سرماديا

سرماديا

الفن والجمال* المقالات 1 - 5





مقالات
 فى الفن والجمال
---- خالد العرفى
- كلمات فى الفن والجمال
- ومضات جمال
- الفن والروح " قلب الرؤية"
- من أسرار الضوء والظلّ
- من لغة الفن
-------------------------------------------------------------------------------


من لغة الفن
----- خالد العرفى
  تلك اللغة العميقة التى تصل إلى التخاطر.. إلى ما وراء الطبيعة.. لغة وجود.. تفهمها الأرواح. تتسلل معانيها إلى أعماقها.. هى لغة للفن.. من لون.. وضوء وظلّ وتشكيل.. رؤى تستمر ويقرّ نورها فى عمق النفس.. آخذة حروفها من مفردات الكون والوجود.. بحار وجبال وسماء وأرض ونجوم.. زهور ونباتات وكائنات ومخلوقات.. وهذا من عظمة الفن، لا أدرى أم من شفافية أرواح.. يدركها أثر الجمال، موجة بعد أخرى.. تتعمق فى تفاصيل، لا يمكن إلا أن تلمحها الأرواح الصافية.. وعلى سبيل المثال من جماليات الماضى، ما يظهره تاريخ التصوير الفوتوغرافى فى لقطات سجلتها ذاكرة صندوق الكاميرا.. الأبيض والأسود.. حاول مثلا جمع مجموعة صور لحقبة تاريخية ولتكن من القرن التاسع عشر أو بدايات العقد الأول من القرن العشرين.. ثم حاول مثلا تأمل أعمدة إنارة خشبية.. إتجاهاتها  وأطوالها.. تجد أشياء عجيبة آسرة.. رغم التشكيل الموحد تقريبا إلا أن نوع الأخشاب التى صنعت من أنواع أشجار محددة يعطيها ظلالا وتأثيرات فريدة، مع وقوع الضوء عليها ومصدره، خاصة  الشمس.. خذ مثالا آخر.. أشكال الأفاريز الحجرية وتكويناتها الجمالية فى واجهات العمائر والمبانى.. بل وأشكال الدرج ونوع أحجاره.. شكل الشرفات وطرازتها وزواياها.. المداخل وأمكنتها.. أبراج البنايات وقبابها.. عشرات الأمثلة.. ومنها وسائل المواصلات القديمة.. مثل العربات التى تجرها الخيل.. أشكالها.. دواليبها.. صناديقها.. أنواع أخشابها.. ومنها طرازات عربات البريد ونقل البضائع والموتى.. حتى صناديق البريد.. ومنها الخشبية على أبواب المنازل.. والحديدية تتمركز فى الطرقات والشوارع.. أشكالها الصبّ البديعة.. أعمدتها.. سواترها.. حتى حركة البشر وأمواجها.. من عابرين وسائرين.. وقوف وجلوس.. أشكال وملامح، وأردية.. نظرات ولمحات.. رجال ونساء وأطفال.. شباب ومسنين.. أين هم ذاهبون.. ومن أين أتوا.. رتم الحياة، ووتيرته.. صنائع وبدائع.. لا يمكن أن يلمس أو يصف مثل هذا التأثير، إلا تأمل روح سابحة فى أسرار الضوء وأعماق الجمال وبدائعه، من آثار الماضى.. أسرتها صور فوتوغرافية بين الأبيض والأسود.. والضوء والظلّ..
وعلى نقيض رمادية ضباب وسحب الشتاء التى تجلب إكتئابا للنفس، فرمادية الصيف المشبعة بضوء الشمس تفتح الروح على ذاتية، والنفس على وجودية من نوع خاص.. فكما للفصول ألوانها ومغزاها مما تعكسه كاميرا التصوير الفوتوغرافى فى صور الأبيض والأسود، تجد تماما للنفس البشرية فصولها هى الأخرى، أو حالاتها النفسية التى تعطى اللون دلالته وعمقه وأثره الساحر، فى الروح،.. حزنا وفرحا، مما يفتن العين ويأسر النفس ويخلب اللّب.. وهذه من جماليات الصور الفوتوغرافية، التى تنفرد بها عن غيرها من أنواع الفنون الأخرى.. فضلا عن أثر تدرج وعمق لونيها ذاتهما، بين الأبيض والأسود، والتناقض الذى يزيدهما جمالا ودلالة، زِد على ذلك موضوع الصورة وزاوية التصوير، منفتحة كانت أم منغلقة.. مركزة أم واسعة.. وقد أشرت من قبل، لبعض مفردات تلك الموضوعات خاصة التاريخى منها.. وهى نفسها مفردات الحياة من بشر ومخلوقات.. عاديات وأشياء وموجودات.. طرق وعمارة وبنايات،.. وغير ذلك.. ولعلها تكون من نفس جماليات الفن السابع، التى تعطى أفلام الأبيض والأسود رونقها وسحرها.. حتى فى الأفلام التسجيلية القديمة التى سجلت ويلات الحروب أو أحداثً تاريخية.. فى إشارة صامتة ترصد إلتفاتة زمنية أو واقعة على ضفاف تاريخ إنقضى.. فى تلهف إلى خلاص من ماض باهت ضامر.. لم يبق منه إلا أطلال من رحلوا.. لكن، ورغم ذلك، فالعين بين حين وآخر، تظل تستدعي فى حضور اللحظة ذكريات ما انقضى، وأبقته لقطة فوتوغرافية، من فصول أحزان طويلة، أو بزاوية الكاميرا سجّلت ما حدث يوما ما .. ناشدة فردوس حياة مفقود، عبر خطي الحاضر، لكن في عالم جمال خاص، لا تلمسه إلا الروح..
وعلى ما يبدو، فإن فلسفة الجمال تدور حول  معانى الجمال ومصادره.. مما ينهض فى النفس والروح، من أثر.. ويعاودنا أثرها من جديد وتثير تساؤلاتنا.. يتعاظم صداها الساحر، وتختطفنا حالاتها الغريبة، بتأثيرها الغامض.. معان نفسية تعجز العقول عن الوصول إلى مكنونها وجوهرها.. ومثلما تكون لمسة الجمال مؤثرة مثل علامة فارقة، فإن أكثر ما يكون من التداعيات الروحية هى تلك المناحى المعرفية التى تحلق بنا بأجنحة كموسيقى غيبية.. ويختلف التعبير الجمالي من فن إلى آخر، وبين لون وآخر من ألوان الإبداع، بمقتضى طبيعة كل لون، وتجربة كل مبدع. وباختلاف غموض هذا التأثير للغة الفن، يحاول المرء أن يتلمس أسبابه.. وعلى نحو أكثر دقة، ما يبلغه من حالة تثير الإلهام على نحو غير منظور.. وما هو بمثابة روح الإبداع على هذا النحو الغريب. وهو ما يستدعي أحيانا أن نقرأ فى فلسفة الجمال ونظرتها التى تساهم، فى مصداقية أكبر وتكامل نظرتنا إلى الكون والوجود.. وبقدر ما يختلف نوع فنى ما عن آخر بقدر ما يظهر من وحدانية منبع التأثير الوجدانى للفن على وجه العموم.. وليتوالى ويتنامى هذا التأثير مستوى بعد آخر، بمَ له من سحرية وأثر ويمسّ جوهر الحياة تماما كلغة رواية ما. ومن هنا أمضي إلى النظر، إلى نقيض الجمال كنقيض للحياة نفسها، بما يكمن في أعماق في خفايا القبح التى نراها فى كل مكان، تماما كالنفوس المظلمة..
---------------------------------

كلمات فى الفن والجمال*
---- خالد العرفى

الفن ضرورة حياتية، تعبيرا عن الذات.. كناتج إبداعي، إنعكاسا للأفكار، وترجمة للشعور، ورسما لصورة الوجود، والكون والحياة، من حولنا.. حيث، يهبنا الفن عوالم جديدة، تحاكى معانى الطبيعة، بإعمال الخيال، والحسَّ المرهف، والذوق الأصيل. ومن هنا، نجد أن للفن دورا عظيما، فى الوجدان، ريّا لظمأ الروح. ففى خيال لحظة ضوء، يولد جمال الكلمة وتسثيرك لمسة فكرة، لأوتار العقل. كما فى شروق ذهبىّ للشمس، على الوجود، فيهتز لها، حنينا وشوقا. أو إنبلاج قوس قزح على البرية، بزهو ألوان الحياة، فتربو. هناك من الفن، ما يراه القلب ويعاينه، كما تقرأه العين، وهى تصبو لمكنونه المُشرق. فى الجمال نسمع موسيقى الوجود صادحة، ونرهف لعذوبة لحن الكون، يملأ أركان أسماع الأحياء، صوته. ومع تأثير جمال الفنون، يفيض الوجدان البشرى ببصيرة، بمَ لا تراه أعين فانية. 
ومن جوهر الفن، إشراقه فى النفس، وعلى الكيان. فربما نجد تأثير لمسة الجمال، تغمرنا بالدفء، فى عمارة مبنى. أو أثر. أو جدار، أو أعمدة أو درج حجرى.. إلى لوحة زيتية مرسومة، أو لقطة فوتغرافية. فى تمثال. أو بورتريه. زاوية لكاميرا. فى الظل. النور. الليل. النهار. الغروب. الشروق.. فى درجات الدفء لكل لون. فى مرآة منظر بعد لحظة مطر، .. أو تباين فى أطياف الأبيض والأسود. فى الظلال.. فى كل شئ، يمكن أن نرى ذاتية جمال،.. ونشعر بكينونة الطبيعة، نابضة بالحياة، تتسلل لأنفسنا. وكما فى الفنون التشكيلية، يسافر بنا الخيال، ليلمس أعماق النفس، وخفاياها. لا ريب أن الفنون والجمال، هما روح الحياة، وذات كل معنى. أبدا، لا غنى للإنسان عن  عالم الفن، والجمال، فى الطبيعة والكون. يحثه ويستثير خياله، فيضا وراء فيض، وإلهاما من بعد إلهام، فى دروب الإبداع، والفنون وأصعدتها، مهما كانت صورها، وأنواعها.
وما أروع الجمال الصادق، الذى يغرسه كل هذا فى النفس، بدفء من مشاعر، وإشراق  لأحاسيس.. لمسات حياة، ولحظات ضوء نيّرة، فى أغوار الروح.. ننتظرها، ونبحث عنها، لنرى معها حقيقة الحياة، وتنجلى أسرارها المدهشة، حياة للإبداع نفسه. إجابة لمَ نكتب، وكيف نكتب، وهى إشكالية الكتابة الكبرى.. هى اللحظات النادرة للإلهام، وصفو الفكر، والفن. صميم كل عمل لمفكر، وأديب، وفنان.. حفزا للأفكار وتنوعها، ومبعثا للخيال الأدبى الذى هو عامود الكتابة، ومرّده. علاوة عن، كونها، إطارا لرصانة النصّ، وجزالة العبارة، شكلا ومضمونا.. هى ما يجعل النص لوحة صادحة، وأثرا من جمال الروح البّراق.. ليس فقط جمال الفكرة، إنما الأسلوب، واللفظ، ورونق الكلام.. ومن جمال الأدب والفن، أن كليهما رسول الأرواح، للسمو،.. أثر رؤية عمل فنى، أو سماع قطعة موسيقى، أو القراءة لنصّ أدبى، على حد سواء. 
ولعل هذا يظهر فى جماليات الفنون كلها، ومنها الفنون الدينية، التى تخاطب الروح، مؤثرة فيها، تأثيرا بالغ الأثر، أيا كانت العقيدة، منذ تاريخ الإنسان البدائى، ومرورا بالديانات السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام.. فمنشأ كل هذه الفنون، هو السعى للسمو الروحى، وإرتباطها بالمعتقد الديني، والتعبير عن وجهة نظر، ورؤية الإنسان للكون والحياة، من حوله، وفق هذه العقيدة، فى أبدع صور التعبير المادى واللامرئى. 
وعلى سبيل المثال، يكفى الإشارة إلى الفن الإسلامي الفريد، وما يزخر به، من نقش وحفر على الخشب والجدر الحجرية، والخط العربى بكل أنواعه، والأرابيسك، وغيرها من أنواع الفنون الإسلامية التى تتعدد أشكالها، وصورها الكثيرة.. تخلب اللبّ، آسرة الوجدان. ومنها الفنون المادية كالرسم، وعمارة المساجد، أو فى بناء العمائر والقلاع والدور، ممّا امتازت به الحضارة الإسلامية.. وحتى فى الكتب والمخطوطات.. وأيضا منها، النحت والفخار والنسيج والزخرفة، التي امتازت بها الفنون الإسلامية. ومن أبرز موادها المستخدمة الرخام، والآجر، والفسيفساء، والجصّ، والخشب، والفخار والخزف، والعاج.. بإختصار، صناعة الجمال ظاهرا وباطنا، هي وظيفة الفن الإسلامي، فى أى شكل فنى، بمضمونها، بمختلف أنواع فنونه وأشكالها، معبرة، عن حقائق الوجود من زاوية التصور الإسلامي، وإستلهام روح العقيدة والحضارة والثقافة الإسلامية. 
كنت أفكر فى هذه المعانى، وتفاصيلها، أثناء كتابتى لمقال عن الفن، مردفا به شئ، عن فلسفة الجمال (ضمن مجموعة مقالات شراع سفر). وهو مقال، أنشره قريبا، كاملا، بإذن الله تعالى.. وألفيت نفسي، متطرقا لفصل من رواية غصن الحياة، فعدّلت به فقرات كاملة، تأثرا بفكرة المقال عن الجمال، فى الطبيعة، ودورها، كخلفية، فى مشاهد تدور أحداثها على ضفتى نهر النيل، بمدينة ملكال السودانية، عاصمة ولاية أعالى النيل، الحدودية بين الجنوب والشمال. وهى نقطة التقاء فروع النيل، من بحر الجبل وبحر الغزال وغيرهما، لتكوين النيل الأبيض، الذى يصل إلى الخرطوم، ملتقيا بالنيل الأزرق، ليكوّنا معا شريان الحياة. ومع الإنفصال إثر الصراع العنيف الطويل فى السنوات العشر الماضية، قبل أن تصبح ملكال، حاليا تابعة لدولة الجنوب. 
وملكال هذه، هى أولى النقاط التى وصلت إليها بعثات الرى المصرى بجنوب السودان، مكونة من عشرات المهندسين والعمال والإداريين، حينما أُرسلت فى عهد الملك فاروق، مدركا قيمة بلدان منابع النيل. وقد أقامت الحكومة المصرية فى عهده،  مقرا دائما لها، فى ملكال، يضم مقياسا للنيل، ومرسى نهريا، وغير ذلك. وللبعثة أراضٍ ومبان، فى ملكال تمتد من شمالها إلى جنوبها، بمحاذاة النيل الأبيض، وأراض من شرقها إلى غربها، بأفضل المواقع الساحرة، منذ ما يزيد على ثمانين عاما، على ضفاف النيل.. حيث أجمل مكان يمكن أن تراه منه.. وهذه الأجواء، لها عبقها، وجمالها، فى الرواية. مجمل القول، أن الفن يستوعب المكنون، وتستوعب به مخيلتك الغائب، عبر ما لا يُرى قبل أن تراه، من جمال.. تلمسه فى نفسك. وبدون تذوق جمال الفن، لا يتكون أبدا، وجدان للأديب يدفعه للإبداع، ولا تندهش، لأفكار فى الكتابة، خالية من هذا الأساس الجمالى.
وإن إفتقد قلم الكاتب تلك الروح، الوهاجة، فلا تنتظر أمرا، فى مضمار الإبداع الأدبى. إنه وهج القلب، وإشعاع الروح. تماما، كما لو فقد الفنان إلهام ريشته، على لوحته، فلن يبدع أو يرسم، فلا روح للألوان ولا شئ نابض بحياة، بدون هذا، قط. إن أروع أعمال الفن العالمى، حتى الأعمال التى تتعلق بالدين والعقيدة منها، أو تلك التى صوّرت الحروب، ومآسى البشرية، وهى أعمال ترجع لقرون مضت، كأعمال مايكل أنجلو.. ومن قبلها الأعمال الفنية التي تخص القرون الأولى التى تصوّر الحياة الروحية والفكرية، فى تاريخ الكنيسة الشرقى والغربى، بالكنائس والأديرة والكاتدرائيات، وحتى عصر النهضة.. كلها أعمال فنية، لها هذا الأساس الجمالى الملهم للمبدع. سواء فى العمارة، أو غيرها من أنواع الفنون. وعلى هذا، كل جمال حضارى، وفن أصيل، وغيره، يثير شجون الروح، ويحلّق بها، فى عوالم أخرى. وعلى نفس الشاكلة، وبدون هذا المفهوم، أيضا، لن تكون هناك جماليات فى الكتابة أو النصوص، تؤثر على أنفس متلقيها. ومن هنا يمكن القول، أن العلاقة بين الفن والأدب والجمال الناصع، لا يمكن إستيعابها ببساطة، فى مقال، وهى صلات متينة، ووشائج قوية، يحكمها إطار واحد، وهو التأثير فى النفس البشرية، بأثر، لا يزول. وهو ما يجب أن يتوافر لدى كل فنان، ومبدع. الأمر الذى أحاول، جاهدا مع نفسي، أستحثها، مرة بعد أخرى،، ممتثلا لمعناه، وأنتهجه فى كتابتى، ومنها ما يتعلق بالمثل الذى أشرت إليه، فيما يتعلق بزمان، ومكان رواية (غصن الحياة) اللذان يتراوحان، فى فترة زمنية، تستغرق قريبا، من خمسة عقود.. سنوات طويلة، وأماكن عديدة، لابد أن أستشعر، وأنا أكتب عنها، وعما يدور بها من أحداث، من جماليات للمكان. مما أثار شجونى حيالها، هذه الفكرة لمقال الفن والجمال.. وهو المقال القادم، بمشيئة الله تعالى، تبارك اسمه..
.............................................................


ومضات جمال**
----- خالد العرفي
الجمال ومضات.. تظهر من خلال فن الوصف والرؤية، وزوايا ومستويات التعبير، سواء أفقيا أو رأسيا، بين المفردات الفنية، والعلاقات التبادلية فيما بينها، كما فى الجماليات المتعددة، التى أعرضها من حين لآخر، من فنون شتى.. وتشرق روح الجمال، عبر القصّ المتقاطع، وتداخل الضوء والظلال، وتتوهج مع تباين درجات الأبيض والأسود، وبقية الألوان.. آنذاك تنبلج رؤى اللاوعى بعديد من التفسيرات غير محددة على الإطلاق لهذا السرد الخاص،.. وبعمق الربط الذى يدرك الإطار، وتأويل يجمع بين التفاصيل وعلاقات العناصر، فإن التأثير لا ينتهى على الحواس.. رحلة وراء أخرى، تجد العقل يبحر بين وجوه بشر، ومفردات عمارة، وملمس الأحجار، وغيرها.. وكل تفصيل صغيرا كان أم كبيرا، له دلالته، حاملا الروح على أجنحة الخيال، فى عالم جمال.. مزيد من حيرة لا تتوقف، تدهشك، وتستثير خيالك، طمعا فى تأويل وحيد، للعلاقة بين هذا وذاك، أو مصدر هذا التأثير الفريد، على العقل، ومنشأ سره الغريب، فى الروح، وعلى المشاعر.. ممّا تتخطّى  به أبعاد المكان، وتعبر معه حدود الزمان.. ولا يعدك هذا، إلا أن تقع فى دائرته العملاقة، وجولة بعد أخرى، تجد نفسك أسيرا فى زاوية درج أو تاج عمود، أو درب بازلتى طويل.. أو جانب موقد حديدى قديم، بجانب جدار.. أو طالا على نافذة حجرية، وراء سياج.. أو سابحا بهدأة موجة، سكنت شاطئ بعيد أو عانقت رصيف ميناء تغادره سفينة، وراء بحر لا ساحل له.. أو إلتقاء متناقضين يمتزجان فى مدخل مبنى، أو يفترقان بنهاية طريق... فى معبد أو تمثال أو قطعة آنية.. فى زخرفة أو نقش أو حفر..،.. كثرة من الأشياء، وعديد من مسميات قطع بديعة،.. عناصر وجود ما زال قائما أو إنقضى عهده، من بعيد،.. إنه جمال الفن الذى تقع فى براثنه، هاويا بأعماقه.. هى لغة الروح المعبّرة، وحروف نبض الحياة، التى تنطق مجتازة كل تفسير، ولا ينتهى تأثيرها، أو أثرها أبدا.. وفى رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية لعشرات الفنانين العالميين، وضعت عملا إبداعيا للغة جديدة، من نوعها أعتقد أننى صاحبها.. يمكننى أن أستعيض عن أى لوحة بعبارة أو فقرة، كروح من السماء تأتينى،..لا أعرف حقا، كل هذه المعانى التى تأتينى حينما يأسرنى عمل فنى.. فى كل لحظة، أتعلم كثيرا من الفن بكل صوره وأشكاله.. يعطيك هدوء النفس وعواصف الوجدان والشعور الدائم بالمعانى الحية... يجعل الأفكار أمامك ويعطيك الصوت والحركة وكل شئ.. أكتشفت كثيرا أننى ما زلت لم أكتب شيئا، ليس له قيمة، أو تأثير.. لو لم أشعر بهذا الإحساس.. ولا يزال الكثير لأمضى نحوه، لتمسك به قبضة العقل والروح، فكرا وأدبا وفنا..  وما أجمل القصّ، وما أقوى الإيهام، والتعبير، لهذه اللغة، التى تتباين معانيها وتتوارد، بشكل مذهل.. تسمعك ما فى العالم من حياة، وتندهش لكثرة مدلالوتها، وإرهاصاتها.. إن العلاقة بين الألوان والفراغ أو فضاء اللوحة والعناصر التى تتوزع عليها.. كل شئ يجعلك تتسائل ماذا قصد الفنان هنا، فى هذا اللون، أو هذا التكوين من تلك العناصر.. تستنطق الصمت فتهدر المعانى، فى الروح.. تود لتعرف، فيما كان يفكر، وبم كان يشعر، حينما أبدع هذا.. الحياة والموت والكون وكل تفاصيل الحياة.. وكل معنى يمكن أن تجده، حينما ترى وتقرأ الصورة، رابطا بينها وبين غيرها، بهذا الشكل، فتذهب بك إلى عالم آخر.. بعض هذه اللوحات يرجع عمره لأكثر من مائتى سنة، والبعض الآخر من القرن العشرين.. فترات تغطى تاريخ الفن.. ويتباين نوع  المدرسة الفنية الذى ينتمى إليه الفنان بعمله.. من الكلاسيكية.. إلى التعبيرية.. والرمزية.. إلى الإنطباعية..،.. وهكذا، لو تضافرت هذه الخلفيات والإنطباعات عن الفنان والعمل وموضوع اللوحة.. مع الربط والتنامى فى الخط الدرامى، للتشكيل ككل.. أو الموضوع الذى عبّرت عنه اللوحات.. تجد هذه اللغة الجديدة..تخاطبك وتمضى بك.. توقع على روحك.. تتناول المكان والزمان والشخوص، لرواية يمكن قراءتها وتذوقها، من زوايا مختلفة، وبعديد من المعانى والرؤى التى تتناغم فى الذهن، وتتآلف فى تسلسل وتتابع.. لكن للأسف ليس كل فرد قادر، على هذه القراءة الجديدة، وقد يفشل فى ذلك،... والعمل يلقى تبعية المضمون والرؤى المتنوعة، على ثقافة القارئ والمتذوق للفن والجمال، من هذه الناحية.. وربما هذا أفضل كثيرا، لإنعاش الفكر والتأمل فى عالم الخيال.. فللفن بكل أنواعه، أهمية كبيرة فى تكوين وتشكيل وجدان الأديب، كالفنون التشكيلية، والموسيقى، وغيرها من فنون.. بل هو كذلك حتما، مما له بالغ الأثر والقوة فى الإلهام والخيال، ووهب معين لا ينضب من الأفكار، للكاتب .. وبلا ريب هى من جماليات الفن وعلاقتها بكينونة الأدب، وفحواه.. وقد سبق أن وضعت بعضا من هذه المحاولات بصور متنوعة من الفنون، المختلفة.. محاولا خلق معان جديدة، وبتذوق جديد.. وقد تابع قراء ومتابعو المدونة، من هذه المحاولات بصور من جماليات متعددة، ومنها جماليات الماضى المسماة جماليات بحر، من تراث التصوير الفتوغرافى.. 
وهذا هو رابط ذاكرة البحر بالمفهوم الذى إختصرت الإشارة إليه آنفا (رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية).. على الرابط الآتى
 http://sadaroooh.blogspot.com/2013/09/blog-post_15.html

الفن والروح
" قلب الرؤية"
---- خالد العرفي 
إنها فكرة الجنون، الرابضة فى كل عمل، شكلا ومضمونا. تصدمك بالجمال الصارخ. تأسرك من الوهلة الأولى. تدع نفسك، لتغوص فى عمق العمل. تكوينات من معان، لا تراها إلا بإحساسك. فجأة، وخارج حدود الزمن، يجب عليك، أن تكون على أتم إستعداد، لإبحار أسطورى، بعينيك وعقلك معا.. تدهش الروح، برغبة خلاص من هذا العالم، بتناقضاته الغريبة. بعيدا عن كل معتاد، ومعقول. ترى الحجر، وتسمعه ينطق، دابّة فيه الحياة. تشكيلات ضد الجمود، تغاير كل شئ. تحترق فيها، رغبة فى مزيد. تتحسس كل تفصيل، بروحك.. بين الحلم والواقع. تسافر إنفعالاتك، إلى مجهول قصى، فى خيال، يجمح بك. ترهف سمعك، عبر مدى يتسع، ويتمدد لأنفاسك، وشهقاتك، متخطيّا وعابرا آفاقا. هذه هى اللوحات الفنية، التى وضعت، من قبيلها الكثير، الفترة الماضية. وهى، مما أعشق حقا. كل لوحة لها خلفيتها النابضة، كأنها تلقى بك، من ارتفاع شاهق. لكنك تهوى فى الخيال، ضد الواقع، ضد كل شئ. تستشرف به عالما أكثر جمالا، وإنسانية.. تستطلعه بروحك، حتى لا تفقد تفصيلا، من تفاصيله، وملمحا من ملامحه المختلفة، بين ظلال خفيفة وثقيلة. دلالات غامضة، غير محدودة. تسيطر على كل كيانك، بهوية وشكل غريب. لا تستطيع أن تلملم روحك بعدها، إلا وأنت تسدل عينيك، بين الأبيض والأسود.. فى عمق التضاد. بعيدا عن كل لون آخر، من الألوان. 
تتدرج بك، شيئا فشيئا، لتسرقك من نفسك، آخذة بك، لمسافات بعيدة، لا محدودة. ربما لا تعود، منها، روحك، التى انصهرت. وتجد نفسك، وقد تلاشت، بين الظلال العميقة.. لا تدرى كيف تم إستخدام الظل والضوء، هكذا، فى قلب الرؤية، لخلق هذا الجمال المشرق. هارمونية، تأخذ بوجودك. تدور به، بصورة، لا تعهدها، فى نفسك، ولا تنتهي.. 
ولا يعرف كثيرون كيف هو جمال الماضى وروعته، عندما تنقله أنامل الفنان. عصور مضت وتفاصيل فنت من الواقع. سجلت لحظاتها ألوان وظلال.. وإستخدام للضوء لا يمكن أن تراه، إلا فى مثل اللوحات الزيتية.. لانعرف، إن كان هو الضوء الذى يظهر الألوان، أم الألوان هى التى تظهر الضوء. وتسمع فيها موسيقى من نوع خاص، لتحيي النفس، وتسافر فى الزمن.. كثيرا ما قضيت وقتا، على فترات متباعدة، فى تأمل مثل تلك اللوحات المدهشة. مدن، ومناظر طبيعية، ومشاهد إنسانية، وبورتريهات بشرية،.. وقائع وأحداث. أحتفظ بها.. وكم أهدأ كثيرا، عندما أعيش فى تفاصيلها، وألوانها. ترينى أماكن لم أرها، وتحيينى فى أزمنة لم أعشها. كم هى دهشة أن أرى الشرق قديما. كل شئ أعيش تفاصيله. أنظر للوحة كأنى فيها.. الألوان. الأشياء. الخلفية. النمارق. الستائر. الملابس. الأثاث. ملامح الوجوه. الحركة.. كل شئ يتناغم فيما بينه بألوانه ومكانه وأتناغم فيه، متنقلا بين تفاصيله المدهشة، وأنا جزء منه.. هدأة وسكينة وإحساس، لا يشبهه إحساس.. 
وحتى اللوحات، التى سجلت مشاهد لأوربا، فى العصور الوسطى.. بصرف النظر عن الدين والعقيدة.. رأيت ما سجلته أنامل الفنان، لمعابد وكنائس وشواهد قبور، إستوقفتنى كثيرا. من لم يرَ فلورنسا وبيزة وجنوة وغيرها من مدن إيطاليا، فى هذه الفترة، لم يرَ جمالا لعمارة ولا شعر بجمال الفن، وروعته.. هذا موضوع كبير، لا يكتب فيه أسطر.. يحتاج لسِفر بمفرده.. أما عن البورتريهات وحكايات الفنانين الكبار، معها، فمشكلة فكل كان له ملهمة.. ويكفى أن يقع بصرى على لوحة، تسرقنى من نفسي، وأتمعن، وأضع نفسي فى نفس اللحظة، التى رسمتها فيها يد الفنان، بروحه ودمه.. لا يمكن أن تشغلنى تفاصيل الوجه فقط، ولكنها تصبح تعبيرا فى مجمله، ترى من خلاله روح الفنان، وروح العصر.. جمال وروعة.. وربما ألهم الفنان مكان، أو لحظة تاريخية.. ومن ذلك اللوحات، التى سجلت الحروب الصليبية. وقد جمعت منها كثيرا، من باطن المراجع والمصادر القديمة، حتى كدت أسمع رحى الحرب، وهى دائرة، وأسمع هسيسها.. لوحات قبل أن تعطيك الروعة، فى تفاصيلها، فهى تأسرك برهبة، تتسلل إلى كل كيانك.. كم أتمنى أن أرى كل ما أبدعته يد الإنسان، الذى سجل روح الإنسان الحقة.. وأحيانا لا أصدق نفسي وأنا أحيا فى مثل تلك اللوحات، التى تأسر الروح. تصبح أعظم من الرواية والشعر، وكل فن أدبى .. فهى تطلق عقال العقل، وتفك أسر الروح.. لا أنسى أبدا اللوحات، التى سجلت القدس قديما، أو كما يسمونها أورشليم، وكما نسميها نحن بيت المقدس.. حتى سيناء بطورها وجبالها وشعابها وأوديتها.. رأيت تفاصيل قديمة مذهلة، لها لم يرها كثير من المصريين، ولا توجد إلا بين دفتى الكتب القديمة، بروعتها وجمالها وروح عصرها. وعلى رغم، أن للوحات الزيتية سحرها، وللصور الفوتوغرافية القديمة جمالها، إلا أن هناك فرق كبير ببين جمال كل منهما وسحره..  بين الظلال والنور، والأبيض والأسود، بكل التباين والتفاوت والإختلاف، فى الدرجات.. فهذه شئ، وتلك شئ آخر، ولكل جماله وعبقه.. أما عن مصر بقاهرتها ومدنها خاصة أقليم الصعيد، فقد وقفت على شئ من ذلك كثير، فى الكتب القديمة، خاصة كتب الرحالة.. يذهل له من يراه، ويتمنى لو عاش فى هذه الفترة، من الزمن، ورأى تلك التفاصيل. 
أما عن الثغر.. الإسكندرية بتاريخها، فلا حديث يجدى عنها إلا مع رؤية تلك اللوحات فعلا، التى سجلت ما فيها.. ثم مع بدايات التصوير الفوتوغرافى، ومع وجود الجاليات الأجنبية فيها، سكنا وعملا ورحلة. التى سجلت سحر وجمال الإسكندرية، آنذاك. فقد رأيت الإسكندرية منذ ما مضى.. ورأيتها منذ قرون غبرت.. ولا يمكن وصف إحساس الإنسان وشعوره، وهو يرى مدينته، منذ مائتى عام مثلا.. كل ركن فيها .. كيف كان. الجمال كما هو موجود فى الطبيعة، بقدرة وإبداع البارئ البديع.. فقد منح الإنسان، ما يعطيه ويبينه جمالا، تسخيرا له من الله، وفتحا للعقل والوجدان البشرى، الذى أبدع بقدرة الخالق. تراه الروح، لا العقل فقط.. 
شئ لا يمكن إلا أن يشبع جميع الحواس، والجوارح، فتستكين معه الروح، وتهدأ .من لم يتذوق الفن، ويرى مافيه، ويلمس ما له، من جمال وروعة، فليس يحيا بشئ
----------------------------------
من
أسرار الضوء والظلّ
--- خالد العرفي


منذ فترة بعيدة، تعترينى دهشة كبيرة، لم أستطع إلا الإستسلام لجمالها، حيال تأثير التصوير الزيتى والضوئى.. من الصعب ترك فرص مثل تلك التى يمنحها لنا هذا النوع، من الفن.. فلا تكن أبدا مصادفة، وأنت ترى زاوية إلتقاط تتكلم.. أو عدسة ناطقة بلغة، لا تندثر.. بحروف تتسلل لعقلك، لتكون أنت كلماتك،.. تصوغ منها جنبات عالم خاص، آسر.. منذ هذا الحين، كنت على يقين أنه الجمال، ولا غيره.. عبقرية الرسم، والتصوير.. أقول لنفسي الآن: فقط أستطيع رؤية عيون رأت ما لم أراه، فترينى.. تنقل لى، من أسرار أزمنة  ماضية، وأمكنة كائنة أو مندثرة، ونفوس غريبة.. من أسرار الضوء والظلّ.. والألوان.. تتعلم معها لغات لا ينطق بها، إلا الإحساس والشعور.. ولا تفهمها إلا الأرواح.. تميّزها وتعيها.. للجبال لغة.. للصحارى لغة.. للأنهار لغة.. للغابات لغة.. البرارى.. الطيور.. البحار.. الشطآن.. الورود.. الظلام.. النور،... الليل.. النهار.. لغات، ولغات،.. لها عبقريتها وتفردها وخصوصيتها. لغات للوجود والحياة.. تلك روعة الفن، وروعة ما ينقله لك، من إحساس.. ولا شك أن قيمة كل عمل فنى، ترجع إلى ما يُشيّد به من معنى،.. له من النتائج ما يخرج عن كل ما هو مألوف، من تصورات تقليدية.. الأمر الذى يجعل للحياة دلالات جديدة بتقليد الواقع إنشادا للكمال.. ومن هذا القبيل فليس التصوير الفنى مجرد موادا للمتلقى، بقدر ما هو أفق ينتقل إليه.. تتفتت عليه أثقال الحياة نفسها وإخفاقاتها.. وتذوب على صخرته قتامة الواقع.. وتجري فيه دماء حقيقة ما، تسرى عبر هذا المتخيل.. وفي الوقت نفسه، يأتيك صوت الجمال هامسا، بتلك اللغة الساحرة غير المرئية، إلا للشعور.. فتتفاعل معه النفس البشرية، بإعمال العقل، لمعرفة مدلوله وجوهره، جمعا بين الرؤية الحسية والفكرية.. وبدون القيم الجمالية، وبكل تأكيد سيكون العالم أكثر وحشة،.. تحتله حالة تشبه الشلل،.. وهذا أحد أهم أسرار الإهتمام والتلقي، مما يعطي للحياة قيمة مضافة. وعلى هذا فإن التعبير الفنى ووجهة نظره، يعتبران قرينان للموهبة، ولغة تنبئ عنها..

ومن هذا القبيل، التصوير الزيتى فى اللوحات الملونة والبورتريهات المرسومة، حتى إنتشار التصوير الفوتوغرافى، حيث تحولت الذات إلى موضوع، للكاميرا.. علاوة عن أنواع الفنون التشكيلية الأخرى، على وجه العموم.. ومنذ أن تقع عيناك على عناصرها، تنقلك إلى ما لا نهاية، من تأثيراتها.. لحظات لا تحدث إلا مرة واحدة.. تهبك مشاعر تحدث لمرات عديدة،.. تخترقك.. من العام إلى الخاص.. ومن الذاتية إلى المطلق.. ومن الواقع إلى الخيال.. نصوص من نوع خاص، تستغرقك دوائرها.. وتترائى لك بأسرارها،.. وقد تتركك بلا معنى.. وقد يستحيل عليك إدراك دلائلها وإشاراتها إلا بشئ من التأمل، ما يحيل اللحظة إلى ديمومة من ثنائيات التفسير، وتأويلات حائرة، بين هذا التأويل وذاك، منفصلة بهويتك.. ولا يمكن إدراك جوهرها، إلا بحّسّ مرهف، وشفافية نفس.. وقد تتطابق مع ما يدور فى النفس من إنفعالات ثقيلة كانت أم ساكنة.. تبعا للمواقف والحالات النفسية ..  
وما أشد غرابة أسرار الألوان وما تحدثه فى النفوس والأرواح، من تأثيرات لا مرئية.. تحيل الكآبة إلى سرور.. والإنشراح إلى إنقباض.. عديد من مشاعر متنوعة تنتاب الإنسان، وهو يعاين عمق أسرار الفن، عابرة به إلى سكون وهدوء، أو إلى حركة وإنفعال.. لذا تستخدم ألوان معينة دون غيرها، فى علاج المرضى النفسانيين.. ولذا أيضا، تُطبق أنواع معينة، وبدرجات محددة سلفا، فى طلاء جدر المصّحّات العقلية والمستشفيات النفسية.. هذا الإلتحام الفريد فيما يحدثه التزواج بين ألوان معينة، ودرجاتها.. كما بين الضوء وما يحدثه، من عمق التأثير، لظلال متفاوتة الدرجة.. بل ويتوقف أمر التأثير وشدّته، على مصدر الضوء نفسه.. من شمس نهار ساطعة، إلى قمر منير، فى ليلة دهماء،.. إلى ضوء غير طبيعى، فى بيت أو قاعة أو طريق.. بل ووقت هذا الضوء وشدّته وزوايته، رأسية كانت أم أفقية.. وأيضا من أين يأتى الظلّ ومنبعه.. على ماذا يقع، على أرض، أم على جدار.. ونوعية كل منهما.. الظلّ على الأحجار، غير الظلّ  على الأشجار.. أشكال الظلال نفسها،.. هباءاتها.. نثراتها.. وهى تتجمع، أو تتجابه، أو تتشوه.. تركزها.. أو تلاشيها.. كل ما يثير الإهتمام.. تماما، ما تنشده ممّا لم تراه، إلا حينما ترى الأمر كما تراه، فتأخذك غرابته، وتختزل لك العالم والحياة، فى لحظة حاضرة شديدة الغموض، ..كما فى مواجهة بعض اللوحات الزيتية المرسومة، حيث لا يمكن أن ترى ألوان لوحة إلا كما تراه فقط، فتقول أين مثل هذا الأخضر عمقا ودرجة.. أو أين لون هذا الجذع، فى هذه الشجرة.. أو كما فى درجات بنّى، فى مفردات عمارة، بناية وتشييدا.. أو كما فى الصور فوتوغرافية، باللونين، الأبيض والأسود.. فيصبح الضوء هو العنصر الرئيسى، مع موضوع اللقطة، وزاوية التصوير الماثلة أمامك.. بإختصار، لا يفيدك تجرد من تصوراتك المسبقة  فى حالات آسرة، مثل هذه.. تجد نفسك أسيرا للحظة، تتسلل إلى نفسك خفية، كتسلل الأطياف الخافتة، والظلال الباهتة.. تثير إنفعالات، لا توّد مغادرتها نفسك، أبدا.. وربما تقهرك بجمالها.. كيف تتوالى هذه الرغبات الجامحة، ولا تستطيع حيالها مقاومة.. وكيف يشعر بالرضى، من لا يتذوق جمال الفن.. والمعضلة والمأزق فيمن لا يفهم كيف يفهم ما يراه، من لوحة أو صورة مثلا.. والناس فى فهمها متباينة، تباين نفوسها وأرواحها.. وبدون الإحساس، لن يكون هناك فهما.. 
ومن أروع المؤلفات فى هذا الصدد كتاب (الغرفة المضيئة) للكاتب والناقد والفيلسوف الفرنسي الراحل "رولان بارت" وهو من أهم أعلام النقد، التى شغلت الساحة الثقافية، والذى اتسعت أعماله لتشمل حقولا فكرية عديدة وله تأثيره في تطور علم الدلالة.. والكتاب مقاربة ومقياسا للمعرفة الفوتوغرافية.. إذ يرى أن صورة ما، يمكن أن تكون موضوعا لثلاث ممارسات، أو ثلاث إنفعالات أو مقاصد: أن تفعل.. أن تتحمّل.. أن تتطلع.. وهذا أو ذاك ممّا تمَّ تصويره هو الهدف أو المرجع.. ودون إستطراق، يرى فى نهاية الأمر، أنه لا يتعامل مع الصورة، إلا من واقع خبرتين: خبرة الذات المشاهدة وخبرة الموضوع المشاهد.. وإنه قرر أن يسترشد بوجدانه كما يعيه.. وله مقولته فى ذلك (كما أن الفوتوغرافيا غامضة الدلالة قليلا، سوى عند كبار رسامى البورتريهات، لا أعرف كيف أجسد ما يجيش فى نفسي..).. فى حقيقة الأمر، قد تدرك وبصعوبة أكثر، مثل تلك اللحظات الحادة الصاخبة، كمغامرة،.. يأتى بها التصوير الضوئى فى موضوعاته المصوّرة، مثل الأحلام التى تلفت إنتباهك، وتثير إبتهاجك.. تنجذب إليها،.. تتقصى جوهرها، فتستنطق مشاعرك.. تتحقق من أمرها، فتريحك.. تلاحظها.. تفكر.. تستوقفك، بحضورها المتزامن، فى النفس.. وعلى الفور تتضمنك داخلها.. وكما قال الشاعر صلاح عبد الصبور (الفن هو امتلاك ناصية الأحلام).. ومنها، ما قد لا تعرفه بعد، رغم أنها فى كل مكان، بفوضويتها.. وعلى النقيض، منها ما قد يكون كتأثير أحلام مزعجة، تنفر منها، كما الشعور بالموت.. وقد يردّك جمال الفن، إلى نفسك.. ينطق، بسريرتك الدفينة.. يكشف، عن مكنون ذاتك.. وتلك أيضا من عبقرية الفن، وأسرار علم الجمال، وعلاقتهما بالنفس البشرية.. مما يسمّي فى حينه، وحقيقة، الإبداع.. وحتما لا يكون شئ أكثر دهشة وعمقا فى الوجدان، مثل تلك اللحظات الباهرة، مثلما تماما، ما يحدثه الأدب، من تأثير، سواء نثرا أو نظما..، كما أن هذه الأسرار المتجانسة، من علاقة الفن والأدب الوطيدة، وتأثير كل منهما العميق، على النفس، وفى الروح.. ممّا يثير الإهتمام الإنسانى بكليهما..

--------------------

(يتبع..)

غربة طفل ذي تميمة



غربة طفل ذي تميمة 
--- خالد العرفى
بقيت التميمة فى قلب طفل صغير. نبتت فيه زهرة تشرق بلون الفجر. تنبئ عن سهم قدر قد نفذ. غربة أضاءت ملامح تائهة لحروف تعويذة نفيسة، فريدة. خلّدتها وحملت بصمتها.
...........................................................................

غربة طفل ذي تميمة
-----
أكدّت موعد سفرى عازما. وحزمت حقيبةّ ذكريات يتيمة. لم ينقطع حديثى مع نفسي طوال رحلة طويلة. ولم تفارقنى تميمة فريدة دسّتها جدّتى لأبي فى يديّ ذات مساء.." .خذها. احفظها. إنها وصية أبيك. لم ترث غيرها منه. لا تدعها يوما تضيع منك"
فى الثانية عشرة عمرا، توقفت كثيرا عند تميمتي الأشبه بقلادة. لا تغادر عنقي تصل إلى صدري. وعيت كلمات جدّتى  .فلم أدعها قط وعجبت أمر أبى. لم يترك وِرقِا ولا ذهبا. لا ديباجا. ولاحريرا. ولم يمرّ عام عقب موته حتى توّفيت العجوز. توصيني، وتذكّرنى بتميمة غريبة. التصقت بها، والتصقت بي. وصرتُ منذ هذا الحين طفلا ذا تميمةأ .تذكر آخر مرة مدَّت يدها لتتحسس موضعها. تأكدت. أحسستُ دفء أناملها تتنقل بين حوافها المدبّبّة إلى صدرى الصغير. تلّمست حَفْرها الذى بات حفرا فى ذاكرتى. إلتحمت راحة يدها بلحمي. بالقلادة.. بقلبي.. وبذاكرتي.. إلتحقت بطابورعمال شحن الميناء، على رصيف يودع المسافرين. عاملا برفقة كهول أنا دونهم. تهتُ بين أعمالهم. يحملون ما لا يحمله المسافرون. أحمل أشياءا صغيرة لهم، بهيئة باهتة، غير واضحة بلون خفيف الوطء..
المسافرون لا يرون عمال الميناء كهولا وصغارا.. المسافرون تبتلعهم السفن. يأكلهم وحش البحر. يغيبون.. وكم أندسستُ بين العمال فى دروة خلف الشوّن القديمة والأبنية الحكومية الحمراء المتناثرة صفوفا عن بعد. يحدّها طريق مرصوف من حجر البازلت الأسود. مرصّوص فى صفوف طويلة.  لم يتساءل أحد الحكوميين لماذا طفل صغير هنا. لا يلمحونه بين قامات الكهول تخفيه أحمالهم على ظهورهم وأكتافهم.. لم يشغلهم حلم طفل صغير. لم يلمحوه ..تلك الأيام البعيدة جلستُ بينهم، وهم يسرقون جلسات جانب موقد حفّته بضعة أحجار..أجمعها لهم من خلف الشونة الكبيرة.
كم رأيتهم يطرحون فيه كسْر الخشب اليابس، وبقابا الفحم.. تتقد. ونسمع طقطقة النار. وأتبع ببصري تطاير شررها يتمايل مع الهواء، هنا وهناك. أستدفأ بحكاياتهم يتسامرون. ينسون كم مضى من اليوم وكم بقى منه.. كل له علبة معدنية رقيقة لا يفارقها. يلفون لفائف تبغهم البنية، بأيديهم. ينفثون..لا يبقى من أثر دخانهم شئ مع الريح ..أنظر فى عمّة كل منهم على رأسه يخفي بها حكايته. مستترة بين أعينهم فوق وجناتهم البارزة، بوجوه تقترب من أكتاف محنيّة. أراها.. ولم أعرف يوما لماذا يضعون حكاياتهم فى النار،  فتزداد إشتعالا بما طرحوه من العمر..  كثيرا ما رأيتهم، يكوّرون أنفسهم ، جالسين على أمشاط أقدامهم.. منصوبة. لم أقلّدهم فى ذلك، محاولا رفع قامتي قليلا. كنت أضمّ كتفيَّ. أرفعهما لأعلى، داسّا رأسي الصغيرة بينهما، فأشعر ببعض الدفء.. من المؤكد أن جلستى بينهم كانت أمانا لي، من غرقى بغاطس السفن. بعيدا عن الظلال. لم يكن دفء الموقد المنبعث يكفى الجمع.. إستدفئنا بحكايات الماضى. رأينا النار تأكل الأخشاب سريعا، تحيلها دفئا، ولا يتبقى إلا جمرات صغيرة تحتها، يعدّون عليها الشاى الساخن. كم سمعت رشفاتهم التى لن أسمعها ثانية، ولن أعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك.
" نعم، هرمنا.. " كم تبادلوا قولها، لم يعيها عقلي آنذاك. وأيقنت معنى إختلاف بشرتي وبشرة أحدهم.. أركع فى صمت، واضعا يديّ على ركبتي، غير ملتصق بهم، لأسرق دفئا لأناملى الصغيرة. حول الدائرة التى تشبه قيدا واحدا يجمعنا. يأسرنا. ولكنه لم يربطنى بهم.. أتذكر فى أحيان كثيرة، نظري لأيديهم بارزة عروقها، متصلبة الجلد. مشدود ما بينها. ورغم ذلك أعينهم تفيض صفاءا خالصا وودا محضا. ورأيت فى أعينهم ما في قلوبهم. وأستمع لما يقصّون بنبراتهم الجافة، مسحورا. امتلكوا مني نفسي. سعيدا أحيانا، وحزينا فى أُخر. وزُدت عن نفسي جرأة الحديث معهم، بوحدتي أحملها معي. فى صدري. حاولت كثيرا إخفاء ما أثارته دائرة النار الغريبة فى نفسي من شجون. تحفها ظلمة نفوس وجلة مجهدة وصامتة، مثلي. ليس هناك أي ما يقطعها إلا ألسنة لهب طائشة، تلمع فى سماء أفق بعيد.. أراه وحدي مع تناثر شظايا الليالي.. والقناديل معلقة، تومض أضواؤها في الأفق البعيد، سابحة فى ظلمة تتسلل. ماضية ليلة خلف ليلة، تبتلعها كتلة ظلام صلدة باردة ممتدة إلى النفس. وترجف القلب الواهن.. ولا تبتلعها مسافات عمق الماضي. تكبّل ذاكرتي التى أبدا لم تلفظ أنفاسها الأخيرة. لا أرى معها  زرقة ليل داكنة تتطّهر فيها النجوم.
لم يساورني شك، فى نطقي يوما مثل رفقتي الغريبة، أقول فى نفسي لعلهم يطلقون عقال صمتى...، وددت لو إستأثرت بكل ما يخفون من ماض غائب.. يطرحونه قطعا، قطعة بعد أخرى، مرة تلو المرة.. فى النار.. لم يكن الجو خانقا أبدا رغم دخان الكهول وضباب الشتاء.. كل شئ كان ينتثر. ويتناثر ليتبدد فى الهواء. الصمت حول الدائرة هو ما كان يشعرني بالإختناق. كفى أن يتفوه أحدهم بكلمة واحدة، حتى تجد الجميع يبادلونه حديثه. و ربما ثرثروا عن المسافرين. لم تفرغ جعباتهم من ماض شاحب، أو حاضر مازال منتعشا فى ذاكرة يومهم. أعتقد أن أحدا لم يكن ليفكر بمستقبل. فقط يعيشون يومهم، كأنه مائة عام متصلة.
هى نفسها دائرة النار موقدة أمامى، تزمجّر، تطقطق، تتسعر. دأبت على إستدعاء صورتها من مخيلتي. هى فى خاطرى أشد منها. ليتسلل منها دفء يملأ موقدا أعددته بعالم آخر فى خلوتي. وحينما أشعر بضجر وشدة  إنفعال، أعود إلى الماضى كثيرا مثلما فعلوا حول النار. كنت لا أفهم.. كنت لا أدرك سببا لذلك.. لم أفهم نفسي. ولم أكن لأعرف ماذا سيأتي بعد.  وصبرتُ على عدم قدرتي على الفهم على مضض. صمتُ فشاطرتهم بصمتى. ولم يملأ صياح طفولتي ساحة رصيف، لامع بماء المطر. لم أصح، إنما صرخت بوجداني. و لم تشح أرواحهم عني وجها، لكن برقة تنساب، رغم شفتين تطبقان على حزن، يغلّف صفحة ماض،.. وتخفي كثيرا يتوارى في سكرة حلم ضائع. تائه.. 
ذات مرة، كنت على وشك أن أسألهم  " أأنتم يتماء مثلي ؟ "
لكن طفولتي عقدت لسانى عن سؤالهم، فهم يتعصبون. بينما أنا حاسر الرأس. صغير. وصبغنى الخوف بلون البحر الداكن. وركّزت بصري على السفن دائما، أتلمس فرصة الإبتعاد عن خطرها. تسائلت فى هذا الحين أين تغيب السفن وراء البحر.
وحين اندفعوا ذات مرة، يعدون مبتعدين، ركضت معهم. أسرع منهم، سمعنا صرخات بعيدة وصياحات تشق كبد السماء. أخذت تقترب شيئا فشيئا.  
" إلحق الريّس إسماعيل سقط عليه صندوق الونش "..  
رأيتهم وقد تحلقوا حول جثته وقد التصقت برصيف الميناء. الجميع يلملمون صامتين بقايا لحم مهترأ،  بين ملابسه الرمادية. قلت لنفسي "فلأكن رجلا هذه اللحظة لست بطفل". وسحبت عصابة رأسه بيديَّ النحيلتين. كانت ملتصقة تحت شظايا من عظامه متناثرة.  لم أقدر أن إستخلصها. شددت أكثر فوقعتُ أرضا. وبيديّ الصغيرتين عصابة رأس عجوز مدقوق. وضعتها صامتا،مع ما جمعه الكهول من لحم مهترأ و شظايا عظام.  ورغم بروده الرصيف كان دمّ العجوز ساخنا لزجا. كانت هناك بقعة كبيرة من الدماء، تسربت منها خيوط طويلة وقصيرة،  كشعاع الشمس. وسط شظايا صندوق كبير. تفرقت وانتثرت. ورغم ما مرّ فلم تفارقنى رشفة "عم إسماعيل " للشاى وهبته الدائمة لي. رشفتان يستبقيهما لى. "إشرب دول يا ولد. الجو برد". ولم أنسَ كلماته يرددها. حلّت عصابته بيديَّ محل الرشفتين فى ذاكرتى الصغيرة !
استولت على مخيّلتي صورتي كطفل ضئيل، بيدين دقيقتين، وقدمين نحيلتين. يسقط عليه صندوق فولاذي. واستحوذ علىّ خوف ألاّ يبقى منى شئ يجمعونه. لن تجدني جدّتي حينما تخرج "المغربية" من بيتنا المكّون من غرفة واحدة. تنتظرنى على درب صغير ملتف خلف الحىّ. أيقنت أنها إشارة فلا سبيل للتراجع أمام مصير محتوم لى، بخطى مجهولة صوب نهاية مقدرة. كان عليّ التشبث بالحلم. وشببتُ عن الطوق أقتفي آثارهم. أقصّ أثر ما أخفاه الكهول غائبا عني بحكايات مضت، فى بطون السنين القديمة. لم أعشها معهم. ولم أعرف كيف أمسح عن نفسي ما لحقنى من كهولتهم. وهم يتحلّقون حول النور والنار.
وأقتفيت أثر العادة غريبا يتيما، غير ملتفت إلى ماض لى.. إمتلكوا بذاكرتي ماض غبر مني. أخوض فيه. ويتجلى أمامي. ولم أعد أدراجي يوما لأجد منه ما سقط منى هناك، فأجمعه. ولكننى طوّحته بعيدا.. ورغم صعوبة إدراكي بطفولتى لما كنت يتيما، فقد أدركت أن عليّ أن أغادر مدينتي، دون  فهم ماذا ينتظرنى فى رحيل وغربة. حين ينتهي شيء لا بد أن يبدأ شئ آخر فكانت الغربة وكان الرحيل. 
كان عليّ أن أخاطر بكل شيء.. ولما لا ؟ لم تكن مغامرة..، ماذا كانت مخاطرتى إذن ؟!
كنت لا إمتلك شيئا سوى تميمة. ولكن هيهات فلم أستطع أمام المستحيل. رضخت، كان لا بد لي أن أمضي قدما، .. بخطوة نحو الغد تطوي كل شيء لا أعرف أم إلى الإستغراق مع ما تبقى.
كان لا بد من رحيلي، .. لن يعرف أحد أبدا ماذا جرى لي طفلا صغيرا. وكيف حدث ذلك لي؟
لغز يُتم غريب ومحيّر. وورطة حياة لطفل، مبهمة لا تمرّ. كنت بينهما مشدوها أمام اللغز غير مدرك كيف أحيا الحياة. لم تقل لى جدّتي قبل رحيلها كيف سأحيا في وحشة وحدة وغربة وصمت.. ؟!
لم أكن أعرف إلى أين يتجه بي مصيري. تحت ثقل ذكريات لا تفارقني. يتردد وقعها ويرتد صداها. تحمل نداءاتها.. تنتقل بين ثنايا الروح والقلب. تحملها ريح الليل مع الغبار والدخان والضباب.
تصلبّتٌ قليلا، قبل أن أغادر الرصيف. كنبتة صغيرة أجتثت من جذرها. كنت كمن تلاشى فى ذكرى حتى الموت..، كورقة شجر ذوت وسحقت. سرعان ما سقطت من الزمن، لأسباب لا أملك التحكم بها..، رأيت ما جهلته فى نفسي..، هذا ما فهمته على الأقل   قبل أن تحمل الريح العاصف الورقة بعيدا
كيف سأجمع شتات النفس و ما تبعثر من أيام و ليال ؟
لم أسأل من أحد. ولم يكن هناك إجابة. لم يكن لينفع طفل صغير نضج وسلامة عقل، أمام غيوم تحجب نجوم السماء. لو أن أحدا رآني يوم رحيلي، لم يكن ليعرفني. لم يمكن له أن يتصور طفلا يحمل ذكريات فى حقيبة، راحلا مع نهاية نهار قد لفظ أنفاسه الأخيرة..  ولم أستطع تملك نفسي فى هذه اللحظة. فدون ذكرياتى لم يكن ليصبح لى حقيبة تجعلني مثل المسافرين. فهكذا نسافر بحقاب ملآنة بذكريات. تتمايل بنا ونتمايل بها مع الريح، على إيقاع حزين. تحيي فى النفس تفاصيل آلام. وتهاوى أمنيات، بين حسابات أمل ويأس .وخسارة
هكذا الأشياء الصغيرة كانت تكبر يوما بعد يوم.  بينما الذكريات الكبيرة لا تصغر أبدا. وقد كَبُرت ذكرياتي سريعا وفجأة. لم أشهدها فى زحام ما وقع لي. خضم كبير، أكبر من طفولتي، ثقلت عن حمله. لكن كان هناك شئ آخر كان حيّا بالقلب، رغبت فى أخذه معى دون أن أعى. لم يكن ليُنسى إلاّ بالموت. هيهات وصف أحايين بعيدة، تقترن بطفولة فى ميناء رحلت عنه. لا أشعر، ولا يشعر بي بأحد. لاجرم أنى كنت طفلا ليس كالأطفال.. ولحقٌ لطفل مثلى، ألا َّ يهفو. وعوّضت قصر خطوتي بإسراعي دوما، لاهثا. هناك.. تحركت كظلّ. فذبت وسط زحام الحياة بخطواتي. ولم أسبق الزمن.
ظلّت الظلال الرمادية أراها فى طريقي. فى عقلي. تبرق كثيرا. وتلمع. ظلال أكبر من أن تموت. ظلّت ثابتة أمام محاولاتي الفاشلة، ولم أستطع أن أجنبها نفسي أو أنحيها عن خاطري. كل محاولة بذلتها للنسيان كانت توأد تحت ثقل تداعيها. لم أصدق أن ظلّي أحد هذه الظلال. ولكن من المؤكد أن ظلي لم يكن  رماديا. وتساءلت حينها هل كان للذكريات أن تموت بمغادرتي أم لا..؟
كيف أضعها فى ركن بعيد فى عقلي. أو تغيب تحت وعيى وإدراكي؟ كيف أُفرّق صورها فى ذهني فتتفرق؟ كيف أقطع تلازمها فى رأسي فلا تظهر..؟
أبي ذكرى. أمي ذكرى. ذكرى جدتي. طفولتى المكتظة. ذكريات..، لكن تميمتي وزنت جميعها. لم تفارقني ولم أفارقها. لم تكن ذكرى.
الذكريات المعنى الحقيقي لحياتي. ومغزاها. حقيقة لا يمكنني تجاهلها أو رفضها. لاأصدق ضعيفا يحمل هذا الثقل منها على كتفيه، ولم يقع رأسه خلف ظهره. ينوء بحملها. كم رأيت آثار ذكرياتى على أرضية رصيف سوداء مشقّقّة. خطّتها حبّات عرق وقدما طفل صغير. 
هذا كل ماهنالك. تصببت عرقا فى يوم شاتٍ.  لم أشتط غضبا فيما مضى أني لم أرتدِ  يوما ما يقيني. لم يدر فى خلدى أن مثلي يرتدي معطف مطر على جسد صغير.
كان الرصيف حيّا. كانت الأبنية حيّة. حتى سياج الأعمدة البعيدة..، الجميع أحياء. شهود ألقوا بأنظارهم. سمعت همساتهم عن ذلك الطفل يشق طريقه راحلا لا يعرفون إلى أين. بعيدا عن الناس..؟.. كم أخذتني اللحظة. أطفل مثلي يرى ما يرى؟ . ناجيت كل ما حولي بصمتي وغضبي وثورتي. وناجاني كل شئ بلا صوت. لكنهم لن يستطيعوا إخبار أحد عن طبيعتي وكيف آنست. لم يكن هناك من أحد ليعبأ براحل مثلي. أو يكترث بظلام  بارد قد هبط ليقضي على ما طواه نهاري. غلبني طوفان مشاعرعميق. جرفني بعيدا عن عالمي. أردت أن أعود يوما وأنا أحمل شيئا، لكن نفسي لم تطاوعني فى معرفة متى ستكون عودتي؟! مثل هذا السؤال لا ينبغي للمرء أن يسأل نفسه. مثل هذه الاسئلة تتحرك وتذوب وتصهر النفس بالإنتظار.  نهاية الأمر تذوى إلى ما لا يكشف عنه أبدا فى خلوتنا مع أنفسنا،.. أصبحت وطنا لأسئلة لا أعرف كيف أجيب عنها. تدهمني كل لحظة.
ذلك هو الأمر. لكن على كل حال ظل سؤالا ككل أسئلتي بدون إجابة. لا يفارقني فى خلوتي. وودعّتنى  صفوف مبانى الموظفين  المنصوبة على حافة الطريق القديم.. أحالها المغرب إلى أيدي رمادية تلوّح لى. لم تكن حمراء باهتة كما هى إنما غرقت فى دوامات وغمامات الشتاء. كم كنت مثل هذا "الونش" الكبير على رصيف الميناء. أحمل الكثير. وكم فكرت مرة ومرات.."سأعلق ذكرياتي فى خطاف هذا الونش، لتحملها سفينة تغادر لا أعرف لها مرفئا ترسو عليه.."
بينما كنت أحذر غاطس البحر وونش الميناء الكبير فى مرورى دوما. فلم تغرق ذكرياتي تحت السطح، و لم أضعها بحمل يُغيّب بجوف سفينة فى بطن البحر بعيدا.
"ماذا لو حام شبح سائما من سكنه للمنزل الموحش ؟.. ماذا لو وجدني فى طريقه ؟!.."
أخذتني الإحتمالات،.. ربما يأخذ ذكرياتي. ولا آخذ ذكرياته. احترت، فلم أكن إلا طفلا ولست شبحا. الأشباح تهوى الذكريات،.. تقتنيها. فلتكن إذن ذكرياتي مؤلمة لو استولى عليها أحدهم. فلتكن جمرة بقلبه تحرقه. ويضطرم بها صدره. ولن أقايض مالى بذكريات أحد. إنتظرت بفارغ الصبر ريح نوّةٍ شتوية، لتهب على المنزل الذى يخشاه أهل الحي النائي.. لتكسر نوافذه المغلقة. لتبحث فيه عن شبح ذكريات، لتطلقه، فينطلق. سأترك له ذكرياتي، ليغزلها فى الظلام خلف أشجار عتيقة. ينسجها ثوبا لا يستطيع أن يحيا به.
سيؤرقه. سيجد له منها طيفا ملازما له، لا يدعه. ينظر له بلا مبالاة. ولا أعرف حقيقة كم مرة إنتظرت فيها؟ 
المؤكد أن ذكرياتي ظلّت فى عقلي. لم تغادرني . وحادثت نفسي:
" لو كان شبحا ضيقا أفقه لا يعرف طبيعتي، فلن تنفعه ذكرياتي شيئا. سيتركها.."
إن جاء ليستولي عليها ذات ليلة، حينئذ، حينما توقظني جدّتى، سأكون طفلا بلا ذكريات، فى غرفتنا الوحيدة، بإضائتها الخافتة غارقة فى الظلام وراء الدرب. ولكنني لم أستطع ترك ذكرياتي يُتاق لرؤيتها كل لحظة، أو يرجع إليها أحد. هى لى أنا وحدي. الأمر الأكثر تأكيدا، أن إنتظارى لم يكن له ليستمر إلى الأبد،.. فقد غادرت بها، لم أتركها لأحد يمسسها بسوء. ولم يأتني شبح هائم.
أكثر ما أدهشني آنذاك. تساؤلي عمّا لو كانت ذكرياتي لأحد. تعجبت كثيرا. سوف يهفو ليطلع عليها كل حين، سيرنو إليها خلسة أو بفضول. يتحين اللحظة. يرتبك، يحتجب، ينفرد بنفسه،.. لكنه نهاية الأمر سينتهز كل فرصة ليفعل. بعيني عقله وعمره، فقد ظلّ حيّا..
أعلم  أنها زاد ومؤنة،.. آسرة النبرة. حقيقة مرة لذكريات راحل. مرآة لنفس مجهدة. دائما الذكريات تحيا. ودائما بها نحيا. من من البشر بلا ذكريات!
وكان من الممكن ألاّ أصبح بلا ذكريات.. لو كنت كذلك ربما لم أكن لأغادر الساحل. ولما لا.. ؟!. أليس محزنا أن أكون بلا ذكريات ؟! 
ضحكت من نفسي ساخرا.. وظهرت عليّ مجرد ابتسامة بلهاء جافة. بل جامدة. كان إحتمالا بغيضا ألاّ أكون طفلا يحمل حقيبة ذكريات. كيف يمكنني أن أبحث عن شئ. وعُدت نفسي ألا أحمل جديدا أخطو به، عازما طرق باب غربتي. وحيدا. يكفينى ما لديّ أحيا به. ولم أقلق حقا إلاّ من سؤالي لنفسي:
" كيف يمكننى أن أحيا مرة ثانية ؟! "
وأعتقدت فعلا أنني سأصطدم بذكرياتي، فلن تخبو تدريجيا.. ومللت من تساؤلاتى. تتراكب. تتراكم، بشكل لا يصدقه عقل. توخزني بأسنانها. لم أجد شيئا يجمعها على قاعدة.
" لما أنا. لماذا ما حدث. متى. كيف وقع. وكيف..، وكيف.. "
مرات و مرات، ليلا و نهارا. مرارا و تكرارا. على كل حال، كانت لحظة فرقت بين قسميّ حياتي وباعدت بين ضفتيّ عمري. كيف إجتمعت جدارات الأسئلة هذه، جدارا وراء جدار،  سورا خلف سور. كتلة فوق كتلة. حتى لا أعبر  حقيقة ما حدث لي.     كان شيئا مستحيلا، لكنه وقع بالفعل. بعبارة محايدة، هكذا بدت لى الحقيقة الغامضة حقا، أمسكت بكبدها عندما حدّقت فى الأفق الغائم، ورفعت بصري فاقتربت شيئا فشيئا، لتصبح كتلة كبيرة ودائرة متهورة، حجبت ما خلفها من تساؤلات مريرة.. كارثة، إن لم أرها. وقد علت فوق الأفق. ابتعدت عنها لأراها فى مواجهتي تماما، بصورة بللورية صافية أكثر وضوحا ماثلة أمام ناظريّ. أتأملها فى صمت. لم تصبح راقدة مختبئة نصف إختباء، أو مختفية وراء جدران. كان قدرا محتوما..
إستحق الأمر عنائي فى هذا الطقس الغائم وأنا راحل. أمام ضرب لمستحيلات يعصف بعقلي ويسحقني. بلا شك، كانت صورة مثالية، حية. أبدا ما كانت سطحية. أضفت حالتي عليها إرادة، كفتني لأمضي بطريق، لم أختره لنفسي، لأتلاشى فى غيابات البحر. كان هناك شئ ينقص ما مضى من العمر. كشف عنه قدري.. وطرحني فيه.
نعم، كان الزمن دائما شتاءا. فلماذا لا أتذكر سوى برودة نهارات أكدّ فيها. وليالي أخاف منها. تجمد أوصال طفل يتيم. لم أرَ فصولا أخرى. اللحظات الثقيلة لا تمر بسرعة. وهكذا تكون دوما. قد تتوقف أبدا لا تفلت من قبضة الزمن. ولكن يمضي بها و بنا، لا ندرك له قياسا. نترنح على شفا حافة هاوية مجهولة.لا نبصر حدا فاصلا نميّز معه ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا. دوامات تتأرجح فيها النفس قبل أن تغيب لا تشعر بنبض الزمن. تعلمت كيف أغوص وحدي في عالمي مع ما تبقى. ولكنني وقعت في براثن مجهولة تمسك بذاكرتي. تتشبث بها. أستغرق في الصمت ساكنا لا أنطق. تعلمت كيف أرهف السمع لهسيس صمتي، وأنصت لصوت من لا صوت له، على الضفة الأخرى من المجهول.. أعلق آمالا على إستيفاقة أسطورية توقظني من ثقل الحزن. متوهما أن أعود بلا ذاكرة. ولكن هيهات فلا شيء سوى الصمت.. لا يخلّص منه سوى حقيقة الموت. وابل من الذكريات. طوفان من مشاعر متضاربة، اختلطت بحبات المطر المتناثرة. اصطدمت بأوراق صغيرة تطير بصوت خافت. وإزداد هطول المطر. وتصاعد صوته، تردد على أرضية ذاكرتى الغارقة. أكاد أسمعه الآن. أقارن الحياة بسفن مسافرة بعيدا عبر بحر رمادىّ. أشاهد المسافرين رجالا ونساءا وأطفالا لستُ منهم . كل شئ إجتاحني. ورأيت طفولتي هاربة من هباءات خريفية لأكوام غبار متفرقة، تركت فوقها منذ صيف قاسي قبل أن تجففها حرارة الشمس. عند نهاية درب موحش، جدّتى هناك، منتظرة، على عكاز معقوف. والعتمة، تتقاطع مع سقف غرفتنا الوحيدة. هذه كانت حياتي بزمنها المتوقف تسير بلا حركة. بلا زمن أحسبه. بلا زمن أحيا به. كان هذا القلب الصغير فى الجسد الصغير سجينا محتجزا.. طفل تأسره ذاكرة رؤى لا يملك منها شيئا.. حقائق مبهمة تسحقه. وأشياء يكتنفها الغموض. كأن كل شئ قد تحول إلى ظلال. ظلال وراء ظلال. تثبت وسرعان ما تتباين وتتحرك، فتغيب وتختفي.  صورا تتداعى.. لا أدري من أين تأتي أو إلى أين تمضي وتذهب. لا تقرّ أبدا ماثلة في عينيّ. تشعرني باختلاج حياة لم أحياها. ما كان يوما واتجه إلى نهاية محتومة ينبض به ما تبقى.
لا أعرف كيف حدث هذا..؟ ولم أسأل أحدا. ولم أدعِ لنفسي معرفة آنذاك. وغادرت الميناء مغرب يوم شاتٍ، نهلتُ من ماء مطره ما أتزوّد به وأمتار. لن أنسى أبدا ذلك الشتاء الحزين. ولن أنسى ذاك المغرب الباهت. رغم أنى لم أرَ شمسا تغرب هذا اليوم.. ربما أخذها الزمن فى خدرها، فلم تغادر. لم يكن لها أثرا سوى خيوطا حمراءً، تبعثرت متناثرة متسللة بين غمام قاتم. رأيته. رأيت بقايا الشمس. رحل المغرب بلونه الوردي غائبا مستترا وراء الضباب، كذاكرتي تماما. حينما رفعت بصري لألقى نظرة وداع على رصيف الميناء. كان البحر نائما فى سبات عميق. والسماء تغطيه بردائها تخفيه.   لم يشعر البحر ولا السماء برحيل مثلي. وكتم المغرب سرّ مغادرتى. طواه ..
وسافرت، مدسوسا، بقاع باخرة  كجنديّ فى خندق، .. بين ماكينات ثائرة فى أحشائها، وتروس حديدية لا تتوقف عن الدوران. تطحن نفسي، دائرة برأسي. وكم أخذت من ذكريات حزني وقودا.
وثملت من ذكريات الطفولة فى قاع زاويتي الحديدية. راحلا.. مسافرا. أمسح عنها وعنى أثر ما لا يُمحى أثره. لم ينسبك حديده بنار سبكت تميمتي. وشقَّت باخرة الغربة عباب البحر. ألتزمُ ركنا بعيدا فى جوفها. وأشتاق لدفء ملمس سبحة أبى الخشبية. لكن أبدا لم يبرحنى سرّ التميمة. 

تارة أتهم جدّتى العجوز بحماقة الهرم. تارة أتهم أبي الذي أورثنيها. وتارة أتهم نفسي. فأكلتنى الغربة، ولم أرَ مرافئ. أى قدر يورِّث صغيرا يتماً مريرا وتميمة قديمة تحيط بعنقه، تطوّقه..؟ ألم يكن حريّا أن يورثه أثر سجود، كبياض وجه أمّي أتذكرها به؟. جدر بأبي لو خشي ألاَّ يتركنى أتكفّفُّ ذكريات غربتي مبكرا؟
أورثنى تميمة أتقلّد بها. ورثتُ قلب أمّي. وورثتُ ذكرى جلد متجعد لجدة عجوز، وعظام ناتئة تنغرس فى صدر ذاكرتى. سجنتنى وراءها. أبحرتُ بسجني لمدن صاخبة بعيدة. لم أرها. سرعان ما اتهمت نفسي بالتجنّى. لم يرتكب جرما فى حقي. أبى لم يكن شيطانا مريدا. ولم يكن ملاكا معصوما، يفعل ما يؤمر. برئت له من ذلك، ومن ظنّى. من يحب لا يكره. ومن يكره لا يحب. لا يجتمعان. وبرئت له ذكراه من ريب. ولنفسي أبرأ.. فمن يتفانى ومن يفنى في آخر لا يمكن أن يعرف حياة أخرى، .. لا يعرف إلا الوحدة لتدوم معه العمر. وحملت وطأة رهان الخوف والحزن في قلب صغير.. صدعت جدران عالمه تلك الأيام. وتعيدني الذكرى إلى نفس النقطة من ذات الدائرة الموصدة. لا مهرب ولا منفذ منها. لا تفلتني ولا أفلت منها. لم أكن لأحدث نفسي" إذا شئت أحب، و إذا لم تشأ لا تحب.." لم يكن مفهوما لى إلا ملازمة غريبة لأصداء فى نفسي. تنازعتها. أنّى لصغير هزيل مثلي كان ليختار ؟! و دوما كنت على حافة دائرة النار.. لم يكن لي لأشاء لنفسي شيئا. وحينما أستغرق أشعر أنى داخل هذه الأصداء لا هي داخلي. وصارعتني تساؤلاتي عن أبي. ألم يكن رجلا صالحا يأكل عمل يديه ؟. يحبّ سيّدى " القبّاري". ويقصد حلقة الذكر فى مسجد "ياقوت العرش". ويتحلّق مع الذاكرين. لم يمنعه حبه لسيّدى ياقوت والدروايش من أهل الله عن زيارة باقى الأولياء. أصحاب الخطوة " سيّدى بشر. أبي العباس. أبي الدرداء،  سيدي جابر..   "
ولسبب ما أحبّ أبي كثيرا "سيّدى القبّارى". دلف كثيرا إليه دون صحبة دراويش. مسبّحا لله نقيا طاهرا. يحدوه و يقوده سيّدى لملكوت. بيديه كتب صوفيّة عتيقة صفراء. وكمّ أبي اختفى. مرة وحيدة اصطحبني فيها. أوغلت. رأيته، سمعته، يقول لدرويش جانب الحضرة " سيّدي. سبحتك تسع وتسعون حبة. أحبّها سيّدى. سبحتى صغيرة، ثلاث وثلاثون. بِعْنيها أو هبنيها، بركة سيّدى ياقوت، فأدعو لك سيّدى". ابتسم الدرويش ماسحا رأس أبي. غطاّه بعبائته الخضراء. استشعر حرج سؤاله سبحته بماء وجهه، ولم يسأله إلحافا. نظرت لأبى. قرأ عينيّا ببصيرته " يا بنى هؤلاء يرون بنور الله. هذه السبحة ملكوت.. وددت قبسا منه. هم من نور الله.. ليسوا بشياطين. ليست وجوههم ولا قلوبهم لشياطين أبدا. لا تلعنهم الملائكة بما ينطقون!!  إنما حروفهم نور. حياة. صمتهم عبادة وفكر.." 
لم أسأله بيانا لما قال. علم أنّى سوف أفهم يوما ما. وأتذكر ذات مرة يتم كبير لطفل صغير، وقف على رصيف سفر غريب. لم يوّدع أحدا. لم يوّدعه أحد .سكن  الغربة وسكنته .وجالت بخاطرى فترات إختفاء أبي عن بيتنا الصغير بأطراف بقايا حي ناء. لاأدري أين يغدو؟ يعود بميرة ومؤنة تكفينى وجدّتى. أرى تشقق يداه السمراء. وقد وَسَمَ جبينه أثر السجود تحت إكليل عمّته البيضاء. وهالة بيضاء تضئ وجهه الأسمر. لم يقصّر يوما، فلما أتهمه، وقد ترك لى ميراثا تميمة.. ؟ جنايتى أنا على نفسي. لم أفهم. وورثت بصيرة أبيثم أدركت...
وعُدتُ، أستحضر حديث المنزل الموحش. أتذكر خوف أهل الحى من أشباح تسكنه. "هذا البيت مسكون" جملة لم تكن لتفارقهم دوما.. يحذرون إقتراب أسواره. ويسمعون صدى أصوات أرواحه. يخشونه. تنهرنى جدّتى من الذهاب صوبه. ومع مغرب كل يوم حرِصَتْ ألاّ أخرج عشيّا بعتمة الليل. راعنى ما أخبرتنى. وأتجنبه نهارا لئلاّ يسكننى خبر أراجيف أهل الحىّ " هذا البيت مسكون بأرواح " وتذكرنى. وتظل تذكرني بها جدّتي، فألتزم مطمئنا حضنها، حصنا منيعا. ألوذ به. أغوص به، متكوّرا، جنينا. ألتصق بجلدها المترهِل، إلتحفه. أتمسك بعظامها الناتئة، قضبانا صلدة أحتمى وراءها. يضمّنى قلبها. كثيرا ما تخيّلت أشباح البيت الغامض سوف تهرب منه. تلتهمنى. مرات ومرات رأيت جذوع أشجاره الضخمة العتيقة، غيّبت قبابه خلفها، بستار رمادي. أغصان من رهبة مشوّهة. معقودة بسنين خوف، تزحف. تتلون. تتعانق. تُدِكن حجره وقرميده. وتتحول لكائنات خرافية،  برتوش تغير ملامحها. تحوّل وجوهها إلى ليل من غيلان. أنياب ومخالب، تترصّد مارّة غرباء، يضلون طريقهم بليل، ترهبهم، تخطفهم فى جوفها، تبتلعهم، تمزقهم،  تعتصرهم باطشة بهم، .. يتلاشون. لم أرَ أسوار بوابته الحديدية المسنّنّة غير أشباح ومردّة أخرى. طالّة برؤسها بين ثناياه. وفوق أعمدة السياج، فلا هى عزلت البيت عن الحي، نسكنه. ولا هى منعت خوف من غيلانه التى تشق البراءة. وأختفى فى ذكرى أمّي، أتمسح بها، فيهدأ روعي ويستكنّ. لم يوقظنى من ذكريات طفولة بعيدة، سوى صوت صافرة باخرة غادرت لتوها مرفئها. وصافرات جاريات رفعت مراسيها. تحررت، مؤذنة برحيل غرباء مثلي عن مدينة عريقة.  وصلتُ مع شروق الشمس، بعد إغتراب شتاءات باردة طويلة. أنتظرت الدفء طويلا. وعلى صدري تميمة خفيّة، أخفيها تحت جلدي ! أحاول معرفة سرّها . لا تراها  إلا ّ بصيرة! 
وأتذكر درويش سيّدى ياقوت بصدى صوته صدّاحا شاديا، يؤنس غربة الزائرين: "سبحان الدائم. سبحان الحي القيوم. سبحان البديع" لم يغب الدرويش عن الحضرة، بدكانة عمِّته الخضراء، منسدلة وراء ظهره. يفرد عباءته الخضراء على الأفق. وبيمينه سبحته من خشب الصندل. تفوح منها رائحة ذكيّة. منتهاها  قرمز الحرير مغزولا، يعلوها. يعقدها حول يمينه كإسورة ذهبيّة. وهبها أبي، لتتعتّقّ بها رائحة عرقه، بمسكّه الطيّب، سنين.  أبي لم يكن تاركا التخضبّ به. صارت عنبرا بعرقه. يصرخ وَلِهَا مشدوها "  رضيت ياربّ. بلى رضيت. ياربّ رضيت " ! 
تشمّمّتُ ذكراه. أخرجتُ التميمة. تحسّسّتها. تركت تلمّس حوافها الدافئة. طالما لازمنتى. أستشعرها مع لمسات أنامل جدّتي، وأحسّ نبض قلبى. وصدى صوت لشاد غريب، لم يرحل أبدا مع رحيل رتّبته  أقدار! يظل يشدو. ويشدو، ويشدو،.. آسرا الروح بلحن شجي حزين. أيقنت أنى لم أكتشف مرة واحدة حَفْرها الغائر، فى صبّ ذهبها، فى قلبي، طوال غربتي.. أمعنت النظر مع سطوع الشمس. كانت وضّاءة تمسك بمنتصف السماء، غرقت فى زرقتها، جليّة جذابة. مفعمة بحيويتها، لم تخفها غمامات الشتاء. بقيت التميمة فى قلب طفل صغير. نبتت فيه زهرة تشرق بلون الفجر. تنبئ عن سهم قدر قد نفذ. غربة أضاءت ملامح تائهة لحروف تعويذة نفيسة، فريدة. خلّدتها وحملت بصمتها. لم يطمسها ماض مكلوم دفين. أشرقت. لم تصبح أبدا تائهة. برقت لتقرأها البصيرة. إنما كان هناك فارسا غريبا، صهرته نار أسطورة. وغشّاه نورها. رحل. ذابَ فى قلب تميمة. إنمحى منها اسمه. تلاشى فى نور.. اختفى..
 ...