سرماديا

سرماديا

من كتاب (فى ماهية الكتابة والإبداع) **


مقالات متفرقة

من كتاب
 (فى ماهية الكتابة والإبداع)
----   خالد العرفي



 
واحد وعشرون مقالا
----------
كلمات فى الفن والجمال - ومضات جمال - الفن والروح " قلب الرؤية" - إسكتشات  من أصداء التصوير - من أسرار الضوء والظلّ - من لغة الفن - صوت المكان وظلاله  - حالة خاصة - فى النبوغ الأدبى – لحظات - فى السرد - الكتابة الإحساس العظيم - لذة القراءة.. هذا اللغز - سّحر الكتابة - السرد الأدبى والدراما الخفية - فى الكتابة والتلقى - الأثر البديع للشّعر - النص  بين الوصف والسرد - في النّصّ.. تجليات الوصف  - فى النص.. رونق الكلام

إسكتشات
 من أصداء التصوير
---
لم أكن أعرف أن حديث النفس عادة غريبة.. تأخذ المرء إلى درجة بعيدة.. تتحدث مع نفسك أفضل فى أحيان كثيرة، من التحدث، مع أحد ما.. طاقة سلبية يتم تفريغها، على لسان بطل أو بطلة.. لا يهم.. ربما، فى قصيدة جامحة.. ربما، فكرة قصة غير مكتملة.. فى النهاية أنت لنفسك فقط.. أن ترى حقيقة  الأمور.. أن تعلم كيف ترى نفسك؟!.. أن تعرف أين أنت؟!.. تدرك بعضا من ماهية الحياة وإشكاليتها.. تعدّ بضعة أحلام مسروقة، من الزمن، لم يتحقق شئ، منها.. تذهب وراء الحلم أم يذهب بك  بعيدا، الحلم.. لا يهم.. المحصلة تكون صفرا دائما.. لا شئ يتحقق مع أفكار خدجة غير مكتملة.. أو بصحبة بعض أفكار بالية تمتلكك.. عن الناس والحياة والفن والجمال.. وما إلى ذلك نمضغه، ليلا نهارا عن أحلام لا تكون أبدا.. حياة عليك دائما كسر دائرتها الموصدة بإحكام، حتى لا تنفلت من أزمتها.. حسنا، لعلى لم أفعل غير الحلم.. لم أرى إلا خيالا.. لم أعاين سوى واقعا اغريبا، عن كل منطق.. خيال أغرب من الواقع، وواقع يفوق الخيال.. هكذا الحياة،  مواجهة دوما خاسرة.. ولأن تنتصر فمستحيل أن تستمر الحياة على هذه الوتيرة العجيبة.. لعلى لم أكتب.. لم أفعل شيئا غير كلمات  أحاول أن أرى بها شخصية، لم أكتبها بعد.. أن تدوم اللحظة حية، فى قلب صور قديمة.. بمرسم نفسي متهالك.. إستوديو عقلى يتداعى ويتهاوى.. شئ مثل آلة الزمن، لا تعرف متى تنطلق بك.. أين تذهب بك.. متى تتوقف.. ربما إلى أوج لحظة ماضى، أو قاع مشهد حاضر، لا تعود منه بإجابة، ولا شئ سوى حيرة.. فتمضى مسافرا راحلا وحيدا.. تقضى عمرك، وصور شاردة، بالذهن، فاقدا حماسك للحياة.. شئ من المعاناة.. زهايمر إرادى.. عمدا، تسقط أشياءا من ذاكرتك، لتستمر الحياة.. أو تناضل من أجل تذكر أمورا، كنت تحسب أنك تعرفها جيدا، لتدرك كينونة الحياة، وكيف تسير.. مشقة تفكير، على كل حال..  كمن تمضى آخر أفكاره، بلا معنى، حتى يرى مثل تلك الصور.. يعى أن الموت حقيقة، لا يمكن إنكارها،.. غير مكترث لما يدور حوله،.. يذوب فى زحام الحياة.. يختفى.. وبعد أن تعرف هذه الحقيقة، تستطيع أن ترى بلا حدود الجانب الأخر، من الحياة، وغرائبها.. بصيص من روية، ومعرفة بأبسط الأشياء، لكن فى مشهد ختامى و أمر أكثر قسوة.. فى النهاية، شئ من ظلام، ليريك النور.. بهذا، كان الخيار الوحيد المتاح لى، حقا، أن أنجح، في عبور حدود نوعي واقع، لا يمكن التوفيق بينها، وأنا أتأمل مجموعة من الصور القديمة تظهر ملامحها، بين الأبيض والأسود.. بين ما أراه عالما حقيقيا، فى عقلي، وما أراه أمامى الآن، من أشياء متناثرة، تمثل أجزاء معضلة غريبة. ملامح بشر تاهت فى لحظة ماضى، إندثر.. لم يبق منه إلا درجات متباينة، بين الضوء والظلال.. هذا اللغز، الذى لفت إنتباهى، أول مرة، حينما رأيت فيه تلك الصور. أولا، كان على تحليل هوية هذا التوتر، غير العقلاني. ثانيا، سبب التضارب الموجود بين الحقائق. كنت أدرك حاجتى، إلى حل وسط، بمفهوم مبدأ واقع. كان بعيدا تماما، عن كل ما هو متوقع، وكل إحتمال. كان لا يمكننى، أن أرى السبيل إليه، أو أعرف إلى أين ينتهي بى، منفصلا عما حولى. وبشكل حاسم، عرفت نهاية الأمر، أننى لم أقف عليه بعد، لكن كان يجب أن أفعل.. أن أرى.. إنها ذاتية الفن وجمال الضوء، سفرا للروح.. وفى غير مرة، وكم من مرة، رأيت صورا قديمة عتيقة.. أواصل تفكيرى بها.. ساحرة تسلب العقل.. تبوح بأسرارها.. تأخذنى إلى ما تشاء من أماكن.. لا أدرى أين كنت معها.. أو من أين أتيت من أزمنة، سافرت إليها.. لكنها تسكن ذاكرتى على نحو غريب،.. لا يمكن أبدا، أن أعرب عن دهشتى. كنت، كمن ينظر إلى ماض، من خلال عدسة الغموض، إلى مدن. طرق. شواهد قبور. مرايا. مناظر طبيعية. أشباح..، نوافذ تطلّ على الحاضر، لكن من أمد بعيد.. شعرت بالقلق، فقد لعبت هذه الرابطة، التى لا أدرى ما هى، دورها فى توترى.. لم يمكننى حقا أن أفهم لماذا تختفى فى رأسي، بسرعة كلما أوشكت أن أعرف ماذا تنطوي عليه، من لا معقول.. ومع مزيد من تأمل، بعد فترة وجيزة، أمكننى رؤية أن هناك أرض، ليست كأرض وطأتها بقدمى.. لكنها بدت على وجه التحديد، فرصة جيدة، من أجل خوض ما يحيرنى، في واقع غريب. تجسد فى ومضات بارقة.. تناجى:
"أريد معرفة ذلك.. أريد كل شيء الآن.."
لكن هذه المرة، شرعت فى شئ مختلف، لأعرف حقيقة ما وقع وما حدث، ذات يوم، وأنا أرى من مثل هذا.. لا تنقطع أفكارى خلال ما يلى هذه الساعة.. ولا يمض وقت طويل حتى يزداد اليقين أن هناك ماخفى من أمر هذه الصور.. يكشف عن نفسه شيئا فشيئا.. يكشف لى عن شيئا من وجه الحقيقة الغائبة، من اضطراب الحياة.. وعلى مدار هذا لا  ينته أثر تلك الذكريات البعيدة.. لم أدرك من قبل كيف سوف يكون صوتها الخافت ذا دلالة، بهذه القوة فى الروح.. أحداث تمسك بحلقاتها متصلة.. تتابع أمامك تفاصيلها كمرآة تصفو شيئا فشيئا.. تطالع فى الإسكتشات القديمة سحرا من نوع خاص.. مما تناثر فى الكتب القديمة من القرنين الثامن والتاسع عشر.. لا تعرف الكيفية التى تنطق بها تلك الظلال، واصفة مدنا أو مبان أو طرقا.. تتمثل لحظة نهار، من زمن مضى،.. لا تعرف كيف تتآلف الخطوط وإتجاهاتها المتقاطعة.. تتسائل ونفسك متأملا: ماذا يجعل الحجر قطعة من تاريخ، شاهدة..؟!
ما السبب الذى يأسر عينيك داخل طبقات سوداء، لمكعبات حجرية، تلمع بدكنة ظلّ تحت شعاع شمس، من نقطة إلى أخرى؟!
هنا فقط تتمنى لو كنت داخل تفاصيل هذا الكادر، الذى إلتقطته ريشة الفنان.. أو حتى فى زاوية لبرج أو قبّة،.. لو بقلم فحم أو رصاص.. لحظة لا نعرفها أبدا قبل ذلك.. بكل ما فى نفسي.. تبعث فى النفس دفءً وحرارة.. ورغم ذلك لا تملك نفسك كلما رأيت هذا الأمر،.. ورغم ذلك، لا تعرف من جديد كيف تدرك لنفسك سكنا أو هدوءا، إلا مع مثل تلك اللحظات.. لكن كيف يمكنى إستعادة خبايا نفوس من ذكريات متناثرة؟!
لا ريب كان لابد أن تعطى نتيجة ناجحة.. هكذا تحاول أن تقنع نفسك.. وسرعان ما يتطور الأمر لكن يبقى سؤال ماذا يحدث لو أتيح عبور هذا الممر الزمنى؟!
من المؤكد أن هناك حقيقة ما منتظرة.. فهل تتداعى تفاصيلها حية مع هذه المحاولة.. بالتأكيد هناك شئ يفقدك الصواب، كلما حدقت فى التفاصيل، لترى أكثر.. قبل أن تضيع متناثرة، فى مجهول.. فماذا لو كانت بهذا الشحوب، تخاطبنى بصوت خافت.. يخيل لك أنها تحدثك، بمَ لم تعرف بعد.. هذا الهمس العجيب، كان علىّ أن أرهف السمع له.. لم أعد أبصر ما كنت أبصره.. تجردت من أفكارى المسبقة، عن ماض لا يسبر له غور، أو عن حاضر لا يكترث بى.. عما يعتلج فى النفس، أو يجيش به الخاطر، من هواجز لا تنتهى إلا والروح منفصلة، فى عالم غريب.. كنت على يقين أننى سأجدها هناك.. حقيقة غائبة، فى وجوه ماضين وظلال أرواح.. المسألة كلها أن أعيد قراءة ما كتبه الضوء والظل، لأفهم.. أن أمضى وقتا طويلا مع أفكار، لأتخلص منها، فأدرك جوهر الأمر.. هل يعيش الإنسان مرة واحدة، أم مرات.. أكثر مما يحيا فى الواقع، فى ثنايا حلم لا يتحقق أبدا.. فلا تتصور معنى السعادة حتى تذوق الألم، بحزن يفقد الشعور، بالوجود.. أن تدركك حيرة تاركة الأمور كلها معلقة، عاصفة.. حقيقة لا شك فيها.. هذه المرة، لم أكن أدرك ذلك بعد، لكننى كنت أسعد حظا، لأعرف أكثر من معنى الألم والحيرة والحزن.. أخيرا لم أعد أسمع هذا الصوت الغامض الذى يهمس لى.. فلم يكن يقينى، من هذه الأفكار المجنونة، إلا أن ترك النفس لتسافر فى ماض أستنطقه، ويسنتطقنى، مع روعة أصداء ذكريات تائهة.. شئ يمتلك الكيان، بدفء يسرى إلى العقل.. بينما أنت غير موجود.. وتختلط التفاصيل بملامح الصورة الباهتة فى ثنائية الحياة والموت، أو فى ماض هارب، خلف سور غريب.. أشباح، تعبر طريق، ربما من مائة عام أو يزيد.. شغلنى التفكر فى حركة كل منهم، برحلة متصلة، في لحظة فاصلة توقفت بها.. سجينة، لنوع من الأبد يتجاوز الوجود، إلى عقلى.. أين كان ذاهبا.. ماذا كان يحمل.. أم وجدت أنفسها في مواجهة لحظة توقفت بها.. هل أنا أجن؟ فيم كان يفكر؟ كيف كان يشعر؟ هل أنا موجود؟! هل هى موجودة؟! ماذا بهذه البناية؟! لمَ كان هذا الزحام فى هذا الركن؟! أين كانوا ذاهبين؟! ماذا كانوا يحملون؟! هذا الحديث الخفى بين إثنين، صارا الآن، فى التراب؟!
كل ما رأيت فى هذه الصور من تتابع مساحة رمادية ساطعة، بشكل غريب، لا شك أنه بات هباءا منثورا.. لم يبق منه إلا شواهد تشرف على نهاية، خطها سواد قاتم، بين طيات ظلال رمادية، ولون ذكريات بعيدة، من دهاليز ماض.. تتلاشى كل مرايها،.. نفس الأصداء الحزينة تتردد بصوت ضعيف، هنا وهناك، بين جنبات هذا الضباب البعيد.. لكن مع مرور الزمن، لا شيء،.. لا شئ بالمرة.. عندها تكتشف على جدار الذاكرة سلسلة، من لوحات ماض، يرثى لها.. تيمات موسيقية حزينة، غاصّة ببشر، تكتظ بهم زوايا منسية.. كل ما رأيت، فى هذه الصور يتتابع، هباءا منثورا.. لم يبق منه إلا شواهد، فى نهاية ممر.. إختفى تماما، بين المنطق والعقل، وأنا أحاول أن أتذكر أين.. ومتى رأيت هذا؟!
بتُ، لا أعرف ماذا خلف هذا الجدر الحجرية الغريبة.. أنا.. أم أصداء ذكريات.. أم أشباح قديمة، فى ضوء شمس متعامدة؟!
هذا هو كل شيء.. لا أدرى، كم مرة فشلت فى تذكر ما حدث.. معرفتى الوحيدة أننى ما زلت بالكاد، أحدّق فى تفاصيل صور غامضة، تمزق ملامحها مسافات الصمت.. من الغريب، أنها تركت وراءها فراغا زمنيا مثيرا،.. على الأقل، لا تزال أصداؤها تتردد.. وانتهى الأمر.. لم تبح لى الصور شيئا، من حكايات قاطنيها.. كيف أستعيد صورة ماضى من عامود رخامى جميل، فى ركن شرفة حجرية.. بزخرفتها السميكة المضفرة، الملامسة حافتها السماء، من ناحيتها اليمنى.. كيف أفهم ما يحمله لون أسود جميل، أدكنته أشعة الشمس، لتزيده جمالا دافئا،.. يطغى على ذاكرة الزمن، فأستطيع أن أكتب، بلغة هذا الإحساس.. لعلها تكون فقرات من قصة، أو رواية..
الأثر البديع للشّعر
------- خالد العرفي
بقدر ما اختار القدر لى تلك المدينة الرابضة، فى حضن البحر،  لأولد فيها، بجوار التاريخ، بقدر ما هناك وما يقابلنى من أشياء غريبة، تأتى على الخاطر،.. تساؤلات وأحاديث مع النفس. وأحمل فى نفسي منها، مثل هذه تلك التساؤلات وغيرها.
و"شاعرا"..! .. فقط بعد موتي، يمكن أن أحمل مثل هذا اللقب، رغما عنى، ولست له. تصدمنى هذه الحقيقة، وما وددت يوما، ولم أفكر فى هذا. وهكذا الأمر، لكن ربما وددت يوما، لو كنت فنانا تشكيليا. رساما. محاسبا. طبيبا. عالما. وأتسائل اتختار الأقدار لنا المهن، أم نحن الذين نختارها. تماما كالأماكن التى تستهوينا. أتختارنا، أم نحن من يختارها. الأمر بالنسبة لى تماما كحبى لعلم الفلك منذ طفولتى الباكرة. فعلا، كتبت عدة كتب فى الخيال العلمى، ربما رغبة فى عالم أفضل، بعيدا عن هذ الكوكب، أو عن عدم إقتناع أن الأرض ليست الكوكب الوحيد العامر بالحياة فى الكون، وأن هناك مخلوقات وكائنات أخرى. أيّا كان الدافع، فلا يهم السبب فى ذلك. إنما فقط أن أكون فى قلب السماء.. والشّعر يعلمك ألا تيأس أبدا، وهكذا العلم. طالما كانت هناك حياة. بالفعل كتبت عدة كتب فى هذا المجال، عن سفن الفضاء الغريبة والإختطافات الفضائية والإختفاءات الغامضة وغيرها،.. وصولا إلى قارة أطلانطس، التى فقدت ما بين ليلة وضحاها من قبضة التاريخ، ولم يستردها فيما بعد، أحد من علماء الآثار، وصائدى الكنوز، من قبضة الزمن مثل طروادة،.. الأغرب أن أول كتاب كنت قد بدأت فى كتابته مبكرا، وقد صدر فى الواحدة والعشرين من عمرى، وكان سببا فى لقائى بالكاتب الكبير الراحل أنيس منصور- رحمه الله تبارك وتعالى رحمة واسعة- وكان مبدئيا بعنوان حياة فيما وراء الأرض بين العلم والدّين، ثم إختصرته إلى حياة فيما وراء الأرض.. رسمت بالأقلام الجاف والرصاص إحساسى بسفن الفضاء الغريبة.. أشكالها وأنماطها. كانت أشياءا غريبة مثل الحلم. كنور أقمار سابحة بين سحاب رمادى. لكننى لم أحاول أبدا رسم كائنات الفضاء الغريبة التى تقودها. ربما، حتى لا أحدّق فى أعينها. ووضعت بعضا من هذه الصور، فى الكتاب ثم حذفت الكثير، وبقى منها صورة واحدة تحمل حلما، بوسيلة إنتقال إلى عالم آخر أفضل،.. كوكب بعيد، آخر الكون. وهكذا الشّعر، يحملك إلى عوالم أخرى نائية، لا جهات فيها، ولا أماكن. لا بوصلة تهدى فيها، إلا الإحساس والشعور والتجربة الذاتية. وربما تكون هذه هى العلاقة الوحيدة بين علم الفلك والشّعر. رّنوا وتطلعا إلى السّماء، ولا غيرها..! والشّعر نوع من ألوان الإبداع الأدبى. له من الأثر ما لا يُنكره كل متذوق للأدب. نقرأه بإلاحساس المرهف والتذوق العالى للغة، خاصة لو حمل من معان كلية ومضمون من حبكة على شاكلة ما تحمله القصة القصيرة أو الرواية عموما.. فى الشعر تخترق فتيّا، برودة الفراغ بمسافاته الهائلة، وتلمس ضوء القمر فى لمسة حبّ، وحرارة الشمس فى زفرة شوق، وسطوع الكواكب على المعانى مع كل ذكرى. تكلم القمر كصديق وترى طفولته. تصادق الشعرى والثريّا، فى ليلة سمر، أو أمسية صيف. ترى الحلم يمضي وحيدا فى ساعة الفراق. وكيف يصبح النهار غريبا وقد إختطفه الحنين من الفصول.. كيف ضاع وقد كان مثل عطر الكتاب القديم. كيف يُفزع خريف الغربة وحدة، لا تأنس إلا بالشوق، وظلال الأيام مختفية فى ضباب ينظر نحوك. لا يبقى شيء إلا صمت يصافح إلا لحظات انتظار، تتسائل متى وأين اللقاء وسط هذا الزحام. تحتضن نسائم الأمل وتكون بلا طيف. ورغم ذلك تذوب فى سنا شعاع ضوء ينطلق بك أسرع من سرعة الضوء.. فى النهاية، ما يسمى رحلة الأفئدة.. تشعر بمصير محتوم.. ومسير لم يعن له الراحة أبدا. ومن مثل هذه التأثيرات المتجددة والتى يحدثها فى النفس، ما تراه فى لحظات الشّعر حيث تجد فى الفؤاد سراج صاعقة، أو نعومة زهرة. شمسا يغازلها النهار. أو تراها بشارة، وأنت فى حزن بعيد،.. نسائم  بحر، تجرى فى قلب غريب. أسئلة فى غموض معان وعجبها، كما فى أحجية الأحلام ورموزها، وتأويلات إغتراب النفوس وألغازها.. هجرة.. غربة.. دهشة، بين ضفاف فيروزية، لا تراها إلا أرواح صافية.. لا يقف على معانيها وتفسيراتها إلا واعٍٍٍٍٍٍ لأسرار اللغة ودواخلها، وعارف بإنحيازاتها. تجد ما هو ضائع من أحاديث وأساطير. تتسائل عن أشياء تمسّ الروح بمثل ما تثيره الألوان وظلالها تماما. كل شئ ينطق. كل شئ يتكلم، بتلك اللغة الساحرة.. كأثر الطبيعة وفصولها فى النفس.. تسمع مالم تسمع من قبل، من أصوات الرحيل والوداع.. وبكاء الأرض والسماء.. لشجار الشمس مع الغروب، تصغى.. ولهمس الفصول، تنصت.. وربما تلمس ضوء القمر. وترى النسيان والمستحيل..وتكلم البُرهات واللحظات والسنين. تراها كيف تتبدّد أمامك، فى الوجود. تسمع أنين الفراشات، وتراها هزيلة في فصل جفاف طويل، لا ينتهى. وترى الربيع يسترق السمع للبلابل. وكيف يختلس النظر إلى الزهر.. وكيف يراود الشتاء سحابة، عن حبّة مطر. تعاصر مع الشّعراء صبّابة نجم ينفض الغبار عن العمر. تدرك كيف تزفر الذاكرة أنفاسها أسفل جدار حزن. وكيف يودع ليلُ باكٍ نجمة الشمال،.. لهذا السبب فإننا نمضي حتى أقصى حدود الأرض، حتى نرى لقاء السماء بالبحر. كل ذلك يرحل بك، إلى عالم غريب.. أية مشاعر تلك التى تنتاب الشّعراء..!
أية مسافات تلك التى يقطعونها..!
إنه نوع عجيب من دروب الجنون، لا يقدر بثمن. معانى تساوى فى مقياس الزمن دهورا، وتتجاوز الإدراك. فالقصيدة لوحة يرسمها الشّاعر بإحساسه. ألوانه مشاعره وأحاسيسه. مرايا لرغبات إنسانية  تـتعاقب في دائرة حية بالمعانى، وإنها حقا كذلك. ليست مجرد أفكار جامحة في الذهن، عابرة لسور وراء سور. وجدارا خلف جدار. سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاق كل منطق وكل محال. إلى هذا الحد يمكنك أن تـتابع تأملاتك، وأنت مسافر من نهر إلى نهر بلا ضفاف، حتى تصل إلى بحر، بلا جهات.. ولا ترى أرضا تعرفها من قبل،.. ومع ذلك، لا تستطيع أن تبقي على نفسك طويلا، في نفس المسار. ومن شرق، إلى شرق آخر غريب. وأنت باحث عن السماء، كما تعرفها لكنك لا تجدها إلا سماءً أخرى لا كما عهدتها. وإلى هنا، لا تجد إلا المجازفة فى تفسير المعنى، على إتساع المعانى وعدم محدوديتها. هادئة حينا. صاخبة حينا آخر. شئ مثل أسطورة فريدة، في غموضها. مسافات شاسعة، لا يدرك لها نهاية. وكأنك تقف في نهاية طريق جانبي، لا تعرف كيف يؤدى إلى قلب مدينة عامرة. يهمس لك تارة. ويصرخ فيك تارة أخرى ضجرا، بين حشد من المعانى، تراها أكثر توهجا. ولا أحد يستطيع شق طريقه دون طيّ معانى الشّعر. ولا فائدة ترجى من غير تلك المشاعر، التى يبدع فيها الشّعراء. وبهذه المسائل نتذوق الشّعر. نفهمه ويؤثر فينا. وعن مثل هذه الأفكار، دوما يكون الشّعر الخصب والخيال، الذى يوافق الروح. ندرك، أن الأمر لم يكن إلا كذلك. ونمسك بما يثيره هذا الخيال، فى النفس من أحاسيس وإرهاصات. يثير فينا الرغبة في تـقـصّي الحقيقة، وجوهر ما يغرسه في الأذهان. مثل ضياء قناديل شاهقة، فى رحابات سموات بعيدة. لا ترى نورها إلا أفئدة وألباب. وربما يأخذك معنى آخر، إلى ما يخفق بك فوق ذرى عالية، ورؤى معلقة. أو بك يهوى، إلى غربة سحيقة. تشعر بعجز، دون أن ترى كيف تتسلل المعانى لخفايا الأرواح، حتى تتمكن من كل خلجات نفسك وحناياها. تكاد تستنطق عقلك ليدرك، ويؤوّل. معان يقرأها الإحساس والوجدان والبصيرة، لا جارحة العين. إستبصارا لمعنى وحالة شعورية. وصور تعكسها تلك المعانى.. هنا يكون سحر البيان وأثره فى النفس. لذلك، تجد الشّعراء يتكلمون دائما بالإحساس. عن تجربة ذاتية. تقول بعدما تقرأ أفضل طريق للجنون الحبّ. وأفضل سبيل ألاّ يكون الشّاعر شاعرا، ألاّ يحبّ. لكن الشّعراء يحبون. يفنون. ولذة الشّعر أنك تجدهم يلونون الحياة، فى قصيدة. للبائسين. للفقراء. لكيلا يموت العالم. لئلا تلتهمهم وحشية حياة، وألم واقع مرير. الشّعر حقا جنون. وهذه روعته. ودهشته فى النفس،.. وحياته.. لذته، التى تجدها الأرواح فقط ..
وبين البداية والنهاية مسافة مشاعر وأحاسيس غريبة.. ولست أدري ما إذا كانت حقيقة الكتابة روح مأساة، على الكاتب أن يحيا أحزانها وآلامها، ليكتب، أم لا.. فبعض الألم، شفاء.. ومن بعض المعاناة، إشارة أن هناك مرض، لا بد من تطبيبه.. ولست أدري إذا كانت أحداث الحياة نفسها، فكرة عارضة على هامش الجنون، نعيشها، لنبدع بين محال ومستحيل.. فبين ألم مأساة ومعاناة، دوما حياة الكتّاب والأدباء والشعراء، الغريبة.. حقيقة، يشرق معها، فجر فكرة صادقة.. أو قصيدة، تبزغ شمسها، فى القلب.. ليستيقظ صوت الشّعر الغافى، عذبا فى هدأة نفس.. يطوف، بين دور الخيال.. يصدح شادٍ، ألما: 
بأى وجه ستطلّ يا حزن
وقد ذهبت ذكرانا وذكراهم
بعصف الريح
بأى وجه
والفؤاد ثملا يشكو مستحيلا
قد طاف يهذى
طاوٍ لجروح
كم تاه مكلوما بالألم
دهرا يحتضر
وَلِها بلا شفاء
 من شوق وجنون
بأى وجه ستأتى
فلا عين منا بقت لتبكى
ولا بقت منا لتجرى دموع
 آه يا حزن
بأى وجه ستأتى
 وقد بات الفؤاد يهفو شوقا
ليوم الرحيل
-----

فى
الكتابة والتلقى
----- خالد العرفي
تفكر فى مثل تلك الأمور التى تستفز الكاتب، تناديه ليكتب، وهى بالفعل تجعله كذلك.. وتتسائل.. فيما يجعلك تستغرق فى نصّ ما، تقرأه.. أهو حرفية الكاتب، أم التعلق به، فيما قرأت له من قبل.. أم أفكار تناسب ما تحب القراءة فيه.. أم اللغة.. أم الأسلوب ؟!
ومن هنا تجد معاناة الكاتب وأفكاره.. أنت تقرأ مثلا لجوزيف كونراد، أو صمويل بيكيت، أو ألبرتو مورافيا، أو هيرمان هسّه، أو فرانز كافكا..، وغيرهم، على إختلاف مدارسهم الأدبية، والزمن الذى ينتمون له.. فتجد تلك الأرواح المبدعة التى إنصّهرت فى الأفكار، وبالتالى النصّوص.. وحينما تستوعب تجربة كل منهم، تشتهى الكتابة كما تذوقوها.. رحلوا وبقى ما أبدعوه.. بل تتمنى لو لم تكن قد كتبت شيئا قبل ذلك، حتى تصل إلى هذا الإحساس العظيم.. وحتى تكون أنت نفسك.. وليس الأمر مقتصرا على الأدب من رواية أو قصة قصيرة وغير ذلك.. يجذبنى إليها ما أشرت إليه من قبل، مطلقا عليه "الدراما الخفية".. وكيف نجد لذة ومتعة القراءة، عبر ما تحمله اللغة من أفكار ومعان ومضامين.. ورغم أنى كرست وقتا غير قليل، ذى قبل، بل أمضيت فترة طويلة وزمنا لا بأس به،  فى محاولة إدراك ماهية الكتابة، ووضعت عدة مقالات فى هذا الشأن من كتاب فى ماهية الكتابة والإبداع.. إلا أننى لم أستطع إلى الآن الجزم بشئ حيال فهمى لكثير من الأمور،.. تتعلق بكيف ولماذا ولمن نكتب.. حتى يصبح النصّ حقيقة قائمة أمام ناظريك.. فمنذ البداية تظل هناك نقطة وحيدة لا تستطيع لها تفسيرا، إلى أن تقودك الصدفة وحدها لتعرف مصدر السّرور أو مبعث الألم ومنبعه، فيما تقرأ من نصّوص.. الكتابة عموما دائرة واسعة، لا تخلو من أن نرى فيها نصّا قد بدأ سريعا وإنتهى سريعا، لكنه بلا أثر.. وآخر قد يستغرق وقتا طويلا، لكنه يترك أثرا عميقا.. غائرا وكبيرا.. يكاد لا ينتهى ويستمر حتى بعد حياة كاتبه، وأنت وراءه ساعيا بكل جهدك لتكتبه.. تواصل خطوة إثر خطوة لتكوين رؤية معينة.. ترى نفسك متعثرا هنا وهناك، قبل أن تصل إلى هذا العمق.. وهكذا، لا يفرغ الأمر من إنطفاء جذوة للفكر، حتى تتقد أخرى من جديد، حول فكرة ما غامضة، لا تراها إلا فى فكرك وحدك.. وتتجاوز مسألة غموضها وتكتشف بصورة أساسية، أن الأمر ما عاد يتعلق بأسلوب أو بلغة، يمكنك الإختيار من بين طرقهما المختلفة، بقدر ما يتصل الموضوع بفكرة ما تستولى عليك وتأسرك تحت رحاها، فيما يعرف بالكتابة الذهنية المحضّة.. وهى تلك التى يضع فيها المبدع روحه وإحساسه، قبلما تطبق عليه بين تفاصيلها، تودى بك حتما إلى مداد القلم.. أمر لا يتم فقط فى شعاب العقل، بين الوعى واللاوعى، ولكنه يتصل بتلك الموهبة الحقيقية التى تنطلق بك لتكتب وتكتب.. ثم تلقى نفسك وأنت تكتب رغما عنك،.. لينطلق ما كتبته بالقارئ فهما وتأويلا وإحساسا كبيرا.. لكنها لحظات نادرة فعلا، وحالة فريدة للكاتب، ولطالما يبحث عنها، قبل أن تجده ويجدها.. على هذا النحو أصبحت ميّالا لهذا النوع من التأمل.. وأتوقف كثيرا فى تقليب الأمور، فى ذهنى.. ومع الوقت تعيد النظر فى كثير مما كنت قد شرعت فيه، قبل ذلك.. وحتى فى صيرورة القراءة الدائمة، تمسي وأنت تحاول الإنتقاء أكثر، لتقرأ بهذا العمق التحليلى وتغوص لتلتقط أفكار النصّ المحورية.. تصل إلى دلالاتها ومعانيها.. وتتحقق من المضمر، وما توارى خلف المعانى، التى تتوارد إلى الذهن، مع الإنطباع الأوّلى، وفى الوهلة الأولى.. بعيدا، عن دائرة الفهم الضيقة أو السطحية فى إدراك لغة الكاتب أو الأديب، ومستوى أسلوبه.. الأمر يجعلك تعيد قراءة كثير من النصّوص كنت قد قرأتها من قبل، وتنخرط بنوع من الحماسة الجديدة، لتكوين وجهة نظر معينة، حول ما لم يصرح به الكاتب، وبعيدا عن أى تخمين أو توقع لك.. لهذا أعتبر نفسي، من هذا النوع الذى يحبّ قراءة أعمال كل أديب أو مبدع كاملة.. أتقصى نضجه الفكرى.. ولنفس السبب، يدهشنى أدب السيرة الذاتية.. وهذا من روعة الأدب ومتعة تلقى النصّوص بهذا الإحساس والتأمل.. وعلى هذا فإيجاد ما يمكن أن يشكل معرفة وفهما نحو الكيفية التى تتم بها الكتابة أمر هام وضروى لتحقيق النماء والنضج أكثر.. فى النهاية معرفة ماذا يقول النصّ، ومحاولة لتقييم الأدب والأديب.. بل وإعتبار الأمر مفتاحا لفهم جوهر الأدب نفسه، ربما نقف على فهم وعلى نحو شامل، لكن ليس بالضرورة يكون جوهريا بما يرضي بسعادة غامرة تبدد كل توتر وقلق.... وعامة فمثل هذه التطورات تشكل جزءا من تاريخ وتطور أى كاتب.. تقدم صورة أكثر وضوحا عنه، وتجربته التى ينقلها للغير.. ولا أحد يصبح راضيا عن نفسه لطالما وقع فى هذه الدائرة، ولم يعرف كيف يخرج من حلقاتها المتتابعة إلا بإبداع جديد،.. ونصّ، له تأويل بعد تأويل.. وهى متعة ولذة الكتابة، وبالتأكيد القراءة أيضا..
وفى مجال القصّ والسرد.. فإن الفكرة كائن حىّ تعطيه أنت من روحك تلك الكينونة، بل وإستمرارية الحياة بعد أن تكتب النصّ.. والسؤال: كيف تبدأ القصة.. أبواقع مجتمع.. أبمكان.. أبزمان.. أبشخصية.. أبحدث أو واقعة معينة...؟!
وليس المقصود بداية النصّ وكيف يشرع الكاتب فيه.. لكن كيف تأتى الفكرة الأساسية.. كيف يبدأ مضمونه فى التبلور والتشكل.. كيف تتسلسل التفاصيل، على نحو ما فى الذهن، قبل أن تتشكل فى النصّ؟!
فأحيانا تشاهد أمرا ما، فتنعكس آثاره على مخيلتك وعقلك.. وأحيانا، تقرأ خبرا ما.. وأحيانا، يكون الأمر إلى خبرتك فى الحياة وما صادفت من أمور.. وأحيانا، تقابل شخصا ما ويترك إنطباعا.. فتأتيك الفكرة ،.. وهكذا، فمصادر الأفكار متشعبة وروافدها كثيرة.. ولكن ما يقرّ فى الذهن فقط منها، ليس فقط مايؤثر على عاطفتك ويلهمك، لكن ما يقول فى النهاية أمرا ما، وشيئا ما.. ومن النادر تحقيق أي شئ، قبل أن تتأمله وتفكر به، وليس الأمر عملية آلية نمطية.. فقد تصبح الفكرة رد فعل ضد الواقع، ورمزا.. تشكل أنت من خلالها واقعا موازيا، موطنه الأساسى فى الخيال.. ورغم تعدد روافد الأفكار وكثرتها، على هذا النحو، قد تجد نفسك فى غالب الأمر، عاجزا عن كتابة نصّ واحد.. وهذه إشكالية تتجدد، إذن الأمر لا يتعلق بالفكرة فقط، إنما يتعلق بشخص وجوهر الأديب وعملية الإبداع.. كينونة الكتابة نفسها، وإلا كان كل يوم قصة وإثنتين وثلاث، أو عدة نصّوص، وعشرات الكتّاب والأدباء.. إن تعلق الإبداع بنفسية الكاتب أمر لا شك فيه.. ورضاه عن نفسه فيما يكتب أمر لا يحدث كثيرا.. ومن يقف على هذه الكيفية والطريقة التى تتم بها عملية الكتابة الذهنية، أولا فى العقل قبل أن تعرف طريقها إلى القلم، يصل إلى سرّ كبير، ويستطيع أن يحل لغزا مستغلقا.. وربما هذا هو الدافع الأول فيمن كتبوا عن عملية الإبداع.. بل والسبب الرئيسى لقلة من الأدباء والكتاب، كتبوا عن إبداعهم من خلال سيرهم الذاتية،.. كيف كتبوا ولماذا كتبوا.. بإختصار ما هى الكتابة وكيف تتم.. وبهذه النتيجة، ليس كل من يكتب كاتبا، وليس كل من وضع نصّا أديبا.. نتيجة حتمية قائمة على التفكر والتأمل.. النصّ الذى يترك الأثر العميق والقوى على نفس القارئ وروحه فقط، هو المؤشر والمعيار.. ولا تصبح اللغة مجرد وسيلة ووعاء حامل، أو ما يؤدى إلى تحقيق ذلك، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالقصّ سردا ووصفا (راجع مقال النصّ بين الوصف والسرد).. كما عليك أن تواجه إشكالية أخرى تتعلق بالأسلوب والمستويات اللغوية المختلفة، مما يجرى فى سياقات النصّ المختلفة.. إضافة إلى سياقات تركيب الجمل، وظاهرة العدول اللفظى، ومناحى الروى ومن يروى، وغير ذلك.. مما يصدمك بالدهشة، وبما لا تظن وجوده فى النصّ من معنى ومضمون، وهو موجود فعلا متوار.. تلك المفارقات الغريبة التى تتراكب كلها، لتؤدى الى تشكيل نصّ مؤثر وقوى، يحكى ماحدث.. فى النهاية، ما يؤدى إلى تشكيل أعماق الكاتب وبنيته، فى جوهره الصافى..
السرد الأدبى والدراما الخفية
------ خالد العرفي
من أنواع السرد الأدبية أدب السيرة الذاتية وحتى الكتب التى يتم فيها جمع إنتاج كاتب من مقالات وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى مثل الشعر والرواية والقصة القصيرة وغير ذلك.. ويأخذك الكاتب حتما إلى عالمه هو.. وربما وجدت نفسك وربما لم تجد.. ومهما كان ما تقرأ حسب ميولك وحالتك النفسية فلكل كتاب رونق ولذة مختلفة.. وتجد نفسك مشدودا لكتاب ما ولا تملك إلا أن تكمل قراءته غير صابر عن التوقف عند مرحلة معينة.. والسؤال هنا لم يجعلنا كتاب ما فى هذه الدائرة التى نعدو فيها لنعرف ماذا يقول أو يقدم.. الأمر لا يتعلق بمجرد المعرفة التى يمنحها لنا أو يضيفها لمداركنا، إنما يتعدّى هذا.. ومن يتأمل الأسباب الكامنة وراء هذا الدوافع الخفية التى تستثيرنا بل وتشدّنا بكل قوة، وتجعلنا مرتهنين حتى تنتهى قرائتنا، يجد فى المقام الأول هذه الدراما الخفية أو الحبكة التى بنى عليها العمل الأدبى فى تفاصيله ومجموعه.. تجعلنا نتسائل وماذا بعد؟ ماذ سنجد؟ ماذا سوف نعرف.. وتحديدا ماذا حدث..؟! وكيف كان؟!
ولا شك أن اللغة تحمل كثيرا من أساليب الحكي التى تتداخل مستوياتها بين ما هو واقعى وما هو متخيل ذهنى، داخل عملية السرد نفسها.. ومن هنا دلائل قدرة المبدع على حبك ما يسرده وسبك ما يتضمنه النصّ من أفكار.. إضافة إلى صنع الجمال الذى لابد أن يظهر فى عناصر النصّ الأدبى، وبصفة خاصة النصوص الروائية. وهى الأمور التى تأتى كمؤشرات وإضاءات تنير العمل الروائى. وفى محاولات الإقتراب من فهم النصّ المسرود وفي تحديد الجماليات التى تعطينا لذة القراءة، لا يمكن التخلى عن هذه الرؤية. وعلى هذا لا يخلو هذا التحليل من تماس مع إمكانية تبيّن الكثير من الحدود التى تفصل بين أنواع السرد الأدبية المختلفة. بداية يمكن القول أن السرد ذاته، لا يخلو بصفة عامة من روى وحكي للراوى، الأمر الذى يعتمد فيه أساسا على اللغة ورحابتها الواسعة حينما يستخدمها الراوى أو السارد فى عملية الحكى.. ونحن حين نقرأ ليس أمامنا إلا اللغة التى تعتبر فعلا الأداة التى نكتشف بها مسارات السرد وإتجاهاتها وإلى أين تؤدى فى النصّ.. فيكشف النصّ عن نفسه شيئا فشيئا،.. وعلى سبيل المثال حينما نقرأ رواية ما حيث يكون هدفنا الكشف عن مسار السرد بمتابعة الشخوص التى تتحرك ومشاهد الرواية وبنيتها القائمة على عنصرى الزمان والمكان.. فإن كل هذه الأمور تحملها اللغة فقط.. تلك التى يستخدمها الرواى أو السارد.. كما نرى تحولات وتغيرات الراوى نفسه متمثلة فى هذه الشخوص التى يحكى عنها فى سرديته سواء رواية أو قصة.. وأنت حينما تقرأ على هذا النحو، تجد أن مآل شخصيات الرواية وما سوف تستقر إليه فى النصّ عبر دراما تتطور، لا يكون إلا فى يدّ السارد أو الراوى الذى يتحكم فى مواقفها المختلفة فى الرواية، وإنعكاسات وردود أفعالها، وفقا لما يراه ووجه نظره التى وضعها فى كل شخصية تتحرك من خلالها حبكة النصّ المسرود.. ليس تبعا لتوقعات القارئ التى ربما تتوافق أو تتضاد مع ما يقرأ.. وهذه لذة أخرى للقارئ الذى يتابع القراءة وله رؤية تتشكل ويبحث عمّا إذا كانت ستتوافق مع ما سيعثر عليه فى النصّ أم سيفاجئه الراوى بمناحى أخرى ربما لم تخطر على باله.. وفى كثير من الأحيان فإن النصّوص تعيد تشكيل نفسها كلما توغل الكاتب فى عملية الكتابة فربما يعيد كثيرا ويعدّل كثيرا قبل أن يستقر على شئ حتى وإن كان ما كتب قد تم التخطيط له فى مسودات العمل المبدئية.. فهناك هذا التيّار من التأمل الذى لا ينقطع، طالما  توغل الكاتب وكلما إستمر فى عملية الكتابة فى إطار من مقتضيات الجمال الإبداعى الذى ليس له حدود مع المبدع الحقيقى. ويخطئ القارئ لو أحال كل ما يقرأ على ما يعرفه عن الكاتب، وليس صوت الراوى فى النصّ، وهو أمر يرّد إلى إنفصال ذات الراوى أو إن شئت قل إنصهاره فى الذى يروى عنه وما يسرده فى حقيقة الأمر... بإستثناء ما يكون فى روايات السيرة الذاتية التى يرويها أصحابها.. مما يجعلها نوعا أدبيا يقف على خط الإبداع الروائي فى كثير من الجوانب.
سحر الكتابة
--- خالد العرفي
 إلا بقدر ضئيل من رغبة، وأمام جموح الحياة، وسيطرة غرورها، وبشكل غير عادى.. أحيانا، لا يكون أمامك إلا مطاردة أفكار أو آراء غامضة، ضد زيف مشاعر وخيالات من أحاسيس، تصدمك بها الحياة. ولا يبقى فى النهاية، إلا حقيقة وحيدة. لا ترى سواها، ولا تهفو إلا إليها دائما، بينك وبين نفسك. وهكذا، فهناك دائما أمر ما. وهكذا يكون الشأن، من حين إلى آخر، وتلك الأفكار الغريبة، التى تظل ماثلة، وعلى نحو غريب. تتردد هنا وهناك، فى العقل. ويظل الفكر والتأمل، بصورة حية صادقة، بحثا عن الحقيقة. سواء أكتبت أو لم تكتب. وغالبا، ما تكون تلك الفترة المشرقة، التى تسطع فيها الحقيقة، فيما نكتب والعقل والذات، فى حالة إنفصال تام، عن الواقع.. تسمع صوتا، لا تعرف مصدره. لا يكاد يتلاشى حتى يظهر. يرتفع من جديد. تطارد معه الفكرة وتطاردك. لا تشعر بمرور وقت، ولا صيرورة زمن. لحظة آنية ممتدة، فى النفس. تنهل منها، فى عالم خيال. هذا هو الإحساس العظيم المسمى بالكتابة. ربما فيما لم ولن يقرأه أحد، إلا بعد أن يستقر فى نفسك.. أما ما يكون، بين دفتى اليوم والنهار، وأنت فى هذه الحالة، فغالب الأمر تحتفظ به، لحاجة فى نفسك. وما يهرب ليقرأ، ما هو إلا شذرات، وربما وضعت صورته الكاملة يوما ما، كما هى بين يدى العقل، وعلى الأوراق.. وتلك فقط، هى الأوقات المحفوفة، بصداع يموج فى الرأس. فى حين تتسائل:
- ماذا فى الأمر؟..
أشبه برنين أجراس تدق فى الرأس، تغيب فيها الروح. وفى دقائق قليلة، ما إن تصل إلى تلك الحالة، تجد هذا التوحد والتلاشى، وفى نفس الوقت بين عالمى الخيال والواقع، ويدب الدفء في الأفكار، ممتدا إلى الروح والعقل. عندئذ، ندرك هذا الجانب من سحر الكتابة. ذلك هو الشئ المضئ فى النفس، الذى يتسلل إلى مداد القلم، وإن إختفيت فيه أنت، لتبقى هى. تظهر ملامح وتخفى تعبيرات، لا يمكن رؤيتها. وتشعر أنك بحاجة إلى مزيد ومزيد، من غياب الذات، فى الفكرة بقسط وافر من الجمال، لتقوى وتشتد. لتملأ أماكن شاغرة، فى الروح.. وتقول بعدها: الأمر الآن على ما يرام.
 وليس هناك حاجة، على الإطلاق فى توصيف هذه المسألة، إلا لأنفسنا.. نفهم ونعى وندرك ماذا هناك، على تلك الحافة، بين العقل والجنون.. هل هو الإبداع. هل هى راحة نفسية. هل هى المعانى. هل الأمر فى نهايته، مسألة أن نكون. أم أننا فعلا لا نكون إلا بهذا..؟ ومن هنا، تأتى المعاناة والألم.. حتى نصل إلى طبيعة الكتابة وسحرها فى الروح.. بالطبع، هذا سبب خفى لقراءة بعينها، من أجل الإحساس بهذا الدفء الغريب، الذى تبثه فى النفس نصوص فريدة من نوعها.. وليس لغيرها هذا الأثر. معرفة وضياء وإحساس بمعنى، يصل إلى أعماقنا. ومرة أخرى، يترامى إلى سمعك، من جديد هذا الصوت الغامض، وتذهب بك نظرة، تتجه إلى عنان السماء. شئ كبشارة الصبح، بهذا اللون الوردى الغريب. تشعر أنك على وشك العثور على نفسك، فتعتريك دلائل الدهشة. تنظر فيما حولك، ولا ترى شيئا. وفى وقت، ترى فيه بعينى عقلك كل شئ، بما فيه الكفاية. وأحيان أخرى ورغما عنك، لا تشعر إلا برغبة مواصلة، تلك النظرة الخالية من أى حياة، أو إهتمام بها، كمن فقد الوعى. بما يشبه إحساسا ببرودة شديدة، تسرى فى الأوصال، فينعدم الإحساس، وتموت موتا بطيئا، الأفكار. لا تدرك كم من الوقت مضى، وكم يبقى لتقضيه.. بل الأكثر دهشة من ذلك، أنك نفسك، لازلت على قيد الحياة، ولا طالما تحسب عليها. وفى أحيان أخرى، لولا حدوث أمر ما فجأة، ما حدث شئ فى النهاية، وما كتبت ما لا يخطر على بال، أو خاطر. فقد ترى بالمصادفة أمورا غريبة، تدور من حولك، فتحس بشعور الإكتشاف، وتدرك معناه فى متعة شديدة.. وإن لم تكتب للناس، أو ليقرأ أحد.. ومن المحتمل، أنك لم تكن كذلك، على الإطلاق، ولم تكن تفكر فى شئ، من هذا القبيل، فى يوم ما. ولكن بت تفعل، محاولا أن تعرف ذاتك..
لذة القراءة.. هذا اللغز..
--------- خالد العرفي
لم تفارقنى هذه الصورة فى ذاكرتى منذ رأيت هذا الحلم الذى رافقنى لسنوات.. حتى إنطبع ما كان خيالا على الواقع تماما.. إنطبقت نفس الملامح فى عمق ما كنت أراه يتماهى أمامى.. أفق نورانى غريب لا يراه أحد غيرى مهما ذهبت وأينما ذهبت.. لم يذهلنى شئ قدر ما أدهشنى وحيّرنى هذا التطابق القدرى العجيب.. أكاد أقول لنفسي لنا نفس الملامح.. نفس المسير.. أتبعها وتتبعنى تلك الأحجية العظيمة فى حياتى.. اللغة وأثرها فى النفس.. جمالها الهادئ ونورها الصافى بم يدخلنى فيما لا أعرف من حالة شعورية ولا أستطيع لها تحديدا أبدا..
هذا اللغز الذى لم يشغلنى شئ بقدر ماشغلنى محاولة فكّ أسراره فى نفسي.. فكان منه الرفقة والزاد.. ودائرة الإلهام،.. وما كان الشعر فى ذلك رغما عنى، إلا قدر، وبقدر أغرب.. وما تمنيت أن أكون شاعرا أبدا كما ذكرت من قبل مرارا.. حتى فى تلك الكلمات التى زعمت أنها قصائد إنما هى من هذا الطيف الذى أستلهم منه كل معنى ووجود للكلمات، يصدح بمكنون النفس بين هدأة ولوعة وغضب وإشتياق وفقد ورقة. وغير ذلك من مشاعر وأحاسيس وجدانية، تحمل معها الذات ووجودها، راحلة إلى جنبات هذا العالم الذى يصطدم بالواقع بل ويغايره تماما.. كل معنى تأصل فى النفس نداءا للروح فى هذا العالم الغريب الذى لا يشعر به إلا نفس واحدة فقط،... يقينا لا وهما.. بعيدا عمّا يمكن أن يقوم به الإبداع أو الكتابة فى مجال القصة القصيرة أو الرواية وغير ذلك.
ولا أعلم شاعرا قط شرح أشعاره.. ولست فى هذا الصدد بمنأى، ولست أزعم الشعر، إنما أشير فقط إلى ما ينتاب المرء من حالة نفسية أشبه بديمومة رحيل فى المعانى، ليس لها من إتصال بما يأتى به الخاطر أو يشرع فى كتابته الكاتب من ألوان الإبداع الأخرى.. وربما هذا السبب الرئيسى فى ركون بعض الروائيين إلى الرمز الشعرى واللغة الشعرية فى كتابتهم للرواية لما تلقيه هذه اللغة وظلالها فى النفس وتأخذ بالقارئ إلى تأويلات كثيرة موازية يكاد لا ينحصر مدلولها أو تفسيرها فى أمر محدد، لما يرجع إلى إقتران الشعر من مقومات الذاتية.. وهذا من أثر اللغة فى المقام الأول فضلا لو تأطرت معانى هذه اللغة إلى مستوى الكلمة والمفردة الواحدة فى إطار مضمون درامى ومعنى كلى شامل لإحساس الشاعر وتجربته النفسية.. وهى دفقات شعورية وشلالات من الأحاسيس المتنوعة فى إطار أمر واحد تتعدد صوره تؤدى فى النهاية لهذا المضمون الكلى.. وأجدنى فى هذا أنساق فى قراءاتى إلى الموهبة الحقة والفذة التى تترك فى نفسي هذا الأثر الفريد وليس لغيرها ذلك.. أتواصل مع المعانى البديعة والأفكار الصاخبة التى تثوّر هدأة النفس وتودى بها إلى دروب تأمل بعيدة كل البعد عن كل ما هو معتاد مما نجده هنا وهناك.. ومن حذقَ من كتّاب القصة والرواية يعلمون هذا الأثر الكبير الذى تتركه اللغة وأسرارها فى النفس والروح علاوة بالطبع عن المعنى الكلى.. ولست أتكلم عن الشعر أو عن القص هنا ولكنها تلك الدروب المتشاعبة – حديثا عن اللغة- التى تلتقى كلها فى ذات التأثير، مهما كان اللون الأدبى رغم تغاير مبادئ وكيفية كل لون منها.
والأمر هنا أشبه بمن يفتقد بوصلة ما للتفسير ولا يجد غير الكلمات واللغة تحمل المعانى.. فإن كان الأمر شعرا، فهو لون أدبى له قرائته وإحساسه الذى يغوص القارئ والمتلقى فيه بحثا عن المعنى والتجربة الذاتية والوجدانية للشاعر أيا كان نوع هذا الشعر، من شعر كلاسيكى إلى شعر قصيدة النثر وحتى مستوى قصيدة البيت الواحد والومضات الشعرية.. وإن كان قصة قصيرة فلها مقوماتها ورؤاها.. وأيضا الأمر كذلك بالنسبة للرواية.. وهكذا أيضا بالنسبة لجميع الألوان والأنواع الأدبية والتى تقدمها كتب النظريات الأدبية والنقد الأدبى الموضوعى والتى لا غنى للمبدع عن قرائتها مثلما تماما يقرأ إبداع الأدباء فى هذه الأنواع.. حتى أننا نجد من نقاد الرواية على سبيل المثال من يؤسس لكيفية تلقى النصوص والقراءة الواعية للرواية فنجد من يفرد فصولا فى مصنفاتهم للغة فى الرواية وأثرها وكذلك القصة القصيرة.. ومن هؤلاء " روجر ب. هينكل- Roger B. Henkle"  فى كتابه الرائع القيم (قراءة الرواية- مدخل إلى تقنيات التفسير). وهو من الكتب القليلة بل النادرة فى هذا المجال لإدراك مغزى الكتب ومراميها وكيف تحدث تأثيرها فى القارئ وما تصنعه من صور التشخيص والتصوير والتشكيل اللغوى وتحديدا الرواية، بإعتبارها عمدة الأدب الموضوعى، بحيث تكون أساسا صالحا لفهم أية رواية خلال عملية قرائتها ليست النقدية فقط بل عملية التذوق الشعورى للنص.. وهو ما يفوق عملية النظر العقلى والجدال للتمتع بلذة النص- وتبين ما يجب إستكشافه..الأمر الذى يحقق التفسير الضرورى لما يظهر أو ما يقدم فى النص من أفكار عبر القراءة، ومع ممارسة القراءة خلال كل مراحلها لتفسير عملية القصّ ذاتها..  حيث تتشكل الأسس العامة والملامح الجوهرية لنظرية القصّ إرتباطا بجمالية الفن حيث تظل القيمة الجمالية هى الغاية المنشودة فى كل عمل فنى وأدبى مهما كان مستوى أو درجة موضوعيته. وهى القيمة ذاتها التى تسبق كل قيمة يمكن توقعها من القارئ والأغرب من المبدع نفسه.. وفى النهاية إدراك تلك العملية المعقدة الخصبة فى الذهن والوجدان وكيف تتم وكيف ينهض بها الكاتب فى نفسه قبل نفس قارئه.. وتناول فيه كيفية قراءة الرواية من مناحيها المختلفة وكيف تتم الإستجابة الخاصة فى عملية القراءة وكيف يتم الربط بين العناصر التى يقدمها النص السردى الروائى قياما على عناصر الرواية من تشخيص وبناء ومشهد. ولعل من أقيم ما تطرق إليه محاولة تصنيف أنواع الرواية فى فئات محددة والمقومات التى يستند كل نوع منها بغرض توجه القارئ بروحه وعقله إلى تلقى النص على أساس واع من الإدراك وكيف تتحقق هذه المتعة الوجدانية والذهنية.. الكتاب يدهشك فعلا بعمق ما يتطرق إليه ولا يقف على مجرد تصنيف الأعمال الروائية إلى أنواعها الإجتماعية والنفسية والرمزية وغير ذلك بل يتجاوز ما يقدمه الكتاب من محاولة كيفية تفسير النص الروائى إلى ما يلقاه القارئ الواعى الذى يجد الكثير والكثير من الإفادات.. ومن ذلك التحليل لعملية الكتابة نفسها لدى الكتاب وتلك الحالة النفسية من اللاوعى التى تصل إلى حد يتحكم فيها المبدع وهو يدرك ماذا يفعل لخلق الأثر على القارئ.. وهذه التحليلات التى مال إليها روجر هينكل فى فصول كتابه جديرة بكل مبدع فى مجال القصّ أن يقرأها لتضيف إلى تجاربه.. ويتحراها لتزيد خبراته من أمور قد تكون غامضة قبل ذلك فهى تنير له الطريق.. وتفتح له آفاقا. وهنا سوف أشير لأهمية بعض النقاط والمحاور المفيدة فى هذا الكتاب.. مع التطرق لبعض الكتب والمصنفات الهامة فى ذات هذا المجال، قد يكون كثيرون لم يقرأوها من قبل رغم أهميتها الكبيرة..
الكتابة
الإحساس العظيم
------- خالد العرفي
في الوقت المناسب، ومع حدس غريب يهبّ من حافة العقل، مثل ضوء الشمس، ومثابرة في التماس بعض الأفكار، وطرح البعض الآخر،.. في الواقع، يمكن للمرء أن يمتلك الخيال،.. أن يكون في انسجام تام، كمن يجتاز مجموعة من الأشواك تمتد جميع أطرافها مثل سور فى اتجاه واحد، يفصل عن حقيقة الحياة.. تبحث في الوقت نفسه عن الكلمات،.. ثم تظهر فجأة كطقس غير متوقع، عاصفا بهدوء العقل، لأفكار غريبة.. ولا تعرف معه كيف تستقبل الحياة، إلا أن تكتب.. ومع هذا الشعور الوحيد الذي يتجلى كنوع من الأمل، تتناوب النظرات السارحة فى السماء.. يمكن أن تتحمل طقسا، لا يُقاوم.. أن تطرق أبواب أفكار لا تنغلق أبدا.. لا يمنع العقل عنها شئ.. تنتقل ثانية أسرع، من المعتاد، إلى بؤرة شعور مفعمة بالحيوية، مزدهرة..  وذلك أمر نادر جدا، لا يكاد يُعرف كيف يمكن الحصول عليه، وإلا أدرك المرء على الأقل، أنه يمكن أن يكون لديه نصف عقل.. أو نوع خاص، من الفكر يستحق عزلة دائمة، قبل أن يستطيع التعبير.. ألا تعرف كيف تواجه متوقعا،.. ألا تعلم كيف يشغللك محاولة تفكير فى عمل جاد، يمكن أن تحقق شيئا عبره، خلال نهار أو ليل.. ورغم هذه الحالة، تدرك تماما،  ومن جديد، أنه ليس لديك أي رغبة في موضوع لم تعتاد مثله،.. أن تنكسر فجأة حلقات الفراغ، فى العقل.. أن تلقى ما غاب من علامات طريق، تنبثق منها الأفكار مضيئة نيّرة.. ومن المدهش أن نشعر بمثل هذه التحولات الغريبة، فى أنفسنا،.. ولحسن الحظ غالبا ما تُعتبر منجما لأفكار نادرة مثيرة، وتكون موضع اهتمام بالنسبة لنا، ويمكن أن تحصل عليها العقول السليمة.. شئ لا يأتى إلا بين هبوب وهدوء عواصف الفكر والتأمل، فى غرائب الحياة وصروفها.. إنه أمر غريب، لا يمكن تصور كثير من تفاصيله، إلا مع وجود فترة من النشاط العقلي.. تستطيع أن تقول معه أنه لم يكن هناك فرصة للتغيير، في الوقت الحاضر، أو للمعرفة لولا ما يحدث أمامنا فى الحياة.. أن تستعيد نشاطك وتستعيد الحياة الغائبة، لأفكارك.. وفي الواقع، كل شئ يكون متاحا بالفعل، أمام العقل، لكن عتمات داكنة، كانت تحجبه.. تسبّبّت فيها سحابات قاتمة.. لم يكن ليستطيع أن يبدّدّها شئ، إلا مثل تلك العواصف الفكرية، فى محاولة إدراك ما تقابلنا به الحياة نفسها، من أمور وملمات.. ثم تبدأ تتصور أنه سيكون من الحماقة البقاء ساكنا، بلا حراك.. تتطلع في وجهك  الأفكار، وأنت متكئ على كرسيك، لا تفكر ولا تتأمل.. على أية حال، تحدق أنت فى عالم آخر، تبقى عينيك فيه.. تقول فى نهاية المطاف.. الآن علىّ أن أكتب أفضل، من أي وقت مضى.. وفي الوقت نفسه، تبدأ تشك تقريبا، في نفسك، وفيما تكتب، وفى حواسك، وفى الحياة نفسها.. وربما ترى أنه من الأفضل أن تمتنع، وتتوقف.. رغم أن الافضل من ذلك كله، أن تكتب، ما أثارك.. كمن عاد لتوه من زيارة عالم غريب نابض مفعم بالحياة.. أو كمن عبر جسرا، لعالم الروح.. أن تمسك بأفكارك، قبل أن تهرب، ولا تجدها أمامك، محدّقة فى عينيك، ساكنة عقلك، على نحو غريب.. تثور في وجهك بحدة أن من لا يأبه للكلمات، لا تكترث به الأفكار.. أو كأن الكلمات  نفسها، من أحجار ضخمة، لا تستطيع لها حملا.. وتتسائل كيف تبالغ إذن، من نفسك، متجهما، أمام هذا الميل المفرط، لعدم ثقة فى النفس.. ودون أي محاولة يتخللها ضوء ساطع أو دفء حرارة، لحياة.. كيف لا تُعرب عن مشاعر كهذه، تضطرب معها النفس، لتتحقق سكينتها،.. أنك ما زلت هناك، تحيا وتفكر.. في الواقع نهاية واحدة، تسافر بالروح،.. تعكس وبشكل رائع هذه الحالات الفريدة، فى النفوس.. الكتابة.. هذا الإحساس العظيم، أن نكون.. لذلك نقرأ، ونُحبّ من نقرأ.. وطالما وجدت حقيقة، فثمة معنى شئ ولغة.. والحقائق دائما، فى مكان ما وزمان ما،.. هى ما يمنح الكتابة لغزها،.. المدهش أن تبقى الحقيقة مجهولة، حتى نبدأ.. الكتابة ليست كلمات وحسب.. ليست فراغا أو صمتا.. إنما هى وجود.. لكن هل تجعلنا نتألم بشكل أفضل؟
أم عن الحياة بها نعبّر ؟
أم تجعلنا نحتج على متناقضاتها؟
أم بها نستعيد وجود الحياة وروح كل شئ؟
هل الكتابة محض خيال أم  ترتبط بحقيقة ما، على نحو ما؟
هنا تكمن تلك اللمسة المباغتة للروح، مثل شعاع قوي مبهر، يخترقك، فيجعلك تكتب، أكثر مما تقوله الكلمات، ولا يمكن تصوره،.. حيث تمضي قيمة الكلمة، فتتحرك الحياة بموسيقاها، مفرحة كانت، أم حزينة بألوان غروب.. وهذا ما يمنح النصّ حياة.. هذا  الحسّ الغريب الذى نلاحقه.. نبحثه عنه، وأحيانا كثيرا يستحيل علينا اللحاق به،.. ومع ذلك فإن الكاتب يظلّ يحلم، ولا يستطيع أن يفعل شيئا، إلا أن ينتظر تلك اللحظات، التى يحترق فيها، كطائر غريب، لا يغرّد إلا إذا تألم،.. وآلمته الحقيقة.. ومع ذلك يظلّ يحلم، ليكتب... والفن على العموم، حضور أو معنى له أثره المعنوى، الذى ينفلت من التوقع والتصور المسبق والعقلانية، فى إطار لا يرتبط بمَ قبل أو تقليدية.. فى سلوك حرّ، يشيّد المعنى،.. وبهذا يمكن إدراك الجمال والحكم عليه، مما ينعكس قيمة، فى الكتابة.. ومن الأسئلة التى تتعلق بقضايا الإبداع مثل تلك الأسئلة، التى تثيرها طبيعة الكتابة وأبعادها، والعلاقة بين أجناسها المختلفة.. فإلى ماذا يستند الكاتب فى كتابته، أنّى كان مسارها بين قوالب وأنماط الكتابة؟ وأية قيمة تلك التى تأخذها كلماته فى إنشاء المعانى، فيما تحدثه من أثر وإرساء للدلالات؟ وما هى القيم الجمالية التى تمنح النصّوص أصالة وفاعلية وحياة؟
إن الإفتنان يأتى من هذا الأثر اللامحدد الذى يستمر الى ما لانهاية نافذا إلى النفس.. ويبقى ويدوم فى العقل.. أن تستمع بعمق إلى حقيقة ما من خلال النصّ.. من خلال واقع النصّ القائمة فى فضاءاته، ممّا قد لا يكون واقع حياة، لكن تمثلا لعالم متخيّل.. وهذا ما يقصد به أن يكون العمل مشيّدا لمعنى، وفى قدرته على إيجاد قبول وأثر جوهرى ينبع من مصداقية نصّ، تتغلغل فى الروح.. وفى هذا الصدد، لا شك أن هناك شئ من معيارية يمكن الاحتكام اليها، فالأمر لا يتعلق بمجرد فرادة أسلوب، إنما هناك تفكير حول طبيعة السرد القصصى، وكيف يستمد الإبداع قدرته على إنتاج معنى جديد غير محدود، فى مواجهة الإدراك العادى.. وفى الوقت نفسه، كيف يمنحنا إحساسا جديدا.. أو إن شئت قل يوجد الإحساس، شارعا نفوذه وأثره، طارحا سؤال المعنى، وفى البحث، عن الممكن منه..
فى السرد
----  خالد العرفي
 فضيلة الفن تكمن دائما، فى إثارة الأسئلة، لا تقديم الأجوبة.. والأمور المعكوسة في النصوص الأدبية، دائما ما تثير الأذهان، كمرايا للشبيه الحقيقي، من النفس، على أرض الواقع.. لكن، دائما يبقى الكثير من الأسئلة معلقا بلا جواب،.. والحال كذلك، فى الاعتماد على كل الوسائل الممكنة لفهم النصّوص، وإن لم يكن هناك سابقة مماثلة أو مشابهة، في هذا العالم، يمكن لها أن تحدد لنا معايير التلقى والتأويل.. وهو يبرر أن ما نقرأه، يمثل وضعا فريدا في العالم، من عدمه.. وتتوالى الأسئلة، في ذهن يصوغها ويحللها، رغم براعته فى البحث عن إجابات محتملة، وتداع واسترسال في هذا المنحى أو ذاك، قبل لحظة لقاء منتظرة، ليجد ما يصبو إليه من طبائع ورغبات أو يتلمس، بحذر، زوايا حساسة وقلقة وقناعات وتطلعات وآلام وآمال.. لكن النصّ قد يحمل نقلا ينطوي على كثير من المفاجأة.. تتهكم من تنبؤاته المسبقة، منذ إنطلاقه مع بداية النصّ وبؤرة الحدث الأساسية، كسرد خاص يحمل مضمونا ما، وفقا لسياقات متباينة، تثير ردود أفعال مختلفة، فى النفس.. ولعلّ هذه البداية، تؤسس لمفهوم السرد،.. فمن وجهة نظر مختلفة، من الممكن رؤية السرد الأدبى، وفهمه، فى إطار معرفة ماهية عملية الكتابة نفسها.. فعلى نحو قريب، لا تتوقف الكتابة عند العملية الذهنية، التى تتم بها، وكيف تكون.. تنظر وكأن هناك بضع شجرات تحوزها.. تنمو بين يديك، وأنت تعلم كيف تنمّيها، فى طريق أن يكون هناك ما تبحث عنه.. ما يسمّى بالنصّ المؤثر، والجميل فى ذات الوقت،.. هى مسألة تختصر قضايا كثيرة، لتكون قادرا، على رؤية كل ما يحدث.. هنا قد يبدو الأمر رائعا، لأن تعرف كيف يكون السرد، وكيف تتم الكتابة، وبصفة خاصة فى مجال القصّ الأدبى.. وهى أيضا بداية لعملية فهم كيف يكون الإبداع.. أن تعرف كيف تخلق حالة إستثنائية من خلال عالم قصصى أو روائي متخيل.. وحينما نعرف وندرك ذلك، يتمثل لنا الأمر في إكتشاف مذهل محيّر.. الأمر لا يتعلق بمجرد حكاية عادية مألوفة، فالنصّ الجيد بصفة عامة، يبدأ من حالة أو علاقة مضطربة تربك الحياة الرتيبة.. ضد ممارستها الطبيعية.. أمر ما يشكل إنعطافا في مسار أحداث،.. من هذه اللحظة، لا نعاني الضجر والملل.. تبدأ رحلة بحث مضنية ليأخذ السرد، شكل الحبكة المفعمة بالأسرار المتخيلة وكأنه إكتشاف غير قابل للتصديق يستعان به لإكتشاف هوية الكتابة وماهيتها.. هو دليل نرى معه وأمر ندرك به مسيرة كتّاب عظام وروائيين كبار،.. أن نعرف كيف تؤثر فينا نصوصهم.. وكيف تلقى هذه الحفاوة فى أنفسنا أهم الأعمال الروائية والقصصية.. خاصة فى مجال الرواية التى تتميز كنوع وسرد أدبى، بتعدد الأصوات من صوت الكاتب أو المؤلف، وصوت الراوى وصوت الشخصية الرئيسية.. وذلك، فى عملية تداخل يتراوح بين السرد ذى المستويات المتعددة، بل ويتعدّاه بطرق كثيرة من الحوار والوصف والحوار الداخلي أو المونولوج الذي يحاور فيه البطل نفسه حتى يصل إلى الحل الأمثل.. وحتى الدور الذى تلعبه جماليات المكان لأماكن أحداث ومناطق الرواية، وجماليات التقاطع الزمنى والتحولات المنطقية أو المفاجئة، من زمن إلى آخر،.. والأمر يتجاوز هذا إلى ما يتعلق بطبقات هذه الأصوات ومستوياتها وتداخلاتها، والطريقة التى يقدمها بها الكاتب، لتملأ النصّ حيوية نابضة، فتراه كشاشة واضحة، فى أحيان، أو فى غموض غير مرئي آسر يتواجد فى النصّ ويأخذك بعيدا، فى أحيان أخرى..  وهو سرد متنوع وخاص يشكل إيقاعا في فضاء السرد نفسه ويعدد مستوياته من الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة إلى جانب القضايا الكبرى.. هذا التنوع المعرفي الذي يثرى العمل.. وهناك من النصوص ما يغوص فى أعماق النفس البشرية، كاشفا عن المشاعر الإنسانية البديعة، وطبائع البشر الفريدة،.. تستطلع المجهول من شجون وهموم وأحلام،.. تفسر ردود أفعال الشخصيات وحيرتها إزاء الأزمات،.. تتأمل محنة الوجود والعبثية فى الحياة، باتجاه الماضي أو من الماضي نحو الحاضر.. كل ذلك لابد أن يتم فى منهجية فكرية، يدركها الكاتب جيدا..  وللرواية عالم خاص ينقلك تماما لرؤيته.. وهنا فقط يداهمك شعور تتأرجح فيه بين واقع الرواية وخيال مماثل تصنعه أنت تسير فيه أحداث تلك الرواية.. وهذه الفضاءات المتخيلة التى تنهض عليها تصوراتنا وتخيّلنا للمواقف والمفارقات والأحداث والشخوص التي يقدمها العمل أو النصّ، ونحن نقرأ...
لحظات
------ خالد العرفي
إستيقظت هذا الصباح على إحساس جديد، مستبشرا.. كمن يحتضن ذكريات، ليقول لها وداعا،.. الآن علىّ ألا أرفض إحساسى بموت أيام وأفكار بعيدة، علقت بذاكرتى.. تركت فيها ندوبا غائرة.. كنت أعرف أنها لن تعود.. كم أثارت جدلا، في نفسي.. ما أصعب أن أكون رجلا بلا ذاكرة.. لكننى لم أعرف ماذا أفعل إن رأيت أو أصبحت شيئا كهذا.. لا أرى الوجود إلا بلون أبيض فى بؤرة ضوء باهر.. بإستثناء هذا اللون الأسود الذى ينطق الظلال بجمالها لسبب غير معروف، إلا لتضاد تام بين نقيضين.. وكأننى كنت أعرف ذلك الرجل الذى أراه، يعيش في مملكة من الظلال فى مدينة  بلا اسم،.. كان من الممكن أن ينقطع الشفاء.. أن يموت الرجل، لكنه لم يمت.. كأننى أنظر لشاشات الأجهزة التى تلاحق أنفاسه.. تخبر أنه ما زال على قيد الحياة.. كنت أشفق عليه:
- لماذا لا يموت ويبتعد عن هذه الحياة الكئيبة..
الآن أستطيع تقبّل هذه الحقيقة.. الآن، أستطيع أن أنسى.. الآن أستطيع أن أكتب.. أن أقف بخيال جامح ينبض بدلا من الاستسلام كرجل بلا ذاكرة.. لم يبق حاليا في ذاكرتي سوى القليل عن هذا اليوم إذ سرعان ما رحلت ملامحه لمسافة بعيدة فى عالم الكتابة عاكسة حقائق بشأن أحوال الإنسان.. فى محاولة الالمام بتلك المعرفة، وبشكل كامل، وذاك الإدراك الفعّال فى مجال القصّ،.. وفى النهاية أقول: فى الثوانى اللاحقة لم يمت أحد.. أنا ما زلت أنظر بعيدا فى مخطوطة لم تتم بعد.. عن هذه السراديب المظلمة الغارقة في الضباب والغبار، بلا دليل.. كان هناك شيء من عاصفة محيطة.. تستكشف وجها لوجه أن فقط ما تراه فى عقلك هو الشئ الحقيقي.. فلماذا لم أكتبه قبل ذلك.. ولماذ لا أكتبه الآن؟
كنت كمن يتعرف على نفسي من جديد.. شئ مربك حقا أن ترى نفسك فى هذه الحال، ولا تملك إلا أن تتوقف وأنت ترى نفسك.. تتأمل،.. تضع هدفا جديدا.. تنجز آخرا.. يجذب انتباهك.. تستوعب.. تقول: مهم الآن، أن تكون.. أمورا مثيرة للاهتمام.. تطلق سراح أفكارك.. هذا هو المهم.. لكن الأكثر أهمية كيف يكون أمر الكتابة.. والحقيقة أننى لم أكن أكتب قبل ذلك، في حين بت أدرك أنها كانت أكثر من أربع سنوات منذ أن قررت أن أكتب بطريقة جديدة.. قطعت خلال تلك الفترة من الزمن، مسافة تخيلت أنها بعيدة، فى الوقت الذى كانت لا تزال تشكل بداية لطريق جديد.. وفي وقت لاحق لفهم ما يحدث.. كنت أرغب في وضع كل شيء في رأسي، على هذه الأوراق على نحو لم أفكر به من قبل.. كان من المهم أن أفهم شيئا: كيف تنتمي الكلمات لنفسى التى أدركها الآن.. أو أتخيل أننى صرت أفعل على نحو أفضل.. ولكن الكلمات كانت مكتوبة قبل ذلك فى عقلى، وكأننى أنا الذى لم أعد أنتمي لها.. لا سيما وأنى قد توقفت عن أعمال كنت قد شرعت فيها من قبل.. أعانى من عدم قدرة على إكمالها على نحو ما إعتدته.. ماذا غيّرنى.. ماذا رأيت.. ماذا أدركت.. وعلى هذا النحو كنت أتسائل: ماذا هنالك من هذا الضجيج.. فى هذا الشئ المسمّى عقلى.. تلك الأصوات العالية، من قبل عالم آخر..
في البداية، كان علىّ أن أعترف لنفسي أن هذه عملية غير عادية جدا.. أخطاء فظيعة كنت أقع فيها.. حينما لم أتحرر من قيود كثيرة.. ألا تعبر الأفكار عن نفسها كما أراها فى عقلى.. تلك المغامرة في مثل هذه المناطق الخطرة.. كان علىّ حقا التأكد من حقيقة الأمر فى نفسي، فإذا لم أقم بذلك، فلن أكتب.. ليس الأمر مجرد كتابة ناعمة، من أجل لا شيء.. فكما للكون الموسيقى الخاصة به.. فللكتابة موسيقاها فى العقل، منذ كان الهدف الحقيقي في الحياة.. كان من المفترض أننى أعرف ما كنت أفعله، أيضا.. وأتذكر هذه الليلة بالضبط.. كلمتان قلتهما لنفسي.. أكتب هكذا،.. هذا هو المهم.. وكان من الواضح عندما كنت أعمل على هذه المخطوطة، أنني لم أعد أعرف كيفية الكتابة بعد.. حتى أدركت أن القواعد قد تغيرت.. كانت قد بدأت أمورغريبة تحدث.. تترك فجوات غريبة بين أفكارى.. وفي الغالب لم أكن أكتب حتى الآن،.. حتى هذه الليلة التى كان من المقرر أن أنهى فيها أمرا.. إكتشفت أننى الذى كنت أنتهى بدلا من ذلك.. لماذا لم كل هذه الأمور تحدث؟  ماذا يجعلها تحدث؟
الفيصل، أننى أردت أن أكتب من جديد.. بدا لي أنه كان بإمكاني إعادة استخدام شخصيات كنت قد أنشئتها فى المسودة.. أكثر من ذلك، بدا وكأنه مكان جيد لملء الثغرات أنه حان الوقت لإدخال دراما جديدة لأكتب حقّا.. بالإضافة إلى خلق عدة شخصيات جديدة، في أدوار داعمة في هذه القصة، بجانب الشخصيات الرئيسية،.. كان ما زال أمامى الكثير للقيام بعمل جاد لإنقاذ الرواية، وإنقاذ نفسي معها.. عرفت أن تغييرا قليلا أو طفيفا يمكن أن يلقي بظلاله إما فى قوة العمل أو تحطيمه.. لكنني لم أقلق بشأن مثل هذه التفاصيل في ذلك الوقت.. وعلى الرغم من ذلك، لا أعرف إذا كان ذلك صحيحا، لكن بالتأكيد لا معنى له، إلا على هذا النحو القدرى الذى إكتشفت فيه كيف أكتب.. وكيف أستثمر ذلك فى نفسي. وفي اللحظات الأخيرة، وفي الوقت المناسب، نقول لا شيء يمكن أن نفعله حيال ذلك الآن، باستثناء الانتهاء من مخطوطة إستغرقتنى.. فى النهاية لا يوجد سوى أن تمضى بنا الأفكار ونمضى معها نحو الأفضل فى عالم كتابة حّقة.. كلمات تنطلق كجرس صغير يتصاعد رنينه في رأسي.. عندها تجد صوتك أنت، بدلا من جواب الصمت وعدم الشعور بالكمال، وأن هناك كثير من الأمور والأشياء تريد تغييرها، بعد بعض المفاجآت المثيرة للاهتمام.. تكتشف أمورا غير محددة.. وعلى محمل الجد أن تفكر في ذلك.. وربما في ذلك أمورا تستتبع إعادة كتابة المخطوطة بأكملها وأنت بحاجة الى مزيد من الوقت.. متردد بين أن تقول لنفسك: سأفعل ذلك.. أو لا يمكن أن أفعل ذلك،..  وهذا يعني أنه شئ من الجنون.. ولا مزيد من الوقت قبل إدراك كيف أنه كان من المفترض إعادة كتابة أو إجراء تغييرات جوهرية.. وإذا لم تتمكن من رؤيتها فلن يصبح هناك نصّا حقيقيا.. أخيرا، كيف تتوقع الانتهاء من عمل وأنت فى هذه الحالة العاصفة.. كما لو أنك يجب أن تتوقع وتعرف مسبقا ذلك.. وبعد كل شيء، تقول ها قد فعلت،.. لم أكن أنا قد كنت بعد.. هو ما قمت به فعلا،.. ومن تلك النقطة بالنسبة لك، لا يمكنك الانتظار أكثر.. تفقد السيطرة على المخطوط،  وأنت فى حاجة لتفعل ما كان متوقعا فعله.. وبكل معنى الكلمة، يهرب الأمر من بين يديك وأنت معه.. وكأن الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تقوم به أن تتسائل متى تأتى هذه الأشياء العظيمة المسماة الأفكار وكيف تنبنى وتستمر.. بطبيعة الحال وبعبارة أخرى، كيف يمكنك الحصول على نفسك من خلال فكرة كبيرة.. وبحلول نهاية العاصفة ليس هناك طريقة لتعرف أنك فعلت، حتى ترى نصّك بين ناظريك.. على الأقل تقرأه وتقول فى النهاية: أخيرا فعلت.. حسنا، أيا كان ما شعرت به حقا، قبل وقت قليل، هو أننى كنت ما زلت في منتصف الطريق فقط، ولا يمكننى أبدا مواصلة الأمر أو أستطيع دون هذا الشعور الغامض،.. وفي وقت لاحق أقول أما زال يمكننى أن أكتب كما كنت.. بالطبع لا.. كانت مرحلة جديدة وأن أحاول بعناية فائقة وبشكل جدي، متحديا نفسي على ذلك بهذا الرهان.. أخيرا حصلت على بداية سليمة.. لذلك بدأت كتابة روايتي.. في الواقع بدأت المتعة الحقيقية، في مكان آخر،.. تتمة مثيرة لرحلة كتابة لا تنتهى، أكثر دهشة من أي وقت مضى..
فى النبوغ الأدبى
-------- خالد العرفي
لا شك أن النبوغ الأدبى يشتمل على عناصر كثيرة، من التجديد وروح الإبتكار. وهنا تظهر أهمية الإدراك الكبيرة للموضوعات، التى تتعلق بالنصّ والسرد الأدبى. وهى نوع من مقاربات تحدد القيم الفكرية والجمالية لمَ نقرأ.. وعلى صعيد آخر، تعتبر محاولات ترصد عناصر الظاهرة الأدبية، وخصوصيات الإبداع الأدبى،.. مما يساعد على إستخلاص الملاحظات الجوهرية، التى تكشف عن إشكاليات الكتابة الفعلية، وكيف تكون، فلا يمكن أن يكون الأمر على أية حال، مرتهنا بمسألة الإلهام فقط.. وهذا الطرح لهذه الموضوعات بوصفها، يعبر بدوره عن أهمية المعرفة العميقة، بجوهر الإبداع الأدبي وهو السرد الكتابى، مما يسهم بشكل كبير، في نضج التجربة الأدبية وبلورة سماتها، ويؤدي إلى نتائج ذات أهمية كبيرة، لبلوغ مدراك إتقان، لا تقف عند حدود،.. فيما يختص بماهية الكتابة ذاتها،.. أو فيما يصطلح على تسميته الإبداع. ومن هذا القبيل، لابد من حرص الكاتب على بلوغ هذه الإحاطة بالكتابة السردية وعناصرها، إضافة إلى إستلهام ضوابط الأنواع الأدبية الأخرى ذات الطبيعة المماثلة والمرتبطة بها، رغم أنها حقول متداخلة يصعب تحديد الحدود الفاصلة بينها، إذ تتشابك عناصر كثيرة وعوامل لا يمكن حصرها، ولا تنتمي إلى مشرب واحد، فى عالم الكتابة. وعلى هذا النهج، وعلى الصعيد الإبداعي، في مضمار الكتابة السردية، لا يمكن إغفال أن طبيعة النصّ ببنيته وعناصره ومساراته المختلفة، ليس مجرد أداة للخطاب الأدبي، إنما النصّ الحقيقى ما يلمس الروح، قبل أن يخاطب العقل.. وعلى أية حال، فإن السرد عموما يرتبط بصلات وثيقة، وبعناصر رئيسية تكوّن إختياراته الجمالية وتحدّد مسارها بين جانبي المضمون والدلالة، التى يحملها النصّ.. كما أن دلالات السياق فى الكتابة السردية، تلعب دورا كبيرا، في عملية تشكيل رؤية القارئ، وإلتماسه عناصر التفسير  من مظانها المتباينة، ممّا يحيل على ملامح جوهرية يمكن أن توفر القدرة على تحليل المتن، دون أي حكم مسبق أو إستنتاجات غير حاسمة. وهذه التبعية للقواعد المعرفية المؤسسة للسرد الأدبى، قد أمست بالفعل ذات علاقة ملزمة، في جانبيها المضمونى والدلالى، فى ظلّ تعدد الأنواع الأدبية السردية. وهو أمر يسهم كثيرا، فى الكشف بوضوح، عن مرجعية السرد الأدبى وبنيته وأبعاده، مما يسمح، وبصفة خاصة، بتقييم التجارب القصصية والروائية، والتجربة الإبداعية وبصفة عامة تقييم الإنتاج الأدبي فى مجموعه.. وغني عن القول أن القراءة الواعية تخضع هذه الملاحظات للفحص والنظر الدقيق. كما أن الكاتب الواعى، لا يتوانى عن الوعي بهذه الضرورات، وعن الإهتمام بقواعد الأداء ذاتها، التى تبلور أفكاره، بعيدا عن جمود وخضوع إلى لا شئ.. الأمر الذى يؤدى فى نهاية المطاف، لانصهاره الكامل فيما يكتب، صوب سرد فريد، يستثمر فيه الضوابط التى ترسخ، لرؤية يحملها عن النفس والحياة والعالم، والذاتية والآخر،.. مما يتجاوز تجليات الإلهام ومراحل تطوره ..
حالة خاصة
------  خالد العرفي
 لبعض البشر حالة خاصة.. نوع من الجاذبية غير معروف سببها. ربما لم تكن تعرف شخصا ما من قبل، وما إن يقع ناظراك عليه تجد نفسك أسيرا مشدوها. تندهش أكثر من نفسك أنت، وأنت تحاول فاشلا أن تعرف سببا لهذه الحالة الغريبة، التى تصيبك. حالة نادرة، تتوقف معها الحواس ولا نشعر بها إلا حياة فى طيف. فى نهاية الأمر لا نجد أنفسنا، إلا ونحن مقيدون بالتفكير الدائم به. ولا سبب إلا أن نقول فى النهاية، إنها الروح ولا غيرها. شفافية ورٍّقة ونور. ما ينفذ إلى روح أخرى، بل ويخترقها.. تكاد ترى ما بداخلنا وإن لم ننطق.. ويقول الصمت كل شئ. ينعدم إحساسنا بمرور الزمن، وتتمنّى أن تظل اللحظة أبدا. ونحلم أن تستمر إلى ما بقى من عمر. غريب أمر أرواح تتآلف، وإن لم تتقابل من قبل. وربما يكون هذا السبب الأعظم فى الحبّ. وأغرب أن تتألم به وتتعذّب.. تتلاشى به الأرواح فى كل همسة، وكل ذكرى.. ربما فى كلمة. ربما فى تنهيدة. ربما فى نظرة شاردة.. فى أرق.. فى قلق فكرة.. وربما فى لمسة، لم تكن يوما.. لذلك أن تعيش قدرا غريبا، فتكتب.. فهذا بإختصار ما يحدث.. ولا تعرف تماما أين تلك الضفة الأخرى من الحياة، إلي حيث تغادر الروح.. حينها فقط تشعر أنك تريد أن تكتب، ولا تريد غير ذلك.. وربما تحيا من بعدك معان، تحمل شيئا من ذاتك، لمن لا تعرف أنه قارئ لك ذات يوم.. وتنازعك الرغبة بين ضفتين تمتدان بين واقع وخيال.. بين ممكن ومستحيل.. وهنا نكتب من قلب هذا الشئ المسمّى الألم.. بين ما نريد وما لا نستطيع.. بين ما يصفك ولا تستطيع وصفه.. فى هذه الدائرة الموصدة، وفى حلم وراء حلم.. وربما ما يمكن أن يكون النوع الوحيد من الوهم الجميل فى الحياة.. ضد الواقع وضد كل شئ، لا يعطينا جوهر الحياة.. وكم من وحيد بين الناس يحيطون به ويأنسون.. وكم من غريب، فى فيافى الحياة، آنس بكل شئ، وبالوجود يأنس.. غريبة حقا هذه الحياة، وأغرب أن تدرك ما فيها من مآس.. تخفيها ملامح الحياة، وتواريها أنفس غريبة، إلتقت قدرا.. وربما إفترقت بين ضفتىّ الممكن والمستحيل،.. بين الواقع والخيال.. فى دائرة إنتظار، لما لا يأتى أبدا،.. لمَ لن تراه،  إلاّ فى أحلام يقظة، أو أضغاث أحلام.. وربما فى حالة واحدة.. حينما تغادرنا الروح ولن تعود، من تلك الضفة الأخرى البعيدة.. ولن يكون هناك من يجيب عنّا حينئذ أين ذواتنا.. كيف كان مصيرنا.. ما ضاع منا ضاع.. غير تلك الأسفار.. وما يبقى من بعدنا غير كلمات، تاهت بين ضفتىّ ما نعرف وما لا نعرف.. وفى لحظة يدركنا ما يدرك من أنفسنا هذا المصير العجيب، حتى نظلّ نكتب لمن لا نعرف.. بقدر غريب.. وهكذا يصبح الكتّاب والأدباء فى قبضة الخيال.. يحيون هذا الإحساس العظيم الذى طالما بحثوا عنه.. الكتابة.. ومن معاني الحياة نفسها، وبشكل ما، أن تختفي الإجابات، نهائيا.. وبدون المعرفة، ودون تحديد يستحيل اليقين، حتى تقف أمامها ، قائلا.. لا أعرف.. لا أعرف.. ينقلب كل شئ من جديد، إلى سؤال عن مبتدأ هذا الشعور ومنتهاه ومآله،.. ومن نسيج الحياة وصيرورتها، توالى الأسئلة المحيرة.. أن نكتشف أنها لم تعد نفس الحياة كما عهدناها، أو فيما كنا نحسب.. شيء لا يحتاج إلى تبرير، وأمر لابد أن يمضى دون سؤال.. مصائر إلى فراق وعدم، أم إلى بقاء في ألوان وجد وفقد.. وتطوي تلك السرائر محترقة، في ومضات خاطفة.. وهو ما يغلب على فعلنا فى الحياة الغريبة.. ولا يبقى إلا الذكريات، بعد أن تكون قد مضت بنا خطواتنا، إلى مقام سراب.. بأي معنى، نتجاوز الوصال مع المعرفة، إلى علاقة وجد وألم، وفقدان لليقين.. منفي للذات فى آخر.. ولا يروم علاقة كهذه سوى يقين، من نوع آخر.. أنه القدر ولا شئ غيره.. نفقد الشئ، فنعرف أننا لن نعوّضه،.. ومن هنا يأتى الإحساس بالفقد.. وأشدّ فقد أن تفقد ذاتك، فلا تعود.. من رحلة شاقة، لعبور الروح، إلى سر الوجود.. رغبة في البقاء،.. رغبة في لحظة تجلي للحقيقة.. وأن تكون ..وأصعب صداقة أن تصادق كاتبا أو أديبا.. لذلك، فإن من الأدباء والكتّاب من يعزف عن الناس.. فإذا سألت أحدهم لمَ؟! أجابك خوفا عليهم..! فإن تأملت الإجابة وجدتها صادقة، إلى حد كبير.. وهذا يذكرنى بمقالين كتبتهما بعنوان (صوت المكان وظلاله - وظلال الكلمات).. فالكاتب طائر يحلق هنا وهناك، بأفكاره.. وليس مسئولا عن أثر ما يكتبه، على من يعرفهم أو يعرفونه شخصيا، ويقرأون له.. كلُ يرى ما يحلو له.. يؤول ما يهوى.. أن يكون من تفسير ورؤية، يسقطها على نفسه.. فرحا وحزنا... سعادة وإحباطا.. وغير ذلك من أحاسيس ومشاعر وهواجس نفسية، قد تصيب لسبب ما، مثل هؤلاء وأولئك، وهو يكتب قبل أن يعرفوه، وبعد معرفته.. وهناك من بطبعه ليس إجتماعيا،.. والوقت بعيدا عن الناس، أفضل كثيرا، من القرب منهم.. فما بالك من يحتاج وقته، لعمل أو تفكر أو قراءة..،.. وغير ذلك من شأن.. أكاد أجزم أن غالبية ندرة البشر هذه، من الكتّاب والأدباء، تكاد تنحصر فى نوعية من الصداقات النادرة جدا، مما يطلق عليه بصديق العمر.. صداقة خالصة عن كل غرض ومصلحة، وبعيدة عن كل تأويل وتفسير.. ليس فيها تملق أو رياء أو نفاق أو مجاملة.. يكون فيها الكاتب أو الأديب بمنأى عمّا يعكر عليه صفو حياته.. طائرا حرا، وأفكاره وخياله.. لكن ليس هذا أن يكون المرء بعيدا، عن الناس أو فى جزيرة منعزلة،.. إنما المقصد أن يكون وشخصيته وإبداعه، وسط الناس وليس منهم فى شئ.. ينتمى إليهم مكانا، وبعيدا عنهم فكرا وتأملا.. فالأفكار عادة منبعها الواقع والناس والمواقف التى نقابلها، فى الحياة.. قدرا من حقيقة، ينبنى عليه الخيال ويتسع، ويكون الإبداع، وتكون الكتابة.. كما أن هذا لا يعنى بالمرة أن المسألة تعتبر لغزا مستغلقا، الأمر ببساطة، حرية القلم وصاحبه، كيفما وأينما ومتى كتب.. دون أن تقيده قيود، أو تعيقه أفكار عقيمة، عن أن يكون.. وهذا جزء ضرورى من حرية القلم وحرية الكاتب وأفكاره، وإلا لن يكتب شيئا حاسبا لكل كلمة أثرها على هذا أو ذاك، ممن يقابلهم فى حياته العادية، مثله مثل كل البشر.. الكاتب فى النهاية إنسان، وسط الناس، إنما قلمه، طائر محلق، فى رحابة السماء، متى وكيفما شاء، ضد متناقضات الحياة نفسها، حتى نكون..
 وأحيانا كثيرة حينما نقرأ نصا أدبيا سواء نثرا أو شعرا ونجد له ظلالا فى النفس قوية، لها أصداؤها وتأثيرها الكبير فى الروح. ونبحث عن السبب فى ذلك، ونتفحص النص، فإننا نجد كلمة أو كلمات أو صيغا بلاغية مستقاة، من القرآن المجيد.  وما كان للنص أن يترك أثرا، لولا وجود تلك الكلمات، التى تعطى رحابة وبحارا واسعة، يأخذ جمالها بالنفس. وهذا هو السبب الأساسى، فى بلاغة أدباء عظام، أمثال الرافعى والمنفلوطى والعقاد وباكثير وغيرهم. مما يبينه التناص مع القرآن الكريم، والذى يخفى على القارئ، إلا لمن له خلفية وقراءة واسعة. بل وبات الأمر، محل دراسات أكاديمية تكشف هذا الوجه الهام، من جماليات القرآن الكريم  بل ومن أسرار إعجازه. وهذا الجانب شدّنى منذ فترة مع شغفى بالقراءة فى مصنفات إعجاز القرآن الكريم. فمن الأمور المحببة للنفس والآخذة بلبّها أن تغوض مع كلمات القرآن وهو الأمر ذاته الذى دفعنى منذ فترة لمحاولة الكتابة فى وجه من وجوه الإعجاز الذى يقف الإنسان أمامه مذهولا وهو الإعجاز الموضوعى للقرآن. فما من أمر أو موضوع أو مسألة إذا أردت أن تبحث عنه فى القرآن كتاب الله رب العالمين إلا ووجدت لها حقيقة موضوعية كاملة ومطلقة ليس بعدها من حقيقة. وأدعو الله تيارك وتعالى أن يوفقنى قى تقديم هذه الجانب وتحديدا فيما يتعلق بالحقائق الكونية والفلكية فى القرآن الكريم بصفة موضوعية. 
صوت المكان وظلاله
------  خالد العرفي
من أجمل ما يمكن أن يقابل الكاتب والأديب قارئ يقرأ أعماله بالقراءة متعلقا به، ويقدره.. الأجمل أن يقتنع هذا القارئ بما يقرأ، حتى يظن أن الكاتب هو كل الأبطال الذين يكتب عنهم فى أعمال قصّا ورواية. إن خيال القارئ فى هذه الحالة أكبر من خيال الأديب. فهو يلبسه كل سمات تلك الشخصيات التى أبدع فيها. فبلا ريب أن عدد الشخصيات الخيالية فى القصص والرويات يفوق ذهن القارئ ومن هنا يتصور أن كاتبه هو من يقرأه. وليس بشرط أن تكون هذه الشخصيات حقيقية من الواقع. فالمبدع عامة، خياله خصب وهو يبنى العمل كله من السرد القائم على عنصر الخيال. وإلا كان كل روائى وقصاص هو كل تلك الشخصيات التى نقرأها له. وهناك أعمال أدبية عظيمة لأدباء تعدت شخصيات العمل العشرات فى العمل الواحد بين نساء ورجال. أنظر مثلا لأعمال تولستوى وبلزاك وغيرهم عالميا. وعريبا محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان والسباعى وغيرهم. بالكاد تستطيع حصر عدد شخصيات كل عمل، مستغرقا معهم. إن نجاح الأديب فى أن يصل بالقارئ إلى مرحلة من التلقى يتصور فيها أن ما يقرأه واقعا هو فعلا نجاح له. وقد ذكرت فى مقال سابق أهميه دور الخيال الموصل إلى الإيهام بهذه الدرجة الفعلية فى ذهن القارئ. ومن قبيل التذكر العجيب تذكرى أنى كتبت مقالا آخر منذ فترة عن مشاهدات حفرت فى ذاكرتى من الطفولة. ومنها ما أسميته بالرجل القطار، وجاء ذكره فى المقال أشبه بقصة قصيرة ولكنها من الواقع الفعلى، وتخيلت فعلا باسما لو أننى فعلا هذا الرجل البخارى هائما والها، كالرجل وأبيت بين القطارات وأقطع طول وعرض المحروسة من الشمال إلى الجنوب، بدلا من طريق بمدينتى الساحلية. إن قوة الكاتب فى قوة خياله بالدرجة الأولى والتى لا تأتى فى لحظة إنما ورائها سيل من القراءة والتدبر والنظر فى الحياة. فربما إستفاد الأديب من خبر يقرأه هنا أو هناك، وربما مشاهدة عابرة فى طريق، وربما من شخصيات فعلية قابلها فى حياته. وربما من ذكريات تستدعيها الذاكرة. إن أدب ديكنز تقريبا كله مبنى على إستدعاء ذكريات من الماضى ومشاهدات فعلية فى لندن الفيكتورية. وعظمته فى توظيف هذه المخزون الهائل الذى نقرأه فى أعماله العظيمة. ولدينا محفوظ الذى صرح بأنه كان يسقط على شخصياته التى كتبها مما قابله فى الحياة. فى الواقع على الأديب أنا ينصت لكل شخصية يقابلها ليستفيد من وجه الحياة هذا. فأنت لن تكتب عن محام أو مهندس أو عامل أو طبيب وغيره، دون أن تعلم لغته وطبيعة عمله. هذا تماما كمعرفتك بتفاصيل المكان والزمان الذى تكتب عنه. وبدون هذا لن تكون هناك جماليات أو قيم فنية فى العمل يشعر بها القارئ ولن تكون هناك قوة إيهام وليس هذا معناه الإستغراق فى التفاصيل إنما للغة كذلك لها دورها فأنت عندما تكتب عن الريف غير ما تكتب عن البحر أو المدينة. وإذا لم تنعكس اللغة وتلك القيم الجمالية مع عناصر العمل فلا أشعر أن هذا العمل يستحثنى لأكتبه. وعادة يكون دور الخيال فى الربط بين هذه العناصر أعمق. فأوقات اليوم لكل منها سمته وتأثيره فالفجر غير الشروق غير الضحى غير الظهر غير الأصيل غير المغرب. وهذا ينعكس على طبيعة النشاط الإنسانى والحالة النفسية. فما بالك فى موقف أن تصفه فى قصة أو رواية يدور فى ساعة من هذه الساعات. مع ربط الوقت بالمكان فيختلف الأمر تماما. فالغروب تراه من قطار بخلاف ما تراه على أفق صحراء أو ارضا زراعية أو بحر، فإن ربطت بين الزمن والمكان والحالة النفسية للشخصية أو البطل مع تأثير القصّ بصوت الراوى أو حتى الحوار فأنت فى طريقك لإيهام القارى بصهر هذه العناصر مجتمعة، فى بوتقة واحدة.. أنا قد يستغرقنى مثلا النظر فى واجهة مبنى متنقلا ببصرى تلك الزخرفات والجماليات وربما أتخيله وهو يبنى.. وربما أبحث عن تاريخ المنطقة التى أكتب عنها وبدون هذا لا أقدر أن أكتب عن المكان وهذا يذكرنى برواية الرحيل شرقا والتى اهتممت بعنصر المكان وتدور أحداثها فى الاسكندرية. فأحداث الرواية تتراوح بين الحى الراقى كفر عبده فى منطقة مصطفى كامل باشا ولوران وسيزينيا وبين مناطق شعبية قديمة، وأماكن أخرى عديدة. إضافة لطبيعة المبانى التى تسكنها الشخصيات فتؤثر عليها وعلى سلوكها وبالتالى فى العمل. هذا أسميه صوت المكان وظلاله التى تلعب قدرا كبيرا من الأهمية فى العمل مستفيدا كثيرا من المراجع والمصادر التى تتحدث عن ذلك.  من هنا لا أندهش لقارئ يتوقع أن يكون ما يقرأ حقيقة، فأنا أحاول بقدر المستطاع، إيجاد هذا فى العمل مع الحبكة التى تطاردها فى نفسك وخيالك فقط . عامة، هى ملاحظة عابرة، تولد منها هذا المقال المختصر ربما أجد فى يوم من الأيام أديبا كان كل هذه الشخصيات فى الحياة التى يكتب عنها، وهذا مستحيل، إنما القراءة ومعايشة وملاحظة الحياة بالوجدان ودور الخيال، هى ما يجب أن يتوافر عند كل مبدع.
 



 
مقالات
 فى الفن والجمال
---- خالد العرفى
- كلمات فى الفن والجمال
- ومضات جمال
- الفن والروح " قلب الرؤية"
- من أسرار الضوء والظلّ
- من لغة الفن



من لغة الفن
----- خالد العرفى
  تلك اللغة العميقة التى تصل إلى التخاطر.. إلى ما وراء الطبيعة.. لغة وجود.. تفهمها الأرواح. تتسلل معانيها إلى أعماقها.. هى لغة للفن.. من لون.. وضوء وظلّ وتشكيل.. رؤى تستمر ويقرّ نورها فى عمق النفس.. آخذة حروفها من مفردات الكون والوجود.. بحار وجبال وسماء وأرض ونجوم.. زهور ونباتات وكائنات ومخلوقات.. وهذا من عظمة الفن، لا أدرى أم من شفافية أرواح.. يدركها أثر الجمال، موجة بعد أخرى.. تتعمق فى تفاصيل، لا يمكن إلا أن تلمحها الأرواح الصافية.. وعلى سبيل المثال من جماليات الماضى، ما يظهره تاريخ التصوير الفوتوغرافى فى لقطات سجلتها ذاكرة صندوق الكاميرا.. الأبيض والأسود.. حاول مثلا جمع مجموعة صور لحقبة تاريخية ولتكن من القرن التاسع عشر أو بدايات العقد الأول من القرن العشرين.. ثم حاول مثلا تأمل أعمدة إنارة خشبية.. إتجاهاتها  وأطوالها.. تجد أشياء عجيبة آسرة.. رغم التشكيل الموحد تقريبا إلا أن نوع الأخشاب التى صنعت من أنواع أشجار محددة يعطيها ظلالا وتأثيرات فريدة، مع وقوع الضوء عليها ومصدره، خاصة  الشمس.. خذ مثالا آخر.. أشكال الأفاريز الحجرية وتكويناتها الجمالية فى واجهات العمائر والمبانى.. بل وأشكال الدرج ونوع أحجاره.. شكل الشرفات وطرازتها وزواياها.. المداخل وأمكنتها.. أبراج البنايات وقبابها.. عشرات الأمثلة.. ومنها وسائل المواصلات القديمة.. مثل العربات التى تجرها الخيل.. أشكالها.. دواليبها.. صناديقها.. أنواع أخشابها.. ومنها طرازات عربات البريد ونقل البضائع والموتى.. حتى صناديق البريد.. ومنها الخشبية على أبواب المنازل.. والحديدية تتمركز فى الطرقات والشوارع.. أشكالها الصبّ البديعة.. أعمدتها.. سواترها.. حتى حركة البشر وأمواجها.. من عابرين وسائرين.. وقوف وجلوس.. أشكال وملامح، وأردية.. نظرات ولمحات.. رجال ونساء وأطفال.. شباب ومسنين.. أين هم ذاهبون.. ومن أين أتوا.. رتم الحياة، ووتيرته.. صنائع وبدائع.. لا يمكن أن يلمس أو يصف مثل هذا التأثير، إلا تأمل روح سابحة فى أسرار الضوء وأعماق الجمال وبدائعه، من آثار الماضى.. أسرتها صور فوتوغرافية بين الأبيض والأسود.. والضوء والظلّ..
وعلى نقيض رمادية ضباب وسحب الشتاء التى تجلب إكتئابا للنفس، فرمادية الصيف المشبعة بضوء الشمس تفتح الروح على ذاتية، والنفس على وجودية من نوع خاص.. فكما للفصول ألوانها ومغزاها مما تعكسه كاميرا التصوير الفوتوغرافى فى صور الأبيض والأسود، تجد تماما للنفس البشرية فصولها هى الأخرى، أو حالاتها النفسية التى تعطى اللون دلالته وعمقه وأثره الساحر، فى الروح،.. حزنا وفرحا، مما يفتن العين ويأسر النفس ويخلب اللّب.. وهذه من جماليات الصور الفوتوغرافية، التى تنفرد بها عن غيرها من أنواع الفنون الأخرى.. فضلا عن أثر تدرج وعمق لونيها ذاتهما، بين الأبيض والأسود، والتناقض الذى يزيدهما جمالا ودلالة، زِد على ذلك موضوع الصورة وزاوية التصوير، منفتحة كانت أم منغلقة.. مركزة أم واسعة.. وقد أشرت من قبل، لبعض مفردات تلك الموضوعات خاصة التاريخى منها.. وهى نفسها مفردات الحياة من بشر ومخلوقات.. عاديات وأشياء وموجودات.. طرق وعمارة وبنايات،.. وغير ذلك.. ولعلها تكون من نفس جماليات الفن السابع، التى تعطى أفلام الأبيض والأسود رونقها وسحرها.. حتى فى الأفلام التسجيلية القديمة التى سجلت ويلات الحروب أو أحداثً تاريخية.. فى إشارة صامتة ترصد إلتفاتة زمنية أو واقعة على ضفاف تاريخ إنقضى.. فى تلهف إلى خلاص من ماض باهت ضامر.. لم يبق منه إلا أطلال من رحلوا.. لكن، ورغم ذلك، فالعين بين حين وآخر، تظل تستدعي فى حضور اللحظة ذكريات ما انقضى، وأبقته لقطة فوتوغرافية، من فصول أحزان طويلة، أو بزاوية الكاميرا سجّلت ما حدث يوما ما .. ناشدة فردوس حياة مفقود، عبر خطي الحاضر، لكن في عالم جمال خاص، لا تلمسه إلا الروح..
وعلى ما يبدو، فإن فلسفة الجمال تدور حول  معانى الجمال ومصادره.. مما ينهض فى النفس والروح، من أثر.. ويعاودنا أثرها من جديد وتثير تساؤلاتنا.. يتعاظم صداها الساحر، وتختطفنا حالاتها الغريبة، بتأثيرها الغامض.. معان نفسية تعجز العقول عن الوصول إلى مكنونها وجوهرها.. ومثلما تكون لمسة الجمال مؤثرة مثل علامة فارقة، فإن أكثر ما يكون من التداعيات الروحية هى تلك المناحى المعرفية التى تحلق بنا بأجنحة كموسيقى غيبية.. ويختلف التعبير الجمالي من فن إلى آخر، وبين لون وآخر من ألوان الإبداع، بمقتضى طبيعة كل لون، وتجربة كل مبدع. وباختلاف غموض هذا التأثير للغة الفن، يحاول المرء أن يتلمس أسبابه.. وعلى نحو أكثر دقة، ما يبلغه من حالة تثير الإلهام على نحو غير منظور.. وما هو بمثابة روح الإبداع على هذا النحو الغريب. وهو ما يستدعي أحيانا أن نقرأ فى فلسفة الجمال ونظرتها التى تساهم، فى مصداقية أكبر وتكامل نظرتنا إلى الكون والوجود.. وبقدر ما يختلف نوع فنى ما عن آخر بقدر ما يظهر من وحدانية منبع التأثير الوجدانى للفن على وجه العموم.. وليتوالى ويتنامى هذا التأثير مستوى بعد آخر، بمَ له من سحرية وأثر ويمسّ جوهر الحياة تماما كلغة رواية ما. ومن هنا أمضي إلى النظر، إلى نقيض الجمال كنقيض للحياة نفسها، بما يكمن في أعماق في خفايا القبح التى نراها فى كل مكان، تماما كالنفوس المظلمة..
---------------------------------

كلمات فى الفن والجمال*
---- خالد العرفى

الفن ضرورة حياتية، تعبيرا عن الذات.. كناتج إبداعي، إنعكاسا للأفكار، وترجمة للشعور، ورسما لصورة الوجود، والكون والحياة، من حولنا.. حيث، يهبنا الفن عوالم جديدة، تحاكى معانى الطبيعة، بإعمال الخيال، والحسَّ المرهف، والذوق الأصيل. ومن هنا، نجد أن للفن دورا عظيما، فى الوجدان، ريّا لظمأ الروح. ففى خيال لحظة ضوء، يولد جمال الكلمة وتسثيرك لمسة فكرة، لأوتار العقل. كما فى شروق ذهبىّ للشمس، على الوجود، فيهتز لها، حنينا وشوقا. أو إنبلاج قوس قزح على البرية، بزهو ألوان الحياة، فتربو. هناك من الفن، ما يراه القلب ويعاينه، كما تقرأه العين، وهى تصبو لمكنونه المُشرق. فى الجمال نسمع موسيقى الوجود صادحة، ونرهف لعذوبة لحن الكون، يملأ أركان أسماع الأحياء، صوته. ومع تأثير جمال الفنون، يفيض الوجدان البشرى ببصيرة، بمَ لا تراه أعين فانية. 
ومن جوهر الفن، إشراقه فى النفس، وعلى الكيان. فربما نجد تأثير لمسة الجمال، تغمرنا بالدفء، فى عمارة مبنى. أو أثر. أو جدار، أو أعمدة أو درج حجرى.. إلى لوحة زيتية مرسومة، أو لقطة فوتغرافية. فى تمثال. أو بورتريه. زاوية لكاميرا. فى الظل. النور. الليل. النهار. الغروب. الشروق.. فى درجات الدفء لكل لون. فى مرآة منظر بعد لحظة مطر، .. أو تباين فى أطياف الأبيض والأسود. فى الظلال.. فى كل شئ، يمكن أن نرى ذاتية جمال،.. ونشعر بكينونة الطبيعة، نابضة بالحياة، تتسلل لأنفسنا. وكما فى الفنون التشكيلية، يسافر بنا الخيال، ليلمس أعماق النفس، وخفاياها. لا ريب أن الفنون والجمال، هما روح الحياة، وذات كل معنى. أبدا، لا غنى للإنسان عن  عالم الفن، والجمال، فى الطبيعة والكون. يحثه ويستثير خياله، فيضا وراء فيض، وإلهاما من بعد إلهام، فى دروب الإبداع، والفنون وأصعدتها، مهما كانت صورها، وأنواعها.
وما أروع الجمال الصادق، الذى يغرسه كل هذا فى النفس، بدفء من مشاعر، وإشراق  لأحاسيس.. لمسات حياة، ولحظات ضوء نيّرة، فى أغوار الروح.. ننتظرها، ونبحث عنها، لنرى معها حقيقة الحياة، وتنجلى أسرارها المدهشة، حياة للإبداع نفسه. إجابة لمَ نكتب، وكيف نكتب، وهى إشكالية الكتابة الكبرى.. هى اللحظات النادرة للإلهام، وصفو الفكر، والفن. صميم كل عمل لمفكر، وأديب، وفنان.. حفزا للأفكار وتنوعها، ومبعثا للخيال الأدبى الذى هو عامود الكتابة، ومرّده. علاوة عن، كونها، إطارا لرصانة النصّ، وجزالة العبارة، شكلا ومضمونا.. هى ما يجعل النص لوحة صادحة، وأثرا من جمال الروح البّراق.. ليس فقط جمال الفكرة، إنما الأسلوب، واللفظ، ورونق الكلام.. ومن جمال الأدب والفن، أن كليهما رسول الأرواح، للسمو،.. أثر رؤية عمل فنى، أو سماع قطعة موسيقى، أو القراءة لنصّ أدبى، على حد سواء. 
ولعل هذا يظهر فى جماليات الفنون كلها، ومنها الفنون الدينية، التى تخاطب الروح، مؤثرة فيها، تأثيرا بالغ الأثر، أيا كانت العقيدة، منذ تاريخ الإنسان البدائى، ومرورا بالديانات السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام.. فمنشأ كل هذه الفنون، هو السعى للسمو الروحى، وإرتباطها بالمعتقد الديني، والتعبير عن وجهة نظر، ورؤية الإنسان للكون والحياة، من حوله، وفق هذه العقيدة، فى أبدع صور التعبير المادى واللامرئى. 
وعلى سبيل المثال، يكفى الإشارة إلى الفن الإسلامي الفريد، وما يزخر به، من نقش وحفر على الخشب والجدر الحجرية، والخط العربى بكل أنواعه، والأرابيسك، وغيرها من أنواع الفنون الإسلامية التى تتعدد أشكالها، وصورها الكثيرة.. تخلب اللبّ، آسرة الوجدان. ومنها الفنون المادية كالرسم، وعمارة المساجد، أو فى بناء العمائر والقلاع والدور، ممّا امتازت به الحضارة الإسلامية.. وحتى فى الكتب والمخطوطات.. وأيضا منها، النحت والفخار والنسيج والزخرفة، التي امتازت بها الفنون الإسلامية. ومن أبرز موادها المستخدمة الرخام، والآجر، والفسيفساء، والجصّ، والخشب، والفخار والخزف، والعاج.. بإختصار، صناعة الجمال ظاهرا وباطنا، هي وظيفة الفن الإسلامي، فى أى شكل فنى، بمضمونها، بمختلف أنواع فنونه وأشكالها، معبرة، عن حقائق الوجود من زاوية التصور الإسلامي، وإستلهام روح العقيدة والحضارة والثقافة الإسلامية. 
كنت أفكر فى هذه المعانى، وتفاصيلها، أثناء كتابتى لمقال عن الفن، مردفا به شئ، عن فلسفة الجمال (ضمن مجموعة مقالات شراع سفر). وهو مقال، أنشره قريبا، كاملا، بإذن الله تعالى.. وألفيت نفسي، متطرقا لفصل من رواية غصن الحياة، فعدّلت به فقرات كاملة، تأثرا بفكرة المقال عن الجمال، فى الطبيعة، ودورها، كخلفية، فى مشاهد تدور أحداثها على ضفتى نهر النيل، بمدينة ملكال السودانية، عاصمة ولاية أعالى النيل، الحدودية بين الجنوب والشمال. وهى نقطة التقاء فروع النيل، من بحر الجبل وبحر الغزال وغيرهما، لتكوين النيل الأبيض، الذى يصل إلى الخرطوم، ملتقيا بالنيل الأزرق، ليكوّنا معا شريان الحياة. ومع الإنفصال إثر الصراع العنيف الطويل فى السنوات العشر الماضية، قبل أن تصبح ملكال، حاليا تابعة لدولة الجنوب. 
وملكال هذه، هى أولى النقاط التى وصلت إليها بعثات الرى المصرى بجنوب السودان، مكونة من عشرات المهندسين والعمال والإداريين، حينما أُرسلت فى عهد الملك فاروق، مدركا قيمة بلدان منابع النيل. وقد أقامت الحكومة المصرية فى عهده،  مقرا دائما لها، فى ملكال، يضم مقياسا للنيل، ومرسى نهريا، وغير ذلك. وللبعثة أراضٍ ومبان، فى ملكال تمتد من شمالها إلى جنوبها، بمحاذاة النيل الأبيض، وأراض من شرقها إلى غربها، بأفضل المواقع الساحرة، منذ ما يزيد على ثمانين عاما، على ضفاف النيل.. حيث أجمل مكان يمكن أن تراه منه.. وهذه الأجواء، لها عبقها، وجمالها، فى الرواية. مجمل القول، أن الفن يستوعب المكنون، وتستوعب به مخيلتك الغائب، عبر ما لا يُرى قبل أن تراه، من جمال.. تلمسه فى نفسك. وبدون تذوق جمال الفن، لا يتكون أبدا، وجدان للأديب يدفعه للإبداع، ولا تندهش، لأفكار فى الكتابة، خالية من هذا الأساس الجمالى.
وإن إفتقد قلم الكاتب تلك الروح، الوهاجة، فلا تنتظر أمرا، فى مضمار الإبداع الأدبى. إنه وهج القلب، وإشعاع الروح. تماما، كما لو فقد الفنان إلهام ريشته، على لوحته، فلن يبدع أو يرسم، فلا روح للألوان ولا شئ نابض بحياة، بدون هذا، قط. إن أروع أعمال الفن العالمى، حتى الأعمال التى تتعلق بالدين والعقيدة منها، أو تلك التى صوّرت الحروب، ومآسى البشرية، وهى أعمال ترجع لقرون مضت، كأعمال مايكل أنجلو.. ومن قبلها الأعمال الفنية التي تخص القرون الأولى التى تصوّر الحياة الروحية والفكرية، فى تاريخ الكنيسة الشرقى والغربى، بالكنائس والأديرة والكاتدرائيات، وحتى عصر النهضة.. كلها أعمال فنية، لها هذا الأساس الجمالى الملهم للمبدع. سواء فى العمارة، أو غيرها من أنواع الفنون. وعلى هذا، كل جمال حضارى، وفن أصيل، وغيره، يثير شجون الروح، ويحلّق بها، فى عوالم أخرى. وعلى نفس الشاكلة، وبدون هذا المفهوم، أيضا، لن تكون هناك جماليات فى الكتابة أو النصوص، تؤثر على أنفس متلقيها. ومن هنا يمكن القول، أن العلاقة بين الفن والأدب والجمال الناصع، لا يمكن إستيعابها ببساطة، فى مقال، وهى صلات متينة، ووشائج قوية، يحكمها إطار واحد، وهو التأثير فى النفس البشرية، بأثر، لا يزول. وهو ما يجب أن يتوافر لدى كل فنان، ومبدع. الأمر الذى أحاول، جاهدا مع نفسي، أستحثها، مرة بعد أخرى،، ممتثلا لمعناه، وأنتهجه فى كتابتى، ومنها ما يتعلق بالمثل الذى أشرت إليه، فيما يتعلق بزمان، ومكان رواية (غصن الحياة) اللذان يتراوحان، فى فترة زمنية، تستغرق قريبا، من خمسة عقود.. سنوات طويلة، وأماكن عديدة، لابد أن أستشعر، وأنا أكتب عنها، وعما يدور بها من أحداث، من جماليات للمكان. مما أثار شجونى حيالها، هذه الفكرة لمقال الفن والجمال.. وهو المقال القادم، بمشيئة الله تعالى، تبارك اسمه..


ومضات جمال**
----- خالد العرفي
الجمال ومضات.. تظهر من خلال فن الوصف والرؤية، وزوايا ومستويات التعبير، سواء أفقيا أو رأسيا، بين المفردات الفنية، والعلاقات التبادلية فيما بينها، كما فى الجماليات المتعددة، التى أعرضها من حين لآخر، من فنون شتى.. وتشرق روح الجمال، عبر القصّ المتقاطع، وتداخل الضوء والظلال، وتتوهج مع تباين درجات الأبيض والأسود، وبقية الألوان.. آنذاك تنبلج رؤى اللاوعى بعديد من التفسيرات غير محددة على الإطلاق لهذا السرد الخاص،.. وبعمق الربط الذى يدرك الإطار، وتأويل يجمع بين التفاصيل وعلاقات العناصر، فإن التأثير لا ينتهى على الحواس.. رحلة وراء أخرى، تجد العقل يبحر بين وجوه بشر، ومفردات عمارة، وملمس الأحجار، وغيرها.. وكل تفصيل صغيرا كان أم كبيرا، له دلالته، حاملا الروح على أجنحة الخيال، فى عالم جمال.. مزيد من حيرة لا تتوقف، تدهشك، وتستثير خيالك، طمعا فى تأويل وحيد، للعلاقة بين هذا وذاك، أو مصدر هذا التأثير الفريد، على العقل، ومنشأ سره الغريب، فى الروح، وعلى المشاعر.. ممّا تتخطّى  به أبعاد المكان، وتعبر معه حدود الزمان.. ولا يعدك هذا، إلا أن تقع فى دائرته العملاقة، وجولة بعد أخرى، تجد نفسك أسيرا فى زاوية درج أو تاج عمود، أو درب بازلتى طويل.. أو جانب موقد حديدى قديم، بجانب جدار.. أو طالا على نافذة حجرية، وراء سياج.. أو سابحا بهدأة موجة، سكنت شاطئ بعيد أو عانقت رصيف ميناء تغادره سفينة، وراء بحر لا ساحل له.. أو إلتقاء متناقضين يمتزجان فى مدخل مبنى، أو يفترقان بنهاية طريق... فى معبد أو تمثال أو قطعة آنية.. فى زخرفة أو نقش أو حفر..،.. كثرة من الأشياء، وعديد من مسميات قطع بديعة،.. عناصر وجود ما زال قائما أو إنقضى عهده، من بعيد،.. إنه جمال الفن الذى تقع فى براثنه، هاويا بأعماقه.. هى لغة الروح المعبّرة، وحروف نبض الحياة، التى تنطق مجتازة كل تفسير، ولا ينتهى تأثيرها، أو أثرها أبدا.. وفى رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية لعشرات الفنانين العالميين، وضعت عملا إبداعيا للغة جديدة، من نوعها أعتقد أننى صاحبها.. يمكننى أن أستعيض عن أى لوحة بعبارة أو فقرة، كروح من السماء تأتينى،..لا أعرف حقا، كل هذه المعانى التى تأتينى حينما يأسرنى عمل فنى.. فى كل لحظة، أتعلم كثيرا من الفن بكل صوره وأشكاله.. يعطيك هدوء النفس وعواصف الوجدان والشعور الدائم بالمعانى الحية... يجعل الأفكار أمامك ويعطيك الصوت والحركة وكل شئ.. أكتشفت كثيرا أننى ما زلت لم أكتب شيئا، ليس له قيمة، أو تأثير.. لو لم أشعر بهذا الإحساس.. ولا يزال الكثير لأمضى نحوه، لتمسك به قبضة العقل والروح، فكرا وأدبا وفنا..  وما أجمل القصّ، وما أقوى الإيهام، والتعبير، لهذه اللغة، التى تتباين معانيها وتتوارد، بشكل مذهل.. تسمعك ما فى العالم من حياة، وتندهش لكثرة مدلالوتها، وإرهاصاتها.. إن العلاقة بين الألوان والفراغ أو فضاء اللوحة والعناصر التى تتوزع عليها.. كل شئ يجعلك تتسائل ماذا قصد الفنان هنا، فى هذا اللون، أو هذا التكوين من تلك العناصر.. تستنطق الصمت فتهدر المعانى، فى الروح.. تود لتعرف، فيما كان يفكر، وبم كان يشعر، حينما أبدع هذا.. الحياة والموت والكون وكل تفاصيل الحياة.. وكل معنى يمكن أن تجده، حينما ترى وتقرأ الصورة، رابطا بينها وبين غيرها، بهذا الشكل، فتذهب بك إلى عالم آخر.. بعض هذه اللوحات يرجع عمره لأكثر من مائتى سنة، والبعض الآخر من القرن العشرين.. فترات تغطى تاريخ الفن.. ويتباين نوع  المدرسة الفنية الذى ينتمى إليه الفنان بعمله.. من الكلاسيكية.. إلى التعبيرية.. والرمزية.. إلى الإنطباعية..،.. وهكذا، لو تضافرت هذه الخلفيات والإنطباعات عن الفنان والعمل وموضوع اللوحة.. مع الربط والتنامى فى الخط الدرامى، للتشكيل ككل.. أو الموضوع الذى عبّرت عنه اللوحات.. تجد هذه اللغة الجديدة..تخاطبك وتمضى بك.. توقع على روحك.. تتناول المكان والزمان والشخوص، لرواية يمكن قراءتها وتذوقها، من زوايا مختلفة، وبعديد من المعانى والرؤى التى تتناغم فى الذهن، وتتآلف فى تسلسل وتتابع.. لكن للأسف ليس كل فرد قادر، على هذه القراءة الجديدة، وقد يفشل فى ذلك،... والعمل يلقى تبعية المضمون والرؤى المتنوعة، على ثقافة القارئ والمتذوق للفن والجمال، من هذه الناحية.. وربما هذا أفضل كثيرا، لإنعاش الفكر والتأمل فى عالم الخيال.. فللفن بكل أنواعه، أهمية كبيرة فى تكوين وتشكيل وجدان الأديب، كالفنون التشكيلية، والموسيقى، وغيرها من فنون.. بل هو كذلك حتما، مما له بالغ الأثر والقوة فى الإلهام والخيال، ووهب معين لا ينضب من الأفكار، للكاتب .. وبلا ريب هى من جماليات الفن وعلاقتها بكينونة الأدب، وفحواه.. وقد سبق أن وضعت بعضا من هذه المحاولات بصور متنوعة من الفنون، المختلفة.. محاولا خلق معان جديدة، وبتذوق جديد.. وقد تابع قراء ومتابعو المدونة، من هذه المحاولات بصور من جماليات متعددة، ومنها جماليات الماضى المسماة جماليات بحر، من تراث التصوير الفتوغرافى.. 
وهذا هو رابط ذاكرة البحر بالمفهوم الذى إختصرت الإشارة إليه آنفا (رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية)..


الفن والروح
" قلب الرؤية"
---- خالد العرفي 
إنها فكرة الجنون، الرابضة فى كل عمل، شكلا ومضمونا. تصدمك بالجمال الصارخ. تأسرك من الوهلة الأولى. تدع نفسك، لتغوص فى عمق العمل. تكوينات من معان، لا تراها إلا بإحساسك. فجأة، وخارج حدود الزمن، يجب عليك، أن تكون على أتم إستعداد، لإبحار أسطورى، بعينيك وعقلك معا.. تدهش الروح، برغبة خلاص من هذا العالم، بتناقضاته الغريبة. بعيدا عن كل معتاد، ومعقول. ترى الحجر، وتسمعه ينطق، دابّة فيه الحياة. تشكيلات ضد الجمود، تغاير كل شئ. تحترق فيها، رغبة فى مزيد. تتحسس كل تفصيل، بروحك.. بين الحلم والواقع. تسافر إنفعالاتك، إلى مجهول قصى، فى خيال، يجمح بك. ترهف سمعك، عبر مدى يتسع، ويتمدد لأنفاسك، وشهقاتك، متخطيّا وعابرا آفاقا. هذه هى اللوحات الفنية، التى وضعت، من قبيلها الكثير، الفترة الماضية. وهى، مما أعشق حقا. كل لوحة لها خلفيتها النابضة، كأنها تلقى بك، من ارتفاع شاهق. لكنك تهوى فى الخيال، ضد الواقع، ضد كل شئ. تستشرف به عالما أكثر جمالا، وإنسانية.. تستطلعه بروحك، حتى لا تفقد تفصيلا، من تفاصيله، وملمحا من ملامحه المختلفة، بين ظلال خفيفة وثقيلة. دلالات غامضة، غير محدودة. تسيطر على كل كيانك، بهوية وشكل غريب. لا تستطيع أن تلملم روحك بعدها، إلا وأنت تسدل عينيك، بين الأبيض والأسود.. فى عمق التضاد. بعيدا عن كل لون آخر، من الألوان. 
تتدرج بك، شيئا فشيئا، لتسرقك من نفسك، آخذة بك، لمسافات بعيدة، لا محدودة. ربما لا تعود، منها، روحك، التى انصهرت. وتجد نفسك، وقد تلاشت، بين الظلال العميقة.. لا تدرى كيف تم إستخدام الظل والضوء، هكذا، فى قلب الرؤية، لخلق هذا الجمال المشرق. هارمونية، تأخذ بوجودك. تدور به، بصورة، لا تعهدها، فى نفسك، ولا تنتهي.. 
ولا يعرف كثيرون كيف هو جمال الماضى وروعته، عندما تنقله أنامل الفنان. عصور مضت وتفاصيل فنت من الواقع. سجلت لحظاتها ألوان وظلال.. وإستخدام للضوء لا يمكن أن تراه، إلا فى مثل اللوحات الزيتية.. لانعرف، إن كان هو الضوء الذى يظهر الألوان، أم الألوان هى التى تظهر الضوء. وتسمع فيها موسيقى من نوع خاص، لتحيي النفس، وتسافر فى الزمن.. كثيرا ما قضيت وقتا، على فترات متباعدة، فى تأمل مثل تلك اللوحات المدهشة. مدن، ومناظر طبيعية، ومشاهد إنسانية، وبورتريهات بشرية،.. وقائع وأحداث. أحتفظ بها.. وكم أهدأ كثيرا، عندما أعيش فى تفاصيلها، وألوانها. ترينى أماكن لم أرها، وتحيينى فى أزمنة لم أعشها. كم هى دهشة أن أرى الشرق قديما. كل شئ أعيش تفاصيله. أنظر للوحة كأنى فيها.. الألوان. الأشياء. الخلفية. النمارق. الستائر. الملابس. الأثاث. ملامح الوجوه. الحركة.. كل شئ يتناغم فيما بينه بألوانه ومكانه وأتناغم فيه، متنقلا بين تفاصيله المدهشة، وأنا جزء منه.. هدأة وسكينة وإحساس، لا يشبهه إحساس.. 
وحتى اللوحات، التى سجلت مشاهد لأوربا، فى العصور الوسطى.. بصرف النظر عن الدين والعقيدة.. رأيت ما سجلته أنامل الفنان، لمعابد وكنائس وشواهد قبور، إستوقفتنى كثيرا. من لم يرَ فلورنسا وبيزة وجنوة وغيرها من مدن إيطاليا، فى هذه الفترة، لم يرَ جمالا لعمارة ولا شعر بجمال الفن، وروعته.. هذا موضوع كبير، لا يكتب فيه أسطر.. يحتاج لسِفر بمفرده.. أما عن البورتريهات وحكايات الفنانين الكبار، معها، فمشكلة فكل كان له ملهمة.. ويكفى أن يقع بصرى على لوحة، تسرقنى من نفسي، وأتمعن، وأضع نفسي فى نفس اللحظة، التى رسمتها فيها يد الفنان، بروحه ودمه.. لا يمكن أن تشغلنى تفاصيل الوجه فقط، ولكنها تصبح تعبيرا فى مجمله، ترى من خلاله روح الفنان، وروح العصر.. جمال وروعة.. وربما ألهم الفنان مكان، أو لحظة تاريخية.. ومن ذلك اللوحات، التى سجلت الحروب الصليبية. وقد جمعت منها كثيرا، من باطن المراجع والمصادر القديمة، حتى كدت أسمع رحى الحرب، وهى دائرة، وأسمع هسيسها.. لوحات قبل أن تعطيك الروعة، فى تفاصيلها، فهى تأسرك برهبة، تتسلل إلى كل كيانك.. كم أتمنى أن أرى كل ما أبدعته يد الإنسان، الذى سجل روح الإنسان الحقة.. وأحيانا لا أصدق نفسي وأنا أحيا فى مثل تلك اللوحات، التى تأسر الروح. تصبح أعظم من الرواية والشعر، وكل فن أدبى .. فهى تطلق عقال العقل، وتفك أسر الروح.. لا أنسى أبدا اللوحات، التى سجلت القدس قديما، أو كما يسمونها أورشليم، وكما نسميها نحن بيت المقدس.. حتى سيناء بطورها وجبالها وشعابها وأوديتها.. رأيت تفاصيل قديمة مذهلة، لها لم يرها كثير من المصريين، ولا توجد إلا بين دفتى الكتب القديمة، بروعتها وجمالها وروح عصرها. وعلى رغم، أن للوحات الزيتية سحرها، وللصور الفوتوغرافية القديمة جمالها، إلا أن هناك فرق كبير ببين جمال كل منهما وسحره..  بين الظلال والنور، والأبيض والأسود، بكل التباين والتفاوت والإختلاف، فى الدرجات.. فهذه شئ، وتلك شئ آخر، ولكل جماله وعبقه.. أما عن مصر بقاهرتها ومدنها خاصة أقليم الصعيد، فقد وقفت على شئ من ذلك كثير، فى الكتب القديمة، خاصة كتب الرحالة.. يذهل له من يراه، ويتمنى لو عاش فى هذه الفترة، من الزمن، ورأى تلك التفاصيل. 
أما عن الثغر.. الإسكندرية بتاريخها، فلا حديث يجدى عنها إلا مع رؤية تلك اللوحات فعلا، التى سجلت ما فيها.. ثم مع بدايات التصوير الفوتوغرافى، ومع وجود الجاليات الأجنبية فيها، سكنا وعملا ورحلة. التى سجلت سحر وجمال الإسكندرية، آنذاك. فقد رأيت الإسكندرية منذ ما مضى.. ورأيتها منذ قرون غبرت.. ولا يمكن وصف إحساس الإنسان وشعوره، وهو يرى مدينته، منذ مائتى عام مثلا.. كل ركن فيها .. كيف كان. الجمال كما هو موجود فى الطبيعة، بقدرة وإبداع البارئ البديع.. فقد منح الإنسان، ما يعطيه ويبينه جمالا، تسخيرا له من الله، وفتحا للعقل والوجدان البشرى، الذى أبدع بقدرة الخالق. تراه الروح، لا العقل فقط.. 
شئ لا يمكن إلا أن يشبع جميع الحواس، والجوارح، فتستكين معه الروح، وتهدأ .من لم يتذوق الفن، ويرى مافيه، ويلمس ما له، من جمال وروعة، فليس يحيا بشئ

من
أسرار الضوء والظلّ
--- خالد العرفي


منذ فترة بعيدة، تعترينى دهشة كبيرة، لم أستطع إلا الإستسلام لجمالها، حيال تأثير التصوير الزيتى والضوئى.. من الصعب ترك فرص مثل تلك التى يمنحها لنا هذا النوع، من الفن.. فلا تكن أبدا مصادفة، وأنت ترى زاوية إلتقاط تتكلم.. أو عدسة ناطقة بلغة، لا تندثر.. بحروف تتسلل لعقلك، لتكون أنت كلماتك،.. تصوغ منها جنبات عالم خاص، آسر.. منذ هذا الحين، كنت على يقين أنه الجمال، ولا غيره.. عبقرية الرسم، والتصوير.. أقول لنفسي الآن: فقط أستطيع رؤية عيون رأت ما لم أراه، فترينى.. تنقل لى، من أسرار أزمنة  ماضية، وأمكنة كائنة أو مندثرة، ونفوس غريبة.. من أسرار الضوء والظلّ.. والألوان.. تتعلم معها لغات لا ينطق بها، إلا الإحساس والشعور.. ولا تفهمها إلا الأرواح.. تميّزها وتعيها.. للجبال لغة.. للصحارى لغة.. للأنهار لغة.. للغابات لغة.. البرارى.. الطيور.. البحار.. الشطآن.. الورود.. الظلام.. النور،... الليل.. النهار.. لغات، ولغات،.. لها عبقريتها وتفردها وخصوصيتها. لغات للوجود والحياة.. تلك روعة الفن، وروعة ما ينقله لك، من إحساس.. ولا شك أن قيمة كل عمل فنى، ترجع إلى ما يُشيّد به من معنى،.. له من النتائج ما يخرج عن كل ما هو مألوف، من تصورات تقليدية.. الأمر الذى يجعل للحياة دلالات جديدة بتقليد الواقع إنشادا للكمال.. ومن هذا القبيل فليس التصوير الفنى مجرد موادا للمتلقى، بقدر ما هو أفق ينتقل إليه.. تتفتت عليه أثقال الحياة نفسها وإخفاقاتها.. وتذوب على صخرته قتامة الواقع.. وتجري فيه دماء حقيقة ما، تسرى عبر هذا المتخيل.. وفي الوقت نفسه، يأتيك صوت الجمال هامسا، بتلك اللغة الساحرة غير المرئية، إلا للشعور.. فتتفاعل معه النفس البشرية، بإعمال العقل، لمعرفة مدلوله وجوهره، جمعا بين الرؤية الحسية والفكرية.. وبدون القيم الجمالية، وبكل تأكيد سيكون العالم أكثر وحشة،.. تحتله حالة تشبه الشلل،.. وهذا أحد أهم أسرار الإهتمام والتلقي، مما يعطي للحياة قيمة مضافة. وعلى هذا فإن التعبير الفنى ووجهة نظره، يعتبران قرينان للموهبة، ولغة تنبئ عنها..

ومن هذا القبيل، التصوير الزيتى فى اللوحات الملونة والبورتريهات المرسومة، حتى إنتشار التصوير الفوتوغرافى، حيث تحولت الذات إلى موضوع، للكاميرا.. علاوة عن أنواع الفنون التشكيلية الأخرى، على وجه العموم.. ومنذ أن تقع عيناك على عناصرها، تنقلك إلى ما لا نهاية، من تأثيراتها.. لحظات لا تحدث إلا مرة واحدة.. تهبك مشاعر تحدث لمرات عديدة،.. تخترقك.. من العام إلى الخاص.. ومن الذاتية إلى المطلق.. ومن الواقع إلى الخيال.. نصوص من نوع خاص، تستغرقك دوائرها.. وتترائى لك بأسرارها،.. وقد تتركك بلا معنى.. وقد يستحيل عليك إدراك دلائلها وإشاراتها إلا بشئ من التأمل، ما يحيل اللحظة إلى ديمومة من ثنائيات التفسير، وتأويلات حائرة، بين هذا التأويل وذاك، منفصلة بهويتك.. ولا يمكن إدراك جوهرها، إلا بحّسّ مرهف، وشفافية نفس.. وقد تتطابق مع ما يدور فى النفس من إنفعالات ثقيلة كانت أم ساكنة.. تبعا للمواقف والحالات النفسية ..  
وما أشد غرابة أسرار الألوان وما تحدثه فى النفوس والأرواح، من تأثيرات لا مرئية.. تحيل الكآبة إلى سرور.. والإنشراح إلى إنقباض.. عديد من مشاعر متنوعة تنتاب الإنسان، وهو يعاين عمق أسرار الفن، عابرة به إلى سكون وهدوء، أو إلى حركة وإنفعال.. لذا تستخدم ألوان معينة دون غيرها، فى علاج المرضى النفسانيين.. ولذا أيضا، تُطبق أنواع معينة، وبدرجات محددة سلفا، فى طلاء جدر المصّحّات العقلية والمستشفيات النفسية.. هذا الإلتحام الفريد فيما يحدثه التزواج بين ألوان معينة، ودرجاتها.. كما بين الضوء وما يحدثه، من عمق التأثير، لظلال متفاوتة الدرجة.. بل ويتوقف أمر التأثير وشدّته، على مصدر الضوء نفسه.. من شمس نهار ساطعة، إلى قمر منير، فى ليلة دهماء،.. إلى ضوء غير طبيعى، فى بيت أو قاعة أو طريق.. بل ووقت هذا الضوء وشدّته وزوايته، رأسية كانت أم أفقية.. وأيضا من أين يأتى الظلّ ومنبعه.. على ماذا يقع، على أرض، أم على جدار.. ونوعية كل منهما.. الظلّ على الأحجار، غير الظلّ  على الأشجار.. أشكال الظلال نفسها،.. هباءاتها.. نثراتها.. وهى تتجمع، أو تتجابه، أو تتشوه.. تركزها.. أو تلاشيها.. كل ما يثير الإهتمام.. تماما، ما تنشده ممّا لم تراه، إلا حينما ترى الأمر كما تراه، فتأخذك غرابته، وتختزل لك العالم والحياة، فى لحظة حاضرة شديدة الغموض، ..كما فى مواجهة بعض اللوحات الزيتية المرسومة، حيث لا يمكن أن ترى ألوان لوحة إلا كما تراه فقط، فتقول أين مثل هذا الأخضر عمقا ودرجة.. أو أين لون هذا الجذع، فى هذه الشجرة.. أو كما فى درجات بنّى، فى مفردات عمارة، بناية وتشييدا.. أو كما فى الصور فوتوغرافية، باللونين، الأبيض والأسود.. فيصبح الضوء هو العنصر الرئيسى، مع موضوع اللقطة، وزاوية التصوير الماثلة أمامك.. بإختصار، لا يفيدك تجرد من تصوراتك المسبقة  فى حالات آسرة، مثل هذه.. تجد نفسك أسيرا للحظة، تتسلل إلى نفسك خفية، كتسلل الأطياف الخافتة، والظلال الباهتة.. تثير إنفعالات، لا توّد مغادرتها نفسك، أبدا.. وربما تقهرك بجمالها.. كيف تتوالى هذه الرغبات الجامحة، ولا تستطيع حيالها مقاومة.. وكيف يشعر بالرضى، من لا يتذوق جمال الفن.. والمعضلة والمأزق فيمن لا يفهم كيف يفهم ما يراه، من لوحة أو صورة مثلا.. والناس فى فهمها متباينة، تباين نفوسها وأرواحها.. وبدون الإحساس، لن يكون هناك فهما.. 
ومن أروع المؤلفات فى هذا الصدد كتاب (الغرفة المضيئة) للكاتب والناقد والفيلسوف الفرنسي الراحل "رولان بارت" وهو من أهم أعلام النقد، التى شغلت الساحة الثقافية، والذى اتسعت أعماله لتشمل حقولا فكرية عديدة وله تأثيره في تطور علم الدلالة.. والكتاب مقاربة ومقياسا للمعرفة الفوتوغرافية.. إذ يرى أن صورة ما، يمكن أن تكون موضوعا لثلاث ممارسات، أو ثلاث إنفعالات أو مقاصد: أن تفعل.. أن تتحمّل.. أن تتطلع.. وهذا أو ذاك ممّا تمَّ تصويره هو الهدف أو المرجع.. ودون إستطراق، يرى فى نهاية الأمر، أنه لا يتعامل مع الصورة، إلا من واقع خبرتين: خبرة الذات المشاهدة وخبرة الموضوع المشاهد.. وإنه قرر أن يسترشد بوجدانه كما يعيه.. وله مقولته فى ذلك (كما أن الفوتوغرافيا غامضة الدلالة قليلا، سوى عند كبار رسامى البورتريهات، لا أعرف كيف أجسد ما يجيش فى نفسي..).. فى حقيقة الأمر، قد تدرك وبصعوبة أكثر، مثل تلك اللحظات الحادة الصاخبة، كمغامرة،.. يأتى بها التصوير الضوئى فى موضوعاته المصوّرة، مثل الأحلام التى تلفت إنتباهك، وتثير إبتهاجك.. تنجذب إليها،.. تتقصى جوهرها، فتستنطق مشاعرك.. تتحقق من أمرها، فتريحك.. تلاحظها.. تفكر.. تستوقفك، بحضورها المتزامن، فى النفس.. وعلى الفور تتضمنك داخلها.. وكما قال الشاعر صلاح عبد الصبور (الفن هو امتلاك ناصية الأحلام).. ومنها، ما قد لا تعرفه بعد، رغم أنها فى كل مكان، بفوضويتها.. وعلى النقيض، منها ما قد يكون كتأثير أحلام مزعجة، تنفر منها، كما الشعور بالموت.. وقد يردّك جمال الفن، إلى نفسك.. ينطق، بسريرتك الدفينة.. يكشف، عن مكنون ذاتك.. وتلك أيضا من عبقرية الفن، وأسرار علم الجمال، وعلاقتهما بالنفس البشرية.. مما يسمّي فى حينه، وحقيقة، الإبداع.. وحتما لا يكون شئ أكثر دهشة وعمقا فى الوجدان، مثل تلك اللحظات الباهرة، مثلما تماما، ما يحدثه الأدب، من تأثير، سواء نثرا أو نظما..، كما أن هذه الأسرار المتجانسة، من علاقة الفن والأدب الوطيدة، وتأثير كل منهما العميق، على النفس، وفى الروح.. ممّا يثير الإهتمام الإنسانى بكليهما..

-------------------- 


 
سيمفونية السماء 
----
 شيئان، لا متناهيان، ليس لهما حدود.. الكون والإنسان.. ولست متأكدا لماذا ولسنوات عديدة، حيرتنى مثل تلك الأسرار. لمَ أهتم بمسائل غريبة عن الكون، وعن الحياة وعن نفسي. لا أستطيع أن أفهم، لماذا أعتقد أننى غير نفسي. لماذا شعورى أن شخص ما، هو أنا. أو أننى لا أعرف هذا أو ذاك.. لست أنا. أخيرا، لا أعرف، إلا مثل حقيقة تتحول، إلى ذرة تغيب، تتلاشى، فى أعماق أكوان موازية. راهنت نفسى، على هذا الإحتمال. أن الكاتب يخبرك ما يشبه أن يكون. ما يمكن أن يكون إنسان ما. أن تبحث عن ذلك، فى  ممارسة عقيمة، فى قراءة، سؤال لا معنى له. كل ما هنالك الشيء الوحيد، الذي يثيرنى أكثر، أن نعيش بين افتراضات وخرافات. إذ يجب أن تشاهد الكثير، لتعرف معنى الحياة، وكيف تسير. حسنا، أعتقد فعلا أن هذه حقيقة، إلى حد ما. بدأت بالكاد أفهم كيف تكون. كأننى إنسان آخر، لا أكاد أعرف من أنا.. أو ما أعنيه. أتمنى أن يكون لدي نوع، من الخيال، يسمح لى، أن أرحل خارج حدود الوعى. أتجه إلى ما يجب. أطلق العنان لأحلام، وتأمل ذاتية، وراء العقل. بين نجوم أراها، بعينى روحى، فيما لا نهاية الكون والوجود. من ينكر أن هذه اللحظة، بكل ما فيها من غرابة وإثارة، هى لحظة حقيقة، تتجاوز بنا، حدود الزمان والمكان، في كون لا نهائي ممتد. وأي شيء يمكن تصوره، مع حياة، قد تكون موجودة، في مكان ما. مثلما تصل للنجوم، لأبعد ما يكون، من مكان. تصل إلى عمق نفسك، فى رحلة بعيدة واسعة المدى.. هذا هو الشيء، ولكن في اتجاه معاكس، من الإلهام العميق. وهذا ما نشعر به عندما نكون على اتصال روحى، مع جمال الكون الآخاذ. هذه إثارة ما نلقاه، فى رؤية النجوم، في ليلة ظلماء. تسمع معها صوت السكون، وسيمفونية سماء بديعة. ورغم ذلك، هى تأملات تثير ضجة مستمرة وكبيرة، فى النفس، لذكرى بعيدة، لم تنته بعد. ذهبت مع الزمن. لا يمكن أن نستعيدها، من قبضة النسيان. هذه هي الحقيقة، ولا أكثر من ذلك. ما أعرفه وأهتم به. وكذلك أفعل. الخروج من هذا العالم، إلى عالم آخر، ونبضى يتطابق، مع إيقاع الكون. على الأقل بعض الأفكار العظيمة، في نهاية المطاف. أن أحاول معرفة أنا، وأن تدرك أنت.. أين تكون..

(يتبع..)