سرماديا

سرماديا

عشر قصص من مجموعة "إنتماءات غير موسمية"




عشر قصص
من
المجموعة القصصية  "إنتماءات غير موسمية"
 -----





1) الإجابات المدهشة
2) غربة طفل ذى تميمة
3) حدث فى ديسمبر
4) سرماديا 
5) محدّقا فى الشمس
6) التل الأرجواني
7) المظلّة
8) هند 
9) هيرا 
10) رابطة عنق
11) رجل لم ترتدِ جدته قبعة
12) طائر الصمت
13) الحقيبة
------------- خالد العرفي




 التل الأرجوانى
----- 
 كالسحاب، كل يوم فى سماء، فكيف يعرف أين مستقره السابح، ساكن البعاد.. كنت أحادث نفسى. أصارعها. أريد أن أخرج من عقلى أبطال قصصى. هذا التاجر اليهودي (الصولدى) فى روايتى، يؤرقنى..
" -كيف يلبس. كيف يمشي. كيف يتاجر فى الرقيق. كيف يرابى. وكيف.."؟ كيف كان معه دوما خادماه، يلازمانه على طريق الحرير، من فارس إلى الشام، مرورا بشيزر. أحدهما، فكان أسودا طويلا ذا بسطة، فى الجسم والقوة. لا تخطئه العين، من مسافة بعيدة. أما الآخر، فكان ضامر القوام، قصير، أشبه بغلام يكاد يلاصق الأرض. مختفيا، بين التاجر وخادمه الأسود الضخم. كثيرا ما تسائلت:
" - لماذا لا يشترى عبدا، يستبدل به هذا ضئيل بنية الجسم؟ وذلك فى قدرته ووسعه، بل أكثر.. "
كم من مرة دار بذهنى، وهممت فيها لأسأله:
" -ما بال ذلك؟ "
وكأنه قرأ ما يدور فى رأسى، فيداعبنى ويذهب ضاحكا بجملته، يلقيها على مسمعى:
" -ويكأنك تتعحب من أمرى، مع "ميمون". إنه عبد أسود مخلص وخادم أمين. يتبعنى دائما، فى كل فجّ.. يأتى بما لا يستطيعه المملوك الزنجى الأسود "سِيفان" .."
" -أخرج أيها التاجر اليهودي، من رأسي. أخرج.. تعالى، مكانك هنا فى هذه الفقرة. لا تحادثنى أنا.. بل، حاور هذا الأمير، الذى تأتيه بما يريد، عبر طريق الحرير. هيا تحدث. أنطق. أخرج لا تقبع، فى مخيلتى أنا.
وأنت أيتها الفتاة الأنطاكية:
" -لا تتوارى خلف التل الصغير. سوف يأتيك فارسك، فى موعده. أنا سأكتب هذا فلا تقلقى. هيا أرينى هذا الرداء، الذى جعلتك ترتدينه.. لا. لا. فليكن لونه أسودا، فأنا أحب الأسود. لا. لا. فأنا ليس البطل، فلترتدِ ما ترتديه نساء أنطاكية. لا بل أرمن الشام أو الروم.. لا . لا. بل ما بحثت عنه، من ثياب هذا القرن.. كوني عربية.."
كانت الأفكار تصدعنى كل ليلة،.. ألقى بالأوراق والقلم. أمزق ما كتبت وأعيد كتابته. أترك نفسى، فأجد نفسى، على درج القلعة الحصينة، بعدما أعبر مخاضة النهر. ولا دليل له. أرتقى. أصعد. أنظر فى الأفق منتظرا، مرتقبا غائبا بعيدا. يرتد طرفى إلى ربض القرية، مع عودة رعاة القرية.. أتمثل :
" -من أنتم ؟ " ..
أخرجوا من رأسي: أنت أيها التاجر. أنت أيتها الفتاة. أنت أيها الأمير. أنا البحر.. أنا النار. أنا الدم.. أنا بركان.. هذا هو الجنون. هذا هو الجنون ..لا أريد أن أسمعك أيها الشيخ الكبير. لا أريد حكمتك.. اجعلها،  لمن يقصدك، من الرعاة. أنا لست جزءا من هذه الرواية. كونوا هناك على الورق، كونوا فى هذا المقطع، مع صوت طبول الحرب. لا بل مع ترنيم الراعي. يحدو. يرفق بالقوارير. هو عاشق. لا بل أنا العاشق. بل الفارس. بل نحن جميعا. أنتم لستم أبطالى. لا تعذبوني. لو كنتم كذلك لخرجتم، من رأسي. لا تسكنونى هكذا. لا تعبثوا بي.. أطلقوا سراحي. لا تأسرونى أنا. فكّو قيدي. عليكم بالفرنج الملاعين  جاهدوهم. هذه تروسكم فخذوها. هذه سيوفكم فحدوها. هذه راياتكم فارفعوها.
إرتفع صوتى محادثا نفسى. ألقيت بجسدى المنهك، على الفراش وحيدا. يوما ما، أيها الوحيد الغريب، سوف أكتب قصتك.. لن يعصانى القلم فيك. لن تخذلنى المعانى أو الكلمات.. صرخت بها :
" -أين أنت الآن؟ .. أين أنت؟ "
يوما ما، سوف تستقبلك أشجارا وارفة الظلال. وضعت بيديك بذورها، فى أرض، أعلم أنها لك أرض، وسماؤها لك سماء. ألم يخبرك بهذا أولياء ؟ لم أشعر، بأنك بعيد عني. سرتُ تحت المطر. كلمتُ قطراتها. أخبرتُ البحر عنك. أعلنتُ سرى. أيها البعيد القريب. غالبت النوم فلم أنم. إستدرت على جانبى الأيمن، لم أستطع أن أقرّ. إستدرت على الجانب الآخر.. رقدت على ظهرى، ناظرا إلى سقف الحجرة فرأيتها. ارتد طرفى فرأيتها. لا أستطيع أن أهرب منها. أينما وليت نظرى، وجدت عيناها تطاردنى. قمت لأكتب، فكتبت عنها. سكت عن الكتابة، ففكرت فيها. قلم لا يخرص أبدا..
" -لا لست أنا. لست أنت. لم أكن هكذا أبدا.. "
لا أريد ورقة.  لا أريد قلما.. قلمى يروى للنهار، فيرى ما كان، وما أنا فيه،.. ما كان بالليل الطويل، بحثا عن الروح، أمام ما طوته الكتب..
" -أهذا ما بك ؟ "
" -نعم"
ولكن لأسباب خفية، هذا المعنى شارد هناك، لا أستطيع أن أكبله، كمن يحمل رسائل فلا تصل إلى عنوانها الصحيح.. فتطيش.. ولا تضل الريح أبدا عما تعصف به. تعصف بي أنا، وحدى،.. تنتزعنى من جذوري. تدعني قاعا صفصفا.. ولا يضل الغيث، عما يحييه من أرض فتهتز و تربو.. لا أستطيع أن أأوب من رحلتي، إلا متشحطا فى دماء معان. تتساقط مني، دون أن أقبض على قلوبها .. فلا الليل ليل. ولا النهار نهار.. كل ليلة، شاهدة المعركة هى الأوراق، بخوف بين عينيها تخشى بوحه. فهو يريد. ويريد. ولا يعرف كيف؟ ساترة عليه تلك الغربة الجامحة. ولا أحد يعرف، ما تشهده تلك الأوراق، كل ليلة.  نهضت من فراشى، وقد تذكرت حديثى مع الطبيب:
" -لا . لا.. لم أذهب لطبيب.. "
عبرت الصمت هاربا، إلى الأساطير:
" -لست مجنونا. ليس مجنونا.. الموت للكلمات. للكلمات الموت. أنا لن أموت. الصمت طبيبي. هو لن يموت.. الموت للكلمات. للكلمات الموت.. الموت الموت.."
أثار فضولى ما أكتب. هذه خواطر. لا بل قصة. بل شيزر. بل أنا. بل رواية. بل هو.. افترستنى معان أسطورية. افترستنى.. لم تنته المعركة، إلا على أشلاء أفكار، لا أعرف ماذا سأجمع منها، أو كيف أختار.. توزعت دماء أبطالى، وأهريقت بين الفرنج، على مشارف الشام. على ضفاف النهر. حاولت مرة أخرى أن أنام. إكتشفت خلو فراشى، كأنها أول مرة أراه خاليا. هكذا كان، دائما. نهضت. أغلقت الباب خلفى. هرعت إلى هناك :
" -عليّ بالبرد. عليّ بالبحر. بجوه البارد "
ركضت على الشاطئ الخالى. ركضت. وظللت أركض. وأركض. اصطدم  بوجهى رذاذ البحر. رائحة اليود. علا هدير البحر. هربت موجة عالية. عبرت السور. استوعبتنى. تحممت بها. بلعنى البحر الكبير. عدت، ولم أشعر بالبرد القارس. حاولت أن أستغرق فى النوم، ولكنها فاكهة الدوحة النائية عند التل. تلك نكهتها. هذا أريجها. نعم أريجها.  لم يكونوا أبطالى أبدا من فعلوا بى هذا. لم يعبثوا بى. إنما هى هناك بعيدة فى رأسى. فى عقلى مجتنة فى قلعة حصينة، مستترة.. فى عقلى.. فى التل البعيد. كنت أدرك ذلك. أعرفه جيدا. أهرب منه بحكمة الشيخ الكبير. بفطنة وجسارة الفارس. حتى، برقة الفتاة. إلتحفت بكنزتى الصوفية، فى فراشى الخالى مرة أخرى، أتلمس قطيفتها. مخمليتها. وترتفع حرارتى، تطاردنى شهوة الإرتحال إلى البعيد. أرهف السمع، لخرير جدول شيزر الصغير. أريد أن أنهل منه. أختفي فيه، فلا أعرف كيف. الجدول غائب. وراء أفق غيبى، أتعبنى التفكير فيه. فلا أدري :
" -كيف؟ ولا متى أغيب عما حولى بجدولى الرقراق؟ "
ومارت أفكارى بسماء عقلى مورا. بدأت أكتب من جديد، ممزقا ما كتبت من قبل. لا أريد سوى الجدول لأنهل منه، عذبا  فراتا ذكيا. ادخرته لغائب أسطوري منفردا به، فى دوحة العقل و الروح. أنا وجدولى العذب فقط.. وراء التل الأرجواني.. زهوا بهما  الغيب. وكلما اقتربتُ، ظهر أننى مازلت على ساحل غريب غامض. هناك تجوب جاريات أعلام بمصابيح. يتراقص نورها، خلف الأفق تراقب من يختفي. وترتقب من يحلم. تهدى الغريب. فقط أحاول منقبا، لا عن مجهول. أعرف أنه هناك، بين تلال شيزر ومروجها. تحيط بها أشجار التين. يحنو عليها نهر العاصي. تسامرني، على نغمات نواعيرها الخشبية، عن فتاة أنطاكية، وفارسها العربي، الذي يقطع الأرض، كل يوم مسيرة نصف نهار، ليراها، لا تعلم بلاد الشام شئ. وتتراءى أعمدة "أفامية" البيضاء، خلف الأفق، كعرائس الجن. ويوقظني صوت " فارس" يذكرني، بمن يقول :
" -أكتب فارس. أكتب.. شيزر"
وبين فارس "فتاة أنطاكية" و"فارسي" الوحيد الذي طوته ليالى الشتاء الحزينة، تسكن ذاكرتى تلك الزاوية البعيدة. تحرسها أمينة نوارس البحر،  ربما يأتى "هوميروس" بحروف فريدة، عارجا بى، بين سطور التاريخ. أشغله، فلا يضع إلياذة ولا أوديسا، غير روايتى!
أوصى" المقريزي " بعيدا، عن صفحة بحر، التحمت بسماء الليل، غائبة فى جوفه. بعيدا عن الحاكم بأمر الله:
" -ألا تسجننى بخططك القاهرية مجنونا. أريد حيزا، لا يقدمه لى البحر..أريد قصرا ببغداد، بعيدا بعيدا. لا يعلمه من بين الرافدين .. "
وتظل تطاردنى كلمات ساحرة بابل :
" -هناك سأكون وحدى بعيدا بعيدا!  "
تريد أن تسكن آهات حزني. لا تعرف أنها لن تستطيع، فهى لا تعرف الملكين ببابل هاروت وماروت. لم تستنطق طلاسم سومر أوتفك رموز أشور. تريد أن ترانى، وكيف ذاك وأنا فى عينيها، ترانى وترى بهما، فأرى !لا تدري أن الجنون لا ينطفئ، بعبور مستحيل، تسجنه جدران أطلانطس، بقلب دواوين الشعر. تحمله خيالاته كل ليلة وحيدا، ليفك تعويذة الساحرة. قاصدا ما لا يرتاده إلا هو وحده. غريبا، فيرى عينيها، ويختفى هناك. حيث يعرف، أنه لن يقبض على ظلها. فلن تأتيه جدران أطلانطس، لتخفيه بين أربع، فيدخل صرحا، من قوارير، ممردا غير لّجيّ .. وترتفع أصوات الحافلات، خلف ظهري على شاطئ البحر. تناديني، فابتسم لتلك السمكة الصغيرة، التى طالعها زوجان، أمام ناظري بعد صبر وانتظار، ومصارعة ضاحكة بينهما. أعاداها للبحر لتحيا، وأسمع كلمات الساحرة:
" -هناك سأكون وحدى" !
ويسكن رأسى صوت القطار، مسافرا. أشتاق لهديره، عابرا المستحيل. لا يقطعه سوى صوت سنابك الخيل، على جسر شيزر الحجرى، وقد اختفت روايتى فى رأسى، باحثا عن فارسها العربي. ومازلت، أنتظر صرحا أغشاه، فوق حدائق بابل. فيه أختفي. أنزوي. أذوب. فلا تعرف طريقي أساطير أو ملاحم هوميروس. وأظل أشتاق فقط، لطيف الساحرة، وصوتها ينادي:
" -هناك سأكون وحدى!.. هناك. سأكون وحدي بعيدا بعيدا !" ..

فلا أسمع صوت الحافلات أبدا، وراء التل الأرجواني ..
----------




الاجابات المدهشة
---------------
عن الموت، والحياة، هناك دوما، ما لا يقرأ، فى الجنازات. ولا أسئلة، عن أسباب، أو جثامين، منتظرة، حينما تموت القلوب، وتغيب العقول،.. دوما يحيا الشهداء، ويحيا الوطن.. إليك وطنى.. 
--------------------------------


أن أرى "الموت والحياة" ، باحثا عن الحظّ،  بعدسة كاميرا، فى لحظات الخطر. هذه هى مهنتى. طوال اليوم أطارد زوايا إلتقاط جديدة، لكاميرتى. من مظاهرة إلى أخرى. رحلة يومية طويلة، بين ميادين وشوارع محيطة بها. كرّ وفرّ،.. لا تفارقنى الكاميرا، متابعا بها الفصول. لا أغادرها، ولا  تتركنى، قط.
-  على أيدى عناصر مجهولة، لقى مصرعه فجر أمس.
-  جنازة هامة
-  متى؟
-  سيصل الليلة الجثمان
-  أعرف أنك مرهق، لكن توجه إلى هناك. وافنى بتغطية الخبر
- الأمر يستحق العناء
- يمكنك ذلك..
أغطى جنازة ليلا، وفق ما أخبرنى رئيس التحرير..  هذه هى أحسن طريقة لأنهى يومى، كمراسل صحفى.. كنت أحادث نفسي، بعد مكالمته الهاتفية. عزمت على اللحاق بها، عشيا، بعدما غادرت المسجد، عقب الصلاة عليها. لحقت بموقعها، عند آخر لحظة،..
على باب المقابر يمكنك أن تسأل المشيعين أحيانا، كيف لفظ المتوفى أنفاسه الأخيرة. وبدون سؤال، يمكنك أيضا أن تلقى السمع، لثرثرة نفوس حزينة، على شفا عملية دفن. وعادة ما أركّز بصرى، حول  أمور لا تأتى بها الألسنة.. العدسة تكشف الكثير.. أتلمس فرصة الإقتراب من الجثث، بزوم عميق.. أشعر فى بعض الأحيان، أن الخطر الملازم للفشل فى مهنتى، هو الإبتعاد عن الجثث.. أتابعها حتى تغيب فى أكياسها، شريطة ألا تُمسك بعينيك، لزوجة مشهد دمّوى. شيئا فشيئا، تعودت على الخطر.. وأكون محظوظا لو رأيتها، وهى تسقط قبل أن تفقد حرارتها.. الأجساد.. وأتابع رحلتها إلى المقابر..
قطع تفكيرى، حرارة الأزرار، وقد تسربت إلى أناملى وراحة يدى. كانت آلاف  الجماهير الغفيرة، فى إنتظار وصول الجثمان،على مشارف المقابر، لتشييع الجنازة. حالة من الترقب الحذر، خشية حدوث أى اشتباكات، مع وصول أنباء باندلاعها فى أماكن عديدة. إتشحت مسيرة وجوه غاضبة، بمسحة حزن مكظوم،. خرجوا عن بكرة أبيهم، بصيحات الغضب الثائرة. كسر الأسى خشوع الليل. تهدر الشعارات مطالبة بالثأر والقصاص، حتي آخر قطرة دم. مزيج من آلام في الصدر..، أصيب من أصيب، بحالة ذهول شديد. وفور وصول الجثمان، ملفوفا بعلم مصر، تدافع الجميع، من أجل حمله. دخل العديد فى حالة بكاء هستيرى. قامت النساء بإطلاق الزغاريد. وما بين قائل وقائل،  كنت أصوّر، جامعا، ما يقولون:
"  مات وهو يخدم وطنه، مدافعا عنه"
"  كان يتمنى الشهادة، وقد نالها "
" هذا هو قضاء الله. الشهداء لا يموتون"
وعلي ناصية الطريق،.. وما بين الزغاريد والدموع، والدعاء والترحم، عند المثوى الأخير. إنسابت دموع البعض علي الوجنات. وذهب الآخر، في نوبة بكاء شديد، منهارا. إرتفعت صرخات الأهل، عند إلقاء نظرة الوداع.. وسط شعارات تتردد :
(لا إله إلا الله. الشهيد حبيب الله
المجد للشهداء
حق الشهيد لن يضيع
في جنة الخلد يا شهيد
مع الأنبياء والصديقين والشهداء
الوطن الوطن
نموت نموت وتحيا مصر)
وعلى ضوء المصابيح، تصادف مرور الجنازة، مع أخرى، داخل المقابر  القديمة، ليلا. لم يتنبأ أحد بذلك. إلتقى جمعا المشيعين، على باب المقبرة. تصدرت الجنازتين، صورتان، فوق جثمانيين،  على الأعناق. كلا  إسميهما، مسبوقا بلقب الشهيد،  لا يُعرف فيما ماتا، ومن قتل. وإرتفعت الهتافات الحماسية، مدوية "يا شهيد.."
أمسكت بهاتفى، أسجل. كل ما تمكنت من معرفته أن الكل فى مهمة دفن. سرعان ما تبادلوا هتافات أشبه بطعنات مؤلمة. كنت أشم رائحة الموت. تفهّمت الأمر، بمزيد من رغبة صحفية جامحة، وفى تجاوز هاجس الخطر المحتمل. كانت تلك أول مهمة، أغطى فيها أحداث معركة فى المقابر. كانت شواهد القبور كثيرة، محيطة بها، نباتات الصبّار. إلتقت وجهتا الجنازتين، بين ممرات المقبرة الترابية المتعرجة. تواجهت الصورتان. تلاحمت كتلتا أجساد المشيعين، لكل منهما هتاف وشهيد، قضة نحبه. آخر الممرّ، وقعت الإشتباكات العنيفة، بين كليهما،.. مؤيدين ومعارضين، لم ينتظروا إتمام الدفن.
جرفتنى الحشود. أحسست بتوتر. لم أعرف، من أين أتوا، وإلى أين سيذهبون. فى المقابر، تُقاس المسافات بعدد القبور. لم أعجب أن الصراع قد إنتقل، إلى ساحات المقابر، لتضيق بمزاحمة الأحياء، للأموات. بدأت المواجهة، بين طرفى النزاع، بمشادات كلامية، قطعت الحناجر. إمتدت المناوشات. بالحجارة، تبادل الطرفان التراشق.  تطور الأمر. سرعان، ما سمع دوى إطلاق النار، بين جدران مقبرة، تستند إلى تاريخ، لا يذكر جنازات، إبتعلت أصحابها، فى بطنها..
بلا شك، كنت غير مؤهل، للعمل بين المقابر. سرعان ما إستعدت لقدمى موضعا ضيقا، بين قبرين. انتزعت حزام الكاميرا بسرعة. قمت، واضعا رأسى فى فرجة، خلف إصّيص صبّار، يعلو أطلال إحداهما. دسست عدستى بين أوراقه الكثيفة. أتسائل، ماذا لدينا هنا، من مشاهد. تركت الأمر الآن لحدسى. إنتحيت زاوية بعيدة، كاشفة من مسافة معقولة، للمشهد الصاخب. تسللت إلى أنفاسى، صرخات الهاربين متراجعة. راقبت تحركات المنهمكين، فى محاولة الهروب، من موت إعتلى الظلام. ينقض، في كنف الريح، متلقفا خيالاتهم المحبوسة.
تعثروا فى مقابر، إنسلت منها أشباح، من تحت الأرض. يتناثر صداها للمدى. زجّت بهم العتمة، إلى ما لا يستطيعون مفارقته.. مرتعبين من مجهول يمضى بهم،.. مفضيا إلى ما يفقدهم الحياة.
فى الوقت الذى أخرجت فيه رقم هاتف رئيس التحرير لأبلغه ما يحدث، مرقت رصاصة طائشة، فوق رأسى. إقتحمت الرصاصات المتتابعة شواهد القبور الصامتة. تقاطع صوت الرصاص فى أذني، مع رنين الهاتف الملّح. لم أجب رئيس التحرير. إستمررت فى التسجيل، بإلتقاط الصور المتتابعة.
في كل خطوة، يعدونها، كنت أرى لغة الموت الغاشمة تطارد الفريقين. على خلفية ما وقع، ظلّ بعضهم يطارد أشباح البعض، بين قبور موتى منتصبة، قامت من سُباتها، بخيالات قاطنيها، خيال إثر خيال،.. الموت محض، ليس له إنتماء.
لم تفارق الكاميرا قبضتى، صورة وراء صورة. وبعد وقت قصير، فقدت القدرة على الحركة وسط المقابر. إنزويت فى الجهة المقابلة، مستترا إلى جدار قبر، لأراقب عن كثب. خذلنى تقدير المسافة بينى وبين الخطر المسستر، بين صفوف المقابر. كان هناك موضع لقبرين، لم أرهما فى الظلام .
إستطعت أن إستتر بجدار قبر، فى زاوية إلتقاط جديدة.. عن الموت، والحياة، هناك دوما، ما لا يقرأ، فى الجنازات. لا يسأل أحد عن أسباب، أو جثامين محمولة، على أفق الإنتظار. إستمر دوى إطلاق النار. وإستمررت ألتقط الصور. كان الصبّار ينزف الأسئلة، عن الموت. الحياة. ومعنى الشهادة. حب الوطن. وسبب القتل. حال الظلام دون القراءة. بينما كانت حروف أسماء الموتى، كثيرة. تتناثر، شاردة، على شواهد قديمة، متآكلة. تسكن هنا، وهناك. بعضها ينمحى بهدوء. يتنفس ذكريات من مضوا.
ومع الموت الصارم، لا يحاور الأسئلة شئ، سوى مقلتين، يطلّ منهما التحدى.. ناموس للحياة. وبينما كنت أنهى  كتابة الخبر، كانت عظام المقابر تتناثر فى الهواء. تتخبط مع أشلاء لحم مشيعين. تطايرت فجأة، جراء إنفجار قنبلة، على بعد أمتار قليلة، بين القبرين. علقت الإجابات ذاهلة، على أوراق صبّار منهكة، على حافة دار الحق. تنتظر حفر لحود جديدة، لشعارات، وهتاف، فى قلب الحدث .لا ينبغى لمراسل صحفى الإشاحة بوجهه، عن الدماء، فى أجواء فوضى الرصاص والدخان والهتاف. لا يشغلك شئ، سوى نقل وتسجيل ما يحدث، حتى شكّة شظية قطعة عظم..
وتدخل من يصيح، فى الجمع: (يا بنى آدم: كلنا من آدم. آدم من تراب. إكرام موتانا، دفنهم. "منها خلقناكم. وفيها نعيدكم. ومنها نخرجكم، تارة أخرى")
شعرت بشئ من إستغراب، من هذا الصوت الذى ينادى. لم يسبق لى أن سمعت مثله. فى هذه اللحظة، إستيقظ فى قلبى أمل، أن يتوقف نزاع، تدور رحاه الطاحنة، غير المتوقعة، بين موتى، فى المقابر. وإستمر الصدى يردد : (إنا نحن نحيي الموتى، ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (
إنتهت شعائر الدفن، على صوت الرصاص، وقد سكت. لم يعد يزعج موتى،.. لا يشتكون من رائحة البارود. خرج مشيّعو كل جنازة، من بوابتى المقبرة الحجرتين، صامتين. لا يتساءلون، فيما إقتتلت الفئتان. ولا عن قبضة موت، محيقة، بالصبّار، فى ظلال أزقة مقبرة قديمة. كنت أصيغ الخبر، تمهيدا لإرساله، عن جنازتين دخلتا، فى إنتظار مجهول، لا يكترث برصاص. فى مراسم دفن، إلى المثوى الأخير.
أغلقت عدسة الكاميرا، مع بزوغ الفجر، هامسا لسواد الليل، أن أرحل، وقد نجا، مما جرى، متحررا، من فخّ الظلام. على جناح الشروق، عنونت الخبر، لصحيفتى، مرفقا به، ما إلتقطته من صور، لجنازة خطرة، متسائلا، متى يبرد السلاح، إلا فى صدور أعدائنا. متى يبرد السلاح، نعثر على حقيقة ما حدث، تاريخا للوطن.. حياة.. مجدا، ورفعة.. وفى الوقت الذى غادرت فيه البوابة، بعدة خطوات، رأيت آخر مشيّع وقد نالت رأسه، رصاصة قناّص، إنتبذ مكانا عاليا، قصيا. ترصده، برغبة قتل ضارية، قطعت صمت ما بعد الدفن.. قبل أن يختفى، فى ثوان إختلسها. لم يمهله ليرى شمسا تشرق، أول الطريق. سقط، غيلة، مدرجا فى دمائه.
لم أره من قبل. لم أسمعه، يصرخ فى مظاهرات. لم أجده إلا  وسط الحجارة،.. أنا لا أعرفه. أنا لم أره في حياتي.. ما إن وصلت قربه، حتى وجدته،  قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، يستصرخ الفجر، بقلبه وروحه.. أن يعرف لماذا تلك الغصة المخيفة، آخذة بالأرواح.. أن تصير الحياة لها معنى، متلألأة بنقائها. كان يصرّ بحزم، على معرفة الحقيقة، تطلبها عيناه: " من قتلنى.. لما قتلنى؟".. لما إنطلق الرصاص، من بين القبور، وقد إنطلقت قذائف الظلام، فى وجه المشيعيين. لم يلتفت إليه إلا الموت بإجابة مدهشة.. لكننى كنت أرثى لحال ذاكرة الكاميرا المتوقدة التى إمتلأت، هذه الليلة.. كان لابد من التحسب إلى صور أخرى، مفاجئة. قبل أن تغوص الإجابات، في غياهب مجهول. لا تنزوي ولا تذبل متبخرة، في الموت. لم تمر سوى ثوان حتى تلألأت عيناه بدموع حزينة.. غريب.. أنى لم أرها في أية صورة.أخيرا أدرك الحقيقة المُرّة.. أنه، لا إجابة إلا عند الموت، عن الحق والخير والكمال.. عن الحياة والموت. ما أصعب ألا تجد شيئا، إن لم تمت. تقدم الفجر ببطء حذر، فزادت تساؤلات الصبّار.  أحيانا تتحجّر الدموع، فى أعيننا. لا تنهمر عندما لا نجد إجابة. لا نبكى حينما تضيع الحقيقة، بين الأشلاء والجثث. لملم الفجر أنفاسه الأخيرة، مهزوما، بدون نتيجة.. إقتنع بأنه لا بد أن يكون في هذا العالم فجرا فقط، .. فلا إجابات حقا، إلا عند الموت. عجزت الرصاصة، التى باغتت روحه، أن تحكي. إسترخت، بين الشظايا، على إستفاقة ضوء إستنشق نسيم الفجر.  فى اللحظات الأخيرة، إلتقطت آخر صورة، محتضنة خبرا صائحا، مخضبّا بالدمّ،، ندية بدموعه.. شهيدا، مع شروق الشمس.. 




هند ***
-------
مثل كل يوم، كان علىّ أن أنزل إلى المحكمة، لأتابع عدد من القضايا، وسير أوراق، لموكلين.. لكن هذا النهار، كنت أشعر أن شيئا خارقا، سوف يحدث لى..  ربما سأحصل على كل الاحكام لصالح من أترافع عنهم.. 

قبل نزولى، أعددت عدّة اليوم الروتينية، مع هندامى ومظهرى الموقر.. إلا من هذا الروب الأسود، الذى لا أحمله معى،.. أضعه فى أمانات غرفة المحامين، بالمحكمة، يأتينى به، مع قهوتى المفضلة، نادل  الإستراحة، كلما حضرت، يعرف أننى، لا أذهب به.... وبإنتهاء جلساتى ألقى إليه به.. وربما أرسله للتنظيف.. رتبت ملفات قضايا المكتب،.. أرقام.. أوراق،.. مستندات دعاوى.. راجعت التوكيلات.. اليوم، قضايا فى حكم المنتهية، وثانية فى بدايتها.. وثالثة مؤجلة.. ذكرت نفسي، حتى لا أنسى، أن أحضر جلسة، بدلا من زميل قصدنى، فإمرأته فى حالة ولادة، منذ الفجر..
خرجت من إستراحة المحامين، بعد مراجعة رول الجلسات، وجدولى لهذا اليوم.. أبحرت فى البهو الكبير المكتظ، وشققت طريقى منحشرا، بين تلك الشخوص المتلاصقة، التى لا أرى منها إلا رؤوسا،.. قدماى تعرف طريقهما، فلطالما، سلكت هذه الردهة الواسعة المزدحمة، حتى أكاد أغمض عينيّ، فأسير فى واجبى القانونى.. متندرا ( يالى إنتمائى للقضاء الواقف والسائر..) وأخيرا سرت بطريقى، لقاعة الجلسة الأولى.. كنت كمن رأى حياته، تتوقف أمامه، هذه الدقائق، التى جمعتنا معا، فى بهو محكمة الحقانية،.. بين إنشغالى بقضايا حجزت للحكم، هذا اليوم،.. رأيتها، وسط هذا الزحام الذى ينضح، بمشاكل متقاضين، من كل نوع.. لم أستطع أن أفسر، لنفسي، إلا أنى سوف أخرج من المحكمة، بها.. وجدت نفسي أتسائل، مع تلك المفاجأة المربكة..
- أهذه هى..أيمكن أن تكون هى.. ؟
وأجبت نفسي، مندهشا..
- نعم هى .. هى هى.. !!
كانت كتائهة، تواجه درجا رخاميا، بعرض رجل ضخم، يقف عليه.. يتشعب إلى جانبين، على الميمنة، غرف الكتبة والعاملين.. والميسرة قاعات، وإستراحة المحامين.. مؤديا إلى طابق قاعات المحكمة..
- قاعة محكمة الأسرة من فضلك..؟
لم يعرها، هذا الضخم، من جسده إلا إصبعا، مشاورا به إلى أعلى.. لم ينبس بكلمة. صعدت الدرج، وقد إنتصفت مداه، بين سوريه المحلّين بشريط نحاسى لامع، يعكس خيالات وظلال الصاعدين، والهابطين...
- من فضلك قاعة محكمة الأسرة..؟
أجابها، حاملا كومة ملفات ورقية سميكة، لا يظهر منها إلا عينين، وراء زجاجتين سميكتين ..
- بقى لك طابق .. إستمرى فى الصعود..
أصبحت الدرجات، بعدد الأيام، التى بقيت فيها، مع هذا الرجل. كل يوم بسنة، وكل سنة بدهر طويل من العذاب.. لم تنسّ يوم أن تقدم لها
- مبروك يا (هند) هذا يوم سعدك.. مهندس بترول.. كل فتاة تتمناه.. مبروك يا بنيتى..
لم يكن قد مرّ على تخرجها من كلية الألسن واللغات، سوى عام.. إنتقلت سريعا معه إلى مقر السكن بالإسكندرية، فى الشقة، التى ورثها عن والده. أقنعها أن تقيم معه والدته.. ليس لها سوى إبنة وحيدة.. وهو الأولى بها، من شقيقته..
- أمى وسوف تعيش معنا..
مع الوقت، إكتشفت أن زوج الإبنة، كان قد صمم على طلاقها، لو لم تتوقف حماته، عن التدخل فى حياته. كانت شبه مقيمه معهما. لم يمرّ شهر عسل، لم تشعر فيه بأنوثتها، للفارق الكبير بين طباعهما ومشاعرهما.. شتان الأمر بينهما.. بعد الأسبوع الأول، كادت تطلب الطلاق، بسبب الأم، وإملائاتها المستمرة، طيلة اليوم.. إنقلبت لخادمة، لا زوجة.. قائمة من أوامر، لا تنتهى. كان من الواضح، التأثير الكبير الذى تركه، منذ سن صغيرة، وفى حوزتها طفلين.. إنقلبت مع الوقت إلى، ديكتاتور عليهما.. أمحت شخصية كل منهما. مع تلاشى كل فرصة، فى أن يتقدم لها أحد، كثيّب، معروف سمتها، فى محيط العائلة.. ورثت تركة، لم يطمع فيها أحد، بسبب حدة المعشر، وطباع لا يتحملها رجل، إلا من توفى عنها، تاركا لها طفلين.. سلسلة من العلاج النفسي، ورحلة علاج طويلة لم تكن كافية ..
مرارا تساءلت..
-  هل يمكن أن أجد لنفسى، مكانا لتستمر الحياة، مع الأيام.. أن أستقى فى صمت، قوة جديدة، سعيا الى أمل، قد يلوح فى مرة مقبلة..
ظنت أن إنهماكها، فى هذه الأعمال، وتلك الشئون، قد يمنحها إنطباع أنها تستمع، بدلا من إستسلام للألم، وتهكمات الأمر الواقع.. باتت تسائل الماضى، مجددا،.. وفى كل مرة، لا تجد إلاّ كل تناقض مرير، مع الحاضر.. لم يكن إلا كدّ فقط، .. تصرخ بداخلها..
- متى أتخلص من هذه الحياة..
أخذت الحقائق تهاجمها، مع كل درجة تصعدها.. تهبط برأسها المترنح، بين محاولات فاشلة بذلتها، للإستمرار، فى الحياة، مع كل يوم مرّ عليها، فى سجنها..
- لا تنسى أنى هنا صاحبة المنزل.. أنت هنا لراحتى أنا.. يجب أن تعلمى أن إبنى تزوجك لهذا.. حتى غرفتكما، من ممتلكاتى..
لم يمر الأسبوع الثانى، حتى صدر قرار نقله إلى معامل تكرير السويس. يأتى ليقضى نهمه. يفترس، كتلة اللحم، التى تلاشت يوما بعد يوم، بين هموم أشغال شقة كبيرة، تصرّ الأم على نظافتها كل يوم،.. تفتش عليها، كقائد مريض مهووس.. لم تحظ يوما طوال عام، إنقضى عليه خارج المنزل.. أحصت الليالى، التى إلتهمها فيها.. بضعة أيام معدودة من كل شهر.. يتضاعف فيها العذاب والألم، من زوج سادّى..
قليلا ما كانت تجد بعض الوقت، للشكوى من هذه الأم، الوحيدة المسيطرة، على حياتها.. ولم تكن على دراية بقواعد اللعبة، معها.. فى ظل غيابه،.. تبكى حلما، ظنت أنه كان قاب قوسين أو أدنى... لم تزرها أسرتها. حُرّم عليها مهاتفتها بالقاهرة..
-  زوجك غائب..
حتى هاتفها الشخصى تعمدت يوما كسره، لها.. و(حاسوب) محرّم عليها.. دائرة سجن كانت تتسع يوما بعد يوم.. سورا بعد سور..
- أنت معظم الوقت لست موجودا، إسمح لى بالعمل.. سأقوم بكل واجباتى .. لن أقصّر أوعدك بذلك..
-  زوجتى لا تعمل .. ماذا تريدين أن يقول الناس عنى..
مرات قليلة زارها فيها، والداها :
- تحملى بنيتى.. أتوجد إمرأة تجد من يريحها هكذا..
لم تكن تستطيع لتسرّ لأمها، عما يعتريها من خلجات مرأة، مثلها.. لا بقيت فتاة.. ولم تصبح إمراة.. لم يتوقف، إنقلب الزوج لصورة والدته.. يصدقها، فى كل ما تقول.. كأنها وكلت إليه، تدبير ما يرثه منها، من اضطراب خلقى، وعقلى.
كانت فى طريق سريع للجنون، بين زوج غاشم، إنقلبت معه، إلى قطعة أثاث، يتركها مربوطة فى عهدة إمرأة، تصبّ كل ما جرى لها، فى حياتها عليها.. من جمّ غضب.. ووساوس مرضية، حتى بعد نقله مرة أخرى، إلى الإسكندرية.. يرجع فى وقت متأخر، من ليل، وقد طال عليها.. تضاعفت الهوة، وماس العذاب النهارى والليلى.. لم يكن بوسعها، التنبؤ بتلك الأخطار، التى هدّدّت كيانها، ولم يبق، إلا أن تظل ناظرة لحالها.. حيث تتكشف كيف يتناقض واقع كل شئ، مع ما كانت تريده.. تتذكر منه، بقايا أحلام، لا زالت تمنع نفسها، عن نسيانها، ربما يلوح أمل غير منتظر، فى الأفق..
- لا عمل. لا هاتف. لا حاسوب.. لا أصدقاء.. ممارسات سادية...
تحركت ثمرة، الإلتهام البربرى، فى أحشائها.. حملت بجمرة نار،.. كاد، بخله، أن يودى بصحتها،.. لا متابعات مع طبيب.. لا أدوية.. تضخمت قائمة اللاءات حتى قاربت بطنها المتفخة وقد تدلّت أمامها.. ولسان ضاق ذرعا، بالشكوى.. لم يشفع لها حمل، فى الإعفاء من مشاق مهام يومية، تنوء بها إمرأة صحيحة..، قائمة موبقات، ومقدسات، فى عرف حارسة السجن، .. وكما أطلقت عليها، شاكية هى، لوالديها..
قبل أن يمرّ، أسبوع على الولادة.. وقد وضعتها أنثى.. كانت قد عانت من النزيف مرتين.. لولا والدتها، التى أصرت على الإقامة معها، هذه المرة، لأودى الأمر بحياتها..
- لا عليك يا بنيتى تحملى ربنا يصلح حاله.. هذا هو نصيبك..
- لم أعد أستطيع أن أتحمل ..هذا سجن وفترة عقوبة.. ليست بحياة..
تلاحقت الصور أمامها، مع نهاية درج الطابق الأول.. كأنها أصبحت تعيش فى أقصى أطراف العالم.. فقط، تتذكر الحياة.. الأماكن.. الشوارع.. الروائح.. الأصوات، التى عرفتها، من ماض بعيد.. إنها صوت الأحلام التى تلاشت.. لم تجد الا أعينا معلقة دونها، وآذانا مصمتة، حينما بدأت تشكو.. وأخذت شكواها، تذهب، فى الهواء، حينما خرجت من الصمت.. الطلاق، لا يليق بمثلها.. لم يكن هذا الهاجس، ليلوح كمجرد إحتمال، يُغضب أسرة.. يضفى عليها مثل هذا الزواج، إحتراما، وترى فى المحافظة عليه، حفاظا على الشرف، وفقا لنظام حياة وأعراف مجتمع. كان من الطبيعى، بداية الأمر ألا تتمرد، وإلا أصيبت بوصمة عار، تلحق بها من جراء، أن تكون يوما ما، بلقب إمرأة مطلقة، فى هذه الأسرة.. رسم القدر لها، حتمية مجرى مغاير تماما، مع أحلام، كانت تحملها فى جعبتها،.. كانت تمثل فيما مضى، علامات، على طريق لحظات متميزة، تتخللها السكينة الدافئة.. ليست الآن، إلا أحلاما تافهة، فى أعرافهم، تطوى سريعا، تحت وطأة المسئولية،.. فلم تختر لنفسها، هذا الطريق المرسوم مسبقا..
- إستيقظى .. إستيقظى قليلا.. حرام عليك، لقد خلعت كتفى..
- أنا آسفة جدا يا أستاذ..
وقبل أن تكمل إعتذارها كادت تسقط، من إصطدام إمرأة سمينة بها، وقد طوق معصمها قيدى حديدى، وحلقته الأخرى، فى يد رجل شرطة، يقودها، صارخة، ساخرة بعد أن سرقت ساعة يدها..
- ما هذه البلايا السوداء.. من أين تقع على رؤوسنا. يقفون يحبّون بعضهم بعضا، وسط المحكمة..
وإنفجرت، على غير موعد، ضحكتهما معا، من مقولة الغجرية.. لم تدر أن ساعتها، قد رحلت عنها، فى يدها.. وأعادت عليه إعتذارها ..
- متأسفة جدا.. جاء لك حقك، كتف بكتف..
وإبتسمت قائلة ..
- من فضلك.. قل لى الآن أين قاعة محكمة الأسرة ..
- هاهى أمامنا .. أنا داخلها.. لدى قضية
- أشكرك جدا. اسمح لى..
عبرت أمامه، كطيف تلاشى، وسط زحام المتقاضين.. ،..
وقفت أستعيد حسن حوارنا المختصر، وجيد قولها الذى دام، قليلا.. وكأنى حياتى توقفت.. وجدت فيها، ما كدت أنظر إليه، حتى مضت، وقد فتننى حب حاد قوى، فى لحظات فارقة خاطفة،.. كان يتقدم بى إلى الأمام، بكل إصرار..
- أيعقل أن دخل قلبى، هكذا وملأه فى دقائق سرقناها من الزمن،..
- أمعقول هذا.. أى منطق ؟ وأى قدر هذا؟
وكأن البحر قد إنبطح مستسلما، فجأة، لأشعة شمس، حرقت كل منطق، إعتدت عليه بطبيعتى، ومن مهنتى، كمحام.. لم أكن أستطيع أن أستغنى، عن هذا الشئ الذى صدمنى، فى تسليمى أنى لم أجد من قبل حلمى، وإعتقدت أنى لن أجده، أبدا.. إبتسمت  مع مكالمة هاتفية من زميلى،..
- وضعت والحمد لله طفلا جميلا..  سميته باسمك يا طارق..
تذكرت، دعوات أمى الدائمة، بأن أجد زوجة، تريح قلبى.. أن ألتقى بمن أبحث عنها.. آخرها صباح اليوم.. لم أستغرب إجابة الدعوة، وقد طالت منى، رؤية هذا الطيف، ما طالته.. لوعد قطعته على نفسي، كنت فى غنى تماما، أنا أذكر نفسي به، هذا اليوم.، مع دعوات أمى.. أنى لن أكون، إلا لمن يختارها قلبى، لو بقيت العمر منتظرا.. كانت الوحيدة التى سمح لها قلبى، بتجاوز كل حد.. وعبور كل شئ.. قدر الإنسان، أن يستغنى بإنسان واحد، عن كل شئ، فلا يحتاج شيئا، بعده.. بدعوة أم، وإنتظار.. فى غمرة، تساؤلاتى، دخلت القاعة، أبحث عنها، وقد تذكرت القضايا، التى جئت المحكمة، من أجلها.. تلاشت الأسئلة، إلا من سؤال وحيد، أخذ يملأ رأسي.. من هى.. وما إسمها.. أفقت من حيرتى، وإذا بها تقف قبلى، دون محاميها، أمام منّصة نفس القاضى، ناويا أن أؤجل كل قضية حضرت من أجلها، إلا قضيتى.... 
-------------------------------------------------------------
" هيرا "
-----------
لم يكن أمامى دليل، كيف كان سينتهى، هذا اليوم.. مثله، مثل أيام، مضت، من هذا الشتاء.. لكن، فى هذا الطقس السقيم، المكان الوحيد، الذى يتبقى، هو بيت، ودفء مريح. لا يجافينى، ولا يخرجنى منه شئ، إلا أمرا، من حياة، أو موت.. حيث، كتبت أكثر جنونى، سواء أكان ذا معنى، أم لم يكن. ولكن المؤكد، كان أكثر فشلى، بجدارة، أحسد نفسي عليه.. ولم يكن الماضى، أو المستقبل مهم، مع هذا الإخفاق، الذى كان خارج سيطرتى.. حسنا، فى هذا الخمول، كان ينقصنى شئ ما.. ضرورى، لا بد أن أعترف بذلك.. وأنا أحدق فى نافذة خلفية، تطل على حديقة مجاورة، لفها صقيع مُحبط للأشجار، لا ينحسر عنها، وصوت غراب ناعق، يتردد.. ولم ينقضِ أخر النهار، بعد.. بينما أحاول سبر أغوار، أسباب فشل دائم، فى الكتابة، يحطمنى، فى نهاية الأمر، ويعتصرنى، فى قبضته الفولاذية، كهذا البرد، الذى يفصلنى، عن تيار الحياة، وسيلها الجارف.. كنت أواصل الملل، وأبتلعه كقرص مهدئ، أمام تحديقى المستمر، فى البرد.. وأماطل أفكارا، مرتعشة، وخواطر متشنجة، وكلمات زائفة، لا تنتهى، من رأسي.. وقد صدعتنى، سخافة فكرة..، أؤمن بأن كل شئ، يأتينى، فى وقته المقدر.. وإنتهزت فرصة هذا الجو المتقلب، فى ديسمير، فقد كان علىّ، أن أكتب قصة جديدة، فى هذه المجموعة اللعينة، التى لا تريد أن تنتهى، أو تنقضّ كجدار متهاوٍ، متداعٍ، على صوت غراب، لا أكترث له.. لأرسلها، إلى الناشر.. كانت تراودنى قصة محزنة، برقت فى خاطرى، كسهم كسر الصمت، لأكتبها، ولم أستوعب الأمر تماما، حتى الآن.. كيف تكون،عن جنيّة عشقت شابّا.. ثم رحلة بحثه، كيف يلج إلى عشيرتها، من ثقب، تحت أرضية فراش أثرى، ينام عليه.. كانت تخرج له، منه كلما أراد أن يراها.. بدأت أتخيل القصة، وكيف ستسير بى، أم بهذا الشابّ.. أم تسير بنا.. كنت أخشى الإسهاب، وأنا أتفهم الأمر، حتى العظم منها،.. حتى لا تكون رواية سخيفة، كفكرتى الهزلية، عنها.. كنت، كلما كتبت فقرة، أتراجع، وأشطبها، متسائلا، عن الواقع المثير..
- ما هذا ماهذا.. ؟
لا أدرى إجابة، هل قصة، أم رواية.. هل سيكون هذا الثقب، فعلا، تحت أرضية الفراش.. شعرت، أن السؤال بات كطلقة رصاص، غير متوقعة، على إطلاقها.. مجيبا، لنفسي .. ما هذا.. ماهذا.. هل سأكتب، عن تعرى جنيّة داعرة..؟! لا، لا شئ غير ذلك، فى رأسي الآن، فلتكن قصة أخرى،.. لماذا، لماذا، لا أحاول أن أكتب من جديد؟
من المحتم، كان على أغير وضعية، هذه الكتابة الشاذة، والمعقدة.. وليس من المحتم علىّ الإنتهاء، من مجموعة قصصية.. فلتظل إذن، معلقة، أينما كانت، سواء فى رأسي، أو فى الفضاء.. إنما كنت أرى هذا الشاب، قلقا مفزوعا، كلما جاءته، من أسفل فراشه.. هذه المرة، كان على أن أجعلها، تخرج من مرآة قديمة، على الحائط، كلما نظر إليها.. وهذا أيضا، كان غير ملائم أو مناسب، بالمرة، .. الأمر كان يرهبه، أيضا، وهو يراها تتسلل، آتية، من خلفه.. كنت، أسمع دقات قلبه المتسارعة.. وأرى عرقه يتصبّبّ منه، وهى مقتربة شيئا فشيئا، إليه، من خلفه.. تكاد تضع أطراف أصابعها، على كتفه، كقطعة جليد، تخترق لحمه، وعظامه..
إذن، فلأجعلها، تأتى من إطار الباب الخشبى القديم، فى مواجهته.. أو من تلك الثريا المتدليّة، من حلقة حديدية، بالسقف، وسط الغرفة.. أو هذا المنظر الطبيعى، لسلسلة جبلية، وقصر مشيد، بعيد، تكتنفه أشجار كثيفة،.. معلق فوق مكتبه، بإطار مُذهبّ، لم يمسح عنه التراب والغبار، منذ أمد... حقيقة الأمر، جربّت، كل تلك الأشياء، والبدائل.. هذا، وذاك، من مداخل ومخارج، يمكن أن تأتى منها جنيّة، أو تذهب فيها، ومنها.. صِحتُ منذ قليل، كإسحاق نيوتن،..
- وجدتها.. وجدتها..
 إذن فلتكن داخل الشاب نفسه.. تسكنه.. وبدأت أكتب، إن أراد أن يراها، فليغمض عينيه، فتخرج له، وينظرها أمامه.. إلا أن المشكلة التى واجهتنى، كانت فى عدد غمضاته الطبيعية، كلما رفّ له جفن.. لم أحسب لهذا حسبانا. فقد كانت تظهر له، دون إرادتى، أنا.. ومرات، لا تُحصى، ظهرت له، دون أن أكتب ما حدث بينها، فى غرفته.. لم أستطع حقا، كتابة تلك القصة، والإستمرار فيها، وقد بدأت الجنيّة، تتصرف دون علمى، فكيف أكمل القصة، وبطلتها، هى التى تكتب.. كلما قطعت شوطا، فى كتابة موقف ما، بينهما.. وأبدا فى وصف ما يحدث، كان يرفّ جفنه، فتظهر له من جديد، فأجدنى، وقد نسيت الموقف الأول.. ولا أعرف أين توقفت، فيه.. مرارا كدت أسألهما، ماذا حدث، لأكمل الكتابة، فلا ينقطع منى، تسلسل الأحداث.. هكذا فى دوائر، ودوائر غريبة.. وأجدنى، من جديد، فى أول الموقف الثانى، هكذا وهكذا.. وقد نسيت ما حدث.. جعلتنى أكاد أفقد ذاكرتى، التى احتاجها لملأ الفراغات بين التفاصيل.. فى المرة الأخيرة، كانت قد دخلت هباءة عينيه. لم يستطع أن يخرجها إلا طبيب. وضع لفافة من القطن، عليها.. وصّاه..
- لا تنزعها، إلا بعد يومين..
كانا يومين، من الإستيقاظ المستمر، تحت لفافة، تعاشره جنيّة.. تتمثل له كما يريد.. كان على أن أهجر النوم، ويهجرنى، مصاحبا لهما.. لأخلق الأحداث التى تجرى، والحوار بينهما، لعلى أفهم تلك اللغة التى يتحدثان بها، بينهما.. وحتى لا يفوتنى أمر ما، ممّا يحدث بين شابّ، وجنيّة.. مرة وحيدة، رفضت أن تتمثل له، فقد طلب منها شخصية ممثلة، إعتزلت، مؤخرا.. أشفقت عليه، فتحايلت فى كتابتى للقصة، له، لأحقق حلمه.. فجعلت الممثلة، تعود إلى الفن، وهى ملتزمة، حتى إنتهاء القصة على الأقل، ثم تتوب من جديد.. بالطبع، كان هذا يلائم جو القصة، وملامح شخصية حسام، فما ظهرت له الجنيّة، إلا بسبب إلتزامه، وورعه. وهذا الكتاب الأصفر، الذى طالما حافظ عليه، من ميراث جدّه، وحافظ على قراءة أوراده، منه.. ويوم أن إنجلى وردّدّها، عن ظهر قلب، حفظها.. ظهرت له تلك الجنيّة.. حينما إكتشف أنه قرأ جزءا من أوسطه، وشطرا من أوله، وأولج عجز الورد الأخير، فى كلمات أخرى، مباركات، يحفظها، وقد جرت على لسانه.. ومنذ أن وقف على هذه الحقيقة، أنه مبارك لا شك فى ذلك، لم يستطع أن يعيد ما قرأ، على نفس المنوال. ولم يقرأ على ذات النهج.. فقد أراد أن يكمل عدد الجنيّات اللائى يظهرن له، إلى أربع.. حاول مرة بعد مرة، أن يعيد ترتيب الورد، كما قرأه بتلك الطريقة العجيبة، فأظهر له، وظهرت جنيّته الأولى، المحبوبة.. ففشل، وأنهكته قراءة كل أوراد ممكنة.. الغريب، أن ظهر له، فى إحدى المرات، مسخ شيطانى، كاد يفتك به،.. إلا أن الجنية، لحقته، محادثة..
- لا تقتله حسام.. لعلنا نلهو، بهذا المخلوق الغريب، ويُسلينا..
عجبت من ردها، وهى من الجنّ، كيف تصفه بهذا، وأنا لم أكتب تلك العبارة، فى الحوار.. بينما إقتنع حسام بالفكرة،.. علمته، كيفية التعامل معه، وسجناه، فى علبة مناديل خشبية، على حافة الفراش، بجانبه.. حتى كانا يراه، مرة، بهلوانا مضحكا.. ومرة، فأرا ملونا.. وتارة أخرى، ببغاء، بجناح واحد.. ومرة، طفلا يبكى، قافزا، فى الهواء.. وكل لهوٍ يريداه منه، كان الأمر سهل، بتعويذة سحرية، كانت تعلمه إياه "زهرى"..
أعذرنى، نسيت أن أخبرك أول القصة، أن هذا هو إسم الجنيّة"زهرى".. لكن الشاب، وقد أسميته " حسام " كما قرأت، كان يحب، وشغوفا، بأن يناديها "هيرا " فقد كان دارسا للأدب اليوناني، ونحت لها الكلمة، والنداء، رغم تصوف العائلة،.. كنت أبتسم بالطبع، محتارا، بين تأرجحى، فى الذهاب إلى (اليونانية) أم الصوفية... و"هيرا" والشخصيات الشهيرة، التى كانت تتجسد بها لحسام، كلما أراد.. أمامى، أراها.. بدأت بالفعل، أكتب الحوار، بينهما.. وكنت أتوارى، خجلا، حتى لا أصف تلك الليال.. وقد بدأت "هيرا" تعلم "حسام" كل شئ، وقد شغفها حبّا.. كانت تقول له..
- سوف أجعلك تخرج كل شئ، فى الإنسان.. أمام حرارة الجنّ.. ألستم تقولون معشر الإنس عنها (ليال حمراء).. نحن من نار.. هذا لونى حبيبى...
مرات كثيرة، كنت أراهما معا، وأكتب لقاءاتهما الصاخبة، ثم انسحب حياءا.. وفى نيتى وقصدى، ألا أضع منها شئ ليقرأ، حينما أنتهى، من كتابة القصة.. لكننى لم أرد، أن يفوتنى شئ.. فى كل مرة، وجدتنى أرى ذرات، وهباءات منفوشة، أشبه بمجرد نِتِف قطنية، بيضاء.. من آثار صخبهما، فوق الفراش.. أو حينما، ينزلان إلى الأرض، هابطين على حشوة أريكة.. لكننى كنت أسمعهما، يتمتمان، بلغة لا أعرفها،..  خاصة " هيرا"
كان كل لقاء يدوم، قرابة الساعتين، يترنح هنا وهناك، يتمايل حسام عقبها، فى دورات، ساحبا ظهره قليلا، ثم يرفعه، كشيخ فى حلقة موْلد.. ملقيا به، إلى الخلف.. ويمينا ويسارا،.. وقد تصبب العرق منه.. حتى يستلقى على الأرض، فى النهاية، ساكنا تماما.. بعد ممارسة، مع جنيّة عتيقة، عاشقة له. معظم الأحيان، بل كل المرات، لا أستطيع أن أقول أنى، لم أرها مرة واحدة.. لكننى قد رأيت آثار معركة اللذة، بين الإنس والجنّ، بادية فى أنحاء الغرفة، وظاهرة على الملقى أمامى، كلما همّ بها، وهمّت به.. أكلت الجنيّة منه، قوته، وعنفوانه.. فى مرات كثيرة، كانت حدقتاه تتسعان، من الإرهاق المتكرر، كمريض، قد أسلم الروح، للموت.. فتعاهدته "هيرا" بالعناية، بخبرات الإنس والجنّ، معا.. إستفدت كثيرا من وصفات، أغذية وأطعمة وشرابات.. ووصفات أخرى، كانت تحفظ له صحته، أمام هذا الجمال القديم، والحديث الصارخ، كما يحب.. سمعته يتسائل :
- أين سأجد كل هذا.. كل النساء، فى إمرأة واحدة.. يالى، من محظوظ كبير.. ويالحظى، من بين كل البشر.. عجنت هيرا كل إمرأة، فى نارها.. يالك، من هيرا..
نجحت أن تذهب به إلى عشيرتها.. ليس من أسفل الفراش، الذى تمزّع مع مرور الوقت، وكانت تعيده، بعد كل مرة، لسيرته الأولى.. إنما أدخلته، فى عينيها، بتعويذة، كضباب، سالك إلى عالم آخر.. وحينما، تجمع، فى حزمة واحدة.. كان يقف ماثلا، أمام أبيها وعمها، اللذين تعديا سبعمائة عام، عُمرا.. بعد إلحاح، ومماطلة، وتمنع، قد وافقا على مصاهرة هذا الإنسي، الذى يدرس اليونانية القديمة، وعشقته إبنة قبيلة " ديدن " من الجنّ.. وعداه أن يشاورا، من أسنّ منهما، فى القبيلة، لمعرفة قبر الإسكندر، فيخبرانه، كهدية لعرسهما.. وأخبراه أن ينتظر الخبر، مع حلول الهلال الجديد.. وكانا، قد حدثاه عن فتح القسطنطينية، وهو مكان قبيلتهما، ومهد ميلادهما.. وفى رحلة العودة، من عينيها، إلى الغرفة، كان يحادثها..
-        هيرا. هيرا.. أتصدقين أنك لم تخبرينى بعمرك إلى الآن..
-        وماذا سوف تستفيد.. حبيبى
-        من باب العلم هيرا. حبيبتى
-        لا أستطيع يا حسام
-        دعينى أخمّن إذن.. أبوك ذكر أن عمره... وعمك كذا.. إذن أنت ..
ولم يكمل فقد خرج من عينيها، فى ذات اللحظة، ووجدها، ممدّة أمامه، كأميرة تركية، من العصر العثمانى.. وقد أصلحت الفراش، مرة ثانية، وهيأته..
-        أليس هذا أفضل حسام حبيبى، من هذى الممثلات اللاتى تطلب منى الظهور لك بصورهن وأجسادهن..
-        تلك أنا لك، فى صورة الأميرة " دينّارة".. كنت قد تلبستها ذات مرة، أسفل هذا الجبل، مشيرة، إلى الصورة المعلقة، على الحائط.. وأردفت قائلة..
-        جنّت المسكينة.. فأودعوها حبيسة، بقبو أحد قصور القسطنطينة، حتى ماتت.. لكننى إحتفظت بعقد لها، هاهو خذه.. هدية منى، لك.
لم أكمل هذا الحديث بين حسام، وغنج الجنيّة.. وقد تعودت على سماعه كثيرا، فقد كان لدى إهتمام آخر، إذ شغلنى أمر الأميرة (دينّارة) وما حدث لها، من مسّ الجنيّة هيرا، أسفل الجبل. عجبت أن الكتب، التى قرأتها عن التاريخ التركى، لم تذكر من ذلك شئ.. شرعت، أقرأ من جديد، فى التاريخ العثمانى، لعلى أجد شيئا عنها، فأعرف كيف إختفت.. وكيف ماتت..؟
لم يصبنى اليأس، وبذلت كل ما فى وسعى، غائصا، فى بطون الكتب التاريخية.. وبينما، وجدت صفحة عابرة، تتحدث عن دينارة الممسّوسّة، من الجنّ، بنصب وعذاب.. وبدأت فعلا، أحدد اسم، ومكان القصر، الذى سجنت به، فى القسطنطينية،.. كان إبنى، ينادينى، بصوت عال، صائحا.. أميّزه دونما شائبة، مع قرع قوى على الباب، ورنين مستمر، بشكل مخيف..
- أبى أبى.. أبى، ألم تسمع صوت الرصاص؟
- ماذا؟!.. ماذا؟!..لم أسمع شيئا.. ماذا حدث..ماذا؟!
- أخبرنى. إنطق..
- إنه حسام، هذا الشاب، الذى تحبّه كثيرا.. قد إنتحر، بمسدس أبيه..
إنطلقت كالبرق، لا أعرف، كيف حملتنى قدماى، صوب الطابق السفلى، حيث شقة جيراننا،.. وكأن قراسة الجو، والبرودة، قد إختفت، وتلاشت.. أسمع عويل وصراخ، أمه المسكينة.. وأبوه مصاب الحرب، الضابط المتقاعد من قدماء المحاربين، ساقط مغشي عليه.. دخلت بسرعة، إلى غرفته. شممت رائحة الموت، تملأ أركانها.. وقد إكتظت، برجال شرطة، حضروا بعد البلاغ، سريعا.. حاولوا منعى، فأخبرتهم، أنى أعرفه.. أعرف كل شئ.. ألقيت بنظرة فاحصة، وقد أصبحت وجها لوجه، مع ما حدث.. تركزت كل حواسي، .. وجدت كل شئ، كما وصفته، تماما.. لم يتغير، ولم أره من قبل.. لكننى رأيت الجثة، أسفل عوارض الفراش الحديدية، كما وجدها المحققون، مقضى عليه.. تغطيها، نتف قطنية متناثرة، هنا وهناك، فى كل الأرجاء.. وعلى وجهه، رواية تغطيه، بعنوان "هيرا".. وقد تلطّخت بالدم، إثر نفاذ الرصاص خلالها، إلى جمجمته،.. ومن حوله، عقدا أثريا عتيقا، قد إنفرطت حباته، فى بركة، من الدماء،... وفراغ الموت..
----------------------------------------------------------
رابطة عنق
---------------
على نحو واقعى، بدا لى أنه لا أمل لى، فى فهم شئ، عن المرأة،.. فلم أتكيف مع الحياء القاسى، وتخبطى، دوما، حينما تقترب منى إحداهن.. بالأحرى، أقول فى نفسي..
- "النساء، كلهن أمور غريبة مالى وبهن،.."..
عُدت إلى حيث بدأت فكرتى الأولى، عنهن.. بل، إلى الوراء أكثر، كنت على وفاق مع كل، من قابلت، أو من مرّ فى حياتى، ولكن ليس مثل صديق.. علمت منه الكثير،.. كوّن لى صورة، نيابة عنى.. أراحنى، من هموم النظر إلى وجه وشفتين وجبين ووجنتين... ، وعينين، لا أستطيع قراءة ما فيها.. أعانى جهلا كبيرا بالمرأة.. تماما، تستطيع أن تقول عنى، أنى طفل.. كيف أستطيع، التعامل، مع ما يسمى بالجسد.. وتلك الأشياء الغريبة، فى أجساد النساء.. كان يقول لى تعلم منى.. مبكرا، وبالفعل، حمل عنى، هذا الإكتشاف الكبير، بالنسبة لى،.. خبرة بتلك الشئون الغامضة، من أمر المرأة. مثّل لى العالم الآخر، من تفكيرى الطفولى، جسّدّه كفنان، ومثّال كبير.. يحدثنى ساعات طوال، عن تجاربه الواقعية، وقرائاته.. فكنت أراقب، ما حدث بين دربيه، فيهما.. صامتا، تكاد تخرج عيناى، من محجريهما.. وتندهش طفولتى، بارزة، من وجهى، فكان هذا يغريه أكثر، بالإستمرار، وبيان سؤدده للأمر، فى مواجهة طفل كبير.. فيصف لى، أنواع البروزات والإختفاءات، والإنشقاقات.. وكيف يبحر من هذا إلى ذاك.. وكيف يتعامل معها، الخبير مثله، بالأدغال.. كنت أشعر، أنى فى غابات الأمازون، أو أحراش أفريقيا.. بصحبة مكتشف عظيم، سبق كريستوفر كولومبوس.. يقول لى..
- "المجازفة والمغامرة، هى فحسب ما تحقق الحلم.. جازف وغامر.. إنطلق.. تجد قارات وقارات.. وتبحر فى أنهار وبحور.. عليك، ألا تجهل علمىّ، الجغرافيا ولا الفلك أبدا..."
مرتفعة ضحكته، وتجلجل، دائما، بأذنى.. كنت أخبره، عابسا، أيضا، بطفولة مهد، غريرة.. أمام كرة أرضية يلفها، على محورها، بإصبعه، بيننا، على المكتب.. تارة يبطئها، وأخرى يُسرعها، كما يريد..
- "إنها الوحدة والعزلة، بدون من مثلك.. أنت أدرى بهذا العالم، فلم أخبره أبدا..شيئا"..
مع طرقة قبضة يده على الكرة، يوقف دورانها، كان الوقت يقف تماما،.. ولا تتحرك الكرة، هامدة، همود الأموات.. ثم يعيد الكرّة، من جديد بإصبع آخر، يسمعنى نشيجها.. ، دائرة، يساجلنى الحديث، فتدور وتدور.. هنا، إكتشفت سبب حكمته.. لابد أنه، كان زيجاته المتعددة.. مغامرات، بلا شك.. لا تقف، بتوقف الكرة الأرضية، حول محورها..
-"إنها المرأة ياصديقى.. من علمتنى، وتعلمت منها.. الإكتشاف والمغامرة.. وكيف أطبق الجغرافيا والفلك.."
أجابنى بهذا، ذات يوم، حينما سألته، عن سبب آرائه السديدة، فى الحياة.. لم أعلق، فقد بدا لى الأمر أكثر صدقا، وهو، من تعدى الستين، وتركته خبرة عقود ست، وثروة معرفة، ورثها، من أربع زيجات.. كان يبهرنى منه، حفظه لمواقع الكرة الأرضية، فى الفضاء، ومنازلها، فى كل فصل، من فصول السنة.. فى مدارها حول الشمس، لا تخرج عنه.. يقول لى، مرات كثيرة..
- " كلما إقتربت الأرض من الشمس، تزداد درجة الحرارة.. هنا فى فصل الصيف مثلا، كذا وكذا.. وتكون قد قطعت، من رحلتها السنوية، مقدار كذا.. والقمر دائر، حول الأرض،.. بدرا ومحاقا،...... ونرى المدّ والجذر.. وكذا وكذا.. كله بمقدار وتوقيت..."
ويسهب، ويستطرد،.. وأستحى سؤاله عن علاقة، الطقس الجوى والشمس والأرض والقمر، بعلاقة المرأة والرجل.... ربما كنت أنظر، لحكمته، من منطلق غرور طفل، قابع داخلى، وثقة رابضة، فى نفسي.. كنت أخجل، من إظهار جهلى، فقد تصادقنا منذ أكثر من عقدين، من الزمان، رغم فارق العمر بيننا.. كان أكبر منى بحوالى خمسة عشر عاما.. لا شك أنه كان حكيما، يعرف أكثر وأكثر، ليصادقنى.. وأنا جاهل بعلم الفلك، وعالم المرأة، وشأنها، وجسدها.. وإبتسم كل مرة إبتسامة ثلجية، لهذه المفارقات، لا أدرى، من مفارقة تباين عمرينا، أم من علمه، وجهلى، أمامه بهذا الشكل المذرى،.. لم يشعر من يرانا، سوى بأخوين،.. أكبرها يبدو أصغر عمرا، من طريقة إهتمامه بمظهره.. ووجهه البسوم، ذو البشرة النضرة، دوما.. وأراه، من جديد، فأبتسم، ثانية.. بالطبع، كان هذا سببا فرعيا، لتعدد الزواج.. المرأة عادة، ما يلفت نظرها شكل، ومظهر، وهندام الرجل.. أنا لا أهتم، برابطة عنق.. رغم كبره، يناهزنى طولا.. أكثر وسامة منى، ويبدو أصغر.. يخبرنى دائما.. إضافة لمسألة، بشرته من الزواج المتعدد..
- "(رابطة العنق).. و(لمعة الحذاء) و(المنديل).. ضرورات، لا يجب أن تفارق الرجل، فى رحلته فى الحياة، كما الأرض حول الشمس.. القطن، تراه مرتين، كسحابتى صيف، عابرتين عليك.. دعه للمرأة.. فلن تستخدمه أنت، إلا مرة واحدة، مجبرا، بوفاتك،.. ولها، المرة الأولى ، فى يوم قائظ..."
ويضحك، بصوت عال، بينما أنا ترتسم على وجهى السخرية، من تناقضات الحياة، وغرابتها المستمرة.. تلازمات أغرب، وأدوات أعجب، لحقت بمبادئ الرجل،.. تترنح متأرجحة، بين "رابطة وحذاء ومنديل ولفافة..".. وأعود أبتسم كأبله، فى صف دراسي، متقدم.. لكن، الرجل كان خبيرا، فى مفوم النساء، ودارسي الفلك، لا مفهومى.. كم أخبرنى، مرات.
- " حتى النساء، متعددات الزيجة، تكون بشرتهن، أجمل وأنضر.. إنها الطبيعة.."
كنت أصدقه بشكل مؤكد، غير مجادل له.. هو أدرى من كل رجل، بالبشرات، ومواضعها، وأنواعها، لدى النساء.. يحدثنى كطبيب تجميل، أو جلد.. لم أشعره يوما بهذا التباين، فيما بيننا، فى العمر، من إختلاف.. رغم أن المرة الوحيدة، التى جمعتنا فيها إمرأة، كانت أمه، فى حياتها. إعتبرتنى بمثابة الابن الأصغر لها.. قبل أن نحضر جنازتها، وأشارك فى حمل نعشها، منذ عامين. وكنت قد حدثتها قبيل وفاتها بأيام، عن إستفادتى الجمّة، من علم صديقى.. بالأمس، فقط، حادثت نفسي بهذا، من جديد، حينما أدركت، أننى لم أره منذ فترة،.. ربما، من شهر طويل.. وددتُ أن أجدد أفكارى، عن آخر أخبار علم الفلك، وهو المتابع عن كثب، لمثل هذه الأمور، كمن يعمل فى مرصد فلكى، أو مبحر فى سفينة فضائية، خارج حدود، الكون المرئى.. والأغرب، تذكرى، ولا أعرف لماذا، أن كلانا، غير محبّ للأماكن العامة..
- "تقتل الأفكار.."
سلفا، كنا قد اتفقنا، على ذلك المبدأ، الذى نكسره، فى عزاءات قليلة حضرناها، نقول أنها..
- "عروض حيّة. بؤرات موبوءة.. تقلّب أفكارنا، بين الأحياء والأموات.. "
رغم إتفاقنا على حقيقة الحياة والموت، وإختلاف وجهة نظرنا، نحو المرأة.. لم أطلب منه مرة، أن يحدثنى، عن قصص زيجاته، وحكايات الطلاق، معه.. كما أطلب أحيانا، أن يحدثنى عن الكون، مثلا.. المرأة تعادل الحياة لديه، كالمعادل الموضوعى، فى الأدب تماما، الذى قليلا ما أحادثه عنه.. طوال هذه الفترة الطويلة، إستطعت أن أبنى فكرتى الخاصة، من عبارات شاردة له، فى أحاديثنا.. ومن إشاراته.. لم أستفد من خبراته العميقة، حينما كتبت بعض القصص الرومانسية الفاشلة.. ولا حينما، تزوجت. لم يشر الرجل، علىّ برأى.. وهنا، تذكرت مقولته عن رابطة العنق، التى لم أرتديها، وذكّرنى بالقطن..، وقد تركت مسؤليته (للتنجيد) على العروس.. وللأمور الأخرى.. كان ينظر إلى الأمر، أنه روتين.. أطعمة وأشربة.. ثم نوم عميق، للمرأة. هكذا، كان يخبرنى، عن الروتين، .. وعما يحدث..
- "وجبات ياصديقى، هن كذلك، النساء.. أعدّ وجبتك.. أطهيها جيدا.."
العبارة التى أتذكرها، وهو يصرف من حضروا، تلك الليلة البعيدة.. رغم أنى أحصيت له أربع زيجات، منذ عرفته.. نجح فعلا، فى ألاّ يجعل إحداهن، تترّمل.. إكتفى بواحدة مع سن التقاعد... ورغم أنى، لم أرَ إحداهن أبدا.. ولم أذكر، أن سألته مرة ما، إن كان قد قرأ شيئا لى من قبل؟ .. لكننى تسائلت ونفسي، حينما إلتقينا معا، مؤخرا..
- "كيف توجد عانس، بائسة.. ومثل صديقى هذا، موجود.."
ولم أتبين صدق مقولته، عن إختلاف الأطعمة والأشربة والروتين وطهو الرجل إمرأة..، طوال هذه الفترة الطويلة، من صداقتنا.. ولم أتأكد أبدا، أيضا، أن قرأ إحدى قصصى الساذجة، والمملة.. مؤخرا، وأثناء تعزيّته له، فى آخر زوجة، كان يهندم رابطة عنق سوداء،... همس لى، بمسحة حزن، على وجهه البسوم،..
- "هذا آخر الروتين وطهو المرأة، والنوم العميق.... لكن، حتى فى سرادق العزاء، يا صديقى، يجب أن تكون (شيك)، مثل يوم العرس تماما.."
إكتشفت، أننى أكره رابطات العنق.. ولم أُجدْ يوما ما، طهو وجبة واحدة،.. حقا كيف لم أطهُ إمرأة واحدة.. صدمتنى فكرة فوضويتى، والروتين، و"تابو" أدوات صديقى، العتيقة.. ربما يكون هذا سبب أننى، فشلت فى كتابة القصص الرومانسية، دائما، لجهلى بهذه العلوم وفنون الطهو،.. أننى، ما زلت طفلا، لم أتزوج بعد، إلى الآن،... لم أرَ إمرأة، تنام نوما عميقا، فى حياتى....
----------------------------------------------------------------
رجل لم ترتدِ جدته قبعة..**
-----------
كنت محادثا نفسي، أن الخيال أكثر أهمية وقدرة، من المعرفة، لأن معرفتنا، بطبيعتها، محدودة. أما الخيال، فيحيط بالكون كله، الذى أنت وأنا، جزء منه. وليس من عادتى، أن أحمل قلما، فى جيبى، مطاردا، بين الأصالة والعبثية،  فى الكتابة.. فى الأدب العبثي، أو ما يعرف بأدب اللامعقول، لا نجد عملا خاضعا لزمن، يحيط به، من جوانبه.. ولمارسيل بروست أن (الأصالة تكمن في كثير من الأحيان في أن يرتدي المرء قبعة جدتك).. ما العلاقة، بين هذا وذاك.. إنه الخيال، ومن ثم العبثية.. قد يكون الواقع نفسه مسرحا للعبثية. مؤديا إلى الأدب، فالكاتب النرويجي الشهير هنريك إبسن، ذو العينين القاسيتين، أحبّ لآخر مرة، فتاة تصغره بثلاث وأربعين سنة.. وحتي لا يقع علي رأسه شيء، كان يخشي السير، في الشارع.. عانى من نوبات صرع، بدأت تنتابه، حتى توفى.. هذه كلها أسباب، كان لها تأثير على فنه، وأدبه.. فكان، يعبر عن هذه الغرابات، بصورة، أو أخرى.. تذكرت هذه الأمثلة، وغيرها كثير يمكن تحريها، أمام أشياء أكتبها، وأخرى أتوقف عنها.. ثم أستمر، أو أغير المسار.. هكذا دواليك.. فى شئ من الغرابة.. أستغرب، وأنا أقرأها.. لم أحب مثلا من تصغرنى بثلاث وأربعين عاما، بقدر قريب من عمرى، حتى أبدع، مثل إبسن.. وليس لى أن أصاب بنوبة صرع، أحمل بعدها..  وعن نفسي، فعلاقتى بالزمن، فقدتها منذ فترة.  اكتشفت أنه كان علىّ، مقاومة صور الألم، وظلالها المراوغة، التى تقفز فى دائرة ذاكرتي المغلقة.  تمارس طقوسها، على نفسي. كالصداع، تدركنى لحظاتها الباردة، بطريقة ما متخفية، فى زيارة مستديمة، دون إرادة منى. تتوغل في العقل، وتعيش في الذاكرة. تبقى مع مرور الزمن، كأنها لاتفنى.. تجعلنى أتألم، مرة أخرى، بين غمّ رهيب، وإكتئاب حاد. من هنا، يكون سبب جوهرى، للمقاومة بالكتابة. ومنها الكتابة العبثية، بعيدا عن المعقول. ربما يكون هذا، معينا للأفكار والخيال، معا.. اللازمان للكتابة. حينما أرضى عن نفسي، فيما بعد.. أنظر مثلا، وأتطلع، إلى ما كتبته، فى الفقرة الآتية :(الموت شئ عادى.. يقع كل يوم.. متذكرا، قول نيتشه.. "أحذر من التحديق في الهاوية طويلا، حتي لا تحدّق الهاوية فيك.." إنتهت حياتها، مع معاناة طويلة، شديدة القسوة، مع المرض. ذاك أفضل.. فى الواقع، كانت معاناة لى أنا شخصيا، وليس لها مع الأطباء والمستشفى، شبه المقيمة بها دائما.. كان يكفيها، تلك المحاليل، التى يغرسونها فى جسدها، من حين لأخر، وهى فى غيبوبتها.. وحينما، تستيقظ قائمة الأدوية الطويلة.. وعلى ذلك أمضيت العامين الأخيرين، من حياتى محاصرا مقهورا، بذكريات مؤلمة، وميزانية أفلستنى، منذ توفيت زوجتى.. بدا كل شئ من حولى، حتى هبات نسمات الهواء، كأنها تردد معى فى حركات مهيبة، هذه الذكريات الخانقة. كأننا، ننشد ذكراها.. رحت أرسم ملامحها، على الأفق، أتساءل.. ماذا لو كنت قد تزوجت غيرها،.. وصلت إلى حد الجدال مع نفسي، لأقتنع أنها ماتت فعلا، منذ سنوات.. علىّ تقبّل هذه الحقيقة، لأترك حالة الذهول، التى أصابتنى.. حسنا، لترقد روحها بسلام.. أنا الآن حاصل على لقب أرمل بجدارة.. علىّ أن أتعايش، مع هذا الترّمل.. علىّ أن ألتقظ أنفاسى.. ليتبلد شعورى قليلا.. فقد عرانى الملل، من الحزن وأجواء الخريف.. متعجبا، بعد سنوات من الموت، كيف سقطت في حبها.. الآن، تحسنت ميزانيتى، من كل شئ، فلأبحث عن زوجة..) وهذه فقرة أخرى، مغايرة :( يكثف رجال المباحث جهودهم، لكشف غموض إختفاء مدير عام سابق بالمخابرات، بعد خروجه، لشراء بعض المسلتزمات، حيث تبين أنه يعانى، من مرض الزهايمر..  أضافت، أن زوجها خرج قبل ذلك، ولم يستطع العودة، مرة أخرى، حيث إن ذاكرته ضعيفة، وينسى المواقف بسرعة، إلا أن بعض معارفهم، أعادوه إليهم فى المرة الأولى. تم تشكيل فريق بحث، بقيادة رئيس المباحث، للتوصل، إلى مكان وجود المسن المختفى، وإعادته لأسرته.. أخطرت النيابة بالواقعة،.. أمرت بسرعة تحريات رجال المباحث، حول الواقعة..(.. واقع الأمر عبثية تفكيرى، هى ما إستوقفتنى ها هنا. فقد جاءت الفكرة الأولى كثيفة. لم أفكر بها من قبل. ربما أكملها قصة صغيرة.. بينما الثانية، كنت أقرأ فى صحيفة، ووجدت هذا الخبر المنشور، وهو حادثة واقعية فعلية.. وأين العبثية بين هذه الأمور.. أولا لم أكن أفكر لا بهذه أو تلك.. فالفقرة الأولى، جاءتنى خارج  المكتب. الحقيقة أن هذه القصة، قد خطرت لى فكرتها الخيالية وأنا سائر في أحد شوارع الإسكندرية مع حلول مغرب أحد الأيام، من عهد قريب.. وليس من عادتى حمل قلم يوترنى، فى الطريق.. وأنا فى حاجة الى التركيز. إستوقفت أحدهم، وكان يرتدى بنطالا ساقطا، عن كرشه.. بأنف مميز، ويربط ضفيرة شعره، بقطعة مطاط، خلف رأسه، وذقنه تتدلى، أسفل وجهه.. وأظنه طالبا جامعيا فاشلا، فقد قطع لى ورقة، من كشكول محاضرات مهترأ.. أخرج القلم، من جيبه الخلفى، وكاد ينكسر، فقد كان ملتويا، فعلا.. ظلّ واقفا، يحدّق فيما أكتب.. ولما إنتهيت قال لى..
- البقية فى حياتك..  
قلت له.. 
- حياتك الباقية..   
ظنّ أن زوجتى قد ماتت.. أنى فى مآساة، لدرجة أن وصل الأمر بى، لأستوقفه فى الطريق، باحثا عن قلم، أكتب حزنى.. 
وأعود للفقرة الثانية، وكتبتها، عند الحلاق الخاص بى.. كانت هناك هذه الكومة، من الصحف المكدسة، يغطيها شعر متطاير. وحتى ينتهى من الرأس، التى فى يديه، إنتزعت آخر صحيفة ملاصقة للوح زجاج المنضدة، لأضمن ألا يكون قد أصابها شئ من شعر أحد رؤوس الزبائن.. بدأت أقرأ.. عادة أفتح صفحة الحوادث أولا.. قرأت الخبر (يكثف رجال المباحث جهودهم لكشف غموض إختفاء مدير عام سابق بالمخابرات.. يعانى من الزهايمر..) لم يكن لى، أن أفوت مثل هذا الخبر المثير.. المفارقة كانت سببا وجيها، فى ذلك.. رجل مخابرات يعنى دقة وإلتزام وتركيز.. ثم زهايمر.. ألا تأخذك القصة.. قصصت الخبر من الصحيفة، مستأذنا الحلاق، بالطبع. إبتسم، وطلب منى أن أأخذ الصحيفة كلها، لأنها قديمة من أشهر.. بدأ يحلق لى، من قفاى، أولا.. عادة، لا يسألنى، كيف أريد شعرى .. مرة واحدة أخبرته.. 
- أحبه كلاسيكى قديم.. 
- يعنى قصير وعلى ورا يا بيه.. 
أومأت له برأسي.. ومنذ هذا الحين، لا يسألنى.. أدخل، وألقى له برأسي. أغمض عيني، حتى لا أسمع حديثه المملّ.. أفضل صوت الماكينة، تدغدغ الرأس، بحكتها المهتزة، فيجرى الدم، تحت الجلد. هذه المرة، لم أغمض عيني. لم أفكر، فى الدغدغة الكهربائية. كنت أفكر في رجل مخابرات، إختفى، بفعل الزهايمر. كيف أصيب به. وأين إختفى. هل يتحدث أم لا. هل هناك خطورة على أسرار الوطن. هل سيجدونه. لماذا تركته زوجته، ينزل لشراء مستلزمات المنزل، وهى تعلم مرضه؟! 
واقع الأمر، شغلنى اللغز.. كلها محاور، كل منها، يصلح تماما لأكتب منها قصة. بدأت أفكر فى إحتمال كل منها، وإلى ماذا يؤدى.. فماذا لو كانت زوجته، تريد التخلص منه، ماذا إن كان لها دخل فى إختفائه.. دفعته إلى قضاء إحتياجاتها؟!.. ماذا لو كان هناك خطورة  فى هذيانه، بأسرار البلد ؟!.. ماذا لو إختفى فعلا، ولم يعد مطلقا.. تراه أين ذهب.. ماذا يفعل..؟ ما مقدار الخطر الذي يحدق به.. وهكذا تتابع الأحداث لاهثة. كنت لا أريد أن أصل إلى النهاية وأخبر ما الذي حدث.. هل قتله أعداء..؟ ماذا وماذا..؟  كثير من الأسئلة، لاحقتنى مع ضربات مقصّ الحلاق، الذى جرح مرة أذنى، ومرة صدغى.. ومرة قفاى... 

- أنا آسف يا بيه حضرتك اللى بتتحرك فجأة من تحت إيدى.. 

لم أعلق بعد أن رشّ وجهى، وقفايا، بكولونيا الليمون.. ثم جفف دمى، الذى سال من تفكيرى، فى قصة رجل المخابرات.. قبل أن يقول لى.. 

- نعيما با بيه.. 
خرجت إلى الطريق، ممسكا بمنديل ورقى، أجففّ نقاط الدم، التى كانت لا تزال تتساقط من بشرتى، والمنديل يهترأ... 
عدت، أقارن بين شخصيات القصتين المتناقضتين. المرأتان، والرجلان،.. أوازن بين الأسماء، والأعمار. المكان والزمن. أين ستكون العقدة.  كيف تتأزم.. أين ستدور الأحداث. متى. كيف أسرد. كيف سأصف. نوعية المعانى فى كل منهما. الحوار. لحظات الكشف.. فى النهاية، من أين سوف أبدأ،.. أين سأنتهى.. بعد تخطّي الدهشة الخفيفة تساءلت عن التطابق والشبه بين الشخصيات.. هل يمكن جمعها فى عمل واحد.. الحقيقة أن أكثر ما شغلنى هو كيف سأرسم الشخصيات، بأبعادها وإصباغها بالصفات الإنسانية بدقة ومهارة إلى النهاية.. كنت كمن يهرول مسرعا لأنتقل من حدث إلى آخر فى عقلى ومن موقف إلى آخر، أمامى.. خشيت، أن تأتينى فكرة جديدة، وأنا سائر بالطريق. تشاكسنى، الأصالة والعبثية، فى الأدب.. فجدّتى، لم تكن ترتدى قبعة.. لا أصرع فى الطريق،.. لم أحب بعد، مثل هنريك إبسن.. إكتشفت، أنها ليست عبثية الأفكار،.. إنما متى، وكيف تأتينى، فجأة، مثل ضربات مقصّ، دامية... 



طائر الصمت..
-----------
 لم تكن القاهرة فى هذا اليوم هى القاهرة. تملكنى شعور طوقني، كأننى أراها للمرة الأولي. لقاء غير متوقّع غيّر كل شئ، فلم تجدنى كما عرفتنى مجرد زائر عهدت منه الرحيل. حاولت التشبث بكل شئ..
لم يكن هناك مفرّ، فلا يعرف الإنسان ما قد يلقاه فجأة من حقائق يجدها ماثلة أمامه. وما حدث فى سبتمبر، لم يحدث لى فى أى تاريخ من قبل. أيمكن أن تشكل ساعاتان كل شئ فى حياتى وتعيد ترتيبها من جديد الآن؟  أصبحتا بالفعل تفصلانى عن عمرى كله، بسنواته الماضية بما مرّ بيننا. وانتبهت مغادرا على ما انطبع فى ذاكرتى، ليطلّ منه وجه السراج البعيد، يتلألأ إلي أقصي ‏حد. أى لقاء كان هذا؟
لم يكن فصل المسافات بيننا كافيا للقضاء على هذا الحلم، الذى نلتقي فى جنباته. ليس فيه هنا  قريب أو هنالك بعيد. تتوقد في دمائنا جذوة حب مستحيل. مجاوران على ضفافه على بعد خطوات، من رعشة نهر، لم يحن له نبض فيضان. ننتظر عنفوانه، على أجنحة مواعيد مرتقبة، وقد ترهبنا بين طىّ حيرة وصمت. كان بنا شئ واحد. شعور واحد. إفتقاد واحد. كان شئ أكبر منا. مشاعر أعظم من أن تحتويها اللحظات.
لم  أرد للوقت أبدا أن يمرّ،  فيمضى بنا إلى لحظة افتراق، أو حتى وداع على وعد بلقاء. ولم يرهقنى سوى مصارعة قلقى المتزايد أن تمضى بالوقت ريح الخريف، فيضيع دون أن يتم الحلم. تجاوزت بحلمى إلى ما لا أستطيعه حتى بخيالى ولم أحسب ما مرّ من وقت.
ولم ندرِ كم مرّ ، قبل أن ينطق أحدنا كلمة واحدة. كان الصمت كفيلا بقول كل شئ دون حرف واحد. فقد علقت الكلمات بين أعيننا. لم ننبس بحقيقة ما بنا من لوعة الفقد ونزف الروح، بعيدا عن بعضنا البعض. ومع ذلك خشينا أن نضيع بين الصمت والنطق على أوتار أنفاسنا، تتردد هامسة بكل شئ، فكان الصمت بوحا لنفسينا الصادقتين. يتردد صداه بيننا. ذهب بنا بعيدا، ليحطم حجبا، ومخترقا آفاقا، كانت أعيننا تغيب وراءها من قبل تائهة، كل لحظة فتصبح كدهر بيننا.
ولأول مرة لا أكره الدوامات.. تمنيت أن تستمر دوامة وراء دوامة.. تدور وتدور وتدور. وأدور معها لا أريد الخروج منها.. فيضيع الطريق ويجف نهره، فلا يسير فيه أحد غيرنا. تمنيت لو أخذتنا هذه الدوامات لأبعد مكان فى الكون، لأقصى حافة.. فتنغلق علينا أبوابه، وتأسرنا داخل جدرانه. وليوصد علينا كل شئ. نحن والدوامات فقط.. تغرقنا أكثر . تقيّدنا أكثر..!
أتذكّر وجهها الدائرى الأبيض الجميل، وقد اكتسى بحمرة الحياة، بخصلات سوداء هاربة، مسافر فيها ليل داج،.. تتدلى على جبينها تداعبها. لم تفارقتى عيناها الناعستان بلونها العسلي الصافى ناظرة إلى عينيا، لتكتشف فيهما من هى؟ ومن أكون ؟ لن أنسى شفتيها مطلقا، وقد ذابت بينهما الكلمات .
تصببت عرقا. تلعثمت. ارتبكت. وضاع منى كل شئ. وكيف لا ؟ وكيف لا أخجل ؟ وكيف لا تضيع الكلمات ؟ وكيف أحسن حديثا أمام وضاءة وجه وعينين ساحرتين. وقد نسيت كل شى استعددت له. وزاد من توترى مراقبتى الدائبة لحركة ساعة، تحدد موعد الرحيل تائها بنا فى صخب الحياة، فيتسرب من بين أيدينا، لنودع الحلم، ويودعنا إلى الأبد.
انسابت مشاعرنا كنهر سماوي بلا ضفاف. ورويدا رويدا، أخذنى الحلم  بعيدا، حتى خيِّل لى من سحر اللحظة أننى لست بأنا. وولد من ألم الرحيل عنها ما لا أعلم أن القدر كان يخفيه لى فى قبضته، من زيادة إفتقاد وتسارع لهفة وإشتياق. كنت ما بين حسرة وقت يمرّ وأمل فيما سيأتى به الغد. وكل ما ظهر منى قشرة سطح، كانت تخفى أكثر مما تعلن عما يدور بعقلى ووقر فى قلبى. جوارحى وخيالى. خشيت أن تلمس منى لحظة الضعف البشرى وأنا أمامها. كم جاهدت محاولا الهرب بما يظهر فيهما. شردت بعيدا، محملقا فى الأفق خلفها، حتى لاترى فيهما صفاقة الشهوة وألم الإفتقاد. فشلت فى إخفاء وجهى، خلف حركات يديا العفوية، حتى لا ترى عمق لهفتى.
وأخيرا تحدثت كأننى أول مرة أتعلم الكلام، وفى النهاية اكتشفت أني لم أقل شيئا. الكلمات لم تكن الكلمات. المعانى لم تكن المعانى. فى الواقع لم أقل شيئا. الصمت هو الذى تكلم . جلست محدقا فيها، أحلم بلمسة يد بأصابعى المرتعشة. وأن أحتضن وجهها بين راحتيا. أتشمم بياض النهار فيه. لكننى أحسست أننى تائه  بصحراء. كما إقليمى زار القاهرة لأول مرة، فسخر منه كل شئ من حوله، فغرق فى النيل. نسيت أننى من ثغر مدن التاريخ. لم تسعفنى حضارتها، ولا تاريخها أمام ما رأيت.
ومع ذلك كان هناك خيط رفيع من الأمل، ألاّ يعقب هذا اللقاء رحيل أبدي، تضطرنا إليه صخرة واقع كئود. إرتجف صدري. صدعتنى كل ثانية مرت فعلا علي. مزقّتنى أفكارى، وتحليلى الطويل لكل شئ يحيط بى. لم أتصور للحظة ألا أراها مرة ثانية. ألا أسمع صوتها العذب. ألا يرافقنى طيفها فى طريق الحياة. كانت تراودنى نفس الأسئلة. تلّح وتهيمن علي. حاولت أن أطردها من من رأسى، فلم تكن عصيّة على فهمى، حتى أجيب عنها. كيف حدث كل ذلك.. أين الطريق..؟
كنت بين رحى العقل والعاطفة. بين حاضر ومستقبل، وماض بعيد أتذكر منه كل حدث مرّ في حياتى، حتى الأحداث التي نسيتها كانت تقفز فجأة. تهرع إلى مخيّلتى، تهاجمنى بضراوة. تسافر بى فى الزمن لتعذبّنى. ماض يلتهم حاضر الحلم إزاء أمل بغد، بدأت أراه على نحو صور غريبة، لا يبدو أن لها علاقة بما أعانيه. وكان غريبا ألاّ أجد فى تلك الصور ما يشبهني في شيء. ورغم ذلك، وعلى العكس تماما، كنت فيها ولا أرى نفسي كما أعرف..على أية حال لا يستطيع المرء أن ينفصل عن أفكاره. كانت نقطة ضعفي تكمن في تمكن ذلك منى بشدة. وكان الأمر سيستمر وتستمر معه معاناتى، لو لم أقرر بحزم أن أستمر فى الحلم، لأحققه فلا أواصله سّرا. قبل أن يسرق منى الزمن روعة اللحظة، بما مضى من عمر،  مرّ أمام ناظريَّ خاطفا. كان كل ما مضى عليّ مجرد لا شئ أمامها. بلا شك، لم أكن لأستطيع أن أوقف الحلم. لذلك كان على ببساطة علىّ أن أسبر الماضي البعيد، حتى أتخلص منه. وها هنا أنا، بعيدا تماما عن غريب الصور، التى لا حصر لها. لم يمكننى معرفة إلى أين كانت تتجه فى رأسي؟ وكدت أن أفقد عقلى أمام ما أراه منها.. متسائلا لماذا ظهرت لي فجأة ؟
وهنا تيقنت أن هذه الأسئلة وتلك الصور كانت مملة للغاية. كل شئ أعيد ترتيبه من جديد، لا أعرف أم هو الذى يعيد ترتيبى. أنا ونفسي أشبه بغريمين، لا يستطيع أحدهما ولا يعرف كيف يسبق الآخر. فلست جالسا خاليا بالي، أو ممّددا على كرسي وثير ذي مسندين أحاول حلّ أحجية ما كان من حياتى. أصبحت كمجموعة عناصر غريبة تجمعت وأعيد ترتيبها مع بعضها البعض. لحظات من النقاء والصفاء مقابل معاناة وتمزق لا يشعر بها أو يعرف سببها إلا أنا.
ربما بفكر واضح ومنطق العقل حلّلت الأمر كله، فقد بدا لي أن حياتى غريبة حقا عنى تماما.. بتفاصيل بعيدة غاية البعد، عن واقع يفترض بى أن أحياه، كما أريد فعلا. ولا يمكن إيقاف الزمن. كان يعود ويعود بى. ثم يذهب ويذهب، ليقف عندها وحدها. يمضى بى هنا، ويأخذنى هناك دون أن أهرب منه، ملتفا حولى ليلقينى فى قبضتها أسيرا. كنت كمن يتجه نحو منحدر وعر شديد، مشتاقا لأتعرف على ذاتى من خلالها هى. لأبدأ من جديد من نقطة الصفر
شعرت بأن طرفا آخر من حياتي، كطائرٍ سجينٍ كان  قاب قوسين أو أدنى من شذى الجنة. ولكننى كنت بالفعل على بُعد صحراء من لثم مستحيل. متسائلا " ما جدوى خطوة لا تصل بى إلى مساءات عينيها وصباحات تتفتح على جبينها ؟"
وغرقت فى قراءة أحزاني في مرايا غياب إطلالة الوجه العذب عذوبة النهر. هل لم أعد أرى أملا لكثرة ما نزفته الروح من لهفة وأوجاع. كنت أردد كلماتها فى صدرى" إذا أردت حقا الحياة أعد ترتيب كل شيء، واستمر في حلمك لتحقيقه. أنت تعلم جيدا من تكون وماذا تريد. استمر فيما أقدمت عليه ودع روحك وقلمك يكتشفان إنسان بعث من جديد. ليستمتع بالحياة بكل مافيها، ولا يعبأ بتردد صداها حوله. كن أنت. إنسان.. "
كان يجب أن أزيل غموضا قسريا لّف بنفسي، لتكوين صورة واضحة عنها. والتى لم تكن مكنوناتها، كذلك بالتأكيد. أن أعيد إكتشافها من جديد، فى نهاية عاصفة. أن يكون ما ينبغى أن يكون معها، محيطا بي من كل جانب، لو أردت حقا  الحياة.
حقا ولدت فى لحظة حاضر شائكة، لأرى الماضى يتلاشى، كأنه شيء لم يكن. وفقدته إلى الأبد. وتملكني إحساس غريب، لم يدع جفنا يغمض لى. مرّت كل ثانية بعد ذلك، لتكشف لى سِحرا جديدا يستحثُّ الفجر البعيد لأسفارى،  لم أكن أراه أو أعرفه، سِفرا بعد سِفر.
فى لحظات المصير المحض تلك.. وفى هذا الحلم البرئ، لم أكن أحتاج، سوى أن أصبح فقط تحت راية ما كان. لكن أن أقدم تارة فى محاولة إعتراف، وأحجم تارات، كانت خطوة فاشلة، وأدتها طاحونة أسئلة لم تُسأل بعد. خسارة عقيمة، لا أميّز معها قسمات ولا أتذكّر أسماء غيْم، إلا همسات مطرها فقط.!
أليس هذا براءة بالجنون ؟ أليست حماقة التصرّف بهذه الطريقة؟ ألاّ أحلم حتى بأن أكون فى اليأس إنسان. ألا أسأل عمّا ناء..؟!
-------------------------------------------------
سرماديا ..
----------
حينما إستيقظتُ لم أجد شيئا أعرفه. لم أرَ إلا غبارا داكنا يهبّ فى مواجهة الطريق، ويحجبه. ولم يكن هناك تاريخ يّؤرخ ما حدث فى تلك البقعة. لم يوجد ما يدل على زمان أو مكان. لم يكن ما ينمّ عن وجود أو حياة.
لما لا أرى أشجارا. لما لا أرى الصباح ؟ كيف لا أرى أرضا ولا سماءا ؟ لما اختفى البياض فى سواد خطى معذبّة ؟ لما غاب كل ما أعرف فلم يترك عنوانا ؟ كيف لا أعرف من أنا ؟ 
أين البشر؟ أين الكواكب. أين النجوم. أين الغروب. أين الشروق. كيف اختفت الشمس. أين راح الفجر. أين غاب القمر؟ أين مضى الليل. أين ذهبا طرفا النهار. أين البحر. أين المطر؟ أين المروج. أين الزوال. أين الغُدو. أين الآصال. مالى لا أسمع تغريدا لطير فوق شجر؟
تشظّى كل مَعَلم محيط بها من أقطارها. إختلط كل شئ بأرجائها. وبهتت التفاصيل. كان كل شئ قد ذهب عن عقلى، واندثر من ذاكرتي ..
وأخذت الفوضى تختفى رويدا رويدا، خلف مبانى شائهة مبعثرة. لا زُخْرف لها. لا زينة لها، غير عابئة تماما بما حولها. لم أدرٍ إن كان من فيها لا يزال حيّا، يُلاحظ شيئا وسط هذا الظلام الدامس. أم مختنقا وسط دخان، يلقفه غير مكترث بحياة، فى قبو موصد.
كانت أركان البقعة رابضة على مشارف مجهول، بلا جهات. تنشر الأسى على أسرارها، شاردة عن العيان. ظلال مبهمة فى قلب ما لا أعرف. غدت كثيفة موحشة. تتدلي على بطنها، حاجبة كل شئ بظلمتها. لا ترى الشمس. منطلقة بلون أفعواني، لذكريات تباشر سبيلي. وتكيد بي طاغية. يفوح منها ما يسكن دُجاها. مؤكد أن الهارب منها، كان حيّا آمنا ، في حالة سكون، فلا يطرقه بغتة غموض طارق.
مع ذلك، استطعت أن أسمع هسهسة خافتة، قرعت الصمت. تأوّهات هازية، وصرخات مرتعبة، وتمتمات مكتومة. تتسرب مع زعيف الجنّ وأنفاس أشباح مختفية، زاحفة. تتوارى آخذة حذرها، حتى لا يراها عابر سبيل، فيثقفها. أخذت تتسارع، وتزداد شيئا فشيئا فى الظلام.
وددتُ أمام هذا الستار الخفي، لو عُدت حقا إلي ماض بعيد، لا حماقات فيه. أخوض غماره فلا أرجع منه أبدا. أهرب من تلك البقعة المخيفة، حريصا على ألا أمتزج بها أو أنصهر فيها.. غير منتظر ما لا يأتي من نبض حياة، أو نذير موت.. ظِّلا لما يتردد صداه، يتسلّل إلى الأعماق.. 
لم أرتعب لكنها أوهجت فى نفسي رغبة، طواها تحت أجنحته اليأس، منذ زمن طويل. ولم أستسلم لهواجز تنسفنى معها ريح ثقيلة الوطأة. ربما تذرونى إلى مكان سحيق. لم أدعها ترعى فى ذهني الواهن لتنهكه أكثر. ولم أكن لأتركها تسرح فوق قوتي لتنهار، وأنهار أسفل جرف هارِ، فلا أعرف شيئا.
كان عليّ المغادرة حينما رأيته فى تلك البقعة أشعثا، برداء بلا لون، بلا شكل، بلا ملامح، قد تعلو وجها ذائبا فى ظلام بارد. حاول أن يوثق وثاقى برباط لا يُرى، ماكرا بى، دون أن أشعر بشئ. محملقا بلا بصر، أو طرف يرتد إليه.
لم أعرف من هو أو من يكون ؟ أى كائن كان ذاك ؟ لما كان مسجونا مجهولا بهذه الزاوية من تلك البقعة القاصية؟ كيف انغلقت عليه أبواب قطع الليل وطيّاته ؟
لم يُبْدَ لى كيف غشّته زُلَفه، كأنها مطبوعة عليه فقط.. فمكث في هذا القرار، لا يَقْدر على شيء من نَقْب. تحرسه ذكريات غائبة تائهة، إلى أن إنطلق نحوى.
هناك فى تلك الأصداء، رأيت وجه البقعة الذى رأيت. تسكنه أشباح فارّة، مشوهة الملامح، بقسمات مفزعة.. ووجنات ناتئة، متصلبّة على جماجمها، مصلوبة على عظام، كأشواك. لم تحجزها أسوار..
القانون الوحيد الذى يحكمها، أن تُجمع وتُلقى فى جُبّ عميق. إذ يستحيل تخليص بعضها من بعض، فى بعيد غيابات قاعه. مجرد شظايا بلا  حياة. بلا أسماء أعرفها. ومع ذلك رأيتها، قبل أن تبتلعها ظلمة البئر.. فى أحشائها، لا يراها إنسان
شعرت به يرصدنى. يراقبنى. يتربّصّنى. يتتبع خطواتى، مثل ظّلي. خلته يغيّر جلده. ينسلخ من ذاته أمام ناظرى. انقبضت. سمعت وقع أقدامه دانية منى.. اقتربت مسرعة نحوي، بأنفاس منكدرة قادمة من المجهول، محطمة كل شئ فى طريقها. تتقافز. تتردد. تياّرا غامضا، اندفع بى نحو ظلال داكنة.
شعرت بقبضة جليدية تلتف حول عنقى، فجأة. تضغط متسللة إلى الروح. مطبقة على رقبتى، تحسب كم تبقى مني. حمحمت بصوت مخنوق هارب بحشرجة محتضر" ما كان لى أن أضلّ بين تلك الزوايا الملتوية. كيف انطبعت قبضة هذا المسخ على عنقى. ولحمى. ساحقة عظامي؟"
بحثت طويلا عبثا.. وبدا البرد أشد قسوة ممّا تعهده نفس خائفة وروح مجهدة قلقة. أصبحت كطريدة جريحة. ملقاة بزمن آخر وأرض أخرى. كفراشة فزعة، تاهت عن الضوء، فاختطقتها النار،  بحقيقتها، عارية متناقضة. تخيّم على بقايا أشياء لا تُرى.
ومادت الأرض من تحت قدمىّ. و لا أعرف كيف إنفلتت رقبتي من الأظافر المنغرسة فيها كسكين حاد، وقد جرى فى لحمى..
صدمتنى تساؤلات وراء تساؤلات. أثارت الريّبة في نفسي، من أنا؟ من هو ؟ .. لم أعرف ما إذ كنت قد نجوت حيّا أم لا ؟
وحينما أوشكت لحظة الرحيل، جاهدت كل شئ،  ورحلت مخضّبا صدرى وظهرى بالدّم. وهكذا مضيت عازما، دون التعثر مترنّحا بنزيفى. لم أسقط كابّا على وجهى صارخا من الألم.   وعزيّت نفسي " لست وحدى. نعم لست وحدى، لابد أن هذا الطريق المرهوب قد سار فيه غيرى من قبل. لابد من درب خفيّ. لابد من نجاة. لا بد من سبيل.."
لم أحاول إجابة عن أى شئ. وخشيت العثور على حقيقة مشوهة، أو كابوس رهيب يُلاحقتى ،فيما بقى فلم يكن طريقى أبدا هناك.. أسافر دائما وحدى إلى حياة، متعوذا، بطقوس،.. بشعائر لا يُعرف لكنه أسرارها تخوما. حياة.. لم يُذق لها عذوبة كلمات حارسة، تمنع عنّى ما قد يلّم بى. وأمتنع بها متحصنا. دائرة ليس لها حدودا. لايُصطلي فيها بعذاب. لا تميد فيها أرض بحاملها، أو تُرى فوقها سماء، تغيب بها نجوم..
وبعدتُ عن ذى الرداء، وما يُخفيه تحته، يسترهب به عينيَّ. بعدتُ عن كهفه، فلا يُخيّل لى شئ. وابتعدت أكثر، مرددا ما لا يسمعه، فى سجن يقهر الحياة " لا تكن صنوا لى. لا تكن مثلى.. لا تخبر أحدا سّرّك مثلما فعلتُ، فكأنما تقتل نفسك بنفسك. أو تطعن فى ظهرك دون أن تدرى، مرة تلو مرة. يجعله خنجرا فى قلبك. يقتلك به، لحظة إثر أخرى، كما بسّرّى قُتلت. أو تتُهم بجنون. أو يُزعم أنك ساكن قبر، قاضيا عليك.."
نهاية الأمر نبوء بذكرى تطاردنا. تسكن سرادقنا. تحيط بنا. تنوء بحملها ظهورنا. وتنسّل إلى الروح، تهدمنا. وخلسة تغتالنا .
لم أخبره أن حكمتي أخذتها ممّا حدث قدرا،  بيوم بلا تاريخ. بلا مكان. بلا زمان. لم يُذهب بى إلى ما لا مرّد منه. رغم ما سُدد للفؤاد عقب ما به أنبأت.. أيقنت أن الغرباء لا يرون ضوء قمر، ولا نجما يهدي بليل. لم يوقنوا بهدأته أبدا، أو بنور نهار. لا يعرفون قدسية حياة.
رغم عدم مفارقة أثر أنفاسه لى، فلم نقترب أكثر من ذلك. كانت هناك مسافة حديدية فاصلة، بين رغبته فى الحديث. كنت أشعر بها تحيط بى. رغبة تخترقنى من كل مكان.. وخشيت الإستماع له.  لمحته وقد لوّح لى بنصف ذراعه، مؤرجحا رأسه، منصفا" لا عليك. لك حق فيما قلت. لسنا ببشر..     "
ورغم أنه رمقنى بنظرة ذات معنى، أرسلها لا تراها إلا الروح.. فقد ذهب مغزاها سُدى، غارقا بفضاء غائم. وظلّ من ورائى منزويا قصيّا. داخله شئ، تاركا أثرا يغشاه. استطاعت بصيرتى قراءته. ورأيت أشواكه تُدميه. على أية حال، واصلت مسيرى مُلقيا إليه بكلمات " لا عليك.. دعهم يقتاتون بزعمهم، على ما يحسبونه رمادي. لن يقبضوا على ذرّ الرماد فى يوم عاصف"
كان صوتى أضعف من أن يسمعه عابر غريب، يستطيع أن  يتفرسّ وجهى، ليعرف منه آثار ما حدث. لا جرم أننى أيقنت أن فرصة جوهر نجاتى أشبه بهرب من قتل إنسان، دون نظر قاتله إلى عينيه.. فلم ينظر إلى عينياّ من قبل قط، ليرى عذاب روح. لم يرَ ما فيهما. لم. ولن يحدث أبدا.
هكذا أنهيت الحديث، وأنا أضع كل شئ خلف ظهرى، غير ملتمس بقدرى عذرا. راحلا، بالقليل الذى تبقى منى. مستقبلا الفرصة الوحيدة التى لاحت لى وسط ما حيُّر العقل، عاجزا عن تفسير ما غمره دّمي.
فما نظن أن تحمله ريح عاصفة منثورا بعيدا عن الأعين، قد يقع هباؤه قريبا منا.. وأقرب مما نحسب، أو نتوقع، فلا يبرحنا أثره، ولا نعرف أو نتصور ماذا يأتى به غد لا يُسجيه أو يُخفيه شئ. بنا قد يهمُّ من قريب، قادّا معه كل ستار للترقّب.
سَكَتت عني الحيرة، ففصلتُ بنفسي عن البقعة حاضرة المجهول، منسلخا منها، كإبرة خرجت بصعوبة من صوف. حتَّى إذا أدركنى ما أدركنى قلت لنفسى " هذا شئ قد خَلى. أمر قد مضى. ما كنت أعلم غيب ما سيحدث . وما لي أَن أكون هناك إلاّ بقدر، لا أستطيع له درءا.."
ما سألته ما بالُ هذه البقعة، أو  شأن ذاك المجهول، ليس بمُزَحْزِحِ منه أو يفرقه عنه شئ. وما سألت نفسي عمّا حدث. ما كان لي أَن أدلف إليه عَمٍها.  فلو عجِّل لى كلمته، مطيلا نظرته الغريبة، ربما فَرى لى ما أُسام به، يُصيبنى من حيث لا أشعر. ربما آتتنى مشُرَّعة أراجيفه، دون أن أدرى، فتدهمنى آخذة برأسي، تطلب دمي حثيثا. كما ذهبت بروحى، إعتصرتها قبضتها.
وبدأت الضجة تتوارى خلفى متناهية. خفت صفيرالريح، وصممت أذنىّ عن زعيف ما لا يُرى. جفّفّت دمّى، وجررت قدمي، واضعا يديّ على جُروحي الغائرة. هدأتُ أمام صوت واحد ينادينى. تبينّته جيدا لسابق عهدى به، رغم أنى لا أعرف له مصدرا. أصغيتُ له، أرهفت سمعى أكثر، وازدادت ثقتى فى إدراك ضالتي.. النجاة من دائرة التيه بوجهها الشبحيّ.
ولم يُرخِ القنوط قبضته عنى، حتى اكتشفت غائب الطريق. بلغته بشق النفس،  بعيدا عن الخوف، سائرا بتعويذتى تحمينى، فى جادة صحيحه،.. متابعا على إستقامة واحدة نحو النور، هاربا من كهف لا يصل إليه ضياء.
سفرا إلى ماض أحمل منه ميرة لغدّ مرتقب، يحمل عنى حياة انزوت، فأرى فيها ما لا يُرى، أنفض عنه نسيانا، وتمدّه الروح بمداد من رياضها. فتستحيل أسطورة باسقة ووارفة. مثمرة دانية قطوفها.
سرماديا تطوي معها حنايا النفس أمنيات راحل، لا أنفثها فى دوامّات المستحيل. غير مطارد من شبح معذب، ينشب أظافره فى عنقى، أو وجوه أشباح مخيفة مفزعة، ترقد أسيرة محطمة، فى ظلمات قاع جٌبّ عميق.
ولم يتبقَ لي إلا ما وعيته وأدركه العقل. على الأقل أصبح فى حوزتى ما أمضى به، وأتدبّر فيه متفكرا. أرمّمّ به ذاكرة لم تتيبّس بعد، أمام لعنة، تجنبت أن يصيبنى سهمها، وما ضلّ سبيله من نصال إثم. ولم أهرب من حتمية مواجهة النفس " حلم طويل... سبات طويل.. استغرق دهورا طويلة... "
ولم يمرّ الكثير، حتى تلمست رائحة جديدة، لا تُنسى من بعد، بارقة أمل.. كانت لحظة فريدة، وُلدت فيها من جديد.
أعظم من هذه اللحظة، وأعمق تفردا، وأكثر غرابة، حينما مضيت إلى مستقر، لاكتشفت ذاتى، مستلهما معنى الحياة، وما يكون من حكمة. تيقنت تفاصيل ملامح طيف يهديني، لا يُماري فيه على صفحة أفق بعيد،.. يرشدنى ليس ككل طيف
صفاء مشرق العينين يتكلم لهجة لا أجهلها، حُفرت حروف لغته فى عقلي، وعلى جدران قلبى، بلون سديمي. أقبل معه ربيع بريّ، بأزاهير الغيب. بديعا، تتبدّدّت معه عصفات الريح.. منسيّة، أمام ما وقر  فى نفسي. لم يختلف الأمر كثيرا عمّا دار فى خلدى، من صور كثيرة تداعت بقسمات وجه هاربة، تنعكس على حافة الأفق. تتشتت عُراها هنا وتتكسّر هناك. وتنفصم دوما قبل الإمساك بها. لم تتمكن عيناىّ من قبض تفاصيلها الملائكية  فيما مضى، متلهفا.  إنما كانت تراها عينا عقلى، تمسك بها، وتُوقن بوجودها، فيتجدد الأمل. طيف طالما طاردنى نوره. ولطالما فشلت كل محاولة للحاق به، حتى ظننت أنه ربما أرسلنى إلى لحدى، دون أن أراه أبدا. البشر بشر..
بلا ريّب، أهتديت به إلى الحياة. حيث يُحال التراب إلى تِبْر. ولا يُرى إلا ذهبا. هناك لا قبور. لا موتى. لا شواهد. لا أشباح لمن مضوا، مكدّرة صفو الحياة. هناك فقط .. الروح والنور والحقيقة.
حيث لا ندم على حق، ولا يكون إلاّ حق. حيث لا يُقبر أحدُ بجوف الحزن أحداً. لايواريه تحت جنح الظلام سرا، فيغيب فى النسيان. بلا شك، حين تُذعن الكلمات راغمة هناك، وتنطق بما وضع لها القدر من حروف. تحيا صادقة، بلا أوهام، غير لصيقة برحم كهف مظلم غريب. ربما فى طريقه ليصبح أطلالا واهنة، وأثرا بعد عين. وربما لن يجده أحد.. ربما
هكذا كانت الكلمات بلا أثر يُقتفى، أو تأثير يُتصور. مجرد دخان غشّى مدينة ضاجّة، كاذبة أضواؤها، خاوية على عروشها. مجرد انعكاسات واهية على مرآة ماضٍ ناءٍ، مجتثة جذوره، ماله من قرار. عبر بها بلحظات بارقة خاطفة، لكن الحدث العظيم هو ما يبقى صداه راسخا. لا تطبق عليه قبضة نسيان، ولا يمحوه زمن، مهما مرّ من ليال، ومهما دار من أيام. هو ما يظلّ فى أعماق الذاكرة، غير ذاهب باستعذاب ألم، وضياع سنين.
كان علىّ تذكّر كل ما رأيت، وما سمعت ما دمت حيّا. واستمر مسيرى بعيدا أكثر. حادثت نفسي طيلة الوقت، محاولا إستعادة ذاكرتي المفقودة. اختلط الحلم بالواقع. انصهرت الحقيقة فى الخيال، كما ضاع الزمان و تلاشى التاريخ.
وكلما تقدمت خطوة، تذكّرت أكثر ما حدث.. ذكريات وراء ذكريات. وأصبح هنالك دوما ذلك الهاجز، بأن ما كان كان يجب أن يكون.. لا يمكن أن أسقطه هو الآخرمن ذاكرتى، التى لم تعد مفقودة مع كل خطوة أخطوها. بات كل ما أراه يذكّرنى بنقطة بعيدة من الماضي البعيد.    
هل لم يكن سوى عالما آخرا، ما تبقى منه ضباب، مجرد هباءات ريح وشذرات غبار. عالم لا منطق يحكمه، ولا يقطع فيه عقل.
هل كانت حافة سراب ضائعة، لا يعرف فيها قصّاصُ أثر من ظلالها الباهتة شيئا. لا هى حيّة.. فيدرك حقيقة كاملة. ولاهى مضت عنه، فتضيع الحقيقة. لا يزال الأمر غامضا، لم يتبيّنه أحد، فلا إجابة مطلقا هناك..
الرداء.. من صاحبه. أكان هو أنا. أم أنا هو ؟ الكهف.. أله كان؟ أم لى كان ؟ أمِرآة روح قد رأيت فيها نفسي. أم هو الذى فيها رآنى؟ آثار غريبة لهذيان ذاكرة. وساوس نفسية قهرية أم هلاوث بين يقظة وإغماء؟ أم جنون حلم، وراء حُجُب العقل ؟ أكانت أشباح لا يُمتلك أمام مسّها إختيار؟ أم مفاتيح وإشارات لذكريات مراوغة؟
أم ما كنتُ بالضرورة، محتاجا لأتجرد من خياله، متخلصا من أوهام أسقطت الذاكرة و الوعى؟
لم أعلم أبدا عمّن كنت أبحث عن نفسي أم عنه.. عن مشكاة  نور أم بصيص لنقطة ضوء ؟ أم قدرا مجهولا، كان فى رحلة بحث عنى، فكنتُ أو كان ؟ 
شئ من قبيل أن تكون مسحورا. صوابه الوحيد، أنه ليس بوسع أحد أن يُوقف رحلة تأويل حقيقة.. ماذا حدث وكيف كان؟
----------------------------------------------------
محدّقا فى الشمس..
------------

لا أعرف متى تحديدا قد فقدت جثتي؟ ربما منذ أيام. قد يكون من أشهر. وربما منذ أعوام. لا أعرف تماما. ولم أنشغل بإدراك الأمر، فقد كنت مفقودا بالفعل منذ أمد كبير. ولكن تحديدا كانت قد اختفت  جثتي، فى المدينة. فلم يُعثر عليها.
لم يمسح  أحد الصحراء بحثا عني. ولم يقم أهلى بإبلاغ أحد عن غيابي، قبل أن تتلقى الشرطة بلاغا ذات ليلة من أحد الغرباء. تعثرت  بجثتي العالقة في الرمال بعثة تنقيب، ليلا..
إنتقلت قوة من الشرطة لموقع جثتي. وجدوني بكامل ملابسي ومتعلقاتي الشخصية. وهاتفي ميتا، بيديّ.
لكنني أتذكر.. أن الناس يقولون أن الروح ترتبط بمكان الوفاة. أسطورة لم أتحقق منها، آنذاك. كان الوقت ظهرا بصيف مضى، حينما أصبحت بين كثبان وتلال رملية..
حاولت الهرب من لحظة القدر. فشلت كثيرا، فلم أعثر على طريق نجاة أو عودة. إشتد القيظ  فوق رأسي ولهيب الرمال  تحت قدميّ. عطشت شديدا. وجفّ حلقي. هِمتُ يمينا ويسارا. لم أجد إلاّ سرابا. إزدت ظمأً. جاهدت للوصول لأى منطقة مأهولة. وفشلت كل محاولاتي اليائسة. أجهدت نفسي وراء السراب في هجير الصحراء.
نعم تذكرت.. تذكرت.. تذكرت ساعة إحتضاري. كانت هناك أصواتا، وصورا لا أستطيع أن أحددها قطعا. لكن كان هناك صوت مظاهرة، لا أتذكر متى هى ؟ ربما..  ربما وربما..، لا أستطيع أن أعرف متى تماما. مؤكد ذكري اللحظة حاضرة عند الجماهير، منذ هذا الحين الذي فُقدت فيه تائها هناك.. كان الوقت ربيعا !
لم أتذكر لماذا كنت فى مكان ناءِ. شئ ما دفعني إليه قطعا. هذا ما لم يمكننى معرفته أيضا، وإلاّ لكنت تذكرته. شئ غاب معه العقل والمنطق. أودي بروحي. بكياني. بلا شك، أسلمت الروح آنذاك.. ورأسي باتجاه الشمس.. هناك..  هناك فقدت حياتي .
تيّبس جسدي كاملا. ورغم مرور وقت طويل، على جثتي مطروحة بالعراء، فغريب لم تتعرض فى الصحراء لأى نهش. غريب لم يرها عابر.
لم أتذكر مع من أجريت آخر إتصال هاتفي قبل تيهي ثم مصرعي.. فلا أعرف نبرة صوت، ولا أستطيع أن أحدد ملامح وجه بذاكرتي.. تذكرت. تذكرت. نعم تذكرت شيئا هاما..
قبل أن أموت كانت هناك عين كبيرة محدّقة في عينيَّ. لم يكن هناك إنسان. فقط الشمس وأنا.
لم يمرّ وقت ذو أهمية إلا عليّ. أنا فقط من أتذكر ما حدث. لم ينشغل أحد غيرى. بحادثة وفاتي. غريب يموت بصحراء. من يكترث ؟ من يسأل..؟
سرعان ما انتهى محضر الشرطة " منطقة صحراوية. طرف ناء. جثة لذكر. مفقود لم يُبلغ عنه أحد. مجهول الهوية. تيّبس تام. ملابس كاملة. هاتف. تحريّنا. ولم يتعرف عليه أحد.. "
أمر روتيني أن تباشر النيابة التحقيق. أمرت بالتحفظ على جثتي بمستشفى عام. لم يكن هناك كثيرون مثلي فى ثلاجة الحفظ..  طبيعي أن يفشل الطب الشرعى فى معرفة سبب وفاتي. فلم يتأكد من عدم وجود شبهة جنائية.  تيقنت أنها كانت مجرد جثة مفقودة  لم يسأل عن صاحبها أحد.
تأشيرة عادية صدرت كما تصدر فى كل الأحوال " تُكلف جهات الأمن بكشف غموض الحادث وملابساته.. "
لم أعد لاحقا، لأتحقق من أسطورة ارتباط روحى بمكان مصرعي، فقد لحقت حيّا مع أرواح  بكون آخر.. حيث الفصول ليست أربعا.. ليس من بينها الربيع والخريف.
مؤخرا حرروا  بالواقعة محضرا، وسمعتهم يملون " مات محدّقا فى الشمس!"

----------------------------------------------------------------
المظلّة
--------
في ظهيرة رطبة حارة، آذنت بانتصاف شمس اليوم، فى كبد السماء إستقبلت درج محطة القطار، مطبقا على صحيفة اشتريتها من (كشك) فى نهاية المحطة قبل أن أقفل عائدا، وسط موجات لا تعرف درجات فاخرة لقطارات مكيفة، بمسميات فرنسية وأسبانية !
هنالك، رأيته أمامى، على المدخل الرئيسي، هرما ببياض شعرة ونحالة قامته، التى يخفيها جلبابه، الأزرق الفاتح. يستند على عصاه، ملتصقا بها، خاشيا هربها من تحت قبضته. وقد تشبثت بها، كتمسك تجاعيد الزمن بوجه، تسكنه عينان ذابلتان أكلتهما سنوات عمر، قارب على نهاية العقد السادس .رأيته حائرا ينظر هنا وهناك لا يدري إلى أين يتجه باحثا عن مأوي، يهرب إليه من من شدة الشمس الملتهبة، غارقا فى عرقه. في هذه الأثناء دلف مستقبلاً ممشى المحطة، كلوحة من الماضي تظهر فيها ملامح هرم، قد ناء بحمله ظهره. آن أن تلقى به حيرته مع عصاه إلى أقرب مقعد خالٍ، على مدخل رصيف المحطة، الذى إلتحمت به كتلة لحم بشرى، تفوح منها رائحة عرق المزدحمين، يحلمون بمغادرة المحطة، فى طابور أمام نافذة قطع التذاكر!
اعتصرته الكتلة التى لا تنتهى طوال النهار. لا تنضج فيأكلها صبر إنتظار قطارات لا تأتى فى موعدها لتحمل همومهم. لم يأت دوره قبل أن يمرّ ليأخذ بيده شاب، ليخلِّصه فوجدها فرصة ليضع يده الأخرى فى فتحة نافذة التذاكر ليحصل على تذكرة بعشرة جنيهات، حرص على ألا يترك القطع المعدنية الباقية منها .
ابتل قميص العجوز بالعرق، أكثر وأكثر، قبل أن يعبر إلى ضفة الكتلة الأخرى، التى تسارع ضغطها، حتى غابت فيها عصاه يتشبث بمقبضها المعكوف، تشبث الناجى بها ليمر. ظللت اتبعه ببصرى، فى رحلته، للحصول على تذكرة تحشره مع المنحدرين. جفف عرقه بمنديل قطنى، فردهه على قفاه المشقق، بأخاديد ملتحمة بجلد رقبته السمراء. كان على وشك السقوط أرضا، فاقتربت منه. أجلسته على مقعد خشبى قديم، على رصيف المحطة، قرب شجرة عجوز كثيفة، لامست فروعها مظلة خشبية قديمة. مدَّ عصاه أمامه. أطبق على مقبضها بكلتا يديه واضعاً رأسه عليهما، صامتاً يتصبب عرقه، على جبينه الواسع محدقا فى الأفق أمامه ..
- الحمد لله .. ربنا يديك العافية يا بنى ..
- على إيه يا حاج ؟
- لو أمكن يابنى تودينى لمصلية المحطة أصلى الظهر قبل ما اركب "الجطر؟"
 من عنيا يا حاج
-   ريجى يا بنى ناشف.السكر والضغط مبهدلنى. ياريت كوباية مية من الكشك اللى جدامك ده ..
اتجهت لأحضر كوب ماء. عدت لأجد منسأته وقد وقعت من يديه. رأسه ملقاة للخلف كقوس مقلوب حدقتاه متسعتان. نحو السماء. ارتفع صوت جلبة فى الزاوية بعيدا عن جموع ركاب لم تنخفض وتيرتهم "يا جماعة مافيش دكتور. الراجل شكله تعبان. يا جماعة حد يتصل بالإسعاف" 
حملناه إلى المصلية. أسلم الغريب الروح. رحل الغريب. رحل متوضئاً. فتشناه بحثا عن إثبات شخصيته فلم نجد إلا " كارنيه معاش". أوراق (كمسيون) طبي طلبا لعلاج على نفقة الدولة. دسهم الرجل في كيس، معلق في عنقه.
رويت ماحدث لرجال شرطة حضروا بعد فترة. هذيتُ "مات بصحبة بعض الأوراق، هذه هي. أنظروا. هذه هى أنظروا. ها هى كانت حول عنقه". ورحت أرقب ساعة المحطة المعلفة فوق الرؤوس..


-----------------------------------