإبداع قدرته على إنتاج معنى جديد، فى مواجهة الإدراك العادى. فى الوقت نفسه، كيف يمنحنا إحساسا جديدا. أو إن شئت قل يوجد الإحساس، شارعا نفوذه وأثره، وطارحا سؤال المعنى. فى البحث، عن الممكن منه..

ودوما، حيرة تثير أسئلة متوالية، وتشغل نفسى، وذهنى، دوما. لكنها، وكم من أسئلة جالت بخاطرى، ظلت معلقة، دون أن أدرى لها جوابا. يدركنى منها اضطراب، غائبا لا أدرى بوجودى، باحثا عن خلاص، من أسرار مختفية، فى صدرى. وهكذا ألبث حائرا، لا أدرى كيف السبيل. ولا كيف تأتى نذر عاصفة، تنسف هذه الحالة، وتلك النصوص ماثلة أمامى، تأسرنى كتابتها. لا أعرف ماذا حلّ بها، وحلّ بى. أجنح مرة إلى هذا، بنظرة عاجلة وأخرى إلى ذاك، قى وقت ملائم. أتفحص نفسى لا أدرى أم ما كتبت، لعلى أظفر بنهاية، لأى منا.. دون تنبؤات مسبقة، منذ إنطلاقى معها، أو إنطلقت هى داخلى، لأمر ما.

على هذا، هناك أكثر من عمل، طالت بى فترة كتابته. لا أستطيع أن أحدد موعدا محتملا أو منتظرا، لنهاية أى منها، ومن الممكن ألا تنتهى. أصبو إليها، بين طبائع. رغبات وقناعات قلقة. ردود أفعال مختلفة. أحداث تحمل مضمونا ما، وفقا لسياقات متباينة، فى النفس. مفارقات وتضاد تام. تستطيع تقبّل مثل هذه الحقائق، لمسافة بعيدة، فى النصوص. وفى هذه الحال، يصبح الأمر شيئا مربكا حقا، يسبب ضجيجا، فى العقل. ولا تملك أن تتوقف. سنوات، محاولا أن أفعل هذا، على نحو أفضل. كل مرة،  أكتب من جديد. مسودة وراء مسودة، ولا عمل ينتهى. وتلك دراما جديدة أخرى. وقلق بشأن مثل هذه التفاصيل، لأكتب حقّا. وعلى هذا النحو، أكتشفت كيف أكتب، وأستثمر ذلك فيما أكتبه. تمضى بى أفكار. أمضى معها، فى الخيال. عاصفة، ومتعة حقيقية، فى كتابة لا تنتهى.
ومثل هذا رواية " شيزر". طال أمدها منذ سنوات، حتى ظننت أنى سوف أظل أكتبها، العمر كله. ونصوص أخرى، مثل جذور. ونصا غصن الزيتون، وعيون زهرة الربيع. وأخيرا، صوت الحياة. أترك خطا دراميا، فى هذا النص، ليأسرنى سرد ووصف، فى ذاك. حوار هنا أو هناك. أشياء وأمور مختلطة فى الذهن، ولا تمتزج، فى نفس الوقت.
ولا أدرى كيف أكتب، أكثر من عمل، فلا أتفرغ لنص، لعلى أنهيه. إنما هى حياة، يقع القلم ضحية دوران صاحبه، فى عجلتها. الحل، خروج من هذه الدائرة، وحينما نوشك على فعل هذا، نجد أنفسنا من جديد، فى نقطة بداية مشرقة. رغبة جديدة، فى ترحال بين عوالم خيالية. نعيش فيها ونتنفس.
وكم حاولت رؤية السرد الأدبى، وفهمه، وكيف يتم فى النفس، أولا. ثم الذهن، ثانيا. فى إطار ماهية الكتابة، نفسها. كيف ينمو النص، وهناك ما نبحث عنه. رؤية كل ما يحدث. هنا قد يبدو الأمر رائعا، خاصة فى القصّ. أن تكون فى حالة نفسية إستثنائية. حالة ضد الحياة الرتيبة، فى عالم قصصى متخيل، بصوت راو. وحينما يحدث ذلك، ندرك أمر ما كان غائبا، فيمتلأ النصّ بحياة نابضة. غموض غير مرئى، يأخذ الروح بعيدا، لسبب غير معروف.  خيال تسير فيه أحداث. وفضاءات، يقوم فيها ما ينهض عليه تصور مواقف وشخوص وأفكار، يقدمها نص ما.
ولابد أنها كانت ليلة طويلة، أعقبها عدم نومى، غير مستسلم لإرهاق، بعدما، ما مرّ فيها. وعادة، قد تمرّ ليلتان أو أكثر أواصل فيها، مسلكى، مع "رواية شيزر" ومسلكها معى. قد يكون قد مرّ أعوام، على هذا الوتيرة، ولم أنتهِ منها بعد. تأخذنى أمور وشئون أخرى، لبعض الوقت، لكن سرعان ما أعود، لعالمها وعالمى،.. عالم، بعيدا عن كل ما يشغلنى. أعرف كل شئ فيه. كدت أفرد لها غرفة، برأسى. هذه ملزمة أماكن. تلك لأبطال. وثالثة لمعارك. تلك لخط الزمن. أما الكلمات والعبارات والفقرات، التى تقتحمنى، فأوشكت أن أمشى بها، خلال نومى المتقطع. أسامرها فى يقظتى، أنتظرها وتنتظرنى. أوراق مبعثرة، بين ملازم عديدة ضخمة. تلتزمى، وألتزمها. ألقى عليها بنظرات فاحصة. أعمل فيها، بكثير من الأوقات، تذوقا للغة، حينا. أو بسبب مسلك دراما متقاطعة. علاقة بين أبطال، حينا آخر. وفى أونة أخرى، أن يكون بسبب حدث، أو واقعة بطل. يجذب كل شئ ورائه، ومعه يشدنى. فى النهاية يصبح ما كتبته، كأن لم يكن. فقرة أو صفحة. أختصر، إلى سطر، أضمه إلى سطر آخر. وقد أطلت بعقلى، فجأة كطيور شريدة. حطّت فى عقلى. أشعر أنى قد صرت ملاذها، وقد أمسكت بها فى كلمة أو جملة، فأكتب.
حسنا، هذه المرة، كان فصلا، من الرواية. خططت الصفحات أمامى، على ورقة كبيرة، رسمت الحدود، والأحداث، كما جمعتها من بطون مصادر التاريخ. معركة حربية، جرت على أسوار منطقة معرّة النعمان، إلى جنوب شرقي أنطاكية، حيث تعلو عن سطح البحر، متوزعة آثارها، فى حناياها. واحدة، من أبرز محطات التجارة وقوافلها العابرة، من جنوب الشام إلى شمالها. ومن بحرها إلى باديتها. مهد الشاعر والفيلسوف العربى أبى العلاء المعرى.
رأيت نفسى، بين حاضرى مؤتمر مجمع كليرمونت، حيث إنطلقت شرارة الحرب الأولى عام 1095م، على يد أوربان الثانى. وكان يحكم روما، في تلك الفترة. يذكر أنها إرادة الرب. ويمنّى الفرنج أنفسهم، بأرض كنعان، التى تفيض لبنا وعسلا، ليتبعهم إلى الشرق، جموع فلاحين غفيرة، وعامة سكان المدن.
أعدت كتابة هذا الجزء، مرات عديدة، دون جدوى. كنت غير مقتنع، تماما، رغم أنه لم يتركها مؤرخ، إلا وقد أشار أو ذكر ماذا حدث. إذ تعرضت لدمار شديد، خلال حملة الفرنحة الأولى عام 1098م. كانت تتنازعنى شروحاتهم. كان الفرنحة، على اتفاق أن تكون سلطة وحكم أنطاكية، التى سقطت بقبضتهم، ل "بوهميند". حددوا موعد زحفهم، صوب بيت المقدس، جنوبا. فتحوا حصون الدروب، شيئا بعد شئ، وطمعوا في البلاد. وصلوا إلى البارة، واستولوا عليها. أفنوا مواطنيها. أما منطقة معرّة النعمان، فوقعت تحت الحصار، في مائة ألف. ودخلوها، وسبوا الكثير. قتلوا فيها، ما يزيد عن عشرين ألفا..
وفى ذات الوقت، كنت أكتب وأنا أرى كل هذا. أحصى مع من أحصى، من قتل، ومن تطايرت أوصالهم، أو دّقت أعناقهم. هكذا، كان الأمر أمامى، لكننى كنت أبحث، عن شئ آخر.
  - تراه، أين كان هذا الشيخ، الذى يقبع فى صومعته. وقد داهم الفرنجة بخيلهم وركبهم، ناصبين عليها كل سلاح؟!
 - أين كانت " لارين "؟!
وبين فكرى، فى الشيخ ولارين. وأصوات جزّ رؤوس، وبقر بطون. وشق لحم حىّ. كان يتردد بأذنى، هسيس المعركة. أصوات هدّ الأسوار. تصاعد جندلة سنابك الخيل. وصيحات الأمهات الثكلى، تقتلنى..
مع هذه المشاهد، قضيت ساعات طويلة، حتى أول ضوء للفجر. رأيت الشيخ متضرعا، لله. ورأيت لارين، مع من هرب، إلى قلعة شيزر، من نساء وشيوح وأطفال. يلتحفون دجنة ليل ساترة. ولم يسلم إلاَّ قليل، ممن كان فيها. وسارعت بقايا الأسر العربية بالهرب، للإحتماء بها، بعد مذابح بشرية رهيبة، تعرض لها سكانها. ونهب ما وجد. مطالبة الناس، بما لا طاقة لهم به. وكان الرحيل إلى كفر طاب، ونواحيها. فوصلوا إليها، أوائل عام 1099م، لتتجمع عندها فرق ريموند دى سانت جيل. وروبرت النورماندى. وتنكريد. وكان سقوط المنطقة بعد أنطاكية، يعنى فتح طريق غزو أفامية. شيزر. حماة. وحمص..
كنت أستحضر متعايشا، تلك المشاهد والصور، لأبنى صورى ومشاهدى، فى هذا الفصل المثير. يشغلنى، كيف أكتب إنتقال الأخبار والأنباء، بين هذه الأماكن. ما يدور فى النفوس وصراعاتها، على الإمارة والإقطاع. كيف كان يفكر الأمراء. إستعدادات سكان معرّة النعمان، بين فزع وخوف. إبتهال المبتهلين. أحاسيس ومشاعر آباء وأمهات. شكل جثث تناثرت. وقوفى أمام رأس مقطوعة، على درج، وقد سال الدم، نحو القبلة. مشاعر لارين، وهى تحاول النجاة بنفسها، فى رتل، من أرتال كثيرة، تماوجت سارية، تحت جنح الظلام.
------
كدت أصافح الموت، مرات. فى كل معركة، فى الرواية. علمت نفسى، كيف أروض نفسى على الألم، مع أبطالى. حتى أستمر. وحينما ضقت ذرعا، من جريان دماء وقعقعة سيوف، أتذكرها فى "رواية شيزر".. عاتبت قلمى فى غيظ. لائما نفسى، ألما وحزنا. وأنا أترك هذا الفصل. لم أكن أقدر، لأتقى هذا القدر، أو أتجنبه. مهما كانت قدرتى وإستطاعتى، على تدارك الأمر. لكن، الحياة إدخرت لى هذه المرة، ألما، من نوع جديد، فى رواية غصن الزيتون، بملكال، فى السودان. قارنته، بكل ما مرّ علي، أو بى فى معركة منطقة معرّة النعمان، بالشام.
وبين غريب ألم فى شيزر، وسرحة فكر فى كليرمونت، مع البابا أوربان، لم يخرجنى من هذه الحالة، إلا التفكير، فى قصة حب، كانت قد بدأت، بين بطلى الرواية (غصن الزيتون).. أمجد وإبتسام. وجدتهما أمامى. وما كان من قدر جمعهما، بعد نجاتها، على يده. والمهندس إسماعيل يتابع الشواء، فى حفل، كرامة لها. قائما بنفسه، أمام نار موقد متأججة، تدور عليه أسياخ حديدية، وبها ما بها، ومن تحته الجمر المتقد. وقد ألهبت دائرة حضور منتظرة، رائحة الشواء الطيّب.
ومضى كل، إلى مأواه ومضجعه، وخلت الساحة، رويدا رويدا، من الرجال. أما أمجد، الذى شغف بإبتسام، وشغفت به. كان، فقد إلتصق بجذع شجرى ضخم، جالسا على حافته. فهمت إبتسام من تعلله، وكانت تواجهه، فى جلستها، بين ذراعى أبيها. أنه لا يريد مرافقة أبيه، الذى كان يناديه ليلحق به، للنوم. حاول التخلّف قليلا، وهو يأبى، معتذرا أنه سوف يلحق به، ليختلس نظرة، أو كلمة، يحملّها شغفه بها. يستشنق رائحتها، مفتونا بها. يتنسم فيها، إبتسامة خصّته بها، دون بقية أبناء الحضور. جعل القدر لهما، لغة طفولية بريئة، لا يفهمها إلا هما. فأشارت إليه. ولحق بأبيه. ينتظر الصباح.
وجدتنى، أكتب جزءا رومانسيا جديدا، من قصتهما، تصاعدا فى خط فرعى، بين بطليها، وأنا أراهما. يتنامى مع كل فقرة. يتصاعد أكثر فاكثر، داخل بنائها الدرامى الأساسي. يكشف، كيف بدأ الحب القدرى. وقد جمعا طائفة، من خصال حميدة، جمعتهما معا، على درب الود والمحبة. بوشائج، علمها (متولى). كان كلامهما معا، يسعده، ويلذه منهما حسن معشرهما، وأدب جمّ. وقد أسرع أمجد، تلك الليلة، إلى لفافة دستها، فى يديه. ليخفيها، فدّسها بين طياته. تردد فى فضّها. بالغ فى سرعته، حتى لم يتبين الظلام..
- سأكون عند الشجرة، بجوار البحيرة، فى الضحى.. إبتسام.
ما كاد يفرغ من قراءة الرسالة التى وقعتها، بشفتيها، تدعوه لمقابلتها، عند إرتفاع الشمس لضحوتها، فما مضت برهات، إلا وقد سمع صوتا، من خلفه..
- تراك ماذا تقرأ؟
كان عمار الفتى المشاكس، قد رآه موليا، نحو حافة البحيرة الصغيرة فتبعه، من ورائه..
- ما شأنك أنت؟
- إعطنى هذه الورقة.
- لا. ليست لك.
حاول أن يغلبه عليها. فخطفها من بين يديه، فاستمسك بها أمجد بقوة عجيبة، عاضّا عليه بأسنانه كلها، وقبضة يده. لم يجد عمار سبيلا، إلا أن يمسك بيدي أمجد، وقد أطبقت عليها أسنانه. غرس نابيه، فى ظهرها. تعالى صياحه. تقلبا على الحشائش. لولا (متولى) الخادم، لفتك عمار بأمجد. خلصهما، وقد تركا نابا عمار، بيد أمجد أثرا دّام، لن يختفى. لام عليه (متولى) تصرفه. وعاتب أمجد على العراك والأرض بها، ما قد تُخفيه له، من خطر، جانب البحيرة.
شعر أنه شحذ له القول، فهشّ له من جديد، وهو يزيل أثر الدم من يده.. يحيطه بذراعيه، حانيا. كان يميل له. يحبه كثيرا، لما علم من قصته، من عمه الذى أخبره بها. أوصاه به، فى غيابه، برحلات العمل. وقد لان له، من حديثه..
- يابنى تعلم أنى أحبك. عمار هذا شيطان. لا تترك له فرصة، ليؤذيك.
تركت هذه الحادثة، فى نفس أمجد، أثرا متسائلا:
- لما كان يعترضه عمار، بهذا الشكل العجيب، دون إبتسام؟
إستعصى عليه فهم، إضطراب، ينبئ عنه، مسلك غريب. وعبثه ضده. ومن هذا القبيل، لم ينس، يوم أن وضع له بعض حشرات الخنافس، فى كيس طعامه. فأخبره بذلك هشام، صديقه، حينما رآه. ولا تلك المرة، التى أغرق فيها، ببيض فاسد فاحت رائحته، بصندوق مكتبه الصغير، فى مدرسة البعثة. سرعان ما تبين له مشاركة "فُتنة"، فى المكيدة.. تلك الفتاة صفراوية المنظر، خضراء العينين، إبنة رئيس البنائين. كانت مغرمة بأمجد، مجنونة به. لم يعرها إهتماما يُذكر، كلما حاولت التقرب إليه. يعفّ رائحتها. كم ضاق ذرعا بها، وبمسلكها. كاد يخبرها مرات:
- تذكرنى بأفاعى الأشجار الخضراء، كلون عينيها تماما. تتسلق الأغصان، فاتكة، بالطيور، وأفراخها.
كان ينظر إليها، لايفرقها عن الحيات، من شئ. شاركت، عمار الخبيث، المؤمرات ضد أمجد وإبتسام. تحبك الدسائس والمكائد.
هكذا كنت أجد لمحة حياة، فيما أكتب. ما كان مخبوءا، لم ينله بَلى. تأثير لا يقاومه وقت. ولا مهرب له، من مصير. فى مواجهة الأمر، إما قوة و عزيمة وجلدا. أو فتورا، وضعفا وإستسلاما. فى مواجهة حياة حقيقة، تنجلى عنها غمرات الأمور، قليلا فقليلا. بحكم تناقضات واقع قوية، وأحداث وخطوب عنيفة، مرّت، منذ ذاك الحين البعيد. لا تدل على شئ، إلا على أقدار نفذت. لم يبقَ منها شئ، من ماض، إلا، لأرويه. كمن، يفتح لغيره، نافذة ضوء، ليرى صباحا جديدا، ليس لى، أن أشاركه فيه. لهواء يتنفسه حرية. من دون ذلك، أغلقت الباب، دون كل شئ، تاركا، الأمر وديعة، فى يد الزمن.
لم تكن فكرة خطرت على قلبى، أو شيئا راود خيالى. كي أحكى، يوما ما كان، مختفيا، فى ركن بعيد، فى رأسى، خبأته ذات يوم، ليكون بصيص أمل، أمام غرابة الحياة. أخذت بتفقد، هذا الجزء من عقلى، الذى إقتطعت منه، حيزا، كمخزن، اتخذته لملفات قديمة، وأدوات ومتاع عتيق، من حياتى. بين كل رواية وأخرى. أشخاص، وأحداث، مرت فى زمن ما، غبر. ولّى أمده. وقد جرى مشهد آخر فى رأسى، وسمعت هديره. إنتهزت فرصة  لاحت لى، لأراجع صفحات كنت قد كتبتها، قبلا، من غصن الزيتون..
----------------
صفحات 
من رواية غصن الزيتون
----------
من يستطيع التنصل من اسم وطنه. من مدينة ولد فيها؟!
لم أستطع أن أخلع عليها اسما غير ذاك الإسم العريق، حاملا تاريخها.. ولدت ذات يوم، ذات سنة. لن أكلف نفسي ذكرهما. أوعناء ذلك. بينى وبين هذا اليوم، عمرى. فترة طويلة، نقشتها أحداث، ربما تستغرق صفحة واحدة، لو سجلتها مبكرا، يوما ما. أو ما لا أعرف ما سيكون اليوم، أم غدا. علىّ، إستحضار هذا اليوم البعيد، حتى أتوقف لعلى، أكمل ما حدث. كان خليقا بيوم أن ودعنى أبى، مع العمّ الوحيد لى. ترافقنا زوجته، التى لم تنجب. فكنت الإبن لهما، حتى حين.
ورغم أنى لست أميل، إلى أن الإنسان يفارق وطنه، ومكان مولده. فليس حتما، عليه أن يعود إليه، فى حادث أليم، أو سعيد، قبل مماته. لم أكن أدرك آنذاك، هذه الحقيقة. الحنين، إلى الوطن. الواقع أن مخلوق مثلى، فى سن مبكرة، كان عليه أن يدرك وجه أب، يُلوح بيد واحد.. وأخرى، قد إرتكنت إلى جنبه ساكنة، ملازمة، إثر شلل لازمه سنتين، بعد وفاة أمى. لم يكن يملك سوى أخا وحيدا، ذا زوج عاقر. وسنوات عشر من ذكريات، مع أم راحلة. ثروة لا بأس بها، حوّلها كلها باسمى، بوصاية عم، إحتضننى إبنا له. راحلا بى إلى السودان، حيث مقر عمله، كبيرا لمهندسى الرى، التابعين للبعثة المصرية.
لم يكن ليشغلنى، سبب أجبر والدى للتضحية، برفقة ابنه الوحيد، وهو الميسور ماليا. كان يمكنه إستبقائى معه. يستحضر من يعتنى بى، من غير عُسر، أو مشقة. رحمة عمى بى، أنستنى الكثير. منعتنى أن أفكر:
- ماذا كان؟ وماذا ألّم بى؟!
لم أقلق على مستقبل. لم ترجح كفة إرتيابات. شكوك، لا يستوعبها عقلى الصغير. من غير ريب، أحاطتنى ذكرياتى، مع عم رؤوف. لم يكدر صفوى، شئ غير مألوف. لا أنسى، يوم أن طوقنى بذراعيه، كلما هممت النظر من نافذة قطار، شقّ الصعيد الأعلى، بعد مغادرتنا الإسكندرية، فالقاهرة. وصلنا إلى الحدود المصرية، لنكمل رحلتنا بالسيارة، برا، داخل الأراضى السودانية. لا أنسى رائحة السافانا البرية، ورائحة حطب الرعاة، المتناثرين على طول الأفق، مع الماشية. لفحة حرّ. وهواء ساخن، يضربنا بسياطه، كأننا نتوجه نحو النار. مرجل، نغلى به، طوال الطريق الطويل.
كانت زوجة عمى، تغطى وجهى بوشاحها. تضمّنى لصدرها، لئلا أصطدم، بجدار سيارة حديدى غليظ، كلما هبّت ريح ترابية، أو مررنا بأرض، غير مهيئة للسير. سيارة أرجوحة، كلما إرتفعت لأعلى، أو هبطت لأسفل. فجأة، نرتفع، ثم نسقط مرتطمة رؤوسنا، بسقفها المعرّش بالخوص. كم مرة، شعرت أننا بسفينة وسط أمواج. تتلوى فى حركات جانبية كأفعى، ليتفادى سائقنا العجوز، مخاطر وعورة الطريق. كنت أختلس النظر إليه، من الكوة الفاصلة بيننا وبينه. أرفع رأسى، شابّا فوق كتفى عمى قليلا، لأرى ما هنالك. فزعت صائحا، أكثر من مرة:
- عمى. عمى. السائق العجوز نائم. السيارة سائرة، دونه.
فيضحك، بصوت عال:
- لا تقلق يا أمجد. إذا نام.. السيارة تعرف طريقها السودانى، جيدا.
وترتفع ضحكات المرافقين، والسائق يفرك راحتيه، يخبط بهما عجلة القيادة. مغنيا، يطربنا بلهجة نوبية.. يدندن، بموال غريب، لم يغيره. يأسرنا صوته الأجشّ الحنون، بموال، قادم من عمق مدى بعيد. بينما تمدّنى زوجة عمى الحنون، بالماء. أصبحت أناديها "أمى". لم تتوقف عن توصيتى، أن أناديها بذلك، حتى إنتهت رحلتنا، والكلمة، فى فمّى، كالماء الذى شربت منه كثيرا. لم تفارقنى بعد ذلك، بعد وصولنا.
تلقّانا مُستقبلنا، بالماء البارد، وشراب الدوم. أسرع حمّال أسمر البشرة، بحمل حقائبنا، إلى السكن، واحدة تلو أخرى. أثقلت عليه إحداهن. وقبل أن يساعده آخر، تندر قائلا:
- ماذا بتلك الحقيبة الثقيلة.. أأحضرتوا فيها أحد الأهرام؟!
رد عليه زميله:
- يا أبّاىّ. هذه الأهرامات الثلاثة وأبو الهول معها، يا عثمان!!
كنت مشغولا بالجدار الشجرى الضخم المحيط، كحزام كبير، لمجموعة مساكن إدارية متراصّة، من بعضها البعض، على مسافة قريبة. كان جذع كل منها، قادر على أن يبتلع عدة رجال. مال على أذنى أحدهم، باسما:
- أراك سوف تحب المكان يابنى.
وبادرنى عمى:
- أمجد. هذا عمك المهندس إسماعيل .
- إسماعيل. هذا أمجد حدثتك عنه.
وشقت أسماعنا صرخة طفلة، عن قرب، ولا نراها. إشتدت الصرخات متلاحقة، صراخ إستنجاد. ليخرج الجميع مندفعين. وتبينت مصدر الصوت. كنت أسرع منهم. وثبت تجاه الصرخات. تسمرّت أمام إحدى الأشجار الضخمة، لتلتقى عيناى بثعبان أسود ضخم، وسط أوراق شجر جافة، على الأرض، وأعلاه فتاة صغيرة، وقد إلتقت عيناها بعيني. تشاور لى مرتجفة على الثعبان، الذى أخذ يزحف، على جذع الشجرة، نحوها. بينها وبينه، تلاحقت نظراتى، لا أدرى ماذا أفعل. وقع نظرى، على غصن جاف طويل ملق، بجانب حبل أرجوحة مقطوع، طرفه على الأرض، والآخر على الشجرة. وبيديّ الصغيرتين، سحبت الغصن، لأنخز به ظهر الثعبان، غير عابئ، إلا بتلك الصغيرة المعلقة. تكاد تنزلق نحو الأسود، ويوشك أن يصعد إليها. كان مصمما على العروج، ملتصقة بطنه بجذع الشجرة. كادت تتهاوى يداى، من ثقل الغصن، لا يفصلنى عنه سوى مسافة قريبة.
لم تمر ثوان، حتى إنطلق صوت طلقة رصاص، مرقت، فوق رأسي. لتخترق رأس الأسود، ليسقط مضرخا، فى دمائه. وتنقذها الرصاصة من الموت. 
كان "عثمان الحمّال" أول الواصلين للفتاة. تسلق كقرد، فوق الأغصان. تلقاها بين ذراعيه، وهبط بها، أمامى، وأنا غير مصدق، ما يحدث. أسرع نحوى، متخبطا أوراق الشجر. مناديا بأعلى صوت:
- أمجد. أمجد.
يقطع صوته، صوت المهدنس إسماعيل:
- إبتسام. إبتسام.
تحلّق الجميع حول "المهنس إسماعيل" يهنوئنه على سلامة إبنته التى سارعت بالعدو نحوى. بسطت كفها الرقيق نحوى. ماسحة على رأسى. ثم صدرى، لتزيل أثر الغصن الذى كافحت، وهششت به، عنها. لم تنطق كلمة واحدة. طبعت قبلة دافئة، على جبينى، قبل أن يحملنى "عثمان" أنا الآخر. وأعاد زميله"متولى" حملها، بين ذراعيه.
وتوجه بنا الجميع، صوب إستراحة العاملين، خلف الأشجار. وبقى رجلان، فحفرا للثعبان الضخم، وسط حشاش وأعشاب الأرض الجافة، وأشعلا النار فيه. كنت أسترق النظر، إلى الفتاة، وأنا أُهبط "عمّة عثمان" البيضاء، لأراها، وقد خفق قلبى.. وهى تفعل مثلي، تخفى ضحكتها الصغيرة، بكفيها الرقيقبن. غاشية، وجهها كله، إبتسامة ملائكية.
لم أعرف، لما تذكرت حديث عمى، مع زوجته، قبل مغادرة الإسكندرية، وقد سكنت كلماته أذنى:
- لا تتحدثى أمام الولد عن الثعابين.. ولا الموت..
- والله، يا أخى لو رزقنى الله، من الأولاد عشرا، لما أحببتهم، كما أحب أمجد. لا تقلق أخى الحبيب.  أمجد، وديعة الله.
وما إن وصلنا باب الإستراحة، كان المساء قد همّ، غاشيا كل شئ، بستاره. وجدت أمامنا أمى، وإمرأة أخرى، واقفتين أمام الإستراحة، تحت المصابيح، التى اضاءت باحتها. ما إن نادت عليها إبتسام:
- أمى. أمى.
حتى سقطت المرأة، مغشيّا عليها ..
--------------

صفحات
 من رواية شيزر
-----
وباتت السماء صحارى خلاء، إلا من أعمار فنيت بين قدر، وأليم المصير، تحت إنتظار من يلبّى نداءات النجدة. دّقّت طبول الحرب على أسوار أنطاكية، مكلومة بحصارها. وأشرق فجر هذه الليلة الدامية، لا يشبه فجرا، عالقا بخيوط جهماء. أن هناك ثَمَّة خبر ونبأ يقين! أن إختباءا لن يحمى أحدا، دفنا تحت صخرة. أو فى تجويف من ضفة نهر. أو خلف حجر، فى مشارف مستحيل. نبأ موت مرِّ آتٍ، كهمس خافت. يواريه دجى.. دمار يجوس خلال رقاب غافين، راعدا.
وهبّ الناس في شَيْزر. تجمعوا من كل صوب منسلين، جانب الطاحونة، على سماع صوت راع صائح، قادما من وراء الجسر. تشّقَّ صرخته صمت فيافى الشام.  يتردد صداها، غربى الجبل:
- سقطت بقبضة الفرنجة أنطاكية. أنطاكية سقطت..
بلغ آذانهم وأخذهم من كل مكان. يسمعه، جميع من بقلعة شيزر ومدينتها، على أكمتها الصخرية، بين مصدق ومكذب:
- الفرنجة قادمة. جازت الفرنجة. ستعبر جيوشها المخاضة. الفرنجة قادمة..
اختلطت صيحات الهلعى، بأصوات كل جارح طير، متربص وهائم. لم يكن بوسع الصائح أن يجاهر، بصوته أكثر، ليبلغ ما خلف الأفق البعيد، نذيرا. صوت يحمل رائحة الموت. يقرع أجراس خطر. يهدد مُلك آل منقذ وسؤددهم بشيزر، ومن فيها تحت أيديهم، من أحرار وعبيد. فما حدث بأنطاكية، ليس ببعيد. لم يفلت من قبضته، لا رجال. لا شيوخ. لا نساء. ولا ولدان.
لم يكن هناك رأى. لا مشورة. ولا مكيدة. لا ألوية، لترفع أو تتمزق تحت السنابك. لا دروع. ما كان هناك أحد، ليحيى جهادا، أو يميط لثاما، عن غيم. لم ينشغل أحد أمراء العراق أو الشام، برفع سيف شاهرا.. فى وجه ليل دهم الشرق. لم يكن هناك نفخة بوق واحدة، تستنهض حكام ورعية.
لم يكن الزمن بزمن سرايا وغزوات. مضي بصوته القديم، الذى يأخذ القلب. كأن الموصل قد إختفت. أين دمشق. حلب. أين الخلافتان عباسية وفاطمية. أين بغداد. القاهرة أين..؟
ما كان ينبغي لأحد، ألاَّ يحمل سلاحا، وقد نادى المنادى، من كل جانب:
- أنطاكية إكتنفها المنون.
حقا، ما كان لأحد أن يضيّع وقتا. يهدره ثم يبقى ليعضّ أصابع الندم، على سقوط مدن، لم ترَ إلتماعة صفحة سلاح. لم ترهف سمعا لقعقعة، يحتضنها هلال. قبل الذبح، كانوا موتى، فى الحياة.. هؤلاء الأمراء، حول أنطاكية. من نجا كان قتيلا، لم يمت بعد. حملته منيّته، كما حملت أميرها "ياغى سيان". الكل، عرف رهبة الموت. لا يتمنونه أبدا، تعلقا بحياة غرور. قبضا، لريح. باطلا، تظهر حقيقته تحت حدّ الردى. ماذا عليهم لو كانوا قد فعلوا، جاهدوا. فلا تضيع مدن أو تسقط  حصون؟!
هيهات. هيهات.
كم، من عنق دّقّته مطرقة وطحنه سنديان.
كم، من رأس قطعت، مجتزة هناك، وأُخر معلقة، فوق أبوابها.
كم، من أُلقى به، من فوق أسوار عالية. سقط صريعا، ناظرا إلى موت، كامنا فى جرف، متطلعا إليه بين عينيه. يواجهه مرعوبا.. رعدة برودة فقدِ الحياة .
انتهت حياة، يعرفها أهل مدن مترفون. من لهم أيدِ، لا تعرف مقبضا، لحسام. دمار، لحق بكل شئ، فى طريق الغازين، طائلا أخضره ويابسه. إختلطت أشلاء اللحم. حملت ريح الشمال رائحة دّم وقد جرى، فى طرقات أنطاكية نهرا. مع حمحمات وصهيل الخيل. عرف الصبّى والجارية، أن الليل قد أقبل، حاملا لهما روح يُتم طويل. زلزالا غاشما، لم ينجُ منه حريص، على حياة قصيرة، تنتهي على أية حال..
وبعد الرّها، تحت إمرة جوسلين الأول، فى شمال العراق، يتولى إمرة أنطاكية، بوهيمند الأول غنيمة باردة. خطوة ثانية، فى طريق ذهب الشرق. ويرعى الفرنجة، فى المنطقة شهورا. يركضون هنا. ويركضون هناك. لتسمن الهزيلة. تربو، فى جوار كفّ نهر العاصي..
ويكتنف سويداء فؤاد شيزر شبح الظلمة، متمكنا، بإقتراب الخطر، من تخومها، لا تمنعه أسوار. تلمسه من أبراجها. ترصده عيونها المبثوثة. تطيّر النبأ، إلى أميرها أبى العساكر سلطان ابن منقذ. سيضيع مجد بنى منقذ وتاريخهم، إن تحرش بشيزر الفرنجة، أو جاؤوها يزفّون. شعور شاحب، بحزن عميق، ألاّ يصبح هناك إن سقطت، أبّ بعد، ولا أمّ.
وإذ يصدر الغازون، إلى الجنوب، بلا قلوب. رحلة حجّ مزعوم إلى بيت المقدس. تحمل شارات حمراء. وعيون زرق وأكباد سوداء. يتذكر ابن منقذ محاولات إنقاذ أنطاكية الفاشلة، ثلاث مرات، ذرا للرماد. وقد حطّت، على ربض أرض إمارته قوات إحداها،  قادمة من جزيرة الرافدين، قبلما وقعت مذابح بمنطقة معرّة النعمان وكفر طاب، وقتل الألوف. ويستحضر حديثا دار، مع رسل أمراء النجدة، ومنهم أمير الموصل "مودود".



خواطر أدبية 
من كتاب
 (فى ماهية الكتابة والإبداع)
----   خالد العرفى




  آلام فارتر
---
أخذتنى خرافة أنى ولدت، فى أوج شهور الصيف، فلن أتذكر منه شيئا. دائما شتاء غائم. وبحر عاصف. وشهور البرد والريح. بالكاد نذهب لطرف خيال ما، فتختطفنا لحظة جميلة، ننقاد لها. كسحابة بيضاء، تتهادى فى سماء زرقاء. كنسيم يداعب زهرة فى فردوس النفس، فتهبنا من أريجها، الهدوء والسكينة. لكنها الحياة نفسها، ترينا ما لم نكن نتوقعه أو نرتقب حدوثه، من عواصف، فلا نرى هدوءا ولا سكينة. لماذا لا أتذكر نسمات ربيع، تهتزّ لها أوراق الشجر، على أغصانها. ألم أرى هذا..؟!

ومع ذلك، لا أدرى أنغمض أعيننا، فى غيبوبة، نفرضها على أنفسنا، لنتحرر من الوعى. نتذكر ما نشاء، أو ننسى ما نريد. ربما ونحن غائبين، عن كل منطق، يكون أجمل ما نكتبه. بشئ من مغامرة عبور هذه المسافة البعيدة، إلى الخيال. نتسائل أنصف نظرات رقيقة أم زائفة..؟!
أنصف نبضات قلب، من دهشة تتلألأ، فى الروح، أم فزعة ألم فى صدر، يتلقى ما يتلقاه..؟!
إبتسامة أم دمعة..؟!
سرور أم حيرة..؟!
حقيقة أم كذب..؟!
إنها أحاسيس، تنتاب كل كاتب، حينما يمتلكه الخيال. ولا يكون إلا ما فى نفسه، ملكا له وحده. فإذا كتب، ضاع كل شئ. وضاعت الحقيقة، إلا من نفسه. لا يعرفها أحد، إلا قلبه. حبّا كان أم ألما. ولو كان هناك عدم يقين:
هل تتضمّن الكتابة ما يدور فى أنفسنا، أم تذهب فيها..؟!
وإلا كيف يشعر كاتب، دون أن يعرف لذلك سببا، أنه طفل أو شاب أو شيخ كبير، فى ذات الوقت. كيف يحسّ بمَ يألمون به. كيف يحبّون.. كيف وكيف..؟!
كيف يدرك ما عليه أمره، فى الواقع، دون أن تميته برودة ريح شتاء، تسكن ذاكرته. تجمدها. دون أن تصهره حرارة مشاعر وأحاسيس، بقلبه، وتهرب منها روحه. كيف يتحرر من تلك القيود.. فيكون حسبما يريد. كيف يروى أو يحكى ما يحدث، أكثر عمقا فى الخيال، ويراه واقعا. أو رأه فى الواقع، فيصيّره خيالا..؟!


كنت فى حالة إستثارة إستثنائية وانفعال شديد، وأمامى صفحة البحر تومض على البعد، فى قلب الليل. وعدا بصباح، ربما لن يأتى. كحقيقة محيرة لا أعرفها.. فلم تعد الاسكندرية ولا البحر ولا الشاطئ ولا تلك البقعة حيث أخلو بنفسى، من حين لآخر،  كما عهدت. كل شئ تغير فى عينى، أم أنا الذى تغيرت. أم كل شئ صار كفكرة زائفة، أصابت رأسى. لم أكن لأحجم، عن التفكير. لما كل شئ لا كما أراه، فى الواقع، الآن. أم أنا لم أكن قد رأيت نفسى بعد، وأن كل شئ فعلا كما هو..
لم أجد صعوبة كبيرة فى التهكم على نفسى، ولن تنجح الحيل النفسية فى رؤية غير تلك. شعور كئيب صادم، كفيل بأن يضع قدميك، على الطريق الصحيح، أو إلى منفى نفسى وعزلة. انقسمت أفكارى إلى نصفين، فى رأسى، تماما. بين مدينة وبحر، وبقعة على شاطئ، وأشياء باتت تنكرنى، وأنكرها. هراء واضطرابات حياة، لا يجدى معها شئ، سوى أن أغمض عينى قليلا، لأرى ما لم أكن أراه. فالحقائق، ربما لا نراها، إلا أغمضنا أعيننا، قليلا. تبدو واضحة جلية، بينما نتلاشى فى البحث عنها، وهى داخلنا ساكنة. نولد ليكون مصيرنا الموت. وبين ميلاد وموت، حياة ربما لن يتذكرها أحد. ذكريات تضيع بذهاب روح، فى لحظة إحتضار. وما كان ممكنا قريبا، يصير بعيدا مستحيلا. كاستحالة أن تعيش حياتين. أن يكون لك روحين. فى الواقع، لا أعرف كثيرا عن تلك الفلسفة والأفكار التى تجعلنى، أعيد التفكير فيما كان مسلمات، وأصبح أقل إقناعا. أستمتع بهذا الإغراء الذى يشدنى إلى إصرار مع نفسى غريب. أنه لن يبقى غير لحظات نحاول فيها، إدراك أنفسنا، وسط عبث الحياة، وعدم معقوليتها. هذا العالم الذى نحيا به داخلنا، أكثر مما نعيشه ونحياه، فى هذا العالم الكبير. لا يهم أن لوّحه البحر، بالتحرر من قيود وأغلال، تضربها عواصف الحياة وتكسرها. ليبقى لنا مساحة إرتياح داخل النفس، وفى أعماقها. وحينما أفكر بهذه الطريقة لأفهم ما يستغلق علىّ فهمه، يصبح الأمر مثل تلك البقعة على شاطئ خال، وقد إختفت. ضاعت، كخيط قصة محكوم بفشلها. لن تكون إلا فى رأسى. فى مكان ما، وسط تفاصيل كثيرة، يبدو معها المستقبل مجهولا، وعين الحزن مسهبة رهيبة. ونتمّ المسافات بين أماكن متباعدة، برحلة ذهنية، حين نخلو بأنفسنا، نائين عن اضطراب حياة، ربما تعود إلى كل شئ. وفى اجتياز هذه المسافات، نعجز عن وصف أصداءها، حين نمضى لشأننا، ونسير بلا توقف. لا نكاد نبلغها، حتى نلقى شيئا كثيرا، من حيرة. لا تفارق أعيننا ما تثيره فينا حوادثها، فنلقي إلى الورق، ما يملأه بين متعة ومرارة، إلى أقصى درجات شدة. وأبدا، لا يستقر ما كان مضطربا، ولا يملأ القلب إلا روع. نتبع فى آخر الأمر، ما لا يصدق، كمن يدفع بردا قارسا عن يديه، فيضعها، فى النار. بكل تأكيد، يختار البعض طريق الهروب كما اختاره "جوتة" فى رائعته "آلام فارتر". وقبل وقوع مثل تلك الحوادث العارضة للتفكير، والأسئلة التى تدور بدون إجابة، فقد لا يكون هناك ما يذكر، فى حياتنا. حتى تبدأ سلاسلها تشدنا، إلى ما لا نتوقع، كبّحار لا يعرف أين يذهب، إلا بمقامرة على حظ وأمل. ومغامرة قد تنتهى إلى الوعى بالذات، أو إلى ضياع وتلاشى. مثل هذا ما جعل "جوزيف كونراد"، أديبا. مسافرا فى البحر، على متن سفن محملة بأكوام الفحم، ومحاولا أن يقدم حلولا ممكنة لحياته الصعبة، ورفقته حقيبة كتب كبيرة، فى مسافات رحلات غامضة. المعنى الحقيقى، أنه اضطر أن يحيا. يجرب كل إمكانيات نفسه، متمردا، طوال حياته كلها. أنفق سنوات عمره، يحاول أن يفهم. ليغادر مرافئ آلامه. ولا شك فى أن أعرف جيدا، فعادة مبكرة، فشلت دوما، فى الإلتزام بها. إنما أحظى فقط ببرهات باهرة نادرة، عبر مسار فوضى صعب. أتلاشى بين أفكارى المنقسمة أو أنكر نفسى، فى لحظات مثيرة، يعجز الوصف عنها، فأستطيع أن أكتب أو أحلم، إلى حد مدهش. حينما يبتسم الحظ لخيالنا، دون سبب معقول. هذا كل ما فى الأمر. وربما لم يحدث مطلقا، فى الواقع، أن أدركت شيئا، مثلما أدرك الآن. الحقيقة الأكثر إثارة، أن تكون الحياة على مدارها، حياة رديئة، دوما. هذا إن لم تكن شيئا آخرا، ننكر أنفسنا معه.. 

حصادا غريبا، للحظات غريبة. فتنة، تجول معها الروح بين تفاصيل. ربما مرّ عليها زمن طويل. أو ربما ما لم يحدث أو يكون، قط. لِمَ، لم يكن قد رآه، أبدا. هذا الغموض الآسر، الذى يكتشفه الكاتب، فى مجهول نفسه أولا، ويطارد فيه الخيال، ويطارده. سرّ ما، ما زال مستغلقا، لا يعرف له، حل.  حتى يظن أنه من الممكن جدا، أن يظل أسيرا لمخيلته، وربما عليه أن يكون، على الحافة، بين العقل والجنون، حتى يكتب. ولا يعرف ما خلفها، من رؤى وهاجة، أو ما وراءها، من عالم، أبعد من هذه الحياة. وفي شدة توتر وقلق، كان كل ما أكتبه ولا أفكر إلا فيه، أسوأ حالا، من إرهاصات نفسية وتمزق شخصيات قصص، تطارد مخيّلتى. ربما كان هناك شئ خاطئ، فيما يدور فى رأسى. لكن بلا شك، وبأي حال من الأحوال، كان تمهيدا لفقدان ذاكرة إرادى. وليس  معروفا لى بالضبط، متى بدأت أعانى من هذه الحالة المثيرة، مع الموت.. لأعرف كم هو جميل. ومن الأفضل، أن أراه فى عينىّ بطل أو بطلة، أموت فى أحدهما. أن تعرف كيف تخلو، بنفسك. تطرق برأسك، مفكرا، كيف تمضى، فى خبايا نفوس وشخصيات قصة، إلى درجة بعيدة.. ولا ينغص الحياة، غير كوابيس، لا يُعلم متى تظهر، فى عناد وإصرار. لا يفزع فيها، إلا ما يصطخب، فى النفس، من هواجس غريبة. يبدو لى أن أشباحا، تطاردنى ليلا ونهارا، فى ظلمة حالكة دامسة، تترامى أطرافها، ولا تنتهى، إلا بالكتابة. ولا يخلو الأمر، من غرابة شرود وحيرة. محاولة إعتبارالمسألة كلها، مجرد حلم مروع، يجب إجتياز أثره. إعتبار الأمر كأن لم يكن، حينما ننتهى من الكتابة. نشعر فى هذه اللحظة، أننا ألقينا نظرة فاحصة، إلى السراب. كل ما أستطيع تذكره، فى النهاية، أن هناك نّصّا، حمل من النفس شيئا، من هذا الإحساس المسمّى الكتابة. ولم يكن هناك مبررا معقولا، إلا الموت، ليعطيه هذه القوة. موتا، يكشف لى شيئا، من وجه حقيقة غائبة، من اضطراب الحياة، فيحيا النصّ. حقا، أمر غريب.  للأسف، حينما تظهر هذه الحقيقة إلى حيز الوجود، فى النّصّ، نكون، قد تلاشينا. وربما ذهبنا، إلى أجل غير مسمى. لا نعرف متى نعود، من لحظة، تتجاوز بنا غرابة الحياة. وتتجاوز شعور بقلق وضيق وتوتر. تخلص من كل شئ، حتى الحياة نفسها، فى فضاء نص أدبى. ولا أعرف كم مرّ من وقت، منذ أن إنقضت ليلتى الأخيرة. بشكل مدهش، إذ حرتُ مع أسئلة، لا تنتهى أبدا. دائما، بلا إجابة. بينما البعض الآخر منها غامض، والأكثر، أسئلة غريبة الأطوار معى. تظهر لتختفى. وتختفى لتظهر. إدراكا لحقيقة، قد تدفع بى أكثر، إلى رؤى نفسية، أكثر منافاة للعقل والمنطق.  هكذا حللت مشكلتى، بسهولة. ببعض جماليات الموت، فى جوهرها. برغبة شديدة، أن أكتب الموت، قبل أن أموت. بحثا عن فرصة تتاح، لتخطى تناقضات الحياة. أحاولا يائسا، تحقيق إستنتاجات ممكنة، عن وجود ملموس. أو رؤية تفاصيل واقع غريب ومؤلم،  فى تلك المسافة الرمادية، من النفس. وهكذا ألفيتنى، فى مساء قصة "صوت الحياة"، لا أعرف إلى الآن، كيف أنتهى منها. فلا أدرك لها بداية، إنما سيطرت علىّ نهاية غريبة. الموت من جديد، كفرصة للكتابة. فبعض الموت، حياة. وبعض اليأس، أمل. إحتفاظ، بهواجس النفس، فنكتب عن أشياء، كالموت. أمام حيرة مثيرة، وإجابات غائبة. غموض، لعلى أعرف له تبريرا أو سببا، عن كيف نكتب، للخروج، من هذا الظلام. كمن يروح فى إغفاءة، فيرى ما يرى. أن نعمد إلى التخلص، من أفكار غريبة بالية، تكاد تحطم الأعصاب. غموض مبهم، يحجب رؤية الحقيقة. حالة، لا ندرك معها ما يحدث أو يستغلق الأمر كلية. نحار فى إستجلاء سرّ شئ ما. أن يدركنا شئ، من جنون، لم نكن نعرفه أو  نعلم عنه كثيرا، حتى نشرع فى الكتابة.. 

ونكتب لكى نحب. أم نحب كى نكتب. فتلك مفارقة غريبة. لكننى أعتقد الآن وبوعى وفهم، أن الكتابة تقينى من الألم والحزن والتعاسة.. حينما، يختارنى موضوع أو فكرة تنساب، فى العقل، ما لأكون قريبا، كل القرب من التخيّل الجميل. ورغم ذلك يظل الأدب، نتاجا لتأثير خبراتنا الأساسية، ولتجاربنا الحسية، في الحياة. التى تخلق تلك الرغبة الحقيقية والحاجة الملحة للكتابة، بطريقة غامضة وبقدر ما يعنى الأمر، ليأسرنا. وهذا يعتمد على طريقة، ندرك بها، ما يقرّ فى الذاكرة، ويفرض نفسه علينا، ليتمثل أمامنا، بشكل مرئى. لا مجرد نقلا، لواقع. أن نفتش في الذاكرة. لنصوغ، من أحداث حياتية عادية جدا، ما يسمى بالأدب المبهر المتألق. وربما تكون إختياراتنا، لأفكارنا بطريقة لا عقلانية، لمَ تفرضه علينا الحياة نفسها، فتتوالد أفكار أخرى، نجد معها روح حميمية، مع تجاربنا الذاتية، حينما نكتب. فتثيرنا لحظة، أن نجد ما نكتبه، وقد دّبّت فيه الحياة. كرواية تجذبنا. قصة تسحرنا. تصل إلى العقل، بمنطق يأخذنا إلى عالمها، تأويلا للواقع، وليست مرآة له، تعكس تناقضاته. وتصل إلى الوعى بالضرورة. هذا ما ننهل منه أفكارنا، عبر علاقتنا، بالحقائق، من حولنا. سواء موضوعات تطارد مخيلتنا، أم  هروب، من واقع إنسانى نحياه. تمرد على عالم، لتصبح الكتابة حقيقية وأصيلة، بهذا الخيال والإختلاق، الذى يعطى قوة الإقناع والإيهام..






كيف نكتب
فى ماهية الكتابة"
------- خالد العرفى


الكتابة أجمل إنتاج إنسانى، عرفه البشر، وجوهر الحالة الإنسانية،.. وروعتها، فى هذا السّحر، الذى تحدثه، فى عقل القارئ ونفسه. ولن يكون هناك مكان للروح، في هذا الواقع والعالم خالى، من الكتابة. ولا يوجد غيرها، لنثرى حياتنا الوحيدة، التى نعيشها، من خلال الخيال، لنرضى رغبات تتملكنا، كأن نكون أشخاصً آخرين، أو نكون فيما نكتب. لكى نفهم الحياة ونستوعبها، فى ظل حقائق ضخمة متعارضة ومعقدة. وجودنا الفعلى بينها، ولا يمكننا تغييرها. لئلا ننقاد، لرتابتها. أن نحيا الحياة، بطريقة أفضل، وأقرب للكمال. فلا شيء أفضل من تلك الحقائق، التي يظهرها دائما الأدب الحقيقى، لتحمى الإنسان، من تعاسة الحياة. من مشاعر وأحاسيس، مثل الخوف والغضب وغيرها. حتى المشاعر الرومانسية، التى نكتبها، لتجاوز أزماتنا.. لنتخطى الواقع، عبر الزمان والمكان، لحياة، ما كان لها أن توجد..
فكيف يمكن أن نكتب؟! ولماذا نكتب؟!
هل الكتابة شعور بتحقيق ذات؟!
أم قلق، لتحقيق إنسجام مع النفس والحياة؟!
أم لغز يزداد غموضه كلما فكرنا فيه؟!
أم نكتب حياة لم تكن، يوما، ولم نمتلكها..؟!
هل للكاتب قدر مصيرى، لاكتشاف أعمق تجارب الإنسان.. وحقيقة النفس والحياة؟!
نكتب نقيض الواقع، والذى لم يحدث. الحياة الحقيقية، تلك التى لم تحدث.. فنختلقها إختلاقا. لذلك فالحقيقة العميقة، أن الكتابة الحقيقية، إبداع بالخيال، من صنع مخيلتنا. عالم نشيّده بالكلمات، ونبنيه بأنفسنا. فنشعر بأنفسنا، ننتمى إلى هذه العوالم، فى الأعمال التي نكتبها. أو نقرأها. تمردا، ضد الحياة نفسها، لتحقيق ما نعجز عن إشباعه. هذا هو السبب والمحرك الحقيقى للأدب، أو ما نسميه الكتابة.  يظهرها الموهبة والإستعداد والمثابرة والإلهام. مهما كانت الدوافع والمسميات. بهذا التناقض الفجّ، بين واقع نعيشه ونراه، وما نريده ونتمناه. تعارض مع الحياة، بمَ فيها. ولولا ذلك، ما كتبنا شيئا. لذلك فالكتابة ضد تعاسة وألم وضجر واقع موجود. لنصنع بخيالنا، ما لم يكن، يوما. وربما لن يكون..
وبكل تأكيد، قد يبدو الأمر مسألة مبهمة وغامضة. وفى كثير من الأحيان، فإن أى كاتب، يراوه هذا الإحساس البائس التشاؤمى، فى عدم القدرة، على الكتابة. حينما يصبح الأمر غير مؤكد له، وتراوده أحلام اليقظة، مع أمور ضبابية، بلا شكل، أو ملامح.. حالة من الاضطراب النفسى، مثل مشاهد فيلم سينمائى مبعثرة، فى الذاكرة. تلح على النفس. وتفرض نفسها عليها. إحباط شديد وعصبية، حينما تغيب عنه نقطة البداية، لفكرة ممكنة، ينطلق منها. حتى تأتى لحظة نابضة بالحياة، تثير الإهتمام، وتخلق الفضول، بانطباع يتملك المرء، فيمثل له الأولوية. فتتجمع الصورة، فى الذهن، بتأمل العقل. لا نتخلى عن الخيال. أن يشعر الكاتب، أن هذا أفضل ما يحدث. إلى الحد يجعل كل شئ يسير، إلى الأمام. يحمله الخيال، كعاصفة تشرع به، فيستطيع أن يكتب، ويؤثر فى القارئ. مع أحلام ومتعة. مع قراءة كلمات حميمية، وتركيز عقلى يأخذه، إلى عزلة روحية، يمنحها له، ما يقرأه. من خلال سياق طويل، من المعاناة وربما لسنوات، مع مثابرة وسعى. تكريسا، لصقل الموهبة. جهد شاق وبذل كل طاقة ممكنة، فى مواجهة إحباط وشعور بائس، بعدم المقدرة، على الكتابة..
والكاتب، إن لم يكن ساحرا للعقل، فليس بكاتب. ولا يمكن للنص، أن يكون واضحا، لقارئ ما لم يكن واضحا، فى عقل صاحبه. أن يكون هناك إصرار، على القول.. التأكيد، أن الأمر هو هكذا. لذا، فأى نص، يعتمد على سلسلة متوالية، من أمور. تعتمد فى جوهرها، على رابط، من شئ آخر، وبشكل عضوى، فى الذهن. ورغم هذا، لا نعرف ماذا سوف نكتب، قبل أن نبدأ ونشرع فى الكتابة. إغراءات واضطرابات تتداعى.. تواجهنا.. فندرك أمورا لم نكن نعرفها، فى أنفسنا، قبل ذلك. وهذا يعتمد، أساسا، على وجود موضوع أو فكرة ذات هدف، يتناولها الكاتب.. أن يفتح بابا للتأويل والتفسير، بمَ لم يرد، على ذهن الكاتب، نفسه. وليس الأمر بطول جمل أو فقرات أو إختيار كلمات، تنير السبيل لعقل القارئ، بقدر ما هو متعلق، بما يريد الكاتب قوله، بقوة وببساطة، فى نفس الوقت، من روحه وذاته. وأيضا، ما يتكبدّه فى توصيل وتبليغ أفكاره.. لغة.. كلمات، تشكل عالم النص وتبنى أركانه، مما ينقلنا وبدقة من زماننا إلى أزمنة أخرى، ومن مكاننا إلى أمكنة أخرى، بصحبة ما أبدعه سفر الخيال.

 ونعرف الكاتب الجيّد من مقدرته، على التغريب والتقريب. بين ما يستطيع أن يجعله غريبا، وهو فى حقيقته عادى ومألوف.  وبين جعل غريب وغامض الأشياء أبسط وأكثر وضوحا، فى عين القارئ، بمَ يعرف بالتقريب. ممّا يسحره فى النص، بهذا التأثير، فيجعله يراه بطريقة جديدة، من زاوية مختلفة، أو كأنه يراه لأول مرة. وفى كلتا الحالتين، فشكل النص، من كلمات مفردة وعبارات وجمل، ينبغى أن يتبع مضمون أفكار الكاتب، للحد الذى يمكن القارئ، من الفهم. وبهذه الطريقة، يظهر أسلوب  الكاتب الرصين، فى قدرته، على تحويل النص. بأفكاره، وبشكله ومضمونه. إلى مقطوعة موسيقية، عذبة أو صاخبة. ولا يظهر أثر الكتابة هذا، إلا حينما يستغرق الكاتب فى أمر الأفكار التى يكتبها، وبغرق فيها بإحساسه، فيفهم القارئ بطريقة جديدة ما يقرأ. وهى التفاعلات التى تحدث داخل النص. تثير المعانى المادية، واللفظية، والمجازية، فتصبح الأشياء أكثر حيوية. وهذه حقيقة، لا يمكن المجادلة فيها.. تزوّد النص بأبعاد، لا يمكن التنبؤ بها. وتمنحنا القدرة على التخيل من جديد، وباحتمالات مختلفة.. ونتعلق بأسئلة عالقة بأذهاننا. نتوه معها. فتظهر فينا، تلك المقدرة الإستثنائية. تدفعنا لنكتب، من جديد، فى منطقة مجهول. يغدو فيها كل شئ، ذا علاقة جوهرية ومتجددة باللغة. لا نعرف ماذا سوف نفعل، أو نعلم ماذا سوف ننتهى إليه.. شئ ما من السِّحر. تلك هى الكتابة. لا نعرف متى نبدأ، ولا نعرف ما هو الممكن. حيرة، مع ما لا يمكن تصوره، مسبقا.. ولا شئ محدد ندركه، كما لا ندرك كيف نمضى، للأمام فى النص. ومهما رُمنا لصدق النص وبساطته، يطاردنا دائما سؤال: ماذا يمكن قوله أو الحديث عنه. ونفاجئ أن ما لا يمكن، هو الأروع. هو الذى لا يزال ما لا يمكننا، ونشعر به داخلنا، قبل أن يتسنى لنا معرفة كيف نكتبه، حقا. لذلك، فأول ميزة يحتاج إليها الكاتب وأول الموهبة هذا الخيال الخصب الواسع. الخيال، كمصدر للإلهام، ثم تأتى حرفته، بعد ذلك فى إختيار الكلمات وإنتقاء المفردات، التى تثير الإهتمام بم تحمل، من معان. خاصة تلك التى لم يعتد رؤيتها أو يألفها القارئ. تجعله يرى الأشياء كمن يراها، لأول مرة. ولا شك أن النظر والرؤية أمور تقود الكاتب إلى لغة مفاجئة تطلق العنان لخياله. لمفرداته اللغوية. وربما تثوّر، فى نفسه، ما لم يفكر به من قبل، من كلمات ومعان. يبدأ بكلمة واحدة، ثم ما يأتى لاحقا من جمل تتدفق، مفعمة بالحياة، تعطى النص روحه ومعناه. وهذا ما يخلق تأثير النصّ، نتيجة لمخيلة الكاتب الواسعة، وحرفته فى القول، معا. وهو نظام وأصالة الكتابة والأسلوب، لا يخلو أحدها، من حياة، يشعر بها القارئ..  

 


 
من أسرار الكتابة
----
ومن أسرار الكتابة، التى يدركها الكتاب والمؤلفون، فيوّجهون قارئ النّصّ إلى أمر ما، لجعله، يفكر به، كحقيقة مطلقة، أن الأمر يجب عرضه وتناوله، فى أقصر ما يمكن، من جملة، تحمل معنى. والكلمات بمفردها، لا تحقق إلا غرضا معيّنا.. لكنها تحمل معان أخرى، فى سياق الجملة أو الفقرة الواحدة بهذا الترتيب التى يأتى به الكاتب. وإختيار الكلمات ليس هاما فقط فى حد ذاته أنما تركيب الجملة بكلماتها. وطولها وقصرها. نظم الكلام. إطنابا وإيجازا. وحقا، الكلمات المبهمة غير الواضحة يجب أن يوضحها فحوى النصّ.. حتى لا تظل غامضة، بشكل ما. ونحن، لا نكتب من أجل كلمات أو عبارات. والكاتب عموما، على إنتقاء دائم لمفرداته، من عمق ما تحمله نفسه، من ثروة لغوية. وربما، هذا من الأسباب، التى تجذب القارئ لكاتب ما، وتجعله يهتم بقراءة نصوصه. ومن هنا، يختار الكاتب كلماته ليفهمها القراء، ليشكّل عالما ثريا وخصبا، من هذه المفردات. وفي الحقيقة، فالكاتب يشكّل بلغته ويبنى نّصّا ما، بنفس الطريقة التى يشعر بها، بالمعانى تدور داخل نفسه. ومن مقاييس الكتابة الجيدة، سهولة العبور من كلمة واحدة، لإثنتين. لثلاثة. وهكذا. لجملة فأخرى. فعبارة، ففقرة. ونادرا، ما تأتي الكلمات لتحمل معان وأفكارا مثل الموت والحياة والحزن والفرح، وغيرها مما يتضمن معان متناقضة مجتمعة. ولا بد من سبيل ما، للتعبير في سياق إختيار وإنتقاء المفردات عزفا باللغة. والطريقة فى ذلك إستخدام التورية وشدة نبرة اللغة، مع هذه المعانى المزدوجة، مما يملأ مساحة النص بالمعانى العظيمة. كل هذه أمور تصنع أسلوب الكاتب، وتكسبه فرادة وندرة. ليس فقط مجرد حصيلة مفردات تتراصّ. أو ثروة لغوية يختار منها كلماته، سواء بوعى أو تأثرا، بحالة معينة، تفرضها كينونة النّصّ ومضمونه، ونوعه. نثرا كان أم نظما. مما يسمى بلغة المعنى الواحد أو المعني الظاهرى و المعجمى للكلمات، الذى يكشف عنه النظر العقلى. فالكلمات المفردة، لها خاصيّة التماسك، وميزة الفكرة المفردة. وهى تنبئ، عن غياب بدائل، ما تحت تلك المعانى الدلالية المحددة، فكلمات مثل البكاء والصداع وغيرها.. مفردات لها معان دلالية ومعجمية محددة، لو جاءت بصفة مفردة.. وتختلف تماما، لو ضفّرت، بكلمات آخرى، لتعطى معان  أخرى،  فيما يعرف بلغة الكلمات الثنائية. وهى لغة، تحمل فى مضمونها، ما يجبر الكاتب قارئه، على تعديل وجهة نظر معينة، نحو العالم الذى يحيط به. لغة، تجعل للقارئ خيارات مختلفة، بسبب ما تحمله ثنائيات الكلام هذه، من حمل لصفات وأحوال متعددة، وفى الوقت ذاته، تجعل العقل فى حالة دائمة من الموازنة والمقارنة بين المعانى، بسبب هذه الإختلافات والتباينات، فيما بينهما. وبالتالى، فى تعدد مناحى تفكير القارئ، بكلمات آتية معا، بما يضعه الكاتب فى الجملة، فى سياق معين. فالمثال المشار إليه عاليه، مع كلمات مفردة مثل البكاء. الصداع. ضع معها كلمات أخرى، وأنظر إلى المعانى كيف تتعدد وتختلف وتتباين.  فبكى فرحا غير بكى حزنا. والصداع أو الشقيقة كمرض. غير أن تقول صداع الواقع. المعنى يختلف تماما، مع كل مفردة تضاف إلى مفردة أخرى. علاوة عن دلالة السياق ذاته، فى جملة ما. وهكذا، فلغة الثنائيات  تُقسِّم الفكر وتشطر العالم، وتشتتنا بينهما. ومع نمو صنعة الكاتب وإمتلاكه لناصية الجملة، يرى القارئ ويقرأ بشكل متكامل، أكثر فأكثر. فتعدد الكلمات وترتيبها على نحو ما متقن، يمنح أبعادا واسعة، للمعنى المراد. ويعطى لحسّ القارئ التكامل العقلى والحسى. يشعره بالاحساس بالكليّة، وفهم ما هو هام، حقا. وكلما كانت الكلمات، فى طريقها على نحو يقصد به أن نستخدم كلمة واحدة مثلا للقوة. وكلمتان للمقارنة والتباين. ونستخدم ثلاث كلمات للتكامل، والكلية. والأربع أو أكثر للتعدد، والتوسع، فى أبعاد المعنى. وعلى هذا، يتزايد الإحساس بالكمال ويتنامى. ويكون أكثر مما تحققه االكلمات المفردة و الثنائية، وما زاد عن ذلك. ورغم ذلك، يظل السياق هو كل شئ، فى النّصّ، الذى يبدأ من أول كلمة، لخلق هذا التأثير المتدفق.. يظهر منذ أول مفردة، كضوء مصباح خافت. يتوهج كلما تعمقنا، فى القراءة. هذا ما يقصده الكتّاب البارعون، ويتلاعبون به. متعة للقارئ، وسّحرا، لعقله..







 
سيمفونية السماء 
---- خالد العرفى
 شيئان، لا متناهيان، ليس لهما حدود.. الكون والإنسان. ولست متأكدا لماذا ولسنوات عديدة، حيرتنى مثل تلك الأسرار. لمَ أهتم بمسائل غريبة عن الكون، وعن الحياة وعن نفسي. لا أستطيع أن أفهم، لماذا أعتقد أننى غير نفسي. لماذا شعورى أن شخص ما، هو أنا. أو أننى لا أعرف هذا أو ذاك. لست أنا. أخيرا، لا أعرف، إلا مثل حقيقة تتحول، إلى ذرة تغيب، تتلاشى، فى أعماق أكوان موازية. راهنت نفسى، على هذا الإحتمال. أن الكاتب يخبرك ما يشبه أن يكون. ما يمكن أن يكون إنسان ما. أن تبحث عن ذلك، فى  ممارسة عقيمة، فى قراءة، سؤال لا معنى له. كل ما هنالك الشيء الوحيد، الذي يثيرنى أكثر، أن نعيش بين افتراضات وخرافات. إذ يجب أن تشاهد الكثير، لتعرف معنى الحياة، وكيف تسير. حسنا، أعتقد فعلا أن هذه حقيقة، إلى حد ما. بدأت بالكاد أفهم كيف تكون. كأننى إنسان آخر، لا أكاد أعرف من أنا. أو ما أعنيه. أتمنى أن يكون لدى نوع، من الخيال، يسمح لى، أن أرحل خارج حدود الوعى. أتجه إلى ما يجب. أطلق العنان لأحلام، وتأملات ذاتية، فيما وراء العقل. بين نجوم أراها، بعينى روحى، فيما لا نهاية الكون والوجود. من ينكر أن هذه اللحظة، بكل ما فيها من غرابة وإثارة، هى لحظة حقيقة، تتجاوز بنا، حدود الزمان والمكان، فى كون لا نهائي ممتد. وأي شيء يمكن تصوره، مع حياة، قد تكون موجودة، في مكان ما. مثلما تصل للنجوم، لأبعد ما يكون، من مكان. تصل إلى عمق نفسك، فى رحلة بعيدة واسعة المدى. هذا هو الشيء، ولكن في اتجاه معاكس، من الإلهام العميق. وهذا ما نشعر به عندما نكون على اتصال روحى، مع جمال الكون الآخاذ. هذه إثارة ما نلقاه، فى رؤية النجوم، في ليلة ظلماء. تسمع معها صوت السكون، وسيمفونية سماء بديعة. ورغم ذلك، هى تأملات تثير ضجة مستمرة وكبيرة، فى النفس، لذكرى بعيدة، لم تنته بعد. ذهبت مع الزمن. لا يمكن أن نستعيدها، من قبضة النسيان. هذه هي الحقيقة، ولا أكثر من ذلك. ما أعرفه وأهتم به. وكذلك أفعل. الخروج من هذا العالم، إلى عالم آخر، ونبضى يتطابق، مع إيقاع الكون. على الأقل بعض الأفكار العظيمة، في نهاية المطاف. أن أحاول معرفة من أنا، وأن تدرك أنت.. أين تكون.. 


وكثيرا ما نصر على أن نكون مركزا، لهذا الواقع، ومحورا له، متجاهلين كل ما حولنا، وما فيه.. هنا الإشكالية، فالعقل ومنطقه، لا يقرران ذلك أبدا.. فأنا وأنت وكل ما حولنا، لا نعتبر إلا أجزاء، من هذا الواقع. ولا يمكن أن نكون أنا وأنت، كل ما يدور حوله.. وإلا، فهذا من شأنه تعقيد وتناقض غريبين، يقودان بدورهما، إلى قلب فوضى كبيرة سواء أكانت نفسية أم عقلية، تدفع بنا إلى نوع من الاضطراب والجنون. وإدراك الحقيقة، هو أن نرى، ما تنطوى عليه أنفسنا، من هذا النوع  أو ذاك. من خبايا النفوس وطواياها. ولا يمكن أيضا، أن يحدث هذا أبدا، بدون ما يدفعه الإنسان، من رشده وراحته وإتزانه. ورؤية الواقع، لا تكون إلا بإمتداداته، المكانية والزمانية. ألا تترك للظروف، شيئا. وهو أمر شاق وغريب. للأسف نفهمه قليلا، حتى يحين الوقت المناسب، من خلال تأمل هادئ يقظ، ونشاط عقلى خصب وحثيث، لتحقيق نتائج مفيدة مرجوة.  أن ندرك جيدا، مثل هذه الحقيقة الكبيرة. وبطبيعة الحال، مرّد ذلك أساسا، إلى إرادة قوية، نرغب بها، فى تحقيق المستحيل. وفى الوقت نفسه، تصبح هناك تلك القدرة العجيبة لدينا، على تحمل ما لا يُطاق من مشاعر وأحاسيس، خارج حدود قدرات البشر، ضد المحال وما لا يمكن تصور، أن يقع أو يكون. في نهاية المطاف، وبهذه الطريقة، نرى من سرائر أنفسنا غرائب، ما هو مذهل وفريد...


ومن السهل الحياة وسط حشد. بالطريقة التي نريدها هنا وهناك.. ومع سنوات العمر، ندرك أفكارنا، ويدركنا منها، ما يدركنا، لنكتب ما له معنى.. في عالم، حقيقة كان، أم خيالا. لكن الحقيقة جميلة بلا شك، رغم ما تواجهنا به، من ألم يعصف بشعورنا،  بالهدوء الداخلى. وربما بمَ يتعارض، مع كل شيء، تعرفه فى الحياة، أو عنها. وما أعجب الحياة وغرائبها، مما نلجأ أمامه، إلى الخيال. أن تحيا، فى نصوص. تذوب ما بين الخيال والحقيقة، وفى داخلك شئ ما، من حقيقة، تعيش به، كما يحيا النّصّ، فى روح القارئ. بما، نفكر فيه.. وبما، نستشعره، فى لحظة صادقة. فى عمق نفس بعيد. فى لحظات الكتابة الحقيقية. لذلك فأفضل الأفكار، على الإطلاق، تأتي، حينما نعرف أنفسنا. حينما نعرف أكاذيب الحياة. متناقضاتها. مفارقاتها. فى الوقت، الذى نؤمن فيه، برهاننا على السبب والنتيجة. وربما يمكن أن نفعل شيئا أفضل، مع تكّسّر المنطق. نكتب شيئا متقنا، بحثا عن ما هو جميل وأفضل، بمَ يُسمى الكتابة، التى تؤثر فينا، قبل أن تؤثر، فى قارئ، وتوهمه بتفسيراتها. حينها، ندرك أن علينا، أن ندير ظهورنا، للحياة، فمن يريد أن يوجه أوركسترا، فى نفسه، عليه أن يدير ظهره للجمهور. للسامعين. أن يتلاشى، مع تيمات معزوفة غيبية، تنبثق من الروح، ولا يسمعها إلا هو. حتى يتمتع بها غيره. لكن، كتابة بروتين معين، أم كتابة بلا طقوس، أو روتين ما. أو متى أو ماذا نكتب..؟ فلا نستطيع أن نحدد إلى أى مدى، إلى هذا النوع، أم ذاك الجانب، نكون، أو ننتمى. فقط، أكتب وأكتب وأكتب.. هذا بإختصار ما يحدث، وفى أونة قليلة. وأحيان كثيرة، لا نستطيع كتابة سطرا واحدا، أو جملة أو فقرة واحدة. وعادة الخطوة الأولى، والبداية، هى الصعبة. صعوبة أن تحركنا فكرة معينة، أو تستولى علينا، إرهاصات تفاصيلها. وعلى ما تقتضى الضرورة، فى هذه الحالات النادرة الفريدة، لا نجد أنفسنا، إلا ونحن غارقين. ندع كل شئ، مهما كان. فقط لنكتب. حالة من ديمومة إحساس مجهول وغامض. لا وقت فيه، من ساعة نهار، أو ليل. لا صباح. ولا ظهيرة. ولا منتصف ليل. لا تشعر بمرور وقت، أو زمن. لحظة حياة حاضرة، فى الروح، فحسب. لا شئ، إلا قلق نفس. تشتت. عدم إنتباه. شعور، بخوف، ألا يكون ممكنا، ما يمكن فعله وتصوره فى العقل، قبل أن يكون، على أوراقنا. بين شرود ومعاناة. لا يهم، إن كنت واعيا، أم غير واع. تبحث عمّا يدفعك دائما، إلى هذه اللحظة الغيبية. تتحين كل فرصة، لتجذبك فكرة، تحفل بها، لتكتبها. وغالبا، فإن الأمور تسير بنا، على غير ما يرام، حتى نكتب، على هذه الوتيرة والتوتر الذى تحدثه، فى النفس. ورغم ذلك فهذا هو الوقت الأفضل، لنكتب. ولا نتيجة إلا مزيد، من رغبة صادقة، قبل أن يكون هناك نص ما، يستحق أن نقرأه لأنفسنا،.. أن يكون قطعة منا. شئ  ما، من أمر العقل وجموح الإحساس. يرضى توقعنا، من أنفسنا، حينما نخلق هذه المشاعر. هذه هى أحجية الكتابة، وكيف تسير بنا.. كمن يكتب، وأمامه دُّمى وشخوص. بمَ يختلج، بين المشاعر والفكر. لا نعرف فحوى النصّ ومضمونه، ولا ندرك ما يؤدى بنا إليه، حتى نخطو قدما. قبل أن يأخذنا معه إلى تلك المسافات البعيدة. وثمة علاقة ما، بين هذه الحالة الغريبة، وما لا نتوقعه أبدا، من أنفسنا، حينما نكتب، ونتفاعل مع تفاعل النصّ، ويتفاعل فينا، فنكتب، ما لا نتوقع.. لا تعرف، بوضوح ما يمكن أن يكون، حينما تبدأ الكتابة، شيئا جديدا. أو تنقح أمرا ما، أو ترتب تفاصيل فكرة ما، فتلقى، شيئا، مثل أحلام اليقظة. لا تعرف له ملامح. يأخذك، إلى عالم ما وراء النفس. شئ، مؤكد، يفوق كل توقع. ليس ذلك فحسب، لكن عندما نكتب، ونستمر فى الكتابة، بصبر وجلد، بمهارة إعادة الكتابة نفسها مرارا. تتدفق اللغة الجميلة. وتؤصل لفكر واضح. فى نهاية الأمر، باحثين عن رؤى وأفكار فريدة، لا تنضب. لصقل النّصّ، كحجر كريم، لا يُسأم، ولا يُملّ منه، كلما نظر إليه، أو كلما أطلنا تأملنا به، مرة تلو أخرى. وبطبيعة الحال، هو أمر ليس بالسهل، لكن لا نستطيع التوقف عنه، مطلقا.. ولا تجد نفسك، إلا وأنت، فى كثير من وقت، شغوفا راغبا، وهذا الأمر الغامض، الذى يحث النفس، على الاستمرار، فى هذه العملية الدائبة، التى تتدفق فيها روحك، لتتسلل، إلى النّص، ساكنة فيه. وربما وددت، لو ظلت هذه الحالة، للأبد. وهذا ما يؤثر فى القارئ، ويشعر به. وتشعر به أنت قبل أن يدركه قارئ. ومن قبيل ذلك، يحاول الكتّاب أن يبحثوا، عن طقوسهم وعاداتهم وسلوكهم الذى يألفوه، فى الكتابة، للوصول إلى حالة  مثيرة للإهتمام، يبدعون فيها، كل مرة..

إستيقظت هذا الصباح، على إحساس جديد، مستبشرا. كمن يحتضن ذكريات، ليقول لها وداعا. الآن علىّ ألا أرفض إحساسى بموت أيام وأفكار بعيدة، علقت بذاكرتى. تركت فيها ندوبا غائرة. كنت أعرف أنها لن تعود. كم أثارت جدلا، في نفسى. ما أصعب أن أكون رجلا بلا ذاكرة. لكننى لم أعرف ماذا أفعل إن رأيت أو أصبحت شيئا كهذا. لا أرى الوجود إلا بلون أبيض فى بؤرة ضوء باهر. بإستثناء هذا اللون الأسود الذى ينطق الظلال بجمالها لسبب غير معروف، إلا لتضاد تام بين نقيضين. وكأننى كنت أعرف ذلك الرجل الذى أراه، يعيش في مملكة من الظلال فى مدينة  بلا اسم. كان من الممكن أن ينقطع الشفاء. أن يموت الرجل، لكنه لم يمت. كأننى أنظر لشاشات أجهزة  تلاحق أنفاسه. تخبر أنه ما زال على قيد الحياة. كنت أشفق عليه:
  - لماذا لا يموت ويبتعد عن هذه الحياة الكئيبة..
الآن أستطيع تقبّل هذه الحقيقة. الآن، أستطيع أن أنسى. الآن أستطيع أن أكتب. أن أقف بخيال جامح ينبض بدلا من الاستسلام كرجل بلا ذاكرة. لم يبق حاليا في ذاكرتي سوى القليل عن هذا اليوم إذ سرعان ما رحلت ملامحه لمسافة بعيدة فى عالم الكتابة عاكسة حقائق بشأن أحوال الإنسان. فى محاولة الالمام بتلك المعرفة، وبشكل كامل، وذاك الإدراك الفعّال فى مجال القصّ،.. وفى النهاية أقول: فى الثوانى اللاحقة لم يمت أحد. أنا ما زلت أنظر بعيدا فى مخطوطة لم تتم بعد. عن هذه السراديب المظلمة الغارقة في الضباب والغبار، بلا دليل..
كان هناك شيء من عاصفة محيطة. تستكشف وجها لوجه أن فقط ما تراه فى عقلك هو الشئ الحقيقى. فلماذا لم أكتبه قبل ذلك. ولماذا لا أكتبه الآن؟
كنت كمن يتعرف على نفسي من جديد. شئ مربك حقا أن ترى نفسك فى هذه الحال، ولا تملك إلا أن تتوقف وأنت ترى نفسك. تتأمل. تضع هدفا جديدا. تنجز آخرا. يجذب انتباهك. تستوعب. تقول: مهم الآن، أن تكون. أمورا مثيرة للاهتمام. تطلق سراح أفكارك. هذا هو المهم. لكن الأكثر أهمية كيف يكون أمر الكتابة. والحقيقة أننى لم أكن أكتب قبل ذلك، في حين بت أدرك أنها كانت أكثر من أربع سنوات منذ أن قررت أن أكتب بطريقة جديدة. قطعت خلال تلك الفترة من الزمن، مسافة تخيلت أنها بعيدة، فى الوقت الذى كانت لا تزال تشكل بداية لطريق جديد. وفي وقت لاحق لفهم ما يحدث. كنت أرغب في وضع كل شيء في رأسي، على هذه الأوراق على نحو لم أفكر به من قبل. كان من المهم أن أفهم شيئا: كيف تنتمي الكلمات لنفسى التى أدركها الآن. أو أتخيل أننى صرت أفعل على نحو أفضل. ولكن الكلمات كانت مكتوبة قبل ذلك فى عقلى، وكأننى أنا الذى لم أعد أنتمي لها. لا سيما وأنى قد توقفت عن أعمال كنت قد شرعت فيها من قبل. أعانى من عدم قدرة على إكمالها على نحو ما إعتدته. ماذا غيّرنى. ماذا رأيت. ماذا أدركت. وعلى هذا النحو كنت أتسائل: ماذا هنالك من هذا الضجيج. فى هذا الشئ المسمّى عقلى. تلك الأصوات العالية، من قبل عالم آخر..
في البداية، إعترفت أن هذه عملية غير عادية جدا. أخطاء فظيعة كنت أقع فيها. حينما لم أتحرر من قيود كثيرة. ألا تعبر الأفكار عن نفسها كما أراها فى عقلى. تلك المغامرة في مثل هذه المناطق الخطرة. كان علىّ حقا التأكد من حقيقة الأمر فى نفسي، فإذا لم أقم بذلك، فلن أكتب. ليس الأمر مجرد كتابة ناعمة، من أجل لا شئ. فكما للكون الموسيقى الخاصة به. فللكتابة موسيقاها فى العقل، منذ كان الهدف الحقيقي في الحياة.. كان من المفترض أننى أعرف ما كنت أفعله، أيضا. وأتذكر هذه الليلة بالضبط. كلمتان قلتهما لنفسى. أكتب هكذا. هذا هو المهم. وكان من الواضح عندما كنت أعمل على هذه المخطوطة، أنني لم أعد أعرف كيفية الكتابة بعد. حتى أدركت أن القواعد قد تغيرت. كانت قد بدأت أمورغريبة تحدث. تترك فجوات غريبة بين أفكارى. وفي الغالب لم أكن أكتب حتى الآن،.. حتى هذه الليلة التى كان من المقرر أن أنهى فيها أمرا. إكتشفت أننى الذى كنت أنتهى بدلا من ذلك. لماذا لم كل هذه الأمور تحدث؟  ماذا يجعلها تحدث؟
الفيصل، أننى أردت أن أكتب من جديد. بدا لي أنه كان بإمكاني إعادة استخدام شخصيات كنت قد أنشئتها فى المسودة. أكثر من ذلك، بدا وكأنه مكان جيد لملء الثغرات أنه حان الوقت لإدخال دراما جديدة لأكتب حقّا. بالإضافة إلى خلق عدة شخصيات جديدة، في أدوار داعمة في هذه القصة، بجانب الشخصيات الرئيسية،.. كان ما زال أمامى الكثير للقيام بعمل جاد لإنقاذ الرواية، وإنقاذ نفسي معها. عرفت أن تغييرا قليلا أو طفيفا يمكن أن يلقي بظلاله إما فى قوة العمل أو تحطيمه. لكنني لم أقلق بشأن مثل هذه التفاصيل في ذلك الوقت. وعلى الرغم من ذلك، لا أعرف إذا كان ذلك صحيحا، لكن بالتأكيد لا معنى له، إلا على هذا النحو القدرى الذى إكتشفت فيه كيف أكتب. وكيف أستثمر ذلك فى نفسي. وفي اللحظات الأخيرة، وفي الوقت المناسب، نقول لا شيء يمكن أن نفعله حيال ذلك الآن، باستثناء الانتهاء من مخطوطة إستغرقتنى. فى النهاية لا يوجد سوى أن تمضى بنا الأفكار ونمضى معها نحو الأفضل فى عالم كتابة حّقة. كلمات تنطلق كجرس صغير يتصاعد رنينه في رأسي. عندها تجد صوتك أنت، بدلا من جواب الصمت وعدم الشعور بالكمال، وأن هناك كثير من الأمور والأشياء تريد تغييرها، بعد بعض المفاجآت المثيرة للاهتمام. تكتشف أمورا غير محددة. وعلى محمل الجد أن تفكر في ذلك. وربما في ذلك أمورا تستتبع إعادة كتابة المخطوطة بأكملها وأنت بحاجة الى مزيد من الوقت. متردد بين أن تقول لنفسك: سأفعل ذلك. أو لا يمكن أن أفعل ذلك. وهذا يعني أنه شئ من الجنون. ولا مزيد من الوقت قبل إدراك كيف أنه كان من المفترض إعادة كتابة أو إجراء تغييرات جوهرية. وإذا لم تتمكن من رؤيتها فلن يصبح هناك نصّا حقيقيا. أخيرا، كيف تتوقع الانتهاء من عمل وأنت فى هذه الحالة العاصفة. كما لو أنك يجب أن تتوقع وتعرف مسبقا ذلك. وبعد كل شيء، تقول ها قد فعلت. لم أكن أنا قد كنت بعد. هو ما قمت به فعلا. ومن تلك النقطة بالنسبة لك، لا يمكنك الانتظار أكثر. تفقد السيطرة على المخطوط،  وأنت فى حاجة لتفعل ما كان متوقعا فعله. وبكل معنى الكلمة، يهرب الأمر من بين يديك وأنت معه. وكأن الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تقوم به أن تتسائل متى تأتى هذه الأشياء العظيمة المسماة الأفكار وكيف تنبنى وتستمر. بطبيعة الحال وبعبارة أخرى، كيف يمكنك الحصول على نفسك من خلال فكرة كبيرة. وبحلول نهاية العاصفة ليس هناك طريقة لتعرف أنك فعلت، حتى ترى نصّك بين ناظريك. على الأقل تقرأه وتقول فى النهاية: أخيرا فعلت. حسنا، أيا كان ما شعرت به حقا، قبل وقت قليل، هو أننى كنت ما زلت في منتصف الطريق فقط، ولا يمكننى أبدا مواصلة الأمر أو أستطيع دون هذا الشعور الغامض. وفي وقت لاحق أقول أما زال يمكننى أن أكتب كما كنت. بالطبع لا. كانت مرحلة جديدة وأن أحاول بعناية فائقة وبشكل جدي، متحديا نفسي على ذلك بهذا الرهان. أخيرا حصلت على بداية سليمة. لذلك بدأت كتابة روايتي.. في الواقع بدأت المتعة الحقيقية، في مكان آخر. تتمة مثيرة لرحلة كتابة لا تنتهى، أكثر دهشة من أي وقت مضى..
وفضيلة الفن تكمن دائما، فى إثارة الأسئلة، لا تقديم الأجوبة.. والأمور المعكوسة في النصوص الأدبية، دائما ما تثير الأذهان، كمرايا للشبيه الحقيقي، من النفس، على أرض الواقع.. لكن، دائما يبقى الكثير من الأسئلة معلقا بلا جواب. والحال كذلك، فى الاعتماد على كل الوسائل الممكنة لفهم النصّوص، وإن لم يكن هناك سابقة مماثلة أو مشابهة، في هذا العالم، يمكن لها أن تحدد لنا معايير التلقى والتأويل. وهو يبرر أن ما نقرأه، يمثل وضعا فريدا في العالم، من عدمه. وتتوالى الأسئلة، في ذهن يصوغها ويحللها، رغم براعته فى البحث عن إجابات محتملة، وتداع واسترسال في هذا المنحى أو ذاك، قبل لحظة لقاء منتظرة، ليجد ما يصبو إليه من طبائع ورغبات أو يتلمس، بحذر، زوايا حساسة وقلقة وقناعات وتطلعات وآلام وآمال. لكن النصّ قد يحمل نقلا ينطوي على كثير من المفاجأة. تتهكم من تنبؤاته المسبقة، منذ إنطلاقه مع بداية النصّ وبؤرة الحدث الأساسية، كسرد خاص يحمل مضمونا ما، وفقا لسياقات متباينة، تثير ردود أفعال مختلفة، فى النفس.. ولعلّ هذه البداية، تؤسس لمفهوم السرد. فمن وجهة نظر مختلفة، من الممكن رؤية السرد الأدبى، وفهمه، فى إطار معرفة ماهية عملية الكتابة نفسها. فعلى نحو قريب، لا تتوقف الكتابة عند العملية الذهنية، التى تتم بها، وكيف تكون. تنظر وكأن هناك بضع شجرات تحوزها.. تنمو بين يديك، وأنت تعلم كيف تنمّيها، فى طريق أن يكون هناك ما تبحث عنه. ما يسمّى بالنصّ المؤثر، والجميل فى ذات الوقت. هى مسألة تختصر قضايا كثيرة، لتكون قادرا، على رؤية كل ما يحدث. هنا قد يبدو الأمر رائعا، لأن تعرف كيف يكون السرد، وكيف تتم الكتابة، وبصفة خاصة فى مجال القصّ الأدبى. وهى أيضا بداية لعملية فهم كيف يكون الإبداع. أن تعرف كيف تخلق حالة إستثنائية من خلال عالم قصصى أو روائي متخيل. وحينما نعرف وندرك ذلك، يتمثل لنا الأمر في إكتشاف مذهل محيّر. الأمر لا يتعلق بمجرد حكاية عادية مألوفة، فالنصّ الجيد بصفة عامة، يبدأ من حالة أو علاقة مضطربة تربك الحياة الرتيبة.. ضد ممارستها الطبيعية. أمر ما يشكل إنعطافا في مسار أحداث، من هذه اللحظة، لا نعاني الضجر والملل.. تبدأ رحلة بحث مضنية ليأخذ السرد، شكل الحبكة المفعمة بالأسرار المتخيلة وكأنه إكتشاف غير قابل للتصديق يستعان به لإكتشاف هوية الكتابة وماهيتها. هو دليل نرى معه وأمر ندرك به مسيرة كتّاب عظام وروائيين كبار. أن نعرف كيف تؤثر فينا نصوصهم. وكيف تلقى هذه الحفاوة فى أنفسنا أهم الأعمال الروائية والقصصية. خاصة فى مجال الرواية التى تتميز كنوع وسرد أدبى، بتعدد الأصوات من صوت الكاتب أو المؤلف، وصوت الراوى وصوت الشخصية الرئيسية. وذلك، فى عملية تداخل يتراوح بين السرد ذى المستويات المتعددة، بل ويتعدّاه بطرق كثيرة من الحوار والوصف والحوار الداخلي أو المونولوج الذي يحاور فيه البطل نفسه حتى يصل إلى الحل الأمثل. وحتى الدور الذى تلعبه جماليات المكان لأماكن أحداث ومناطق الرواية، وجماليات التقاطع الزمنى والتحولات المنطقية أو المفاجئة، من زمن إلى آخر. والأمر يتجاوز هذا إلى ما يتعلق بطبقات هذه الأصوات ومستوياتها وتداخلاتها، والطريقة التى يقدمها بها الكاتب، لتملأ النصّ حيوية نابضة، فتراه كشاشة واضحة، فى أحيان، أو فى غموض غير مرئي آسر يتواجد فى النصّ ويأخذك بعيدا، فى أحيان أخرى..
وهو سرد متنوع وخاص يشكل إيقاعا في فضاء السرد نفسه ويعدد مستوياته من الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة إلى جانب القضايا الكبرى. هذا التنوع المعرفي الذي يثرى العمل. وهناك من النصوص ما يغوص فى أعماق النفس البشرية، كاشفا عن المشاعر الإنسانية البديعة، وطبائع البشر الفريدة. تستطلع المجهول من شجون وهموم وأحلام. تفسر ردود أفعال الشخصيات وحيرتها إزاء الأزمات. تتأمل محنة الوجود والعبثية فى الحياة، باتجاه الماضي أو من الماضي نحو الحاضر. كل ذلك لابد أن يتم فى منهجية فكرية، يدركها الكاتب جيدا. وللرواية عالم خاص ينقلك تماما لرؤيته. وهنا فقط يداهمك شعور تتأرجح فيه بين واقع الرواية وخيال مماثل تصنعه أنت تسير فيه أحداث تلك الرواية. وهذه الفضاءات المتخيلة التى تنهض عليها تصوراتنا وتخيّلنا للمواقف والمفارقات والأحداث والشخوص التي يقدمها العمل أو النصّ، ونحن نقرأ...
لا شك أن النبوغ الأدبى يشتمل على عناصر كثيرة، من التجديد وروح الإبتكار. وهنا تظهر أهمية الإدراك الكبيرة للموضوعات، التى تتعلق بالنصّ والسرد الأدبى. وهى نوع من مقاربات تحدد القيم الفكرية والجمالية لمَ نقرأ.. وعلى صعيد آخر، تعتبر محاولات ترصد عناصر الظاهرة الأدبية، وخصوصيات الإبداع الأدبى،.. مما يساعد على إستخلاص الملاحظات الجوهرية، التى تكشف عن إشكاليات الكتابة الفعلية، وكيف تكون، فلا يمكن أن يكون الأمر على أية حال، مرتهنا بمسألة الإلهام فقط.. وهذا الطرح لهذه الموضوعات بوصفها، يعبر بدوره عن أهمية المعرفة العميقة، بجوهر الإبداع الأدبي وهو السرد الكتابى، مما يسهم بشكل كبير، في نضج التجربة الأدبية وبلورة سماتها، ويؤدي إلى نتائج ذات أهمية كبيرة، لبلوغ مدراك إتقان، لا تقف عند حدود،.. فيما يختص بماهية الكتابة ذاتها،.. أو فيما يصطلح على تسميته الإبداع. ومن هذا القبيل، لابد من حرص الكاتب على بلوغ هذه الإحاطة بالكتابة السردية وعناصرها، إضافة إلى إستلهام ضوابط الأنواع الأدبية الأخرى ذات الطبيعة المماثلة والمرتبطة بها، رغم أنها حقول متداخلة يصعب تحديد الحدود الفاصلة بينها، إذ تتشابك عناصر كثيرة وعوامل لا يمكن حصرها، ولا تنتمي إلى مشرب واحد، فى عالم الكتابة. وعلى هذا النهج، وعلى الصعيد الإبداعي، في مضمار الكتابة السردية، لا يمكن إغفال أن طبيعة النصّ ببنيته وعناصره ومساراته المختلفة، ليس مجرد أداة للخطاب الأدبي، إنما النصّ الحقيقى ما يلمس الروح، قبل أن يخاطب العقل.. وعلى أية حال، فإن السرد عموما يرتبط بصلات وثيقة، وبعناصر رئيسية تكوّن إختياراته الجمالية وتحدّد مسارها بين جانبي المضمون والدلالة، التى يحملها النصّ. كما أن دلالات السياق فى الكتابة السردية، تلعب دورا كبيرا، في عملية تشكيل رؤية القارئ، وإلتماسه عناصر التفسير  من مظانها المتباينة، ممّا يحيل على ملامح جوهرية يمكن أن توفر القدرة على تحليل المتن، دون أي حكم مسبق أو إستنتاجات غير حاسمة. وهذه التبعية للقواعد المعرفية المؤسسة للسرد الأدبى، قد أمست بالفعل ذات علاقة ملزمة، في جانبيها المضمونى والدلالى، فى ظلّ تعدد الأنواع الأدبية السردية. وهو أمر يسهم كثيرا، فى الكشف بوضوح، عن مرجعية السرد الأدبى وبنيته وأبعاده، مما يسمح، وبصفة خاصة، بتقييم التجارب القصصية والروائية، والتجربة الإبداعية. وبصفة عامة تقييم الإنتاج الأدبي فى مجموعه.. وغني عن القول أن القراءة الواعية تخضع هذه الملاحظات للفحص والنظر الدقيق. كما أن الكاتب الواعى، لا يتوانى عن الوعي بهذه الضرورات، وعن الإهتمام بقواعد الأداء ذاتها، التى تبلور أفكاره، بعيدا عن جمود وخضوع إلى لا شئ.. الأمر الذى يؤدى فى نهاية المطاف، لانصهاره الكامل فيما يكتب، صوب سرد فريد، يستثمر فيه الضوابط التى ترسخ، لرؤية يحملها عن النفس والحياة والعالم، والذاتية والآخر،.. مما يتجاوز تجليات الإلهام ومراحل تطوره ..
وفي الوقت المناسب، ومع حدس غريب يهبّ من حافة العقل، مثل ضوء الشمس، ومثابرة في التماس بعض الأفكار، وطرح البعض الآخر. في الواقع، يمكن للمرء أن يمتلك الخيال. أن يكون في انسجام تام، كمن يجتاز مجموعة من الأشواك تمتد جميع أطرافها مثل سور فى اتجاه واحد، يفصل عن حقيقة الحياة. تبحث في الوقت نفسه عن الكلمات. ثم تظهر فجأة كطقس غير متوقع، عاصفا بهدوء العقل، لأفكار غريبة. ولا تعرف معه كيف تستقبل الحياة، إلا أن تكتب. ومع هذا الشعور الوحيد الذي يتجلى كنوع من الأمل، تتناوب النظرات السارحة فى السماء. يمكن أن تتحمل طقسا، لا يُقاوم. أن تطرق أبواب أفكار لا تنغلق أبدا. لا يمنع العقل عنها شئ. تنتقل ثانية أسرع، من المعتاد، إلى بؤرة شعور مفعمة بالحيوية، مزدهرة.  وذلك أمر نادر جدا، لا يكاد يُعرف كيف يمكن الحصول عليه، وإلا أدرك المرء على الأقل، أنه يمكن أن يكون لديه نصف عقل. أو نوع خاص، من الفكر يستحق عزلة دائمة، قبل أن يستطيع التعبير. ألا تعرف كيف تواجه متوقعا. ألا تعلم كيف يشغللك محاولة تفكير فى عمل جاد، يمكن أن تحقق شيئا عبره، خلال نهار أو ليل. ورغم هذه الحالة، تدرك تماما،  ومن جديد، أنه ليس لديك أي رغبة في موضوع لم تعتاد مثله. أن تنكسر فجأة حلقات الفراغ، فى العقل. أن تلقى ما غاب من علامات طريق، تنبثق منها الأفكار مضيئة نيّرة..
ومن المدهش أن نشعر بمثل هذه التحولات الغريبة، فى أنفسنا. ولحسن الحظ غالبا ما تُعتبر منجما لأفكار نادرة مثيرة، وتكون موضع اهتمام بالنسبة لنا، ويمكن أن تحصل عليها العقول السليمة. شئ لا يأتى إلا بين هبوب وهدوء عواصف الفكر والتأمل، فى غرائب الحياة وصروفها. إنه أمر غريب، لا يمكن تصور كثير من تفاصيله، إلا مع وجود فترة من النشاط العقلي. تستطيع أن تقول معه أنه لم يكن هناك فرصة للتغيير، في الوقت الحاضر، أو للمعرفة لولا ما يحدث أمامنا فى الحياة. أن تستعيد نشاطك وتستعيد الحياة الغائبة، لأفكارك. وفي الواقع، كل شئ يكون متاحا بالفعل، أمام العقل، لكن عتمات داكنة، كانت تحجبه. تسبّبّت فيها سحابات قاتمة. لم يكن ليستطيع أن يبدّدّها شئ، إلا مثل تلك العواصف الفكرية، فى محاولة إدراك ما تقابلنا به الحياة نفسها، من أمور وملمات. ثم تبدأ تتصور أنه سيكون من الحماقة البقاء ساكنا، بلا حراك. تتطلع في وجهك  الأفكار، وأنت متكئ على كرسيك، لا تفكر ولا تتأمل. على أية حال، تحدق أنت فى عالم آخر، تبقى عينيك فيه. تقول فى نهاية المطاف. الآن علىّ أن أكتب أفضل، من أي وقت مضى. وفي الوقت نفسه، تبدأ تشك تقريبا، في نفسك، وفيما تكتب، وفى حواسك، وفى الحياة نفسها.. وربما ترى أنه من الأفضل أن تمتنع، وتتوقف.. رغم أن الافضل من ذلك كله، أن تكتب، ما أثارك. كمن عاد لتوه من زيارة عالم غريب نابض مفعم بالحياة. أو كمن عبر جسرا، لعالم الروح. أن تمسك بأفكارك، قبل أن تهرب، ولا تجدها أمامك، محدّقة فى عينيك، ساكنة عقلك، على نحو غريب. تثور في وجهك بحدة أن من لا يأبه للكلمات، لا تكترث به الأفكار. أو كأن الكلمات  نفسها، من أحجار ضخمة، لا تستطيع لها حملا. وتتسائل كيف تبالغ إذن، من نفسك، متجهما، أمام هذا الميل المفرط، لعدم ثقة فى النفس. ودون أي محاولة يتخللها ضوء ساطع أو دفء حرارة، لحياة.. كيف لا تُعرب عن مشاعر كهذه، تضطرب معها النفس، لتتحقق سكينتها. أنك ما زلت هناك، تحيا وتفكر. في الواقع نهاية واحدة، تسافر بالروح. تعكس وبشكل رائع هذه الحالات الفريدة، فى النفوس. الكتابة. هذا الإحساس العظيم، أن نكون. لذلك نقرأ، ونُحبّ من نقرأ      ..



 
----------
(يتبع)