سرماديا

سرماديا

روح الكتابة *** النص / السرد / الكتابة..



فى روح الكتابة
---- خالد العرفي

شلال ينهمر بشدة وقوة،.. ثم يجرى هادرا... ثم ببطء، يتهادى.. هكذا الأمور دوما.. وبعيدا عن البوح الأدبى، تقع فيما يُسمى، بالقصّ وأسميه لنفسي السرد المتقاطع للدراما.. وهذا المفهوم يعنى أن تتداخل الأحداث، ويتعدد صوت الراوى فى النص، أو الرواية ها هنا.  قد أختذل، ثم أجدها تتشعب أمامى لأروى عنها، وأستطيع أن أعدد قائمة فعلا، بأحداثها الفرعية، وأماكنها وشخصياتها. وبعيدا عن تيار اللاوعى.. إستخدم الرمز بكل معنى الكلمة، والاصطلاح.. فيرهقنى، بناء النص وخاصة فى هذه الحالة، علاقته بالزمن، الذى يسير إتجاهات عدة، ويتقاطع، وليس فى إتجاه واحد، سواء إلى الخلف، بالإستدعاء، أو إلى الأمام بالروى، والسرد، قدما. وفى هذا النوع، من الكتابة، أرى المضمون والبناء، وأحدد ملامح للشخصيات، من خلال الأحداث، وليس السرد، فقط، مما إعتاد عليه، القاصّ النمطى. هى تجربة ذاخرة، أتحدث عنها، إستفدت منها أثناء عملى، كثيرا، فى رواية  "شيزر" فى كثير، من مواطنها.
وكتابتها لم تنته بعد.. يحكمنى فيها، كثير وكثير.. من أول دراستى لتاريخ، هذه الفترة مفصلا، من جميع مصادره الأصلية، سواء بيزنطية أو أرمينية أو سريانية أو غربية، من فرنسية وإنجليزية، وجميع المصادر الأصلية الإسلامية، ووضعت، من قبل مقالة عن بعض المؤرخين المسلمين، فى هذا الصدد.. واعتمدت على الترجمة لكثير من المصادر، غير العربية.. وهى مصادر نادرة، استغرقت منى سنوات، من عمل دؤوب. علاوة على مئات المراجع العامة، تتعلق بالأمر، من الناحية الأدبية، بل والجغرافية، وتضيف لى ولتصورى العام عن تلك الأجواء.. لا أنكر متعة العمل، فى هذا الجو التاريخي، وجمع مادته، لبناء الأحداث التاريخية، كخطوة أولى لتخطيط الرواية، بكل أبعادها قبل أن أضعها، فى بنائها الدرامى. خطورة الأمر، أنى أضعها نصب عيني دوما، لا تفارقتى... فهذه رواية تاريخية، تحيى هذا النوع من الأدب الفريد، ولا يجيده إلا كل موهوب صبور، يتقن البحث والتنقيب، فى المصادر التاريخية، وقراءة المؤرخين، وحولياتهم وأعمالهم. وقبل ذلك، أن يكون لديه الموهبة اللازمة والتصور الضرورى. وأظن أن منذ الثلاثين سنة الأخيرة، قد إنقرض، من له باع، أو ريادة فى مجال الرواية التاريخية الإسلامية، بعد رحيل أعلامها، وروادها الكبار.. أضيف إلى ذلك مرحلة كتابة الرواية نفسها، وهذا شئ يسكن داخل العقل والوجدان، ولكن بمفهوم مغاير ومخالف تماما، لما إعتدت عليه.. كانت هناك إشكالية كبيرة تواجهنى، وهى اللغة التى علي استخدامها، فى الصياغة والسرد، إلى جانب بناء الفصول.. أما عن اللغة، فكان على دراسة وقراءة أدب هذه الفترة، منذ القرن الرابع الهجرى، وحتى القرن السادس الهجرى... وهى فترة تميل إلى العصر العباسي الثانى، والعصر الفاطمى.. فكيف أوفق لغتى، لتعرض لإطار التاريخي، وأكسر حاجز اللغة، لهذه الفترة.. هنا حللت الإشكالية بالصبر، على قراءة أدب هذه الفترة، كما ذكرت، لإكتساب لغتها، ثم إصباغها بروحى، ووجهة نظرى.. وما وضعت فى المدونة، مجرد تجارب وسطور، من درافت قديم تجريبى، على هذا المنوال.. نجد فيه تأثير الكلمة وجرسها، وكذلك الجملة داخل سياق الفقرة، والذى يضمها إرتباطا بفكرتها. وأشير فقط فى هذا الصدد، إلى خبر سقوط أنطاكية، وكيف صغته فى محاولة تجريبية لإيجاد أثر نفسي، للحدث.. هذا عالمى، أحيا به، وأعبر جنباته، بفضل الله .. وحدة وعزلة، ليست هنا بمفهوم الناس.. إنما هى حياة كل الحياة، لا يعرف قيمتها، إلا من ذاقها فعلا...
ومن الإشكاليات التى تواجه الأديب، الكيفية التى يتم بها التجسيد للأشياء، لتقفز فى العقل، بعد أن تمر على العين، أو بمعنى آخر، ما يسمى بالوصف. وللوصف مهمة جمالية، قد تظهر للقارئ، فى نص طويل، كلوحات أدبية وجمالية مستقلة، لا يتعثر فيها.. شئ أشبه بأشكال من السحاب، ينثره الأديب، تحت ضوء الشمس، عن وعى وإدراك، يرصّع به نصه، ويزخرفه بنجوم لامعة.. وقد تأتى المقاطع الوصفية، فى أحيان أخر، عن لا إدراك، من اللاوعى ليؤدى الوصف مهمته، فى النص، مرتبطا بعنصر، على قدر كبير من الأهمية، من عناصر بناء نص، مثل الرواية، تقوم عليه،.. وهو عامل المكان، الذى بدونه لا يوجد شئ. ولا يستطيع الأديب تقديم شئ قط. وبلا ريب، فإن الكلمات التى يتم إختيارها، وإنتقائها، لها أهميتها، فى قيام عملية الوصف بهذه الوظيفة الكبيرة والهامة، فى العمل الأدبى. فالوصف أن ترسم بالقلم، مساحة الحكى الكلية، متضمنا تفاصيل مساحات صغرى فيه، ليحدّ بها المبدع، أثناء السرد، الحيز والفراغ، الذى يتم إختياره. وعلى ذلك يشكل الوصف، أبعاد العالم المادى، والوجود الحسي للنص. يخلق المكان.. بل، كل أمكنة النص، التى تشكل الفضاء الأدبى، فى مجموعها، ويعوّل عليها التمكن من رسم خلفية الأحداث والأفعال، التي تقع فى فضاء النص. والعبرة فى الوصف، ليس بإلتماس الدقة، فى بيان التفاصيل، بكل جزئية، أو تحري الإسهاب المطلق فيها، حد الإستغراق، إلى آخر تلك التفاصيل المسهبة، فى وصف صورة الحياة، وتسجيل مظاهرها ..إنما براعة الأديب، فى قيامه بوظيفة الوصف الرئيسية في نصه، وهي خلق الإيهام المؤثر والمستمر فى ذهن القارئ.. إقناعه بحقيقة أن ما يقرأه، قد حدث فعلا يوما ما، أو فى لحظة ما، فى زمن النص. ويحيله إلى زمن آخر حقيقى. والآلية هنا، أو الطريقة المثلى، التى يجب ألا تغيب عن الأديب، هى ذكر تفاصيل، تساعد على أن تُوهم، أن هذا ليس بخيال، إنما حقيقة، حقا.. بكل تفاصيل وملامح يمكن أن ترد، من وصف، مما يكفل التصديق، والتسليم بأن هذا وجود حقيقي، وعالم من الواقع. ليس أبدا خيالا، من صنيعة الأديب. أن تخلق بطلك تعطيه الحياة، لتدبّ فى أوصاله، فيشعر بها، ويراها، ويلمسها القارئ، بلحمها ودمها.. ماثلة أمام عينيه.. بإختصار، خلق المكان خلقا، لتضع فيه الشخصية وتنقلها، وتتحرك بها. وكلما دّقت التفاصيل المتصلة بالموقف، أو الشخص كان هناك من السرعة إلى تصديقها، كحقيقة. ويساعد الوصف الأديب على إظهار طبيعة حياة الشخصيات، والمستوى الإجتماعي. كما يشير إلى وضع كل شخصية، وما تحويه من حالة مزاجية وطباع، إذ ندرك بشكل غير مباشر، من وصف مظاهر معينة محيطة، ملامح تلك الشخصية وصفاتها. كما نلمس، كذلك، الجو المحيط، بهذه الشخصيات والذى يوحي به الوصف، سواء مباشرة، أو من خلال ظلال الكلمات.. والإهتمام بفهم عمليتى الوصف والسرد وتسليط الضوء على الفرق بينهما، تمييزا واضحا لكل منهما، هو أمر هام، بصورة بالغة. بوصفهما أساسان من الأسس اللازمة، فى بناء النص. وهو حقل معرفة، ضرورى، ويتعدى هذا الجانب، للنهوض بموهبة الأديب الحقيقية، وصقلها.. وإلا أصبح الأمر عديم الجدوى، ودونما ضرورة. ومن هذه الخلفية، لا يمكن أن نفهم، أو نحلل النصوص التى نقرأها، أو يتاح لنا تفسيرها، وتحديد إلى أين تذهب بنا، دون هذه المعرفة. وهو جانب يغطى مدى واسعا، يعبر بنا، إلى تملك فهم الإبداع، وكيف يتم، وكيف نقيّمه. علاوة عن معرفة الكيفية، التى نجد بها لذة فى النص، وكيف نغتبط به. ولعل النظر إلى السرد، والأفكار الأساسية المتعلقة به، يعد أهم منطقة، فى النقد الأدبى، وليس فقط فى فهم عملية الإبداع. وبإيجاز، ففى الوقت الراهن، فإن من لم يحظ بمعرفة، أو قراءة ودراسة مفصلة للسرد، ومظاهره، والذى يشكل جوهر الأمر، وما يسمى بالأسلوبية، وتحليل الخطاب والنص، وغير ذلك من أمور تتعلق بهذا الجانب..، لا يمكنه أن يتقدم إلى الأمام. سواء مبدعا أو قارئا.. ويكفى ذكر، أن الدراسات الأدبية والنقدية، باتت تغير منظورها، من دراسة الرواية إلى السرد. بل توسع مفهوم المسرود النثرى والسرد، إلى أبعد من الرواية كنوع وشكل أدبى رئيسى، ليشمل التاريخ، والسيرة والسيرة الذاتية.. سواء أكانت البنية السردية، من حيث الموضوع والمحتوى، واقعية أو تخييلية.. مع الإهتمام بوجهة نظر السارد، ومن حيث سيطرته على ما يرويه، وكيفية وضع رؤيته الخاصة، فى الإطار المكانى والزمانى. وبداية، فالأديب، يتراوح فى نصه بين أمرين. الأول يتسم بالسكون، وهو الوصف.. وهو يشكل النقاط التى يتم التوقف فيها عن سرد الأحداث. أشبه بإلتقاط لقطة "فوتوغرافية" .. وهنا لا يتحرك النص، داخل هذه النقطة الثابتة. وعلى ذلك، يمثل الوصف الفترات، التى يتوقف فيها الزمن، داخل النص. وهي معضلة تواجه الأديب، إن لم يحسب لها حسبانا، فى كتابة يستغرق فيها. وعليه أن يخطط بوعى، إذ يضطر لإيقاف سرده للأحداث، ليصف أمرا ما، لا يتحرك.. مكانا ما، أو شخصية ما، أو موقفا ما، أو حالة نفسية محددة..، وما شابه ذلك، من أمور يتناولها في نصه، واصفا صورة ساكنة، غير ذات زمن، ولا حركة فيها. وفى مقابل الوصف، يأتى السرد، الذى يمثل الحركة الفعلية، وسريان الزمن. وهو شطر على جانب كبير من الأهمية، أيضا، فالأديب هنا، هو الواصف / السارد. وهنا يقع  بين نصه، وبين القارئ. وتعتبر خطوة متقدمة، تلك، التى يُنتهج فيها، طريقة الوصف السردي، حينما يصف صورة ما، ممتزجة أو مقرونة بحركة متحركة، وحية. أى وصف صورة سردية، لها زمن. ومن هذا القبيل، وصف الأفعال والحركة ..وعلى أية حال، فإن أى إستقصاء، أو إسهاب في عملية الوصف والشرح، مع العمد إلى وصف الأشياء، بإيراد، كل تفصيل متاح ومتوفر عنها، من صفات، أو عناصر، أو كل ما يتعلق بموقف، في الزمان والمكان، لنقلها إلى العين، بالقراءة مباشرة، .. هى عملية، تميل بالأديب، إلى المذهب الواقعي، بإعتباره تقليدا أدبيا للحياة، وتمثيلا أدبيا لها..
مّمّا يتأصل فى النفس، ويكون له أقوى الأثر من وقع عليها، تلك التجارب الأدبية الحافلة بالذكريات الإنسانية، وتحمل معان بالغة الأثر، مثل الرحيل. أو تلك التى تجمل من معان، متمثلة فيما يقذف به الإنسان خلف ظهره، من صروف يتعرض لها عبر رحلة الحياة، ودروبها. الأمر الأشبه بتكسر سلاسل من الأمواج العاتية، حينما يكون على صخرة قوة النفس والروح. ومن هذا القبيل أذكر عملين أدبين لى، وهما (غربة طفل ذى تميمة) و(سرماديا). وأزعم أنها تجربة أدبية جديدة، جاءتا من بوتقة واحدة، إتصالا بعلاقة الأدب بالنفس الإنسانية بمفهومها الواسع. كما لا أتصور أن يفهم مثل هذين النصين النثرين، إلا من كان له قدرة موضوعية، وسابق تجربة فى النقد الأدبى الموضوعي.  ولست بصدد تأويل هذين النصين، نظرا لأنهما ينتسبان لى، إلا أن الأمر لا يخلو من فائدة للقارئ الذى وقف عليهما، حينما نشرتهما. ومجمل القول، هو وجه الجدّة فى هذين النصين اللذين شغلا من فكرى  فى بنائهما وصياغتهما، هذا المنحى.. وأقصد به الوجه غير المسبوق فى الكتابة. وجوهر التجربة هنا، هو الإبتعاد تماما عن كل ما هو متعارف عليه، فى فن القصة القصيرة وأصوله والتى باتت تقيد الأديب فى تفكيره، حتى ربما أنها قد تصبح قيدا على الإبداع الأدبى الخلاقوسوف أوجز النقاط الرئيسية، التى تعطى هذين النصين هذه الميزات التى أشرت إليها من تفرد، على سبيل التجربة، ربما إستفاد منها كل متعمق، أو وقف عليها بالفعل البعض، ممن يحسنون القراءة الواعية التى تكشف عن مواطن الجمال. ومن هذا البعد عن الشكل النمطى المعروف، فعلى سبيل المثال يتأرجح النص الأدبي (غربة طفل ذى تميمة) بين الرواية والقصة القصيرة رغم أنه يتعدى أبعاد الأخيرة، ويُجافى قواعدها تماما. والسبك الذى جاء فى هذا النص، بين عناصر أساسية مثل المكان والمكان والشخوص، هو المحكّ هنا. فقد عمدت إلى تحييد العنصرين الأولين (المكان / الزمان) فلم أذكر أسماءا لأمكنة معينة، كما لم أحدد زمانا أو تاريخا.. ولا شك أن هذا أعطى إتساعا وعمقا، ولا يقف على هذا الجانب إلا الناقد الواعى، والقارئ المتمرس. والغريب أننى فى بادئ الأمر، لم أخطط لهذا الجانب خاصة فيما يتعلق بزمان النص.. لكننى وجدت التجربة تستأهل تلك المغامرة المحسوبة فى الكتابة، وهو الأمر الذى أعطانى رحابة وقدرة على التنقل فى صيرورة الزمن، ببعديه الماضى والحاضر، والدفع بالنص إلى الأمام. والسؤال هنا، ماهى الطريقة التى انتهجتها فى هذا.. الأمر لى كان أشبه بالإمساك بدفة سفينة مبحرة فى الزمن، تحمل أحداثها الرئيسية. وهذا هيأ لى أن استغل آلية جديدة وهى الحدث / تغييب الزمن، كلما إحتاج الأمر منى ذلك. وللتغلب على الفواصل الزمنية الممتدة كان الحدث، هو البطل الرئيسى. والأمر الاكثر أهمية الذى ساعد فى ذلك وتعمدته، هو تغييب الأسماء، مع إعتماد الحوار الضيق لأقصى حد. والأكثر الأهمية صوت الراوى الذى لا يغيب فى النص/ بعيدا عن الإسهاب الذى يسببه المنولوح الداخلى. والتجربة فى هذا النص (غربة طفل ذى تميمة) لولا أننى اتكلم عنها وانا صاحب النص، لأسهبت فى تناولها من وجوه كثيرة. ولا شك أن النص الآخر وهو (سرماديا) يحمل من نفس السمات الشئ نفسه. وكم أثلج صدرى معدل القراءة العالى فى المدونة لهذين النصين بالذات حينما نشرتهما. ورغم عدم وقوفى عادة لمثل هذه الأمور، إلا ان الأمر كان ملفتا لنظرى، وربما هذا هو السبب المباشر فى كتابة هذا المقال القصيرعنهما، وهى صعوبة على الكاتب أو الأديب، أن يكتب كيف يكتب. على أية حال، كلما رحبت آفاق الكاتب وجد معينا بعد معين لتجربته الإبداعية، تتدانى إليه على ضفافها أبعاد النفس البشرية، وتتقارب معها أطراف الكون، فيتسع المدى أمامه، ليطال فيه من كل ثمار الفكر. ولاريب، حينما يلج العقل مثل تلك هذه العوالم الرحبة، التى لا تضيق إلا على كل ضيق الأفق، وتتوه عن كل مغلق الفهم، فإن الكاتب يجد ثروة من الأفكار، تأخذ وقتها حتى تنضج. وتستغرق من جمرة الفكرة الموقدة، حتى تطيب، فتظهر من خبايا الذاكرة، وينزف بها القلم مسكا لا يشمه، ولا يستطيبه إلا كل قارئ باحث عن متعة فكر، ومتذوق لعذوبة لسان عربى مبين. ولا شك كذلك، أن هذا الصنف هو النازح دائما عن كل غثّ ،آنفا بنفسه عن كل ما لا يستسيغه العقل الراجح والفكر السليم. وأخيرا أن نجد متكأ للحظات، يرهف فيه العقل السمع لصرير القلم، تناجيه فيه الأفكار والرؤى، عبر كل بنيان فكرى، فرعه فى السماء، وقد أتى أكله بإذن ربه.
رمزية جورنيكا !
------- 
وضعت فيما سبق مقالا، عن الفن، وتحديدا عن أثر الرسم فى النفس البشرية، ودور ذلك فى الأدب، وفى تشكيل وتكوين نفسية الأديب، وعوالمه. ومن اللوحات المدهشة، لوحة الفنان العالمى بيكاسو الآسرة، التى رسمها عام 1937م، والمشهورة باسم (جورنيكا). وهى اللوحة، التى تنبض بكل عفوية وتلقائية، بالروح البشرية. وقد رسمها بيكاسو، بعد قصف النازي لقرية جورنيكا الإسبانية، قاضيا على عدد كبير من سكانها، في الشمال. والرائع فى هذه اللوحة، أنها اعتبرت، أهم لوحة رمزية لتصوير أهوال الحروب، ومن هنا، اقتنت الأمم المتحدة صورة منها، فى مبناها، للتذكير بويلات الحروب، وآثارها المدمرة على العالم. وقد إلتزم فيها بيكاسو فقط، باللونين الأبيض والأسود، مع درجات متفاوتة ومتباينة من الرمادي، محرما على نفسه بقية الألوان الأخرى، وهي الأكثر قدرة على التعبير، والنبض بمعان يريدها فى اللوحة. ومن هنا، إستعاض بيكاسو بحل آخر، فكان إصراره على أن تكون اللوحة، أو أي لمسة فيها رمزا، على مآساة من فاجآهم القتل، والتشريد. وهنا يظهر دور الرمز،  وأهمية دلالته، والذى إستخدمه بيكاسو، على نحو واضح، بتسليطه الضوء على أعضاء بشرية، متناثرة ومشوهة! تمثل فى مجملها كومة من الإحساس، لـتكثيف الشعور بفظاعة الحرب، وضرورة الإحساس بويلاتها، على الضحايا الأبرياء. ومن تلك الرموز الموجودة فى اللوحة، والتى أدت فى تضافرها المعنى الكلى (الثور، الحصان، الرأس الصائحة، الذراع، العين، ..). ناهيك عن الحركة الإنسيابية فى اللوحة، على إمتداد أبعادها. ولا ريب، أن كل رمز له دلالته الفنية العميقة، فى تصوير مآساة البشرية، ومعاناتها من الحرب، أيا كان وقتها، وأطرافها، من البشر.. ولا أنكر، أننى إستفدت من دلالتها كثيرا، فى كتابتى لقصة سرماديا، فهناك علاقة بين سرماديا وجورنيكا، وهى مما يُشار إليه، من علاقة مباشرة، دوما هى، بين الفن والأدب.
-------
الخَلق الأدبى - القصة فن أصيل رفيع
---------
 كتابة القصة فن أصيل رفيع. لا يمارسه إلا صاحب موهبة، من البداية إلى النهاية. وترتبط هذه العملية بمجملها، بما يسمى بالخَلق الأدبى. وبهذا المفهوم، ليس من المعقول أو المنطقى، أن يكون كل من أمسك قلما، صاحب منبع خلاق. فهو أمر نامٍ مع الوقت. ينضج، ولا يمكن أن يتوقف تأثيره.. والخلق الأدبى نفسه، أن تعطى شيئا تتمثل فيه الحياة، وتنطقه الموهبة. ومن هنا، نستطيع القول، أن هناك كثيرين يتمنون ويتمنون.. بل ويأخذهم الخيال غير الخلاق، وأحلام اليقظة، أن يكونوا كذلك، فيبذلون محاولة فاشلة تلو محاولة، لكن أبدا، لا يمكنهم تحقيق ذلك الخلق، أوبث حياة فى عمل أدبى، يُعدّ أعلى ما يتوقعه قارئ أو متلق. والدليل الواضح، هذا الكم الكبير من الأسماء واللا أسماء، ممن لو أحصيت، لن تجد منهم إلا أقل القليل، الذى يحمل حقا، موهبة حقيقية. ولاشك أن العملية برمتها، لها جانبان. أولهما بطبيعة الحال، تلك الموهبة الصادقة، بالأساس، والتى يجب صقلها إثر إكتشافها. والثانى القواعد العلمية، التى لها سمات محددة، لا غنى عن معرفتها، وإتقانها قبل الكتابة. ويرجع (يوسف ادريس -  رحمه الله) وهو رائد من رواد القصة القصيرة - هذا الأمر، إلى أن الموهبة المؤثرة، هى التى تلمس الوجدان، وتعبر عن العواطف والإنفعالات، بل ولها القدرة على تغيير السلوك فى الحياة وإثرائها. وكما يرى (تيمور – رحمه الله) أن فيها الفقر، الذى تصفر فيه ريح الخواء، وفيها الخصب، الذى يزهر بالنماء والازدهار. وعلى هذا، يصح القول، أن القصة القصيرة تعد فنا صعبا، بل وأحيانا، أكثر صعوبة وفنية من الرواية الطويلة، من أبعاد شتى، رغم إختلاف البناء والقواعد بينهما. وحتى تقف على هذا الجانب الخلاق، لتعرف مدى صحة هذا الرأى، فى القصة القصيرة وتكامل صورتها وبنيانها عند روادها، عليك مثلا، قراءة أعمال الأديب الفرنسي (موبسان). مختصر القول، وعلى وجه التحديد، فإن القصة القصيرة، تمثل عالما له بصمته على الإنسان، بدنياها الزاخرة، بشتى الأحاسيس والإنفعالات.. الحياة بكل جمالها ورشاقتها وعذوبتها وآلامها.. عالم المفارقات والمتناقضات. الأمر أعمق، بالطبع من هذا التناول المقتضب، وله عودة أكثر تفصيلا.
 ------------
الكتابة 
بين الإلهام والعقلانية
------------ 
قد يكون الكاتب بين أكثر من عمل يستغرقه.. وقد لا يجمع بين مشاريع الكتابة هذه  إلا خط رفيع، يحمل من روح القلم عبر الزمن. فإذا كان للكاتب أكثر من كتاب، يعمل فيها متنقلا بين حدائق الفكر، والتدبر بروية وتؤدة، فهو فى أسمى حالاته.   ومن الكتابة ما يكون له خطة عمل مسبقة، يضعها الكاتب على أسس المنهج العلمى الموضوعى. وهذه الأسس هى التى تحكم عمله، فى كل مرحلة من مراحل الكتابة، حتى ينهيه كما تصوره مسبقا. والإبداع فى هذا الصنف من المؤلفات، لا يتعدى كونه تقديم الموضوع، من وجهة نظر مغايرة لما سبقه من مؤلفات، وإن كان يستند إليها فى الإلمام بشتات الأمر كله، وله بنائه ولغته الخاصة بهولاشك أن الكاتب يتطور عبر الوقت، ويتقن آليات البحث العلمى فى الموضوعات التى يجيدها، والعلوم التى تصادف فى نفسه ميلا إليها. وأعتقد أن هذا الصنف من الكتاب، يكاد ينحصر فى علوم معينة.. ومن تعدى هذا يكون فى صراع دائب مستمر، بين أكثر من مجال يدرى أنه يتقنها، ويرغب فى الإسهام فى كل منها. ومن هنا يأتى تنوع إبداع هذا النوع من المؤلفين. ومن هنا أيضا، يكون الصراع مع الزمن أثناء الكتابة، حتى تثمر جهود الكاتب وسهره، عما يثلج له صدره قبل قارئه. والغريب أن هذا النوع كذلك، قد تكون له ميول أدبية دفينة، تتصارع قى قلب مكنونات أعماله البعيدة ،عن الإبداع الأدبى حتى تأتى لحظة قدرية، تنفجر فيها الرغبة المكبوتة، لتعلن عن مولد أديب له سمته وتميزه، يمضي معها ما تبقى من عمره. ومن هذا الصنف أذكر الكاتب الإيطالى (أمبرتو إيكو) الذى قدم رائعة الأدب الإيطالي رواية (اسم الوردة) بخصوصية أسلوبه الروائى، والذى يختلف تماما، عن أسلوبه فى كتبه الأخرى، مثل كتابه الشهير (حدود التأويل). وهذا يستوجب مصارعة من نوع جديد، بين ماتعود عليه الكاتب من عقلانية، وبين مايحتاجه الأديب من إلهام.. بين العمل الفكرى المنظم، وفوضى الكتابة الخلاقة.  وهى قضية الفائز الوحيد فيها هو القارئ، الذى يرتبط بالأديب والكاتب. وهى مفارقة غريبة، تثير سخرية الأديب، الذى تتفجر فيه ينابيع من كل نوع.. جولة بعد جولة، مع قلمه مغرما ومفتونا بمعاناته، التى لايدرى بها القارئ، أو يعرف عنها شيئا. وهنا يصبح ماكان إستثناءا هو القاعدة، متفردا به القلم، فى مغامرة مارقة عن المعقول، تعترك رحاها فى سويداء القلب، قبل عقل الكاتب، تلتهب بها الصياغة، وتنسكب بما يُوصم به أسلوبه ويتفرد. وهذا العزف أو العدول اصطلاحا ، ليس ورائه من نفس الكاتب الشئ الكثير، قبل الخيال الأدبى، كما قد يرى القارئ والمتلقى. وقد تكون النصوص نفسها مرايا، تعكس وميض خلجات القلوب وعوالم الأديب. وليس هذا مبررا أن كل الحالات تكون على هذا الشاكلة، وعلى وتيرة واحدة، وإلا كانت جناية  على القلم، وحكما بموت الإبداع، الذى يحمل شرارة حرية التحليق، وإلا كانت نيلا من فيضان الإلهام، أيا كان نوع النصوص الأدبية، حتى على مستوى الخاطرة. بين دموع القلم ودمه وغضبه، حتى صمته وأحيانا كثيرة عجزه تماما، الذى ينازع ما لا يكون بعد، ولا يلوح من بعيد من إبداع. كما يعتبر من قبيل أصداء النفس، ورجعها المسجون كآثار لتاريخ في زمن غريب، لايؤطره إطار، ليس فيه حين وحين آخر.  لايتأرجح بين غد وآنذاك.. يتواءم مع كل لحظة، لا يحمل ذكريات أو بقايا بعد، فيها القلم.. فهو شئ يفوق قدرات الكاتب وحدهولابد له من إلهام، يستنهض القلم، بين معاناة ألم أشبه  بنسمات الفجر الباردة وطياتها العذبة، تارة وأخرى.. وهذا تناقض غريب بين وحدة وعذاب واغتراب، وشعور بصوت، لا يسمع إلا في أعماق المجهول، والنفس والروح. كأنه شئ من آلام الجنون.. وهذا ما نلمحه من عقلانية (أمبرتو إيكو) فى كتابه (حدود التأويل) وجنونه فى روايته الرائعة الصادمة (اسم الوردة).
----------
فى الكتابة
--------
وللكتابة عذاب وأجد لها ألما داخلى يستغرق كل وجداني. ولا أعرف كيف أخرج من هذه الحالة التى تتملكني. صراع بيني وبين نفسي لا ينقطع. أكاد أرى ما سوف أكتبه، قبل أن أكتبه. ولكن يظل داخلى لا أعرف متى ينطلق. شئ أشعر معه أننى مقسوم من الداخل. كأنى أنظر لإنسان آخر داخلى يملى عليّ ما يعرف هو، لا أعرف أنا فأصبح مسخّرا له، يقودني. يعذبني، حتى أمسك بالفكرة، ولا أعرف لها أول من آخر. كأن القلم لايعرف كيف يخطو خطوة، دون قلق يساور العقل، ويستولى على الروح. وحينما أحاول رفع رأسى عما يستغرقنى، أكتشف أنني مازلت فيه، بهواجس لا تنقطع عن الخاطر.   ولا أعرف إلا أن أشكو من هذه الحالة، التى تنتابنى فأشعر معها أنى بكون آخر وزمان آخر. لا أعرف أيتلبسّني القلم أم أنا أتلبسه؟! أم هذا الإنسان الذى داخلى يمتلكني وقلمي معا..؟!  فأنا مجزّأ بين هذا وذاك. لا أعرف كيف أشرح ذلك. ولا أعرف كيف تستولى على كل مداركى، هذه الحالة. فأشعر أننى فى يد اللاوعيى.   لا يحكمنى عقل ولا منطق. تنساب الكلمات والمعاني كنهر كبير بدون ضفاف. وأحيانا أجدنى وسط صحراء، أنظر لنفسي مشدوها. وأنا داخل ما يعرفه هذا الإنسان ولا أعرفه، فأستجدي القلم  وأركض راءه. ولا أعرف إلا أن أسمي هذا، شيئا من جنون الكتابة. وددت لو كان جنونا دائما، ليخرج كل ما يعتلج فى عقلي ووجداني. لا أكاد أستبين معناه ولا ملامحه، إلا إذا دخلت فى هذه الحالة. وأشكو نفسي لنفسي وأشكو قلمي عاتبا على ما كمن وراء عقلي. ويصبح شيئا أتلاشى فيه، وأمزق اكثر ما أكتب. وحينما تحين اللحظة، التى أظل أنتظرها، يكون قد أعتصرنى ما لم أكتب أكثر مما كتبت.. فأظل تائها، أبحث عن سبيل. فهناك دائما شيئا ناقصا لا أعرفهوأحيانا أصوم عن الكتابة، كمن به عُقم. لكنه شعور آخر، حينما يكون شيئا برأسى، يسكننى ولا أكاد أدركه. لا أعرف لماذا أكتب لكنه شيئا ينتابني.. لا أعرف له أولا من آخر، فأنا فى وسطه غارق. شئ ليس  له ملامح واضحة، أو محددة..أشياء تأتينى كفلاشات الكاميرا فى عقلي. ومضات وراء ومضات. تنعكس حتى على حالتي النفسية. ألوانا وصورا تعبرعن معان تائهة لتتضافر الكلمة مع الصورة. الأبيض مع الأسود، الظلال مع النور. كأننى أعبر بذلك فى عقلي، عما لا أستطيع  بيانه بوجداني. تمنيت لو كنت فنانا تشكيليا، لأعبر بريشتى، كما أعبر بقلمى، ليخرج الألم من داخلى، مصاغا فى سبيكة واحدة. تراها العين وتقرأها. ولا أظن أننى أحسن صنعا. فما زال داخلى كثيرا يسكن وجدانى فكرة وراء فكرة، أنقسم بينها وتنازع روحي. هذا شئ أعرف أننى أعرفه فى نفسي. ولكن ما لا أعرفه، لماذا  يزداد معى يوما بعد يوم مع مرور الوقت، كنار تأكل الأخضر واليابس فى وجداني، ليصدر نزف القلم، ويفيض من كل شئ. آراه فى عقلى، حتى فى نومي البسيط المتقطع. ما زلت على ساحل الكتابة، وأشعر أن هناك شيئا ضائعا، داخلى أتوه معه، حتى حال يقظتى.  وحينما أفكر فيه يهرب منيوحينما تتملكنى تلك الحالة الغريبة، أنتقل لحالة أخرى مغايرة تماما لحالة الألم. ولا أشعر إلا وقد كتبت وكتبت، وأخشى على ما كتبت أن أمزقه. ومرارا تنتصر رغبة عدم الرضا، فليس هذا ما فى عقلى. لكننى أظل دائما أبحث عن لحظة التلاشي هذه، لأتوحد مع قلمى ومع ما بداخلى. وحينما أقترب يزداد شعوري، أننى أبتعد أكثر. وهكذا أدور فى دائرة لا تنتهي. وهذا جنون فعلا، حينما أدخل فيه لا أشعر بنفسي، إلا منعزلا عن كل شئ. باحثا عما فى عقلي ووجداني يسكنني. أريد له أن يكون تحت ناظري. لا أعرف كيف أشرح ذلك لنفسي.  تمنيت أن أعبر عنه وأصرخ  به، حتى لو كنت وحيدا مع نفسي.. وأشكو نفسي وما بداخلي. وددت لو فسره عقل أو منطق. وددت لو عرفت سبب ما زال يعتلج داخلى.لا ينكسر قيده من وجداني. أتألم فاكتب ليخرج كما آراه فعلا يدور فى خلدى. وقد يكون هناك رباط لا يُرى، يجمع بين نصوص نوعية خاصة للكاتب، أشبه بأحاديث مع النفس، مما قد يعانيه وحده فى عملية إبداعه، أو الكتابة بصفة عامة. فلا يشعر به أحد. وما يعانيه ربما لا يعرف طريقه إلى الأوراق. ويظل حبيسا فى عقله وصدره فيتحدث به مع نفسه. حتى لحظة الكتابة رغما عنه. فيجد نفسه مدفوعا إليها. وتزداد الحيرة حينئذ. وقد يتهم نفسه فى هذه الحالة أنه عاد بل لا يستطيع أن يفهم شيئا، بما يدور فى نفسه. وهى حالة أشبه بالجنون العارض. وهو مبحث هام فى عملية الإبداع، وقد تربط بعملية التحليل النفسى. وفى كثير من الأحيان، بكون الكاتب فى عملية إختيار بين الكلمات والألفاظ. خاصة حينما يكون لها أكثر من معنى تتأطر فيه. ولكن المدهش، حينما لا يحتار فى الإختيار إنسياقا وراء حالة نفسية، تدفعه دفعا للكتابة فلا يقف على شئ. وإنما يصبح الأمر كله أشبه بتيار مندفع، لا يستطيع أن يوقفه أو يقف أمامه. وهى لحظة أكثر إثارة. وهى ما يبحث عنه الكاتب أو الاديب دائما، حينما ينساق باللاوعى، فيصير هو نفسه كهباءة، تتناقله أصداء الكلمات عاصفة به، فتولد منه ما لايمكن أن يتصوره هو فى نفسه. وهى لحظة كذلك، من لحظات مايسمى بالإلهام. والتى يقف وراءها دافعا خفيا لا يعلمه إلا مبدع النص. كنافذة فتحت ليطلع منها على روحه. يرى ويقدم ويحجم. بعدما تركت فيه بقايا أحاديثه مع نفسه ما يشبه درجات اللونين الأبيض والأسود. يتحرك بينها كأسوار وسياجات وظلال متدرجة، أو مرآة تعكس فيها صورة ما يعتلج فى نفسه.  وقد يسمعها كأنفاس، وهمسات وأصداء تتردد فى عقله، فيقصّ أثر ما كان غائبا يبحث عنه، فيوقن أن لحظة الكتابة فعلا قد أتت. وبشئ من الصبر والتصّبر والجلد ومعايشة الأمر، والممارسة، تكون متعة الكتابة بصدق الإحساس. ومن لم يصل إلى هذه الحالة، يفشل مرة بعد مرة، حتى تواتيه الفرصة، وتأتيه لحظة الكتابة الصادقة. ولولا ذلك لاستمرت تائهة عنه، وراء غيب وتحيره. ولظلت كأحاديث نفس  كثيرا، ما تضيع بين الصمت والنطق. ومن هنا، يأتى سبب من أسباب الإختلاف فى تلقى وتأويل النصوص. وفى مقال (مذكرات صديق) ولم أكن أتوقع هذا الإقبال، على قراءة هذا النوع من الأدب، فكثيرون أولئك، من لهم إهتمام بالطب، والتحليل النفسي.. حتى أننى فكرت "ولما لا أغيرها إلى مجموعة قصصية باسم (حالات).." مستفيدا من هذا الثراء النفسي، إستنادا إلى التحليل، ومرجعية الطب النفسي، لما كنت سوف أضعه فى هذه السلسلة من المقالات. بلا ريب، فإن هذا النسيج، يعطى عالما كبيرا ورحبا للكاتب، يستوعب، هذه النوعية المستقاة من الواقع، وهى تجربة جديدة، أخوض فيها مع القلم.. ولعلى أسمّى كل قصة منها ب"حالة".. فلم أقف بعد، على المسميات، بقدر ما، وقفت على مدلول وعصب، كل قصة منها. فكانت أول قصة منها بعنوان (الحقيبة)، بعد تعديل المقال المذكور، إلى قصة مفتوحة النهاية.. لتكون مدخل المجموعة. وهذا ما جعلنى أستطرد فى بيان كتابة القصة، وكيف أنها فن أصيل رفيع، فى مقال (القصة هذا الفن الرائع) الذى لا يمارسه إلا صاحب موهبة، من البداية إلى النهاية. وترتبط هذه العملية بمجملها، بما يسمى بالخَلق الأدبى. وبهذا المفهوم، فليس من المعقول أو المنطقى، أن يكون كل من أمسك قلما، صاحب منبع خلاق. فهو أمر نامٍ مع الوقت. ينضج، ولا يمكن أن يتوقف تأثيره.. والخلق الأدبى نفسه، أن تعطى شيئا تتمثل فيه الحياة، وتنطقه الموهبة. ومن هنا، نستطيع القول، أن هناك كثيرين يتمنون ويتمنون.. بل ويأخذهم الخيال غير الخلاق، وأحلام اليقظة، أن يكونوا كذلك، فيبذلون محاولة فاشلة تلو محاولة، لكن أبدا، لا يمكنهم تحقيق ذلك الخلق، أوبث حياة فى عمل أدبى، يُعدّ أعلى ما يتوقعه قارئ أو متلق. والدليل الواضح، هذا الكم الكبير من الأسماء واللا أسماء، ممن لو أحصيت، لن تجد منهم إلا أقل القليل، الذى يحمل حقا، موهبة حقيقية. ولاشك أن العملية برمتها، لها جانبان. أولهما بطبيعة الحال، تلك الموهبة الصادقة، بالأساس، والتى يجب صقلها إثر إكتشافها. والثانى القواعد العلمية، التى لها سمات محددة، لا غنى عن معرفتها، وإتقانها قبل الكتابة. ويرجع (يوسف ادريس -  رحمه الله) وهو رائد من رواد القصة القصيرة - هذا الأمر، إلى أن الموهبة المؤثرة، هى التى تلمس الوجدان، وتعبر عن العواطف والإنفعالات، بل ولها القدرة على تغيير السلوك فى الحياة وإثرائها. وكما يرى (تيمور – رحمه الله) أن فيها الفقر، الذى تصفر فيه ريح الخواء، وفيها الخصب، الذى يزهر بالنماء والازدهار. وعلى هذا، يصح القول، أن القصة القصيرة تعد فنا صعبا، بل وأحيانا، أكثر صعوبة وفنية من الرواية الطويلة، من أبعاد شتى، رغم إختلاف البناء والقواعد، بينهما. وحتى تقف على هذا الجانب الخلاق، وصحة هذا الرأى، فى القصة القصيرة وتكامل صورتها وبنيانها عند روادها، عليك مثلا، قراءة أعمال الأديب الفرنسي (موبسان). مختصر القول، وعلى وجه التحديد، فإن القصة القصيرة، تمثل عالما له بصمته على الإنسان، بدنياها الزاخرة، بشتى الأحاسيس والإنفعالات.. الحياة بكل جمالها ورشاقتها وعذوبتها وآلامها.. عالم المفارقات والمتناقضات. الأمر أعمق، بالطبع من هذا التناول المقتضب.فالقصة القصيرة نوع من الحكاية له مضمون، مكتوب نثرا، وتروي القصة حدثا بلغة أدبية راقية، ويقصد بها الإفادة أو خلق متعة ما في نفس القارئ، عن طريق إسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخيلية والواقعية. وذلك بهدف إستثارة الإنتباه والإهتمام. سواء كان هذا نابع من تتابع وتطور الأحداث التى تتناولها أو بتصوير الأديب لحدث معين، يطال عادة أو يخلق  حدثا غريبا. إنها قطعة من الخيال، عبارة عن وحدة فنية، تتناول قطاعا عرضيا من الحياة ، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعـالج لحظة وموقفا تستشف أغوارهما، تاركة أثرا واحدا وانطباعا محددا في نفس القارئ. ومن أبرز خصائص القصة القصيرة وعيها الشديد، بالتفرد الإنساني، وتصور حدثا معينا، لا يهتم الكاتب لما قبله أو لما بعده. فى النهابة، هى عمل أدبي يصور حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، يتعمق القاصّ العبقرى في تقصيها وتتبعها، والنظر إليها من جوانب متعددة مترابطة، ليكسبها قيمة إنسانية كبيرة. خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي، وما يكتنفها من مصاعب وعقبات، على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة، تنتهي إلى غاية معينة، وهدف، مخطط بوعى وإدراك. تعتبر القصة القصيرة من الأنواع الأدبية الوافدة، وإن كانت لها جذورها في حكايانا وأخبارنا ومقاماتنا العربية. ويدرك المطلع على الأدب العربي القديم أن نواة هذا الفن القصصى وبدايته لم تكن غريبة أبدا على الأدب العربي بالمرة،  إذ نجد أن العربي قد عرف بسليقته وفطرته فن القصّ، وعرف القصة بمعناها ومفهومها العام، فيما أوردته أخباره وحكاياته، التى وردت فى الأدب العربى، بصور وأشكال مختلفة ومتنوعة، من نثرا وشعرا، مسايرة حياته، التى تنطق بخصائص ومفردات البيئة المحيطة به. ومن هذا جاءت القصة، التى تستقى وتنبع من تلك البيئة الأصيلة،  كقصة عنترة والمقامات والسير والأخبار والنوادر وقصص الأمثال العربية القديمة، التى تمتلأ بها المصادر والتراث العربي، والتي نلتمس فيها بوضـوح روح الـقصة أو على الأقـل نلمس مشابهة روح الحكاية المشابهة لروح القصة من حيث البساطة. وما قصص الحب العذري، مثل قصة (قيس ولبنى) إلا واحدة من ذلك، بينما نرى البعض الآخر، من تلك النوعية المتعددة قد ورد ونشأ، نتيجةً الإتصال بأمم أخرى مثل الفرس، وغيرها، مثل (كليلة و دمنة) و(ألف ليلة وليلة) ثم فيما بعد، لتجسد الآخر في الأدب الشعبي والتصويرى، الذي عنيت به العامة، ووجدت فيه متعـة، وإن كـان يضـرب فى كثير من الأحيان إلى الخيال. ومن أهـم القصص الشعبية ما يعرف بالسير الشعبية. وتروي الحكايات الشعبية كثيرًا من الموروثات الشعبية إبتداء بالأساطير ووصولا إلى حكايات الجان.. ثم الحكايات، التى تمخضت عنها الأمثال والحكم . وعلى ذلك فللقصة القصيرة، أصل في تراثنا العربي، على أننا لا نجد فيه ما يمكن أن الإطلاق عليه قصة قصيرة، بالشكل المعروف، والذي نعرفه وفي صياغتها الخاصة بها، الآن. فالقصة القصيرة كفن مستقل بذاته، لم يظهر فجأة، أو من فراغ في أوربا نفسها، بل سبقته مراحل تطور عديدة، حتى وصلت إلى صورتها الحالية، والشكل الذى تتميز به. وعلى الساحة العربية لو تتبعنا ما يمكن أن نطلق عليه الفن القصصي عند العرب، فستكون البداية حتما من هذا النوع المعروف بالقصص الخرافية.  ومما يدل على أن هذا اللون من القصص كان يُعد من الأدب كتاب "سهل بن علي أبي غالب الخزرجي" عن الجن وحكاياتها، والذى حمله إلى "هارون الرشيد". وكانت المرحلة التالية هي القصص الشعرية الحماسية (الملاحم) بعد الفتوحات الإسلامية، والتي روت سير أبطال العرب ومغامراتهم في القتال والحب، مثل سيرة (عنترة بن شداد)، و(الملك سيف بن ذي يزن) و(السيرة الهلالية) وغيرها، وكان السرد والحوار فيها، يتكون من النثر والشعر. وتعتبر المقامة أشهر وأهم لون أدبي فى القصة العربية، ومن مراحل تطورها المهمة، وأول من ابتكر المقامات "بديع الزمان الهمذاني" ثم "الحريري".  ولا ينكر الدور الذى لعبه القصص الديني، مع ظهور الإسلام، إذ نزل القرآن الكريم بأروع القصص وأجملها، كقصص الأنبياء والرسل. وحديثا ظهرت القصة القصيرة، بشكلها الأدبى المعاصر، على أيدي عـدد من روادها، في مقدمتهم الأمريكي ( إدجار آلان بو) الذي لم يكتف بكتابتها، بل حاول التنظير لها، وقد لخص خصائـصها، بوحدة التأثير أو الإنطباع، وأنها تقرأ في مرة واحدة. وتمثل إبداعات (تشيكوف) و(جوجول) القصة القصيرة، ثم (موبسان) أحجار زاوية كبيرة فى هذا الفن الأدبى. وعلى مستوى الأدب العربي، يرجع الفضل في ظهور القصة القصيرة إلى الآداب الغربية إذ أتيح للأدباء العرب الاطلاع عليها، فتأثروا بها. ويعتبر الأخوان محمد ومحمود تيمور، من الروّاد فيها. وفي منتصف القرن العشرين ظهرت القصة القصيرة أقوى عند الأدباء المصريين، مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي. وبدأت تطورها السريع، وبرع فيها الكثير من الأدباء العرب، مثل يوسف أدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله، وغيرهم. ويعتقد البعض أن القصة القصيرة فى متناول اليد سهلة المنال، فتطفل الكثيرون على دائرتها. والأغرب هو الخلط الذى يحدث بين الخاطرة وبين الحكاية أوالحدوتة، وبين القصة القصيرة، فتأتى منهم القصة خديجة، لم تكتمل لها، لا عناصر ولا حبكة ولا بنية ولا لغة، ممن يدعون كتابتها، ظانين أنها قصة قصيرة.
-----------
ما كان ليقدر لى الإنصات هكذا، لهذا الصوت الغامض.. ليست لأن الكتابة، كمردود لتلك التجربة الغريبة التى إكتسبتها، من هذا النداء الصامت، أو لوحة أمتلكت ألوانها لفترة، ثم تلاشت وراء دروب العقل فجأة. لكن، لأن النور كان قويا فى بادئ الأمر، وسرعان ما تلاشى وأنا أتبعه، كأفضل قصّاصّ أثر، فى قلب مجهول. إكتشفت أنه لم يحدنى أمل براق فى رؤيته، أو أحيط بمصدره تماما فى عقلى، فأهتدى إليه. قبل هذه الحادثة مع الكتابة، كنت أتلقى ومضات، كأنها تخطط لتوقعنى فى الأمر، وإستمالتى دونما شعور منى. فوضى من دعوات متكررة، تدفعنى لأقطن هذا العالم المجهول، لأختص به وحدى، ويختص بى. ولكننى بت أكتشف الأمر، بين الحلم والواقع. كأننى أتنقل بين التاريخ والأسطورة، فاقدا براعتى، على الإمساك بخيوط  غائب، وراء حدود حواسى، وعقلى. أنها تجربة غامضة ومتوهجة، مع الكتابة، جولة بعد أخرى.. لكنها فشلت، لتهدينى إليها، وفشلت معها، قبل أن أنغمس فى محاولة كشف مدلولها معى، هذه المرة، من حياتى. وبمجرد أن ألقيت النظرة الأولى الخاطفة، على ما تبقى منها، قاصدا دليل، استجلى به هذا الغموض وسببه، وجدت ما حيّرنى أكثر، كمتاهة للروح. لكنه، كان شيئا فائق الأهمية، للنهوض، إلى مرحلة متقدمة مع الذات، وإكتشافها، على الأقل ملاذا منشودا للقلم، فكرة ومعنى، وزادا. إكتشفت معه، أننى لم أكتب شيئا بعد، يستحق أن أقرأه، ويأخذنى إلى ما أفكر به. حتى الشعر أرانى أتنصل منه، وأنكره، على نفسي. أعتبره مجرد تجربة نفسية، مضت وذهبت، حملت عينا للروح، لا تحملها القصة أو الرواية. ولست شاعرا، ولن أكون يوما، ما حييت. إذن كانت مواجهة الذات، فيما أعمق مما تحمله كتابة الشعر من قصائد نثرية، من معان وآفاق نفسية. ولا شك، فتلك هى الكتابة، بمفهومها ومعناها الواسع، لما نكتب، وللتعرف على ما نفكر به، ونهتم به فى الحياة. نمخر به عباب آفاق الروح. فنصبح مع الأمور، وجها لوجه، ومعنا تصبح. وأعتقد أن هذا هو القاسم المشترك، لما وقفت عليه بين تلك الأمور، التى حيرت عقلى وفكرى، رغم الفرق الشاسع بينها. والحديث، حديث ذات، وهموم نخوض فيها، وبها مع القلم، تستغرق وقتا، بل أمدا. وما إكتشفته حديثا، أوقفنى عند أشياء ما كان يأتى بها، إلا الزمن وحده، خلال تجربة إنسانية، تستثير كوامن الروح، قبل أن تقع عيناى على جوهر الأمر، حتى لو كان عملا واحدا، يستغرق العمر كله، ويأخذنا  معه، حتى يظهر. وحتى وإن استوعبت التجربة الشعرية جانبا من هذا، فقد صرت على بينة ويقين أن الأمر، لم أستكمله بعد، مع نفسي. ويتلاشى معه كل ما مضى من القلم. إنه فراغ، لا يملأه إلا الفكر الصافى، فى دقائق الأمور. وهنا لا يحمل هذه المعانى، ليس الشعر أبدا. إنما التجربة الكلية، فى عمل تعطيه من نفسك وفكرك. وهذا هو السبب الأساسى، فى إلغاء أو تعديل أشياء نشرع فيها، فتسلمنا إلى أشياء أخرى أعمق، تثنينا إليها، وتميل بنا، قوة خارقة. وتوصيف الأمر على هذه الشاكلة، هو بداية طريق جديد، نستجمع فيه الشأن، وإن كان فيه معاناة وألم. وأعترف لنفسي، أن مايمر بالإنسان من خبرات وتجارب، له دخل كبير فى هذا، وإن لم يره من قبل، دهرا، حتى يواجهه فى نفسه. وكأنك عالم آثار، تكتشف من بقايا الماضى، وتبنى صورة لواقع يقود إلى مستقبل. قد أكون مخطئا، فى إهدار تجربة كتابة مررت بها، وإستغرقت وقتا، لكن بلا ريب إستفدت بها، كتلك البقايا، التى ينظر إليها بتمعن العالم الأثرى، يستنطق فيها، ما لم يره إنسان، قبله، أو لم تتح له فرصة التزود بمعلومات، عن هذا الغموض، الذى إكتنف الأمر. وفى النهاية، تبقى لى هنا، ومعى، روايتى الأثيرة (شيزر) لتحمل من كل هذا، وأحملها، ما لا يمكن أن يحمله شئ غيرها، من معان وفكر، رفقة فى رحلة الكتابة..
------- 
تُحمّل الحرية الأحرار أعباءً ثقيلة، وعناءً طويلا. ولا ينتهى مقرّ القلم، أبدا، إلى مستقر أخير. ومن آثر الرّق، والركون، بفكره وأدبه، قراءة وكتابة، حيث يأمن لعقله، راحة من دخائل الفكر ودقائقه.. فهى عبودية للجمود، ولقتامة فاحمة. وعظم الأديب بقدر أفكاره، وبقدر ما ينتهى به قلمه، حيث يجاور..يصعد وعر الطريق، ويسلك الدرب الطويل، فيرتقى، ليصبح، شيئا مذكورا. وشتان بين العقل الحر، يغمره ضوء الشمس، وبين فكر ضامر هزيل، ينتهى يسير أمره، بصاحبه إلى إنقطاع. وما عليك إلا أن تفهم شيئا، ويغيب عنك آخر، فلتنظر وتعرض إلى الأفكار، حتى يُكشف لك النقاب، عمّا إستتر عنك، مستخفيا فى عمق النفس، تحت رداء.. من هنا طريق العمل الأبعد أثرا، والأقوى عمقا. ورياضة للعقل، فإن العلماء أنفسهم، لهم دربُ، فى ذلك من بنات ألافكار، وشذرات الوهم، حتى ترد الأفكار راقية نقية. تنشق من جوف الظلمة، مُنبأة عن نور للعقل، جديد. وهى صلة قوية، ووشيجة صلبة، بين العلم والأدب، فى إعمال العقل. وهى شجرة عملاقة أوثر أن أحيا فى ظلالها، ما دُمت حيا. أوادّ فروعها وأنادم أغصانها. لا أحادّ لها ثمارا، طيبة. ملتمسا، الأناة مع ذاتى، أسعى طلبا لغائب ثمرة عقلى، ووجدانى.. فأراها، رافلة فى حلّتها عنها أرضى، وأرضى بها عن نفسي.. أقول لنفسي هذا شئ لا يُتاح، ولا يكاد أن يحصيه، ولا يقدر عليه، إلا ذو عزم، وجلد وبصيرة، من الله. وهو حلم كبير، وأمنية ضخمة، لا تُنال بسهولة.. إن لوحات الأدب الناصعة، التى إنطبعت وتنطبع فى الوجدان  البشرى، تنصهر فيها تلك الأمور التى إنصهرت فى عقول مبدعيها، ونزيف أقلامهم، فكانت صفوة خالصة. طبقة زهرية، وزينة للحياة، لا يُستغنى عنها، للإنسانية جمعاء، دون تفرقة. وليس أخطر من هذا ليفهمه المبدع، فلا يشقُّ عليه شئ. إنه نصاع الروح، وزكاؤها، المجبولة على النور. تلامس النفس والوجدان، فتنقلك، محلقا، بضميرك وقلبك، لا توّد أبدا، مفارقة القراءة. نجد فيه الإنسان، المنفوح بروح من الله. ولم يكن غريبا، مرة تلو أخرى، أن أحاول، مع نفسي، أن أعرف بدقة كيف أكتب.. أو متى تأتيتى، هذه اللحظة المتوهجة، فأصل فيها، لأن أكون.. لحظة وحيدة، يتوجب عليّ عندها، مواجهة تفاصيل، ونسيج كل فكرة. لا أستنكر غرابتها، وندرتها الفريدة... بدقائق المعانى وخفايا الأفكار، تطرق رأسي، دون سابق نذير، من عقل أو منطق. إنه تناقض كبير ومؤثر، أحيانا يفيدني في معرفة، أي من هذين العالمين، هو عالمي الحقيقي،.. ما أكتبه، أم ما لم أكتبه، منها. في هدوء وسلام، حينا. وحينا آخر، أضجر، لكننى أروّد صخبها، فى عقلى.. أحيانا كثيرة، أرى كل عالم منهما، محددا. أرى كلا منهما، على السواء.. أنظر لنفسي بينهما، بعيدا.. بين هذين العالمين.. لأبدأ أشعر، بوطأة حلم كبير، مترع بالحياة، ولا يخطر على بال. يعترضك.. لا يحول بينكما شئ... تصادف خياله، في طريقك.. تعيشه، دفعة واحدة،.. دقيقة فدقيقة، تتفقده، ثانية فثانية.. آلت بك إليه، لحظة، بقدرة طاغية تمتلكها.. بغواية، لا تستطيع قط إخماد نارها، فى روحك.. تمارسها عليك، تجدها، فى كل ركن، من عقلك.. تجلوك، مرة بعد مرة.. وهنا، تتباعد بى، أفكارى، في عرض بحر، لا ساحل له، ولا أفق.. أتورط فيه، غارقا، في عمق أمر، لا خلاص منه.. لا أستطيع تحديده، إلا بإنتهائى من الفكرة، لتمضي، في طريقها، شفافة، إلى القلم. لحظات، أأمل، دائما، العودة إلى تذكرها، مع كل عمل، بعد آخر، أكون فيه، بروحى.. لذلك، فدوما أتسائل عن الطريقة، التي تتطور بها الكتابة معى، من خلال تصور دقيق، يميل إلى فهم الأشياء، في تسلسلها.. هل هى مساحة شعورية،  فى النفس، يقابلها مساحة نصيّة، فى العقل البشري، ثم تمثل للوجود.. أم أنساق متداخلة ومتعددة، تأخذ فى التنامي، مع الجانب النفسي والشعوري، مع وجود خيط ورابط، فيما بينها. فقد تسير الكتابة بى، على نحو رتيب، لا أشعر معه، أننى أؤدى شيئا له قيمة، أو ينبئ عن وجود تبدل جذرى قادم، أو حركة جوهرية آتية، تؤثر بقوة، في مجرى ما أفكر به. وفي مقابل هذه الأمور العادية، ورتابتها ، نجد أن أيدى القدر، تنسج لنا، في الخفاء، خيوطا لانعلم أو ندرى عنها، شيئا.  تظهر فجأة، لك، وحينما تأتي اللحظة المباغتة، لكل توقع، تأخذ بك هذه الخيوط، إلى عالم آخر، تتغير فيه، بل يتغير مجرى الحياة كلها، تغييرا كبيرا. تغيير، لم يكن ليظهر، لولا دور قد لعبه القدر. أنا أجد الأمر معى، ليس له قانون يحكمه،.. إنها قوى خفية، متضاربة. متعارضة.  متنازعة. ألاحقها وتلاحقنى. تؤدى، إلى حدث مؤثر، معظم الأحيان، لا أتوقعه. كأنى، كنت تائها، بين وقائع متناثرة، غير مرتبطة أو منظمة، كان على الربط بينها، وأجد بينها تلاحما وتتابعا عقليا وبصريا.. وغالبا أجمع بينهما، بعنصري زمان ومكان، لا أتبين أبعاد كل منهما، ولا أدركهما..، متجاوزا بمشهدى إلى  عمق الروح. وكلما ازددت إقترابا، إزداد الأمر تعقيدا وتوترا، داخل نفسي، على نحو خاص. محاولا، الأخذ بخيط حياة النص من طرفيه، عابرا ما تعقد، داخل أجوائه النفسية، وملامحه الإنفعالية، فى صراع مثير ونزاع، مع الحقيقة. وتدريجيا، فى حبكة تتعدد جوانبها، وتترابط، أقترب من المرور، بلحظة كشف، تنير الطريق فى النهاية.. لا أظن، أن كاتبا أو أديبا ما، يستطيع، أو يقدر على مواصلة إبداعه، دون أن يشغله، أمر هذه اللحظة النادرة.. لا أحصر نفسي فى شئ، إلا فى مثل تلك اللحظات، التى قدمت فيها شيئا، لنفسي. لا أنفر منه، فيما بعد، ويدفعنى إلى طرق أبواب عوالم، لا أطرقها، إلا فى تلك اللحظات النفيسة.. بل، لا يطرقها غيرى، من أحد. شئ ما، يدفعنى إلى وجود، أكثر قدرة على إستيعابى. أحلم، فى كل مرة، وأشعر كأننى أواجهه، ويواجهنى لأول مرة. شئ يكون هناك،.. حتما أعرف ذلك، إلى أن أتأكد، أننى له فى لحظة ما، يقيّدنى بها، وهج الكتابة. أسعى، فعلا إليه..، فيحتوينى وأحتويه، ليبقى لى، من بعدى، وأبقى له.. أنتهي إلى تقبله، من نفسي، كما بدا لى، فى عقلى، وخيالى. عانيت منه، وتجاهه، فى كتابته. لذا، أصبح الأمر، مؤخرا، يستغرق ما يستغرقه منى،.. يطول معى، شأنه. حتى كدت، أيضا، أبرأ من كل ما كتبته، ذى قبل، غير مقتنعا به. أعلم أن لدى، فى عمقى أكثر منه، علىّ، الوصول إليه... وهذا ما يجعلنى دائما، أقرأ فى أدب السيرة الذاتية، الذى يعطينى أطُرا، لما أبحث عنه.. أحاور أرواح أصحاب هذه العقول، ويحاورونى.. بحثا عن حقيقة اللحظة، التى أبدعوا فيها.. نقيسها بالسنين والأعمار.. والزمن، وهى لحظات قدرية، لا تتكرر، لا شأن لنا فيها. إختارها القدر لنا،.. أو إختارنا نحن، لها.. لا فرق فى ذلك، إن فكّرت فى لُبّ الأمر، فهما سيان... ومرارا، كم أبحرت متمنيّا، أن أفهم هذا الأمر، ولو مرة واحدة.. هو أمر، كجمرة ملتهبة في العقل، يزداد تأثيرها، مع الوقت، وتشتد ضراوتها، طالما لم تفهمه. يتغلغل عميقا. يستثيرك. يُشوشك. الحقيقة، أنني أشعر بها، لحظة، طالما وددت أن تحرقني، دوما، من داخلى. تصهرنى، لأفهم مدلولها، الذى يجعلنى أرضى عن نفسي، فى شئ كتبته، أو عن شئ، ولو لم أكتبه، بعد. شئ لا يمكن أن أتصوره، بصورة كاملة أوشاملة. وكلما، قرأت، فى التحليل النفسي، للأدب والفن، وفى أدب السيرة الذاتية، كلما إقتربت فهما، خطوة أبعد، وأكثر عمقا. الغريب، أن قراءة أمهات الكتب في ذلك، يزيد الأمر عمقا، لفهم حقيقة إبداع كل أديب. إن تفسير الأمر كله، أشبه، بسلسلة طويلة، وضخمة، كلما أمسكت حلقة منها، قادتك إلى أخرى، فى فهم سيكولوجية الإبداع. هكذا، أواصل، مع نفسى، مرة بعد مرة، دون أن أتوقف، سعيا وراء غامض، لا أعرفه. فإن ظفرت به، بنفحة إلهام، نادرة، طفر قلبى من مكانه، وذبت.. أقول فى نفسى، بلى الآن، عرفت.. أنظر هي ذي.. هنا البداية، فحسب. أمر لا يتعلق بى، وبمَ أكتب، لأكتشف معه، بعد قليل، أننى لا زلت فى أول طريق طويل، لا ينتهى معى. وبمذاق مثل هذه اللحظات، دوما، أواصل معرفة نفسي، والكتابة. وربما أنهي عملا، في نفس واحد، دفقة رقراقة صافية. وربما أظل أمام آخر، فلا أكمله، متعثرا. كأننى، لا أتذكر شيئا. أحسّ بضيق في الصدر، متوترا.. لا ألوي عنق أفكارى، خاضعا لشهوة مجرد أن أكتب، لأخرج ما تاه منى، فى أحشاء مجهول مشوش، بوميض غامض. بات الأمر فعلا يأحذ زمنا معى، كما لم أعهد، من قبل. إلى أن تحين لحظة إلهام، بعد أن كنت أرى، أنقاض أفكارى باردة، في كل مكان، من عقلى، الذى كان على وشك أن ينهار.  لحظة باتت، تبدو لى في أحسن صورة، فى نفسي، مع مرور الزمن.. من دونها، لا أستجيب، ولا يلين لى القلم. فى النهاية، ربما كنت لأتحطم، إن لم تأت هذه اللحظة النادرة، بالغة الإثارة.. هكذا، لا ألو جهدا، في الحفاظ على نفسي، محاولا التفكير، والإمساك بخيط فهم. ناشدا الأفضل، وإن لم أكتب. فقط لأفهم.. فإن لم أفعل ذلك جاهدا، ربما، كنت لم ألتق مع أفكارى، من قبل.. أو لم أكتب مطلقا في حياتي، وإلى الأبد.. وفي قليل أو كثيرمتبق، لى من أفكارى،.. يتسبب في فقداني، للذة الحياة بين جنبات الجنون والعقل.. لا يكفيني، أمر مثل تلك اللحظات النادرة.. أحتاج لأعمار، بأكملها، لأحياها، حتى نفسى الأخير، بعد أن أفهم، .. ماهى.. وكيف تأتى، نادرة هكذا.. أدور على عقبي، بينها،.. إحساس مبهم، يسير بي في عمق النور، ناهضا بكيانى.. لحظات تحفزنى بقوة، توشك أن يتفجّر، معها، فكر، لا أنفصل، عنه، إلا إستغراقا فيه. إنها اللحظات النادرة...
ومن هذا القبيل، وعلى نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من مجهول إلى مجهول، تلك الليلة الغائمة، التى لم تتركنى بسلام منذ أمد.. لكنى تذكرت المثل الصينى " فى الكارثة، دائما، هناك فرصة لائحة". كان هذا التنافر الكارثىّ فى التفاصيل المعلفة دونما مخرج. تخدع العقل، لا أكثر. لم يرهقنى كتاب قدر هذا الكتاب الذى انهيت فصله الأخير، البارحة. كان على أن أكبّر التفاصيل. أربط بينها، لأقبض على العمق الغائب عنى. كان أحد التفاصيل مريبا، راوغنى كمهرج، يتقافز فى الحلبة كبهلوان، يلعق الألوان مهووسا، فيضحكنى كطفل. نحّيّته جانبا، ووضعت حوله سياجا، حتى لا يختلط ببقية التفاصيل، فأراها صافية.. جمعت ما تبقى، من أفكارى فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عنه. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الداومة الثابتة، المنعزلة. إنفتحت الدائرة المغلقة قليلا. وسرعان ما تتابعت حلقات، وراء حلقات. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صورة درامية، للأجزاء المبتورة. فغاب صريف الصمت الباهت، فى الغبار. وظلّ كل شئ كما هو. الأفكار هى هى. المنضدة كما هى دوما منضدة. السقف هو السقف. حتى أننى شككت فى أنه فوق رأسى، فرفعت عيناى.. فكان كما هو مثبت على الجدران. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ كئيب، بعد ما حدث أول هذه الليلة لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه منذ أن رأيته.. كما كان دوما، فى أول الفصل. لماذا لم يعصف بالصمت جديد، لمَ لم ينطق سكون الليل، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذ الرتابة، خاطر غريب. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان من وجه المهرج، فى العنوان. كانت ألوانا كثيرة تملأ المسافة بين أذنيه وجبينه الضيق، الذى إنسدل على حاجبيه.. أخرجته من منئاه، ورسمته على ورقة.. وضعت على أنفه علامة كبيرة باللون الأحمر، دما متخثرا، لمقاومة الروتين. ليس على البشر أن يفكروا، دائما. كان على الأرجح أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى، شيئا ضائعا بين التفاصيل الباهتة، بالدم المتخثر، لأعيد الحياة لفكرة هذا الفصل، الذى خيّم عليه ليل طويل. لم يكن علىّ منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بالقلم لأنهى هذا الكتاب العالق فصله الأخير، بين ضواحى العقل، كأن لا نهاية له. إكتشفت إلى أى مدى كانت فكرة التفاصيل عالية فى السماء. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا عير متناهية، بدرجات هاربة، بعير صواب، فى كل الإتجاهات. إلى أن جاءت الومضة البارقة، لتطوق لى الأمر كله برمته، على جثة مهرج مرسوم، فى لحظة من الزمن، داخل سياج ورقى. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، بين حشود الألوان. فى النهاية إنفجرت شلالا ضخما، فأنهيت منه الفصل. وبقى لها منها، كتاب آخر.. فى عمق ثنايا الذاكرة.
وللقلم لغات. منها، لغة الفجر.. الروح.. لغة الأحلام.. ومنها، لغة اللحظة. ومن هذه اللحظات، تلك التى تحيا فى القلب.. والصدر. لحظات، هى كل ما يبقي، كعلامات فارقة. تتحدث، عمّا كان يوما، من جميل حلم، ومكنون نغم شجيّ، لسرّ مصون، صامت. ممّا أخفاه الزمن، بين شفتيّ الحياة. لم يبح به حفيف ظلال كلمات، ولا رفيف أجنحة ماض. لم يبق، منه، سوى ذكريات. ترفرف حول ما بقى، من أماني توارت، وآمال إنزوت. لغة، تنصرف بها، الروح، إلى عالم آلام خفية، وابتسامات تأبى أن تُولد. تطوف كل لحظة، مستأنسة بذكرى، طاوية ما انقضى، وقد قطن القلب، خفيا، حين من الدهر.
عند الرحيل،.. وفى الوداع، مؤكد أن هناك لغة، لشئ ما، دائما، يستحق الذكر، عندما نكتب، أو نصف مثلها. أشياء ومشاعر، لا تختفي من مخيلتك أبدا، مهما حاولت طردها من رأسك. تظل، كأنها ظل لك. مصير لا يفارقك، طوال حياتك. لغز لا يكتشف سره، ولايُدرك كنهه، فهما، إلا أنت وحدك. مهما تباعدت، أوتناءت بك المسافات.. شعورا وإحساسا عميقا، تفهمه قربا، منك، كأنفاسك، تتردد بين جنبيك. وتدرك بُعده، عنك، كخيال طيف، حائم، من حولك. وكلما مرّ وقت، إزداد غموضا، وإبهاما.  تذوب معه، وتختفي كل فوارق المكان والزمان. يتمكن منك، كأنك فى عالم غير هذا العالم، ووجود غير الوجود. شئ يفتح لك أبوابا سحرية، للغة فكر وشعور، بعيدا، عن كل ما هو أرضى. لتلمس نفسك، فى السماء، ما يُوقظ الروح. حيث تمر الأيام، كأحلام خضراء، وتنقضي الليالي، كأنهار نور جارية، بعذوبتها، في ربيع حياة، لا ينمحى قدره، مع ذكريات مضت، وأيام ولّت. هنا، فقط تستطيع أن تضع الروح، والنفس، فى هذه اللغة.
ولحظات أخرى، وعلى حين غفلة، سرعان ما تنتبه فجأة، فتري خفايا، ينقلب معها كل هذا، ويتحول. ينعطف بك الأمر، ليقظة، من نوع آخر. أعماق تتسع وجعا، وإنفعالات تنبسط يأسا. يكتنفها حيرة، وشوق غريب. سهاد، يثير أسى، في الصدر. تتوهم، أنك كنت فى خيال مذهل، غير الخيال. كأنها، كانت حياة خالية، باردة. حياة لم يبق من آثارها، إلا غصة حزن أليمة، في الفؤاد. وتتبدل من حولك سكينة الأيام، بوحشة مقفرة، ومُرّة. وهنا، تولد لك وحدك، من جديد، لغة لأحلام أخرى،  فى عالم آخر، لا تختاره لنفسك. ولا يعلم عنه أحد شيئا. لا توّد أبدا، أن يشاركك فيه غيرك.. مع ذلك، تستظهر عجائبه، كصفحة بيضاء خالية. دون عواصف، تثور في جوانبه، أو عتمة ظلمة حالكة، تغمر بصيرة، تحيط، وترى.  وأتذكر، من أمثال تلك اللحظات التى يتمخض عنها، من قبيل تلك الغات النابضة،  أننى إنهيت، خمسة دوواين شعرية، خلال فترة، لم أكن أتصورها. وإمتدت بى لرحابات بعيدة جدا. بل، وفتحت لى آفاقا واسعة، فيما كنت أعمل عليه، من أعمال أخرى، متباينة المجال والمشرب، بعيدا عن الشعر، الذى أنأى عنه. ومنها كتابى التاريخى، الذى أوشكت أن أنتهى منه (إمارات عربية طواها التاريخ: إمارتا "بنو منقذ" فى "شيزر"- و"بنو عمار" فى "طرابلس") الذى طاله شئ،  من روح تلك اللغة، التى تتجدد حياتها. إنها آفاق، تلمس نفس، وروح الكاتب، وتحلّق به، قبل أن تقع عليها، عينا القارئ.
عالم من الأفكار يتنامى، ويتعاظم في كيانك. يتكاثر، فى الوجدان، وينتشر ضياؤه. يجد لها كل منفذ، لمحيط القلم، الذى يتسع، في مهد صيرورة دائبة. لينفتح على مداه، أمامك ما انغلق، لأشعة الفجر، فى العقل، والروح. يزيل كل نقاب وغيم، عمّا غاب، يوم ما، لشئ ما.. لفكرة..، أمام وجه الشمس.  شئ ما، يستحق الذكر، أن نكتب عنه، ونكتبه.  لغة لأحلام خضراء، فى نبض الحياة. تسكن الأسفار، من جديد، فتجدّد الحياة نفسها..
وهنا، نقطة هامة أخرى، لابد من بيانها. وهى أن النص السردى المسبوك، كرسالة أو حدثا تواصليا، بنية وشكلا نثريا، بتتابع الكلمات والمعانى، يكون على إستواء كامل، نحويا ومعجميا، ودلاليا. وفيه نجد التتابع الصحيح والسياق والتسلسل القوي، من كل وجهة. مما يتحرى فيه المبدع الصواب والتأثير. وعلى هذا يصبح النص شيئا واحدا، صلبا وشديدا، وبترابط تام، متلاحم ومتماسك الأجزاء دائما،.. لا انفصال بينها أبدا. فالنص المتماسك، لا تجده، وإلا وأجزاؤه وحدة واحدة، مترابطة، ترابطا رصفيا. مع المناسبة والتناسب، مشاكلة ومقاربة بين أجزائه، فى حبك ولحمة نجدهما، تزيدان الأمر قوة، وإظهارا ووضوحا. وذلك، عن طريق علاقة ضمنية قوية، وبأدوات صريحة، تتعلق بعلاقات دلالية، غير منظورة. ومن هنا يكون هذا النص، قادرا على تضمين الهدف والقصد، وحمل معنى يسعى إلى تحقيقه، ويريد منشئ النص نقله، للقارئ أو المتلق، عنه، لتصديق ما أورده، في النص. والأديب الحاذق بصنعته، لا يتكلف، بما لا يقدر عليه، حتى لا يختل المعنى، فيكون النص رديئا وركيكا، .. ضعيفا، غير رصين... إنما يعمل على جعل النص متماسكا، كوحدة واحدة، جيدا سبكه، فى رونق وجوهر، من الكلام، في بيان رائع مدهش، ومؤثر فى النفس والروح. أى، جعل أجزاء الكلام، يأخذ بعضها بأعناق بعض، سواء فى ترتيب الألفاظ، والمعانى، والربط فيما بينها، بعضها البعض. وذاك، عن طريق رباط قوى في النص،  كالمناسبة.. أو رابط عام أو خاص، سواء كان عقليا، أو ماديا حسيا، أو خياليا،.. أو غير ذلك من أنواع الروابط والعلاقات، مما يكشف عنه التلازم الذهني كالسببية، وغيرها. بأن يلى القلم منك، وجها، يأخذ طريقه إلى الكلمات. والكلمات والمبانى فى اللغة، لم توضع إلا لمعان. والمعانى لاتنهض إلا بالنفس. فلا تكفر كلاهما: الكلمات والمعانى.. ذاك أبلغ أثرا فى النفس، ويملأها روعة، لم تكن ترتقبها.. ولا تجد سبيلا إلى مزيد موفور، لتروى ظمأك، إلا تأويلا بعد تأويل. ولست بنائل، من هذا شئ، حتى تصبر على ما تكره. فالأعمال العظيمة، أعمال تملأ العقول والقلوب قبل الأسفار.. ليست تلك التى يدركها الفناء، ولا شيئا من هذه الآثار، التى تبلى. وفى النهاية، يستطيع أن يرى المتلق أو القارئ، فى النص، وفى بنائه المتكامل، كل ما فيه من جمال.. وكلام ربّ العالمين، جل شأنه وتبارك اسمه،.. ، القرآن المجيد، خير معلم فى هذا
-----------
ولا أصبر على معنى ممّا ينبت غريبا تائها. يحاججنى، حتى لا أتولى عنه، إلى ما تهوى نفسى. ومن هنا، أولى وجهى قبل أعماق أفكار، لم أكن لأفكر فيها. أو أطرق مجاهل رؤى ليست بعابرة، تمسّ القلم، ويُبتلى بها، بين بأساء وضّرّاء، فأحرص على ألا تتخبَّط النفس، بين مكامن هذه أو تلك. فلا تزال تقاتلنى المعانى، وأقاتلها. تصارعنى، وأصارعها، حتى تردنى الموارد.. فآتيها وتأتينى، من حيث لا ندرى. أو تصطحبنى لنذهب معا أنّّى نشاء، لا يعجزنا شئ. وهى حرب لا غنى عنها، أعتابا للعقل لها يعدو ويعبر، ومواقيت وثقى، لا تنفصم عُراها، للروح. يقوم معها الفكر قَانتا، يتبصّر طريقه. وتذهب معها الروح مسافرة إلى ملكوت، وهي ظمآنة خمصة. ولا تقضى هذه الحرب بينى وبين المعانى، أو تضع أوزارها، حتى أكون أحرص على حياة، وحذرا من موت. وسرعان ما يُضاء لى كل شئ من حولى. ويباشر العقل رغدا لا يغيض. ويتمّ للروح نور لا يخبو، فتعود بطنة، من حيث قُدر للحقيقة مُستقرّ. وعلى امتداد أبعاد الوعي، أحدّق في عمق عقلي، متسائلا، دوما. أطرح الوساوس بعيدا. أتفرّس، متنقلا بين وهجات مديدة، فوق ما غامّ. أرى الفجر قبل أن يُرى. أعى لغة، ليس ينطق بسواها الفجر. تلك اللغة القريبة، لا تدركها إلا رّوح ذات رؤيا. تحلق عاليا، مبحرة بين هذا وذاك.  فتصل أخيرا، بخفقاتها، إلى مقام زكيّ. حيث الحلم لا يخضع لأحد، ولا صمت بلون غسق قاتم.. وأعود مرة أخرى، من جديد، ولا أصبر على معنى غريب تائه.. وتصبح القضية دوما، هل الكلمات أم المعانى.. وكأنى أبرئ القلم من خرس، لأنطقه لأول مرة، ليصدِّق ما بين يَدَيّ الفكر من معان. وهذا هو المعنى على كل حال، وهو الأساس. فعندما تحسّ مِنْ هوى نفسك ميلا إلى معنى غير ما يسلمك إليه رّسوخ الفكر، فإنه يظهر لك فى كثير من الأحيان، ضرورة الموازنة بين ما رسخ فى الفكر، أو ما مال إليه العقل، مع ما جنحت إليه النفس لأول وهلة، وذلك عند طروق باب تلك المعانى. والأمر على هذه الشاكلة، أظهر منه فى الشعر عنه فى النثر، مهما تعددت صوره. وهو الأمر ذاته الذى يمكننا من الحكم على جيد ما نقرأه للغير من عدمه. فكثير من الأحايين تجد أن هناك من يكتب ويضع أمامه ألفاظا بعينها، ليكتبها كما هى. وذلك مرّده بالطبع لضعف الحصيلة اللغوية والثروة المعجمية، من مناهلها ومواردها. وهو أيضا ما يسبّب ضعف المضمون والمحتوى.. خلاصة الأمر خور كلا من المعنى والمبنى.. حتى أنه يمكنك أن تُحصى المفردات المعجمية لكل من تقرأ، مّمّا يمكنك فى نهاية الأمر إطلاق الحكم عليه .. فهو لا يتعدى ذلك أبدا قيد بنان، أقول لا شبر..! وبالطبع ونحن نكتب، فإن حاضر المعنى ليس كغائبه. ومن هنا تأتى أهمية الألفاظ والكلمات، حاملة للمعنى الدقيق، ومبينة ومصقلة لمبتغاه. والتى لا بد أن تأتى على هذا الوجه، وتُنادم أصداءه. وما يختلف التأويل لمعنى عن آخر، إلا للصور والمبانى البلاغية، التى تتأطّر فيها تلك الألفاظ، أو ترد من خلالها الكلمات الناهضة بالمعنى الكلّى، صادحة به.. وهو الأسلوب، الذى يميز كاتب عن آخر.. ويفقد غيره ميزة وأمل اللحاق به، أبدا..! وأسلوب الكاتب تاريخه، وصبره، ودرسه،.. وقبل كل هذا موهبته، التى يبنى عليها بنيانا سامقا، راسخ الجذور، ثابت الأصل.. لا هاوٍ أمام ريح، ولا خاوٍ عرشا..  ومن هنا كذلك، تتأتى أهمية ما يُعرف ب"السياق والدلالة "على مختلف مناحيهما. وهى أمور لا يجب أن تغيب عن الكاتب سواء فى كتابته، أو قرائته لنصوص أخرى.. ومن لزم هذه الأمور مبكرا، فهو يعى أن الأمر أعمق بكثير،.. من مجرد إشارة عابرة. يكفى فقط أن نجمل الإشارة إلى علوم البلاغة فى العربية،  بفروعها. وهى العلوم التى لا غنى عنها لكل كاتب وأديب وشاعر.. وأذكر فقط ما أورده محمود سامى البارودى فى شهادته للشيخ حسن المرصفى ومصنفه الرائع فى علوم البلاغة والذى إستفاد منه البارودى أيّما إستفادة.. ولا ينكر أحد ما للبارودى من ثروة لغوية، إلا أنه رّدّ الفضل لأهله و أوضح ذلك. وحديثا نجد تلك الأسفار، التى تتحدث عن علوم، مثل السياق والدلالة، وغيرهما من علوم متصلة باللغة، مما يرجع بتنمية وإتقان المهارات اللغوية والبلاغية وصقلها. حبذا لو كان للكاتب إطلاع واسع، يردّه مردا إلى علم فقه اللغة وأصولها. وهنا يظهر أهمية التراث العربي، فى هذا الجانب الذى ذكرته فى مقال سابق، من أهمية مؤلفات ابن فارس وابن سيده والمعرى والجاحظ.. وغيرهم من أرباب اللغة وأصحابها. هنالك حيث أسفار لا يشبع منها، ويرجع إليها مرارا، كل متذوق للغة، قارئا كان أم كاتبا. والجلد الصبور، هو الذى يذهب وراء كل ذلك بشئ من نفسه، ولا يعود إلا بنفس أخرى، لم يعهدها، عمّا ذى قبل، مع  الأسلوب، حتى لو كتب بشوْكة، لا قلم..! 
أحيانا ينتابنى شعور، أننى فى قضية خاسرة، حينما أبدا عملا وأتاخر فيه شيئا من الوقت، كنت قد نظمت له سلفا. إلا أن الأمر يكون بصورة أخرى، فى كتابة رواية أو قصة.. فالأمر غير محدد بوقت قطعى. بل على العكس تماما قد تجد نفسك تغير الكثير والكثير، وتعيد أكثر ما كتبت. وقد يأخذك هذا إلى ما لم تكن تفكر فيه، من قبل من أمور، لتتملك بنيان عملك. والمشكلة الحقيقية، أنك تكاد ترى بعينى عقلك كل شئ، وتصارع المعانى والكلمات التى تحملها فى العمل.. حتى ترضى بعض الشئ عن نفسك. والمشكلة الأخرى، حينما حتما تعطى لأبطالك سمات نفسية، تحتاج منك للبحث والتدقيق. ولا ريب أن الأمر يصبح مع الوقت والممارسة نوعا آخرا من الصراع لإتقان العمل. ناهيك عن عدم هروب البعدين الأساسيين منك، وهما المكان والزمان.. وكلها دوائر متداخلة، أنت الحكم الوحيد فيها. وفى النهاية، لا يمكنك الحصول على كل شئ، فلا تقترب أبدا من الكمال ولا الرضا عن نفسك. دائما هناك شئ ناقص، أنت وحدك من تشعر بوجوده. وحينما تتقدم بك التجربة، خاصة بعد الأعمال الطويلة، تتفتح لك أبواب تكتشف بعدها أنك لا زلت لم تقدم شيئا بعد.. وأنك فعلا لم تذق مشقة ولا متعة بعد. دائما هناك شئ مفقود وناقص كما قلت. والغريب، أن هذا الشعور، لا يقتصر على الأعمال الإبداعية فى القصة والرواية والشعر.. بل الأمر يتخطّاه إلى أنواع الكتابة الأخرى، مع تنوع الأسلوب وتراوحه. ومثل هذا لا ينبغى أن يقنعك إلا أن تسلم أنك لديك الكثير يجب عليك البحث لإخراجه، والتصدى للأمر مرة بعد أخرى. ليس وصولا إلى دقة، ولكن لحالة إبداعية، ما كنت تتصورها فى نفسك قط. ولا أحسبنى قد نلت من هذا إلا القليل جدا. وأحسب كذلك أن علىّ النيل من سعة الموارد اللغوية أكثر، التى فى ظلها تمتد للقلم جسارة، وللفكرة آفاقا.. وتبرز قيمة المعنى. ولا يكن الوقت إلا فاصلا بيننا وبين الوصول إلى هذا مرحلة بعد أخرى، على نحو منظم وخطوات منطقية، من الفعل و التصميم. وعن نفسى، لا ينحسم الجدل أبدا فى داخلها، عن نوعية هذه الموارد، ومنهجية التعامل معها. وقد إستفدت كثيرا، من كتب السيرة الذاتية لكثيرين، فهى تعطى إشارات وومضات وعلامات على الطريق فى سير أولئك الكتاب والأدباء، لما يؤحذ فى الإعتبار.. وأنت بدورك تنتقى وتتذوق.. وهو رأى ليس مطلق تماما. وفى حقيقة الأمر، فإن دراسة العصور الأدبية مثلا، تكون قاعدة أخرى، فى هذا المضمار. وهى قاعدة مثلى، إذ تعطيك أسماء المؤلفين والكتب فى كل عصر.. وما عليك إلا البحث والصبر، على الدرس والقراءة بل والتمتع..ومن ثم، شيئا فشيئا يتراكم لديك شئ.. ثم تكون أنت.. ولا شئ غيرك..
-------
ظلال الكلمات
--------
 أحيانا كثيرة حينما نقرأ نصا أدبيا سواء نثرا أوشعرا ونجد له ظلالا فى النفس قوية، لها أصداؤها وتأثيرها الكبير فى الروح. ونبحث عن السبب فى ذلك، ونتفحص النص، فإننا نجد كلمة أو كلمات أو صيغا بلاغية مستقاة، من القرآن المجيد.  وما كان للنص أن يترك أثرا، لولا وجود تلك الكلمات، التى تعطى رحابة وبحارا واسعة، يأخذ جمالها بالنفس. وهذا هو السبب الأساسى، فى بلاغة أدباء عظام، أمثال الرافعى والمنفلوطى والعقاد وباكثير وغيرهم. مما يبينه التناص مع القرآن الكريم، والذى يخفى على القارئ، إلا لمن له خلفية وقراءة واسعة. بل وبات الأمر، محل دراسات أكاديمية تكشف هذا الوجه الهام، من جماليات القرآن الكريم  بل ومن أسرار إعجازه. وهذا الجانب شدّنى منذ فترة مع شغفى بالقراءة فى مصنفات إعجاز القرآن الكريم. فمن الأمور المحببة للنفس والآخذة بلبّها أن تغوض مع كلمات القرآن وهو الأمر ذاته الذى دفعنى منذ فترة لمحاولة الكتابة فى وجه من وجوه الإعجاز الذى يقف الإنسان أمامه مذهولا وهو الإعجاز الموضوعى للقرآن. فما من أمر أو موضوع أو مسألة إذا أردت أن تبحث عنه فى القرآن كتاب الله رب العالمين إلا ووجدت لها حقيقة موضوعية كاملة ومطلقة ليس بعدها من حقيقة. وأدعو الله تيارك وتعالى أن يوفقنى قى تقديم هذه الجانب وتحديدا فيما يتعلق بالحقائق الكونية والفلكية فى القرآن الكريم بصفة موضوعية.

فكرة النص الأدبى
---------
مّمّا يتأصل فى النفس، ويكون له أقوى الأثر من وقع عليها، تلك التجارب الأدبية الحافلة بالذكريات الإنسانية، وتحمل معان بالغة الأثر، مثل الرحيل. أو تلك التى تجمل من معان، متمثلة فيما يقذف به الإنسان خلف ظهره، من صروف يتعرض لها عبر رحلة الحياة، ودروبها. الأمر الأشبه بتكسر سلاسل من الأمواج العاتية، حينما يكون على صخرة قوة النفس والروح. ومن هذا القبيل أذكر عملين أدبين لى، وهما (غربة طفل ذى تميمة) و(سرماديا). وأزعم أنها تجربة أدبية جديدة، جاءتا من بوتقة واحدة، إتصالا بعلاقة الأدب بالنفس الإنسانية بمفهومها الواسع. كما لا أتصور أن يفهم مثل هذين النصين النثرين، إلا من كان له قدرة موضوعية، وسابق تجربة فى النقد الأدبى الموضوعي.  ولست بصدد تأويل هذين النصين، نظرا لأنهما ينتسبان لى، إلا أن الأمر لا يخلو من فائدة للقارئ الذى وقف عليهما، حينما نشرتهما. ومجمل القول، هو وجه الجدّة فى هذين النصين اللذين شغلا من فكرى  فى بنائهما وصياغتهما، هذا المنحى.. وأقصد به الوجه غير المسبوق فى الكتابة. وجوهر التجربة هنا، هو الإبتعاد تماما عن كل ما هو متعارف عليه، فى فن القصة القصيرة وأصوله والتى باتت تقيد الأديب فى تفكيره، حتى ربما أنها قد تصبح قيدا على الإبداع الأدبى الخلاقوسوف أوجز النقاط الرئيسية، التى تعطى هذين النصين هذه الميزات التى أشرت إليها من تفرد، على سبيل التجربة، ربما إستفاد منها كل متعمق، أو وقف عليها بالفعل البعض، ممن يحسنون القراءة الواعية التى تكشف عن مواطن الجمال. ومن هذا البعد عن الشكل النمطى المعروف، فعلى سبيل المثال يتأرجح النص الأدبي (غربة طفل ذى تميمة) بين الرواية والقصة القصيرة رغم أنه يتعدى أبعاد الأخيرة، ويُجافى قواعدها تماما. والسبك الذى جاء فى هذا النص، بين عناصر أساسية مثل المكان والمكان والشخوص، هو المحكّ هنا. فقد عمدت إلى تحييد العنصرين الأولين (المكان / الزمان) فلم أذكر أسماءا لأمكنة معينة، كما لم أحدد زمانا أو تاريخا.. ولا شك أن هذا أعطى إتساعا وعمقا، ولا يقف على هذا الجانب إلا الناقد الواعى، والقارئ المتمرس. والغريب أننى فى بادئ الأمر، لم أخطط لهذا الجانب خاصة فيما يتعلق بزمان النص.. لكننى وجدت التجربة تستأهل تلك المغامرة المحسوبة فى الكتابة، وهو الأمر الذى أعطانى رحابة وقدرة على التنقل فى صيرورة الزمن، ببعديه الماضى والحاضر، والدفع بالنص إلى الأمام. والسؤال هنا، ماهى الطريقة التى انتهجتها فى هذا.. الأمر لى كان أشبه بالإمساك بدفة سفينة مبحرة فى الزمن، تحمل أحداثها الرئيسية. وهذا هيأ لى أن استغل آلية جديدة وهى الحدث / تغييب الزمن، كلما إحتاج الأمر منى ذلك. وللتغلب على الفواصل الزمنية الممتدة كان الحدث، هو البطل الرئيسى. والأمر الاكثر أهمية الذى ساعد فى ذلك وتعمدته، هو تغييب الأسماء، مع إعتماد الحوار الضيق لأقصى حد. والأكثر الأهمية صوت الراوى الذى لا يغيب فى النص/ بعيدا عن الإسهاب الذى يسببه المنولوح الداخلى. والتجربة فى هذا النص (غربة طفل ذى تميمة) لولا أننى اتكلم عنها وانا صاحب النص، لأسهبت فى تناولها من وجوه كثيرة. ولا شك أن النص الآخر وهو (سرماديا) يحمل من نفس السمات الشئ نفسه. وكم أثلج صدرى معدل القراءة العالى فى المدونة لهذين النصين بالذات حينما نشرتهما. ورغم عدم وقوفى عادة لمثل هذه الأمور، إلا ان الأمر كان ملفتا لنظرى، وربما هذا هو السبب المباشر فى كتابة هذا المقال القصيرعنهما، وهى صعوبة على الكاتب أو الأديب، أن يكتب كيف يكتب. على أية حال، كلما رحبت آفاق الكاتب وجد معينا بعد معين لتجربته الإبداعية، تتدانى إليه على ضفافها أبعاد النفس البشرية، وتتقارب معها أطراف الكون، فيتسع المدى أمامه، ليطال فيه من كل ثمار الفكر. ولاريب، حينما يلج العقل مثل تلك هذه العوالم الرحبة، التى لا تضيق إلا على كل ضيق الأفق، وتتوه عن كل مغلق الفهم، فإن الكاتب يجد ثروة من الأفكار، تأخذ وقتها حتى تنضج. وتستغرق من جمرة الفكرة الموقدة، حتى تطيب، فتظهر من خبايا الذاكرة، وينزف بها القلم مسكا لا يشمه، ولا يستطيبه إلا كل قارئ باحث عن متعة فكر، ومتذوق لعذوبة لسان عربى مبين. ولا شك كذلك، أن هذا الصنف هو النازح دائما عن كل غثّ ،آنفا بنفسه عن كل ما لا يستسيغه العقل الراجح والفكر السليم. وأخيرا أن نجد متكأ للحظات، يرهف فيه العقل السمع لصرير القلم، تناجيه فيه الأفكار والرؤى، عبر كل بنيان فكرى، فرعه فى السماء، وقد أتى أكله بإذن ربه.
--------------
ومن أجمل ما يمكن أن يقابل الكاتب والأديب قارئ يقرأ أعماله بالقراءة متعلقا به، ويقدره.. الأجمل أن يقتنع هذا القارئ بما يقرأ، حتى يظن أن الكاتب هو كل الأبطال الذين يكتب عنهم فى أعمال قصّا ورواية. إن خيال القارئ فى هذه الحالة أكبر من خيال الأديب. فهو يلبسه كل سمات تلك الشخصيات التى أبدع فيها. فبلا ريب أن عدد الشخصيات الخيالية فى القصص والرويات يفوق ذهن القارئ ومن هنا يتصور أن كاتبه هو من يقرأه. وليس بشرط أن تكون هذه الشخصيات حقيقية من الواقع. فالمبدع عامة، خياله خصب وهو يبنى العمل كله من السرد القائم على عنصر الخيال. وإلا كان كل روائى وقصاص هو كل تلك الشخصيات التى نقرأها له. وهناك أعمال أدبية عظيمة لأدباء تعدت شخصيات العمل العشرات فى العمل الواحد بين نساء ورجال. أنظر مثلا لأعمال تولستوى وبلزاك وغيرهم عالميا. وعريبا محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان والسباعى وغيرهم. بالكاد تستطيع حصر عدد شخصيات كل عمل، مستغرقا معهم. إن نجاح الأديب فى أن يصل بالقارئ إلى مرحلة من التلقى يتصور فيها أن ما يقرأه واقعا هو فعلا نجاح له. وقد ذكرت فى مقال سابق أهميه دور الخيال الموصل إلى الإيهام بهذه الدرجة الفعلية فى ذهن القارئ. ومن قبيل التذكر العجيب تذكرى أنى كتبت مقالا آخر منذ فترة عن مشاهدات حفرت فى ذاكرتى من الطفولة. ومنها ما أسميته بالرجل القطار، وجاء ذكره فى المقال أشبه بقصة قصيرة ولكنها من الواقع الفعلى، وتخيلت فعلا باسما لو أننى فعلا هذا الرجل البخارى هائما والها، كالرجل وأبيت بين القطارات وأقطع طول وعرض المحروسة من الشمال إلى الجنوب، بدلا من طريق بمدينتى الساحلية. إن قوة الكاتب فى قوة خياله بالدرجة الأولى والتى لا تأتى فى لحظة إنما ورائها سيل من القراءة والتدبر والنظر فى الحياة. فربما إستفاد الأديب من خبر يقرأه هنا أو هناك، وربما مشاهدة عابرة فى طريق، وربما من شخصيات فعلية قابلها فى حياته. وربما من ذكريات تستدعيها الذاكرة. إن أدب ديكنز تقريبا كله مبنى على إستدعاء ذكريات من الماضى ومشاهدات فعلية فى لندن الفيكتورية. وعظمته فى توظيف هذه المخزون الهائل الذى نقرأه فى أعماله العظيمة. ولدينا محفوظ الذى صرح بأنه كان يسقط على شخصياته التى كتبها مما قابله فى الحياة. فى الواقع على الأديب أنا ينصت لكل شخصية يقابلها ليستفيد من وجه الحياة هذا. فأنت لن تكتب عن محام أو مهندس أو عامل أو طبيب وغيره، دون أن تعلم لغته وطبيعة عمله. هذا تماما كمعرفتك بتفاصيل المكان والزمان الذى تكتب عنه. وبدون هذا لن تكون هناك جماليات أو قيم فنية فى العمل يشعر بها القارئ ولن تكون هناك قوة إيهام وليس هذا معناه الإستغراق فى التفاصيل إنما للغة كذلك لها دورها فأنت عندما تكتب عن الريف غير ما تكتب عن البحر أو المدينة. وإذا لم تنعكس اللغة وتلك القيم الجمالية مع عناصر العمل فلا أشعر أن هذا العمل يستحثنى لأكتبه. وعادة يكون دور الخيال فى الربط بين هذه العناصر أعمق. فأوقات اليوم لكل منها سمته وتأثيره فالفجر غير الشروق غير الضحى غير الظهر غير الأصيل غير المغرب. وهذا ينعكس على طبيعة النشاط الإنسانى والحالة النفسية. فما بالك فى موقف أن تصفه فى قصة أو رواية يدور فى ساعة من هذه الساعات. مع ربط الوقت بالمكان فيختلف الأمر تماما. فالغروب تراه من قطار بخلاف ما تراه على أفق صحراء أو ارضا زراعية أو بحر، فإن ربطت بين الزمن والمكان والحالة النفسية للشخصية أو البطل مع تأثير القصّ بصوت الراوى أو حتى الحوار فأنت فى طريقك لإيهام القارى بصهر هذه العناصر مجتمعة، فى بوتقة واحدة.. أنا قد يستغرقنى مثلا النظر فى واجهة مبنى متنقلا ببصرى تلك الزخرفات والجماليات وربما أتخيله وهو يبنى.. وربما أبحث عن تاريخ المنطقة التى أكتب عنها وبدون هذا لا أقدر أن أكتب عن المكان وهذا يذكرنى برواية الرحيل شرقا والتى اهتممت بعنصر المكان وتدور أحداثها فى الاسكندرية. فأحداث الرواية تتراوح بين الحى الراقى كفر عبده فى منطقة مصطفى كامل باشا ولوران وسيزينيا وبين مناطق شعبية قديمة، وأماكن أخرى عديدة. إضافة لطبيعة المبانى التى تسكنها الشخصيات فتؤثر عليها وعلى سلوكها وبالتالى فى العمل. هذا أسميه صوت المكان وظلاله التى تلعب قدرا كبيرا من الأهمية فى العمل مستفيدا كثيرا من المراجع والمصادر التى تتحدث عن ذلك.  من هنا لا أندهش لقارئ يتوقع أن يكون ما يقرأ حقيقة، فأنا أحاول بقدر المستطاع، إيجاد هذا فى العمل مع الحبكة التى تطاردها فى نفسك وخيالك فقط . عامة، هى ملاحظة عابرة، تولد منها هذا المقال المختصر ربما أجد فى يوم من الأيام أديبا كان كل هذه الشخصيات فى الحياة التى يكتب عنها، وهذا مستحيل، إنما القراءة ومعايشة وملاحظة الحياة بالوجدان ودور الخيال، هى ما يجب أن يتوافر عند كل مبدع.
----------------------


والنص وجمال التعبير والقراءة، كشجرة نجلس في ظلها‏.. وهناك موانئ للنفس تستقر فيها سفينتنا،  وتطرب‏ فيها الروح. والكتب، أمر أشبه بحب بلا زواج، فتظل تحب إلى الأبد‏. بين هدوء وصخب. ومنها، بالطبع الكتب.. ولا يذهب ذهنك بعيدا، منها ما مجرد أن تقرأ فيه صفحة لا تكمل، ملقيا عليه يمين الطلاق البائن..  ومنها ما أشبه بالعانس لا طعم له.. ومنها ما هو كإمرأة خلاب جمالها،... تحف، تجد فيها المتعة مع الكلمات، والمعنى‏ تراه ولا تلمسه‏..‏ وأنت وشأنك إن وجدت نفسك..صدي راقص مع الظلال، بلا مواجهة..  شئ في القلب،‏ تسمعه ولا تسمعه.. ينظر في وجهك، ويحدق فى عينيك، ولا تراه.. لا يخطئ‏ من روحك موضعا، كنوم هادئ‏ مرة، أو سير على الماء، أنت غارق بينهما.. ولا تفقد شيئا، إلا نفسك. القراءة هى القانون الذهبى، من يمتلكها، ‏يتملك ذهب اللغة، بشقيها، من مبنى ومعنى.. تقضى على الهموم، وتهرب بها إلى الحياة. هى كنوز الدنيا، تجعل للحياة  معنى، وقيمة، بأن تجد من تشاركه فيها.. وجاءك إبداع فتقرأه، بهذا المفهوم، الذى لا يعطيه لك، إلا القراءة.. وإمتلاكك لقلم من ذهب، لن يجعلك أديبا، أو كاتبا، دون أن تقرأ.. كمن يمتلك إمرأة، ولا بد أن يكون أبا، فربما لا تنجب، وتظل أنت منتظرا للبنين والبنات، للأبد.. وهو الإحساس العميق.. و‏تحديد الهدف الفكرى، من الكتابة، هو نصف، أو شطر طريقك، إلى بلوغه، وما تواجهه. فلا تقف في منتصف الطريق‏، كمن ينتظر من لن يأتى، كأرملة طروب.. حتى تجد نصرا، فى نهايه حربك، مع فكرة تراودك، ويشتعل فكرك، بها‏. إقرأ، فتكتب، ولا تشعر أنك ولدت بلا ضرورة‏،  ويظل كذلك، من لا يقرأ، وتختفي الدنيا كلها من أمام ناظريه، من يجد نفسه وحيدا، بدون القراءة‏.. أنا أشعر بأنها كارثة تلاحقنى، إن لم أقرأ فى يوم، يمضي علىّ، فأشعر أننى فيه، لا زلت حيّا. فلا أشعر أبدا، أن الحياة لاحكمة لها، أو أن لاسعادة فيها.. فقط القراءة، هى ما تجعلها كذلك، وما يجعلنى، بحكمتها وسرورها.. أخشى ألا يفعل أحد ذلك، فلا يقرأ..‏ ولو عاد بي الزمن، لظللت أقرأ، كل ثانية، من عمرى.. فكل يوم‏‏ علىّ، ينقص من عمرى يوم، لكن يضاف إليه، ما أقرأ..‏  
ومن مشرق ما أكتب إلى مغربه، وفي سفر معاكس فى النص، هكذا أنبه نفسي، دائما. ولا أنتظر طويلا،‏ حتى أعيد النظر فيما كتبت، ببحث وتنقيب، عن ضائع أشعر به،.. عما تفرّق من جسم الفكرة.  كعمل شاق، للوصول إلى ريعان النص، الذى أكتبه، مما يعضّد عزيمة نفسى  ونشاطها،.. يبعث إلى حركتها، ودليل علي أننى أسير قدما.. وتأتي رحلتى الدائمة، هكذا، مع نفسي. ولسان حالى أن الزمان والمكان، لهما ظلالهما معى أثناء الكتابة، قبل أن يشعر بهما القارئ. ولا يكفى الجمال فى اللغة، إن لم أكتب الكلمة، كضربة ريشة، فى لوحة، يستوعب منها القارئ حدود المكان والزمان، حيث يدور الحدث.. تحيل الذهن إلى شكل هذا المكان ودفئه.. ولحظة زمنه. وحينما اكتب يكون شاغلى هذا. ونحن حينما نقرأ، لا نلتفت فقط إلي جمال اللغة، بقدر ما يكون، لما له مؤثرات على النفس. وأتذكر فى الفصل الأول من رواية غصن الحياة، أنى شعرت بنقص ما فى كتابتى، وأن هناك شئ ضائع منى، بعدما أعدت القراءة.  وبدأت أضع يدى على قصورى الذى شاب النص، بنظرة لم تخلُ من نقد لنفسي، إذا وجدت أن اللغة كانت مسيطرة على الفقرات عبر الفصل كله، قبل إعتنائى بالتعديل مرتين، وعليه قررت إعادة الفصل من جديد، للمرة الثالثة، وأضعه قريبا بعد التعديل. والغريب، أنى لم أعرف بالضبط سبب شعورى، بما ضاع من معنى، قبل أن أستمع إلى هذا الصوت، الذى أحادث به نفسي دوما، ويخطفنى إلى التعديل مرة بعد أخرى. فأنا أعتبر النص كمرأة جميلة، علىّ أن أنظر إلى عينيها حينما تحدثنى.. إنه عمق لا يدرك.. أفشل دائما فى فهم النص، دون هذه النظرة لعينيه، بعينى عقلى وشعورى.. فالنص مثل المرأة الجميلة، دائما تكون مرأة أخرى.. ومن هنا فالنص الجميل دائما، ما لم نكتبه بعد، ونبحث عنه،.. غالبا الأمر يكون كذلك. من هنا، شعورى الدائم، أن هناك ما ينقصنى، ساعيا وراءه. حتى تأتى لحظة ميلاد معينة، وأتوافق مع فكرة معينة، فى نفسي، هى الفيصل فى الكتابة. ولا أصدق نفسي‏ حتى أكتب، كمن قابل صديقا قديما‏، ثم رآه فجأة، فاندهش، يحكي لى ما حدث، ومالم يحدث‏. وينمو النص معى، من هذه النقطة، وشئ غريب، إن لم أشعر بذلك، ولذلك أرى نفسى متنقلا، فى كتابة أكثر من عمل. من النادر، ألا يكون ذلك، مثل عدة  نساء جميلات، على النظر إلى أعينهن، فى نفس الوقت، لأكتب نصّا فاتنا، يغوينى كمرأة جذابة، لم تُرَ، من قبل.. 
-----------------------------