سرماديا

سرماديا

وقع الكلمات

أسير على البحر أعوام عديدة، وصولا لمنارة، لم تغص فى البحر. أحيانا يصبح من طقوسي أوسم بها نفسي، ركوبى قطارا أصفرا، يشق بطن مدينتي. حينما أفعل، أخرج من جلدي. جسمي كلية.. أرتحل..
أحب آخر مقعد قبل الممر، بين عربة وأخرى. أحجزه لنفسي، بذهابى لأول محطة. أضمنه، فلا ينازعنى فيه أحد.
هناك زاوية كاميرا ممتازة، أرى من خلالها وجوه بشر!
 تصعد.. وأخرى تهبط.. هذا عجوز وذاك شاب. كهولة. طفولة. رجال. نساء. أجساد مشحونة بملح.. !
قلّما تجد من يتفرّس وجه مثلي. حفظت وجوه كل من رأيت. رتبتها فى ألبومات. ألبوم الأطفال يستهوينى. براءة. ابتسام.  بكاء..
فى القطارات، أسمع أصوات، لا أسمعها إلاّ هناك.. تحمل ملخص حياة. يفاجئك نداء بائع متجول!
فاصلا لمشهد تراه عينا عقلك. تصبح الصورة هكذا..
الزمن .. نهارا. ليلا " لا يهم "
المكان .. داخل عربة قطار سائرة. متوقفة " لا يهم "
الصوت.. منولوج داخلى. مشاجرة. نداءات. أو صمت..
الكاميرا.. إقتراب. تجول. تركيز. محمولة. ثابتة " إختيارات "..
رجل.  شاب. طفل. عجوز. إمرأة " لا يهم "..
يجلس منفردا. أو ينضغط بين الزحام. على سطح قطار، يقابل دفقات هواء.. الحياة
إضاءة خافتة. ساطعة " إختيارات "
إبدأ ليلا. إنتهى نهارا. أو إعكس الإتجاه. إختار..
" كلوز " للكاميرا. تحرك للأمام، بدون علامات تعجب، لسنياريو.. فاصل..
فرح. حزن. حياة. موت. مسميات. دلالات. وجوه مستعارة. ذهول!
تتكون عشرات الصور. ثابتة كصنم. متحركة كطائر. ملامح وسيناريوهات. دراما شكسبيرية. نصر. هزيمة.
شريط يمضى. صورة وراء صورة. تلاشى. نبض. وقوف. تحرك. تعثر. تقاطع. بصوت فى الخلفية.. كوميديا سوداء..
خروج من " الكادر". أحمل زاوية " كاميرتي" لشارع. لمدينة. لرصيف. لميدان. لسرداب. لدهليز. لصندوق. لقبو. لممرّ. لسوق. لمولد. لمعبد. لمسجد. لكنيسة. لإعتصام. لمظاهرة. لثورة. لحاضر. لمستقبل.
أو أعود لماضيّ. لمدينتى. لبحري. لسمائي.
للنهار"فلاش باك" ..!!

من هواجز الكتابة **






تجربة غريبة
 ---- خالد العرفي
ما كان ليقدر لى الإنصات، لصوت غامض، هكذا.. ليست لأن الكتابة، مردود لتجربة غريبة إكتسبتها، من هذا النداء الصامت، أو لوحة أمتلكت ألوانها لفترة، ثم تلاشت وراء دروب العقل فجأة. لكن، لأن النور كان قويا فى بادئ الأمر، وسرعان ما تلاشى وأنا أتبعه، كأفضل قصّاصّ أثر، فى قلب مجهول. إكتشفت أنه لم يحدنى أمل براق فى رؤيته، أو أحيط بمصدره تماما فى عقلى، فأهتدى إليه. قبل هذه الحادثة مع الكتابة، كنت أتلقى ومضات، كأنها تخطط لتوقعنى فى الأمر، وإستمالتى دونما شعور منى. فوضى من دعوات متكررة، تدفعنى لأقطن هذا العالم المجهول، لأختص به وحدى، ويختص بى. ولكننى بت أكتشف الأمر، بين الحلم والواقع. كأننى أتنقل بين التاريخ والأسطورة، فاقدا براعتى، على الإمساك بخيوط  غائب، وراء حدود حواسى، وعقلى. أنها تجربة غامضة ومتوهجة، مع الكتابة، جولة بعد أخرى.. لكنها فشلت، لتهدينى إليها، وفشلت معها، قبل أن أنغمس فى محاولة كشف مدلولها معى، هذه المرة، من حياتى. وبمجرد أن ألقيت النظرة الأولى الخاطفة، على ما تبقى منها، قاصدا دليل، استجلى به هذا الغموض وسببه، وجدت ما حيّرنى أكثر، كمتاهة للروح. لكنه، كان شيئا فائق الأهمية، للنهوض، إلى مرحلة متقدمة مع الذات، وإكتشافها، على الأقل ملاذا منشودا للقلم، فكرة ومعنى، وزادا. إكتشفت معه، أننى لم أكتب شيئا بعد، يستحق أن أقرأه، ويأخذنى إلى ما أفكر به. حتى الشعر أرانى أتنصل منه، وأنكره، على نفسي. أعتبره مجرد تجربة نفسية، مضت وذهبت، حملت عينا للروح، لا تحملها القصة أو الرواية. ولست شاعرا، ولن أكون يوما، ما حييت. إذن كانت مواجهة الذات، فيما أعمق مما تحمله كتابة الشعر من قصائد نثرية، من معان وآفاق نفسية. ولا شك، فتلك هى الكتابة، بمفهومها ومعناها الواسع، لما نكتب، وللتعرف على ما نفكر به، ونهتم به فى الحياة. نمخر به عباب آفاق الروح. فنصبح مع الأمور، وجها لوجه، ومعنا تصبح. وأعتقد أن هذا هو القاسم المشترك، لما وقفت عليه بين تلك الأمور، التى حيرت عقلى وفكرى، رغم الفرق الشاسع بينها. 
والحديث، حديث ذات، وهموم نخوض فيها، وبها مع القلم، تستغرق وقتا، بل أمدا. وما إكتشفته حديثا، أوقفنى عند أشياء ما كان يأتى بها، إلا الزمن وحده، خلال تجربة إنسانية، تستثير كوامن الروح، قبل أن تقع عيناى على جوهر الأمر، حتى لو كان عملا واحدا، يستغرق العمر كله، ويأخذنا  معه، حتى يظهر. وحتى وإن استوعبت التجربة الشعرية جانبا من هذا، فقد صرت على بينة ويقين أن الأمر، لم أستكمله بعد، مع نفسي. ويتلاشى معه كل ما مضى من القلم. إنه فراغ، لا يملأه إلا الفكر الصافى، فى دقائق الأمور. وهنا لا يحمل هذه المعانى، ليس الشعر أبدا. إنما التجربة الكلية، فى عمل تعطيه من نفسك وفكرك. وهذا هو السبب الأساسى، فى إلغاء أو تعديل أشياء نشرع فيها، فتسلمنا إلى أشياء أخرى أعمق، تثنينا إليها، وتميل بنا، قوة خارقة. وتوصيف الأمر على هذه الشاكلة، هو بداية طريق جديد، نستجمع فيه الشأن، وإن كان فيه معاناة وألم. وأعترف لنفسي، أن مايمر بالإنسان من خبرات وتجارب، له دخل كبير فى هذا، وإن لم يره من قبل، دهرا، حتى يواجهه فى نفسه. وكأنك عالم آثار، تكتشف من بقايا الماضى، وتبنى صورة لواقع يقود إلى مستقبل. قد أكون مخطئا، فى إهدار تجربة كتابة مررت بها، وإستغرقت وقتا، لكن بلا ريب إستفدت بها، كتلك البقايا، التى ينظر إليها بتمعن العالم الأثرى، يستنطق فيها، ما لم يره إنسان، قبله، أو لم تتح له فرصة التزود بمعلومات، عن هذا الغموض، الذى إكتنف الأمر. وتبقى هنا، لى ومعى، روايتى الأثيرة (شيزر) لتحمل من كل هذا، وأحملها، ما لا يمكن أن يحمله شئ غيرها، من معان وفكر.
------------------


وقع الكلمات
----- خالد العرفي
أسير على البحر أعواما عديدة، وصولا لمنارة، لم تغص فى البحر. أحيانا يصبح من طقوسي أوسم بها نفسي، ركوبى قطارا أصفرا، يشق بطن مدينتي. حينما أفعل، أخرج من جلدي. جسمي كلية.. أرتحل..
أحب آخر مقعد قبل الممر، بين عربة وأخرى. أحجزه لنفسي، بذهابى لأول محطة. أضمنه، فلا ينازعنى فيه أحد.
هناك زاوية كاميرا ممتازة، أرى من خلالها وجوه بشر..
 تصعد.. وأخرى تهبط.. هذا عجوز. ذاك شاب. كهولة. طفولة. رجال. نساء. أجساد مشحونة بملح..
قلّما تجد من يتفرّس وجها مثلي. حفظت وجوه كل من رأيت. رتبتها فى ألبومات. ألبوم الأطفال يستهوينى. براءة. ابتسام.  بكاء..
فى القطارات، أسمع أصواتا، لا أسمعها إلاّ هناك.. تحمل ملخص حياة. يفاجئك نداء بائع متجول!
فاصلا لمشهد تراه عينا عقلك. تصبح الصورة هكذا..
الزمن .. نهارا. ليلا " لا يهم "
المكان .. داخل عربة قطار سائرة. متوقفة " لا يهم "
الصوت.. منولوج داخلى. مشاجرة. نداءات. أو صمت..
الكاميرا.. إقتراب. تجول. تركيز. محمولة. ثابتة " إختيارات "..
رجل.  شاب. طفل. عجوز. إمرأة " لا يهم "..
يجلس منفردا. أو ينضغط بين الزحام. على سطح قطار، يقابل دفقات هواء.. الحياة
الإضاءة.. خافتة. ساطعة " إختيارات "
إبدأ ليلا. إنتهى نهارا. أو إعكس الإتجاه. إختار..
" كلوز " للكاميرا. تحرك للأمام، بدون علامات تعجب، لسنياريو.. فاصل..
فرح. حزن. حياة. موت. مسميات. دلالات. وجوه مستعارة. ذهول!
تتكون عشرات الصور. ثابتة كصنم. متحركة كطائر. ملامح وسيناريوهات. دراما شكسبيرية. نصر. هزيمة.
شريط يمضى. صورة وراء صورة. تلاشى. نبض. وقوف. تحرك. تعثر. تقاطع. بصوت فى الخلفية.. كوميديا سوداء..
خروج من " الكادر". أحمل زاوية " كاميرتي" لشارع. لمدينة. لرصيف. لميدان. لسرداب. لدهليز. لصندوق. لقبو. لممرّ. لسوق. لمولد. لمعبد. لمسجد. لكنيسة. لإعتصام. لمظاهرة. لثورة. لحاضر. لمستقبل.
أو أعود لماضيّ. لمدينتى. لبحري. لسمائي.
للنهار"فلاش باك" ..!!

------------------

الأحلام الخضراء 
صوت الكتابة *
-------  خالد العرفي
عالم من الأفكار يتنامى، ويتعاظم في كيانك. يتكاثر، فى الوجدان، وينتشر ضياؤه. يجد لها كل منفذ، لمحيط القلم، الذى يتسع، في مهد صيرورة دائبة. لينفتح على مداه، أمامك ما انغلق، لأشعة الفجر، فى العقل، والروح. يزيل كل نقاب وغيم، عمّا غاب، يوم ما، لشئ ما.. لفكرة..، أمام وجه الشمس.  شئ ما، يستحق الذكر، أن نكتب عنه، ونكتبه.  لغة لأحلام خضراء، فى نبض الحياة. تسكن الأسفار، من جديد، فتجدّد الحياة نفسها.. وللقلم لغات. منها، لغة الفجر.. الروح.. لغة الأحلام.. ومنها، لغة اللحظة. ومن هذه اللحظات، تلك التى تحيا فى القلب.. والصدر. لحظات، هى كل ما يبقي، كعلامات فارقة. تتحدث، عمّا كان يوما، من جميل حلم، ومكنون نغم شجيّ، لسرّ مصون، صامت. ممّا أخفاه الزمن، بين شفتيّ الحياة. لم يبح به حفيف ظلال كلمات، ولا رفيف أجنحة ماض. لم يبق، منه، سوى ذكريات. ترفرف حول ما بقى، من أماني توارت، وآمال إنزوت. لغة، تنصرف بها، الروح، إلى عالم آلام خفية، وابتسامات تأبى أن تُولد. تطوف كل لحظة، مستأنسة بذكرى، طاوية ما انقضى، وقد قطن القلب، خفيا، حينا من الدهر. 
عند الرحيل،.. وفى الوداع، مؤكد أن هناك لغة، لشئ ما، دائما، يستحق الذكر، عندما نكتب، أو نصف مثلها. أشياء ومشاعر، لا تختفي من مخيلتك أبدا، مهما حاولت طردها من رأسك. تظل، كأنها ظل لك. مصير لا يفارقك، طوال حياتك. لغز لا يكتشف سره، ولايُدرك كنهه، فهما، إلا أنت وحدك. مهما تباعدت، أوتناءت بك المسافات.. شعورا وإحساسا عميقا، تفهمه قربا، منك، كأنفاسك، تتردد بين جنبيك. وتدرك بُعده، عنك، كخيال طيف، حائم، من حولك. وكلما مرّ وقت، إزداد غموضا، وإبهاما.  تذوب معه، وتختفي كل فوارق المكان والزمان. يتمكن منك، كأنك فى عالم غير هذا العالم، ووجود غير الوجود. شئ يفتح لك أبوابا سحرية، للغة فكر وشعور، بعيدا، عن كل ما هو أرضى. لتلمس نفسك، فى السماء، ما يُوقظ الروح. حيث تمر الأيام، كأحلام خضراء، وتنقضي الليالي، كأنهار نور جارية، بعذوبتها، في ربيع حياة، لا ينمحى قدره، مع ذكريات مضت، وأيام ولّت. هنا، فقط تستطيع أن تضع الروح، والنفس، فى هذه اللغة.
ولحظات أخرى، وعلى حين غفلة، سرعان ما تنتبه فجأة، فتري خفايا، ينقلب معها كل هذا، ويتحول. ينعطف بك الأمر، ليقظة، من نوع آخر. أعماق تتسع وجعا، وإنفعالات تنبسط يأسا. يكتنفها حيرة، وشوق غريب. سهاد، يثير أسى، في الصدر. تتوهم، أنك كنت فى خيال مذهل، غير الخيال. كأنها، كانت حياة خالية، باردة. حياة لم يبق من آثارها، إلا غصة حزن أليمة، في الفؤاد. وتتبدل من حولك سكينة الأيام، بوحشة مقفرة، ومُرّة. وهنا، تولد لك وحدك، من جديد، لغة لأحلام أخرى،  فى عالم آخر، لا تختاره لنفسك. ولا يعلم عنه أحد شيئا. لا توّد أبدا، أن يشاركك فيه غيرك.. مع ذلك، تستظهر عجائبه، كصفحة بيضاء خالية. دون عواصف، تثور في جوانبه، أو عتمة ظلمة حالكة، تغمر بصيرة، تحيط، وترى.  وأتذكر، من أمثال تلك اللحظات التى يتمخض عنها، من قبيل تلك الغات النابضة،  أننى إنهيت، خمسة دوواين شعرية، خلال فترة، لم أكن أتصورها. وإمتدت بى لرحابات بعيدة جدا. بل، وفتحت لى آفاقا واسعة، فيما كنت أعمل عليه، من أعمال أخرى، متباينة المجال والمشرب، بعيدا عن الشعر، الذى أنأى عنه. ومنها كتابى التاريخى، الذى أوشكت أن أنتهى منه (إمارات عربية طواها التاريخ: إمارتا "بنو منقذ" فى "شيزر"- و"بنو عمار" فى "طرابلس") الذى طاله شئ،  من روح تلك اللغة، التى تتجدد حياتها. إنها آفاق، تلمس نفس، وروح الكاتب، وتحلّق به، قبل أن تقع عليها، عينا القارئ.
--------------------------------------------------


من هواجز الكتابة
-------  خالد العرفي
على نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من مجهول إلى مجهول، تلك الليلة الغائمة، التى لم تتركنى بسلام منذ أمد.. لكنى تذكرت المثل الصينى " فى الكارثة، دائما، هناك فرصة لائحة". كان هذا التنافر الكارثىّ فى التفاصيل المعلقة دونما مخرج. تخدع العقل، لا أكثر. لم يرهقنى كتاب قدر هذا الكتاب الذى انهيت فصله الأخير، البارحة. كان على أن أكبّر التفاصيل. أربط بينها، لأقبض على العمق الغائب عنى. كان أحد التفاصيل مريبا، راوغنى كمهرج، يتقافز فى الحلبة كبهلوان، يلعق الألوان مهووسا، فيضحكنى كطفل. نحّيّته جانبا، ووضعت حوله سياجا، حتى لا يختلط ببقية التفاصيل، فأراها صافية.. جمعت ما تبقى، من أفكارى فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عنه. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الداومة الثابتة، المنعزلة. إنفتحت الدائرة المغلقة قليلا. وسرعان ما تتابعت حلقات، وراء حلقات. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صورة درامية، للأجزاء المبتورة. فغاب صريف الصمت الباهت، فى الغبار. وظلّ كل شئ كما هو. الأفكار هى هى. المنضدة كما هى دوما منضدة. السقف هو السقف. حتى أننى شككت فى أنه فوق رأسى، فرفعت عيناى.. فكان كما هو مثبت على الجدران. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ كئيب، بعد ما حدث أول هذه الليلة لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه منذ أن رأيته.. كما كان دوما، فى أول الفصل. لماذا لم يعصف بالصمت جديد، لمَ لم ينطق سكون الليل، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذ الرتابة، خاطر غريب. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان من وجه المهرج، فى العنوان. كانت ألوانا كثيرة تملأ المسافة بين أذنيه وجبينه الضيق، الذى إنسدل على حاجبيه.. أخرجته من منئاه، ورسمته على ورقة.. وضعت على أنفه علامة كبيرة باللون الأحمر، دما متخثرا، لمقاومة الروتين. ليس على البشر أن يفكروا، دائما. كان على الأرجح أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى، شيئا ضائعا بين التفاصيل الباهتة، بالدم المتخثر، لأعيد الحياة لفكرة هذا الفصل، الذى خيّم عليه ليل طويل. لم يكن علىّ منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بالقلم لأنهى هذا الكتاب العالق فصله الأخير، بين ضواحى العقل، كأن لا نهاية له. إكتشفت إلى أى مدى كانت فكرة التفاصيل عالية فى السماء. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا عير متناهية، بدرجات هاربة، بعير صواب، فى كل الإتجاهات. إلى أن جاءت الومضة البارقة، لتطوق لى الأمر كله برمته، على جثة مهرج مرسوم، فى لحظة من الزمن، داخل سياج ورقى. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، بين حشود الألوان. فى النهاية إنفجرت شلالا ضخما، فأنهيت منه الفصل. وبقى لها منها، كتاب آخر.. فى عمق ثنايا الذاكرة...
----------------- 

*** "الأحلام الخضراء" فصل من كتاب (بين القلم والكتابة) تنشر صفحاته فى مقالات.

حقيقة ما له معني
----- خالد العرفي
يقال أنه إختفى.. ذهب ولم يعد. جاءت أرواح من السماء، وإختطفته من الأرض. إستقر فى خبر مجهول. لكننى لا أصدق، فالكتاب باق.. ولأسباب أخرى، عديدة، الكتب خير من الناس. لا جدران بيننا.. هى الجسور، مع الحياة..‏ فمن قبل كتبوا ثم ذهبوا..‏ وتركوا، بعدما ماتوا.. هؤلاء، هم الأحياء. قرأت لهم وما زلت. فتعلمت،‏ كيف أعلم نفسي الحياة. ربما يوما، أكون واحدا منهم. ولآخر لحظة، لا أعرف حقا، ما سوف يأتى به القلم، من عواصف للنفس. تجعل الأفكار أمامى، كأنها ذهبت هى الأخرى، ولم يرها أحد. إختفت، فاستقرت هناك، فى فوضى عقلى، لا فى الفضاء. ولم يكن لى لأندم كثيرا، لو فعلا أحببيت يوما، أى شئ آخر، غير الكتابة. فكأنى أعانى، من غريزة الشعور الدائم، أنى بين خطأين،.. خطأ ما كتبت، إلى وقت قصير مضى، وخطأ ما لم أكتب، بعد.. هو داء لابد منه،.. عادة ضرورية.‏ فكدأبى،  إكتشفت مجددا، أنى لا أكتب شيئا، له قيمة.. لايزال الكثير، الذي يجب على أن أفعله، حينما يتوقف الليل البارد، فى النفس، وتكنس عواصف  الخريف، الأفكار البالية.. وتمسك قبضة الفكر، بما توارى فى عقلى، مختفٍ، من أصوات غريبة، ليس لها أثر..
وتوقظنى مقولتى من غفوتى. فأهم مما كتبت، وما مزّقت.. أهم من الإثنين معا، هو ما لم أكتبه بعد. حقا لو كنت جادا، مع نفسي لحققت شيئا، ذا معنى.. أن أجد ما يربطنى، بأوهام الخيال، لأجعلها أقوي من الحقيقة.. أتمنى أن أكون بارعا، في هذا الكذب الجميل، المسمي بالخيال.. خطيئة، أحاول دائما أن أقترف إثمها. ليتنى أفعل أو أستطيع... تصور، أن هذا من جوهر القصّ. قوة الإيهام.. تماما، أن أجعلك تحبّ مثلى. تعشق مثلى، أو حتى تكره. أن تذوق الحياة. تحلم بها. تحب الماضي‏. أن أجعلك ترى ما لا ترى. أسمعك ما حولك، فتندهش. وتسائل لتعرف. أن تشعر بالموت. حينما تقرأ.. للأسف أفشل فى ذلك، دوما... فأنا ألقى مجرد قشرة بذور أفكارى، خارجا.. وفى عقلى، منبتها، وأرضها، وجوهرها. وحينما أصمت، أمام نفسي، فليس هذا معناه، إلا أننى، ليس لدى ما أقوله. لكن لدى ما أفكر به..أتأمله.. للأسف أحيانا كثيرة، لا أكتبه.، وتفوتنى إثارته.. أعتقد أن هذا، هو سبب فشلى المستمر، فى الكتابة... لكننى، أتمنى أن أموت بين ذراعى الفكر، أرصّع الفراغ، بلآلئه، بدلا من الكتابة.. محاولا النجاة، من هذه الحالة. تلك هى الجنة، وأين هى.. إلا أننى أعود، وأذكر نفسي بمقولة أخرى، ذاهبا إلى أبعد من ذلك، أن لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا بمفرده، وهى مقولة خاطئة مدلسة.. لو صدقها أحد، فلن يفعل شيئا أبدا. يضطر إلى ذلك الفشل، إضطرارا. لذلك أصدّق ما أفعل بمفردى، بمفهوم أول المقال، والحديث عن الكتب، غير الخادع. لذلك الذين جربوا يقولون، إنها الحرب مع النفس. من يموت فيها، لا يرى شيئا، من هزيمة، ولا نصر. وأنظر حولى، ولا أجد شيئا قد تغير.. أنا الذى تغيرت لأشعر، وأحس بذلك. ربما هذا أفضل كثيرا.. بل هو كذلك، وأواجه نفسي به دوما،لأترك بصمة.. أعطيها لنفسي أولا، خاصة، حينما، لا أنظر خلفى، إلا قراءة لماض، لأتعلم... أصدم نفسي خيرا من أن يصدمنى واقع مؤلم.. من هنا، لا أتوقع شيئا لا قليلا، ولا كثيرا، من أحد. لا شيء يدعونى إلي ذلك، البتة. إنما القراءة، وهى تلك النظرة العميقة، مع نفسي. فإن فعلت أنت، سوف تعجب كثيرا،.. أعجب أن يفكر البعض، أن البعض يفكر بهم. فماذا قدموا، وماذا كان، ليحدث هذا. حقا، أندهش من ذلك كثيرا، لكنه يقع فى الحياة. فى النهاية، نقول أن الأيام والليالي تعلمنا، وفى الحقيقة، نحن نعنى الألم.. نقصد مرارة ما عايناه. تلك حقيقة، نقرأها فى الحياة، والواقع، لنكتب دائما، ما له معني.‏ فلسفة فارغة، لا أنصحك، أن تلتزم بها.. فأنا لا أعرف ما الذى إختفى، الكتاب، أم الخيال، أم الأفكار...  
---------------------------
سحر الكتابة
----- خالد العرفي
 إلا بقدر ضئيل من رغبة، وأمام جموح الحياة، وسيطرة غرورها، وبشكل غير عادى.. أحيانا، لا يكون أمامك إلا مطاردة أفكار أو آراء غامضة، ضد زيف مشاعر وخيالات من أحاسيس، تصدمك بها الحياة. ولا يبقى فى النهاية، إلا حقيقة وحيدة. لا ترى سواها، ولا تهفو إلا إليها دائما، بينك وبين نفسك. وهكذا، فهناك دائما أمر ما. وهكذا يكون الشأن، من حين إلى آخر، وتلك الأفكار الغريبة، التى تظل ماثلة، وعلى نحو غريب. تتردد هنا وهناك، فى العقل. ويظل الفكر والتأمل، بصورة حية صادقة، بحثا عن الحقيقة. سواء أكتبت أو لم تكتب. وغالبا، ما تكون تلك الفترة المشرقة، التى تسطع فيها الحقيقة، فيما نكتب والعقل والذات، فى حالة إنفصال تام، عن الواقع.. تسمع صوتا، لا تعرف مصدره. لا يكاد يتلاشى حتى يظهر. يرتفع من جديد. تطارد معه الفكرة وتطاردك. لا تشعر بمرور وقت، ولا صيرورة زمن. لحظة آنية ممتدة، فى النفس. تنهل منها، فى عالم خيال. هذا هو الإحساس العظيم المسمى بالكتابة. ربما، فيما لم ولن يقرأه أحد، إلا بعد أن يستقر داخلك. أما ما يكون، بين دفتى النهار والليل، وأنت فى هذه الحالة، فغالب الأمر تحتفظ به، لحاجة فى نفسك. وما يهرب ليقرأ، ما هو إلا شذرات، وربما وضعت صورته الكاملة يوما ما، كما هى بين يدى العقل، وعلى الأوراق. وتلك فقط، هى الأوقات المحفوفة، بصداع يموج فى الرأس. فى حين تتسائل: ماذا فى الأمر؟.. أشبه برنين أجراس تدق فى الرأس، وتغيب فيها الروح. وفى دقائق قليلة، ما إن تصل إلى تلك الحالة، تجد هذا التوحد والتلاشى، وفى نفس الوقت بين عالمى الخيال والواقع، ويدب الدفء في الأفكار، ممتدا إلى الروح والعقل. عندئذ، ندرك هذا الجانب من سحر الكتابة. ذلك هو الشئ المضئ فى النفس، الذى يتسلل إلى مداد القلم، وإن إختفيت فيه أنت، لتبقى هى. تظهر ملامح وتخفى تعبيرات، لا يمكن رؤيتها. وتشعر أنك بحاجة إلى مزيد ومزيد، من غياب الذات، فى الفكرة وبقسط وافر من الجمال، لتقوى وتشتد. لتملأ أماكن شاغرة، فى الروح.. وتقول بعدها: الأمر الآن على ما يرام. 
وليس هناك حاجة، على الإطلاق فى توصيف هذه المسألة، إلا لأنفسنا.. نفهم ونعى وندرك ماذا هناك، على تلك الحافة، بين العقل والجنون.. هل هو الإبداع. هل هى راحة نفسية. هل هى المعانى. هل الأمر فى نهايته، مسألة أن نكون. أم أننا فعلا لا نكون إلا بهذا..؟ ومن هنا، تأتى المعاناة والألم.. حتى نصل إلى طبيعة الكتابة وسحرها فى الروح.. بالطبع، هذا سبب خفى لقراءة بعينها، من أجل الإحساس بهذا الدفء الغريب، الذى تبثه فى النفس نصوص فريدة من نوعها.. وليس لغيرها هذا الأثر. معرفة وضياء وإحساس بمعنى، يصل إلى أعماقنا. ومرة أخرى، يترامى إلى سمعك، من جديد هذا الصوت الغامض، وتذهب بك نظرة، تتجه إلى عنان السماء. شئ كبشارة الصبح، بهذا اللون الوردى الغريب. تشعر أنك على وشك العثور على نفسك، فتعتريك دلائل الدهشة. تنظر فيما حولك، ولا ترى شيئا. وفى وقت، ترى فيه بعينى عقلك كل شئ، بما فيه الكفاية. وأحيانا أخرى، ورغما عنك، لا تشعر إلا برغبة مواصلة، تلك النظرة الخالية من أى حياة، أو إهتمام بها، كمن فقد الوعى. بما يشبه إحساسا ببرودة شديدة، تسرى فى الأوصال، فينعدم الإحساس، وتموت موتا بطيئا، الأفكار. لا تدرك كم من الوقت مضى، وكم يبقى لتقضيه.. بل الأكثر دهشة من ذلك، أنك نفسك، لازلت على قيد الحياة، ولا طالما تحسب عليها. وفى آونة أخرى، لولا حدوث أمر ما فجأة، ما حدث شئ فى النهاية، وما كتبت ما لا يخطر على بال، أو خاطر. فقد ترى بالمصادفة أمورا غريبة، تدور من حولك، فتحس بشعور الإكتشاف، وتدرك معناه فى متعة شديدة.. وإن لم تكتب للناس، أو يقرأ أحد.. ومن المحتمل، أنك لم تكن كذلك، على الإطلاق، ولم تكن تفكر فى شئ، من هذا القبيل، فى يوم ما. ولكن بت تفعل، محاولا أن تعرف ذاتك.. 
-----------------