سرماديا

سرماديا

عيون غريبة


عيون غريبة
------
فى مدينة لا تعرف للحقيقة وجها. ما إن تطأها بقدميك حتى تكتشف الزيف الحقيقي لصخبها. تغسل أدرانها أمواج البحر كل شتاء. تتركها شبه عارية. لا تملك لنفسها من قوة تميزها. لا تلوّنها بشكل جليّ سوى تلك الشرور القديمة، المسماة بالتاريخ التليد لمارية المتوسط. تغتصب الذاكرة مرة بشيء لذيذ ممتع. ومرات أخرى في حملة شرسة عنيفة ومؤلمة، على ضفتي إستعباد سنين حاضرة لم يحكم عليها بعد. دائرة معارف فاتنة. والخيال العدو الأكبر للحقيقة. وكلماتى الأولى لم تعد هى الأولى، فلا أناقش الأمور كلها مرة واحدة.  كثيرة هى الحالات التى رأيت فيها حياة واقعية، أكثر عمقا من الخيال. تبينت زيف الفكرة القديمة، عن الذات، مادمت أفعل ما أريد من أشياء تستحق أن أفعلها. يحلم بالقيام بها كل إمرئ، طالما أن الحياة لم تصدمه بعد. أدع الأمور تسير فى طريقها، رغم أية صعوبات. قطعت شوطا كبيرا، حتى أصبح البحث فى الأعماق الخلفية الساحرة، لأنفس هذا النوع المسمى النوع البشرىـ أكثر سلاسة بالنسبة لى.. بعقلية عنيدة، ونفس هادئة، وحسابات عادية، لا تنخدع معها. يصعب عليك السير فى نفس الطريق، بذات المفاهيم متسائلا عمن نكون. شكل حزين من التيه الكريتيى المرواغ لتيسيوس، فى بناء غير مستقر. متسائلين بحيرة، وتحت ضغط، إلى أين نتجه. الأمر كله قائم على العلة والمعلول. هكذا أرى دائما. أبحث، دون أن تقودنى صعوبة إلى ذاك اليأس الهادئ. حتما لم أعرف مسبقا أننى سأكون طبيبا نفسيا متفردا لهذ الدرجة.  المعنى المباشر للإدراك لتجربة خاصة، أن هناك حقائق يحب أن تقال بواقعية، لنمسك بزمام التاريخ. كم هو كبير تيار الحياة، فى عالم لا يبالى بنا. الحياة نفسها لغز كبير يتزايد غموضه. لا يتضاءل أبدا.. إنما تضمحل ذوات. يصيبها البلى والفشل، أمام تحدٍ قائم للحياة.
بداية أتنصل من قدرة على التعبير أو قوة للتخيل. لا أدعى إمتلاكا لموهبة خاصة فى كتابة قصة أسردها عن هذا الرجل المدعو (أدهم زكريا).. لا أملك هذا الخيال لأسوق عنه تفاصيلا بكلمات حية، راغبا لو إنتهيت بشكل مختلف محققا قدرا من النجاح. ليس لى فعلا، إلا ما لرجل عادى، قاده القدر ليكون هو.. لا بصيرة عابرة ولا موهبة سامية تحلق بى وراء لامعقول، فأخمن ما أسرده مبتدعا بحرية مطلقة. لا يسيطر علىّ تنبوء بنهاية هذه القصة.. وعلى نحو ما وضعت نصب عيني ألا أقترب من حقيقة تكمن وراء أحداثها الفعلية.. هذا صحيح تماما، فالأمر كله إستعادة جزء من الماضى. شخصيات وضعتها الصدفة فى طريقى، بحكم عملى.. إذن لابد من إعترافى بأنه بسبب ما يسمى بظروف المهنة كنت قد كتبت ماحدث يوم ما،. وعلى نحو غير متخيل مطلقا.. وعلى الإعتراف أيضا، أن القصة لم تتكشف لى بكاملها بداية الأمر حينما شرعت أكتبها.. أو أننى كنت أعرف شيئا مسبقا ،عن سير أحداثها على نحو واضح بما فيه الكفاية، يؤهلنى لتوقع أمور حدثت فى الحياة.. بعبارة أنيقة لم يكن فى ذهنى شيئا محددا يستفزنى، سوى إرث من أسباب مجهولة.. حل لغز، كان يمكن أن يحدث لإنسان آخر.. يحمل التمرد ضد الحياة. أسئلة بلا معنى لكننى أرى أنها مناسبة. حقيقة الأمر، تركت لحريتى الغريزية الإنطلاق، دون توقع شئ معين يقابلنى.. الأمر كله كان شيئا عاديا.. أحافظ فيه على الحياد والموضوعية، دون عواطف أو تحيزات وشروط مسبقة. أستطلع  ما لا أعرف من مجهول.. ربما لهذا التجرد المفروض فى هذه الحالات، نلت مكافاتى أن كتبت قصة حقيقية غريبة. منحتنى لمحة من الحياة، لوضوح رؤياي المستقبلية وصحة حكمى، فيما بعد.. فى تلك المدينة الساحلية التى يحملها بحر فى كفّه، وأعيش فيها. أصبحت لا تحمل سوى مسوح تاريخ عريق. التاريخ باعث للحقيقة. ينافسه صيرورة الزمن شاهدة على الماضى، ومثالا للحاضر. لكن غابت الفكرة المدهشة للتاريخ.. تنتهى شوارع مدينتى بطريقة عامودية دائما.. على طريق يسيطر عليه الخط الساحلى البحرى. يمتد من الشرق إلى الغرب.. دائما هو نفسه البحر بصخوره العجوزة التى تعرف الشمس.. بحر الروم القديم أو الابيض، لا يهم إسمه طالما ذابت فيه تلك الأرواح.. طواها تاريخها، في سكينة وإطمئنان، أنه لا يوجد غيره نهاية.. بحر لا يعطى وجهه أبدا للغرباء.. لا يتسائل ماذا عليه أن يفعل. تلك هى مدينتى التى تضخمت وتطورت لا ذاتيا.. شوارع نمت خلاياها كالكوابيس التى تحملها نوات وعواصف الشتاء.. لا شئ عاد يكفى. على المرء أن يبحث عما ضاع فى المدينة الكبيرة للحصول على مزيد من التيه لمقيمين وزائرين. شكل غاية من الفوضى.. نحتاج لعدسات مصقولة نرى بها الحقائق لتعود للتاريخ مصداقيته.. وليس لغريزة أديب أو لإستبصار مشعوذ.
على أن أذكر أننى أعيش مع والدتى، هنا.. بعد وفاة الوالد فى بيت بإيجار قانون قديم، كان قد بناه الخواجة إبراهام سعدون بعد الحرب العالمية الأولى.. قبل أن يهاجر فى الخمسينيات.. ويؤمم هذا البيت الأشبه بفيلا بدايات القرن العشرين.. كان والدى قد أخبرنى أن الخواجة بناه حصينا كقلعة ليتحمل ضرب قنابل الطائرات للإسكندرية إذا حدثت حرب.. حديقة صغيرة ببضعة أشجار معمرة.. وبوابة خارجية تطوق هذا المبنى المكون من طابقين وقبو سفلى.. الجدران كلها من الأحجار الكلسية السميكة وطبقة طلاء لم يزلها مرور الزمن.. هنا ولدت أثناء النكسة، بهذا الحى المسمى (ثروت باشا) فى الإسكندرية، ظهير سان إستيفانو.. والبيت كان فى حوزة والدى إيجارا من الحكومة..
طبعنى المظهر الآثر لكل ركن فى البيت بهذا الهدوء، لنفس عازفة بنفسها أمام عبثية الحياة وجنونها العاري الهمجى، كأعاصير عاتية، بعيدا عن كل ثبات وجمال.. كنت محظوظا أننى نشأت هنا.. لم يخطر ببالي حتى هذه اللحظة وجوب أن هذه ستكون فعلا مهنتى، حتى يكون من غير المعقول عدم التصديق أنى سأحمل فيما بعد كل هذه التناقضات، مقابل الهدوء الذى يسكننى وأعشقه.. ثم مفارقات مدينتى تماما بين التاريخ القديم وحاضرها الجديد.. أو مثل خط المترو الهرم هذا، المارّ أمام الشارع الذى أسكن فيه.. كان من الواضح حقا أني لا أملك لنفسي حق الإجابة بالنفي لما لم أعمل شيئا آخرا.. كأننى لا أعرف قط من هو هذا الذى أحمل إسمه (أدهم زكريا).. كان من الواضح حينما تساءلت مؤخرا، أن أسئلتى هذه لن تحتمل إجابات مقنعة ومنطقية، لى. أكد لي هذا ردة فعلى وصدمتى عند إستفهاماتى المريبة لنفسي. كان عليّ أن أجد لغة سابقة أخاطب بها ذاتى ومحدثا بها أدهم زكريا هذا الذى أحمل اسمه.. لغة بين السكون والحركة.. بين الصمت والصوت. صمت يخلق كل شئ. أخذت أجرب كل الإحتمالات لإستنبط منهجا. حتى لا أصل إلى طريق مسدود، أو أواجهه. جانب آخر من التناظر مع ما لا نرى دون فقد لحظة واحدة تقفز بى إلى شئ لا نهائى يعود بى إلى المحدود. كأنى أمام أديب واسع الخيال يتخيل عالما مفترضا تماما بصورة سرية وبشكل مدهش كشفا للحقيقة. مشعوذا داخلى يقوم بدور قائد ثورة بلا قائد.. فى الواقع لم يحتاج الأمر منى سوى إعادة ترتيب تفاصيل حياة. تسبب الإرباك وتنتزع منى السخرية لأسباب لم أرغب فيها مطلقا. إنتهت أخيرا بالتسليم أن هذا ما كان وما قدر للمدعو أدهم الغامض، من بت أعرفه فى نفسي شيئا فشيئا.. لا تخلو حياته من طرافة وصدف.. أقدار عجيبة.. وليذهب الإستمتاع بالتهكم من تلك التساؤلات إلى سراب هجير صيف..
بالطبع، لم أكن أنا سوى رئيسا لنفسي، كما حلمت دائما أن يكون عملى، كبيتنا الذى لا يشاكله مبنى آخر فى المنطقة، ولا يناهزه.. أنظر فى متوسط الأحوال فى ملفات دستة من مرضاى النفسايين يعكسون بقوة وعنف المفهوم الزائف للحياة.. قد يزيد أو يقل العدد أحيانا حسب الظروف ومنها السياسية.. على الأغلب كانت السبب الثانى  المؤثر مؤخرا، بعد الزواج والطلاق والعنوسة والترمل والبطالة.. خلا ندرة من أسباب وراثية للأمراض النفسية. لإرتياد عيادتى.. حالتان هما لا زالتا معى من أربع سنوات، أتابعهما.. (السيدة جميلة قبارى)  أرملة رئيس مجلس إدارة.. مبتذلة. تمارس شهواتها المحبوبة على فترات قصيرة من حين إلى آخر. لم تنجب سوى أفكارا جنونية، أنفقت عليها ما حصلت عليه.. قامت بتبديد كل الميراث على مشروعات تافهة..جعلها إبتذالها ضحية مناسبة للحب والرغبة بعد أن إنحطت إلى هذه الدرجة من الحماقة. أما الحالة الثانية السيد  (طلبة عبيد) الذى أحيل للمعاش المبكر فى خصخصة  إحدى شركات غزل كفر الدوار.. فأصيب بالإكتئاب الحاد المزمن بسبب الفشل والبطالة.. أستطيع أن أقول ذلك بطريقة أخرى، منذ أن مارست عملى كطبيب نفسي منذ عقد ونيف.. كنت أصف تلك الأدوية التى بات مرضاى يأخذونها من تلقاء أنفسهم بعد فترة علاج.. أو لا أسمع عن شفاء أحدهم.. أنسى أسماءهم بمجرد الإنتهاء من العلاج.. كانوا يذوبون فى الحياة.. لا يبقى منهم إلا ملفات مكدسة فى دولاب خشبى عتيق حرصت أمى أن تهدينى إياه عند تجهيز العيادة.. كان فى الأصل معدّا لمطبخ العائلة.. إمتلأ الدولاب بعشرات الملفات.. رصصتها كما كنت أرى أمى تكدس أدوات المائدة فى تلك الخزانة التى إكتظت بها للمناسبات.. أحيانا أعمل مع رجال القضاء وأحيانا الشرطة. عقب فوزى مبكرا فى مسابقة الإلتحاق بجهاز خبراء وزارة العدل وبترشيح من كلية الطب.. لعبت المصادفة وحدها دورها فى عملى.. كنت أريد العمل فى مصلحة الطب الشرعى.. تركوا النظر فى رغبتى ونظروا فى دراساتى التأهيلية لممارسة الطب النفسي.. حقيقة الأمر لم أجد فرقا كبيرا بين التعامل مع جثث وتشريح موتى وقتلى ثم معالجة مرضى نفاسيين، فيما بعد.. هنا تشرح أجسادا وأعضاءا ولحما وهناك تشرح أفكارا وعقولا وأمخاخا، ذبلت بين فصوصها.. ومؤخرا مع فئة المدمنين فى هذا المركز الطبى الخاص. أزوره أربع مرات فى الأسبوع صباحا.. بحانب العيادة، كمصدر للدخل محترم.. ثم زيارتان شهريتان لإحدى دور المسنين معظم نزلائها من علية القوم..
هكذا دواليك، كنت أتقدم خطوة وراء خطوة مع عقدى الرابع، وسنة إثر سنة، حتى صرت هذا الإستشارى المعلقة على عيادته الخاصة.. (أدهم زكريا- إستشارى الطب النفسي وعلاج الإدمان بالمستشفيات العامة والخاصة –  خبير معتمد بوزارة العدل)
. كل الناس يشكون.. مصدر خجل لهم أن يعرف عنهم أنهم مرضى نفس. لم يقودهم شئ إلى توافق معها أكثر إقناعا، أو سعادة شخصية. لم يختاروا لأنفسهم أن يعيشوا فى خط وهم أخرجهم منه، ودائرة سراب يقعون فيها، منصاعين لهمجية مرض نفسي فى مسرح مظلم. الجملة الأولى التى أسمعها منهم دائما :

- إسمع يا دكتور لست مريضا نفسيا.. لا أريد أحدا أن يعلم أنى أعالج عندك..
فأهز رأسى بإيماءة :
- حاشا لله.. مفهوم.. مفهوم..
أبدأ فى الجلسات مستمعا لأسرار وتفاصيل حياة.. كل ما أفعله ببساطة أن أسجل ملاحظاتى. أدع الأمور تمضى جارية فى أعنتها، حتى أنتهى من هدهدة النفس.. أعبر بالمريض من جسر إلى جسر. أخرج ما خفى فى جعبتهم، على هذا الكرسىّ الوثير. أصغى بعناية بينما تصبح كأخرس شبه أعمى فى نهاية لا تتوقعها.. تظل متابعا حتى ولو بطرف عينك ربما تسمع كلمة أو عبارة تساعد على فهم المرض وأسبابه. إن السؤال الحقيقى الذى يبدو لى دائما أنه كيف كان إستثناءا للواقع مهما كان الأمر عرضيا.
أستئصل سبب المرض.. كم أستمعت لعشرات.. رأيت حيواتهم تمرّ أمامى.. من الغريب أن يلاحظ المرء شخصيات كهذه مثل صفحة بيضاء ليس فيها حرف واحد.. تواصل درامى بين غياب وحضور. حوادث يبدو فى نهايتها كأنى أسمع من يقول :
- لن تسمع صوتى ثانية
أما مساعدتى فتحفظ عاداتى المملة أكثر من نفسي.. لا أعرف كيف تحملتنى.. أظننا نفس الشئ.. لم أسألها مرة لما لم تتزوج حتى الآن.. ربما لأننى لم أمارس تخصصى الآن فى تفسير سبب بقائها رغم جمالها الطاغى.. لحسن الحظ لا يأخذ مرضاى الرجال بالهم منه، خاصة هاتين العينين العسلتين الساحرتين.. والشفتين القرمزيتين بلون الرمان.. وهذا الأنف الجميل المصبوب فوق ثغرها.. ملحوظتى هذه كانت إثر إنطباع رؤيتى بداية عملها معى.. تباشر الحجز للمرضى.. أحيانا تحضر الحقن المهدأة وغيرها حينما أستخدمها فى حالات الهياح العصبى للمرضى. دفع فواتيرى وأقساط ما أقتنيه فى مواعيد الإستحقاق. أرشفت لى ملفات المرضى السابقين فى الخزانة القديمة، لأمى.. ومن حين لأخر تدخلها على الحاسب الآلى الخاص بى.. لكن يبقى الطقس الهام الذى يشغلنى دائما هو ما تقدمه لى من قهوة.. تجيد الأمر تماما كإجادتها لبرامج وتطببقات الحاسب. موعد مضبوط بعد وصولى بربع ساعة.. ثم بعد ساعتين، ثم قبل مغادرتى بنصف ساعة.. طوال فترة تواجدى فى العيادة التى حصلت عليها من مشروع نقابة الأطباء لإسكان الزواج آخر حى سموحة.. بالطبع لم أكن لأتزوج فيها وأنا فى حاجة إلي عيادة.. عشر سنوات قضيناها معا على هذا المنوال.. أنا ومساعدتى الماهرة الآنسة جيهان.. مؤهل عالى تجارى،.. خبرة مع الأدوية والحقن إكتسبتها من العمل سنوات.. لم يكن يعنينى أنا الذى تحت إمرة حاسبها الآلى أم هى التى تعمل تحت إمرتى.. ليس بهام أن تشغل نفسك وأنت تعالج مرضاك بكم أو متى تدفع وتلك الأمور المادية.. شئون عيادة رتيبة ومثل الآنسة جيهان موجودة..، تعرف عن العيادة  ومواعيد المرضى أكثر منى.. لاحظت أنى كنت دائما الراضخ لأوامرها الآتية عبر الهاتف.. أو أجندة مواعيد ترتبها لى..

-  دكتور أدهم النهاردة ميعاد جلسة السيدة جميلة وجلسة الأستاذ طلبة، و..، و.. وفاتورة كذا وقسط كذا.. لا تنسى مراجعة مكتب شركة السمسرة المالية بشأن صفقة بيع أسهم شركة كذا.. وسندات كذا..
هكذا صرت طبيبا نفسيا أكتشف شيئا فشيئا أن لى أعمالا بالبورصة باتت رائجة وتتنامى بإستمرار بفضل مساعدة ماهرة ونشيطة.. محاسبة لشئونى المالية ومساعدة طبية لى.. آخر العام المالى تعد ميزانيتى السنوية وحساب الأرباح والخسائر.. تقدمه للمحاسب القانونى ليعتمده مباشرة قبل تقديمه لمصلحة الضرائب.. بالطبع كان لها أتعابها ونسبتها الخاصة.. لا تبخس نفسها.. لم أكن أراجع وراءها شيئا.. باتت تعرفنى وتدرك ماليتى أكثر منى.. كمدير تنفيذى لحياتى.. وبت أعرفها مثل نفسي.. أوشكنا أن نكون شريكين، أعلمها الطب وتعلمنى شئون المال.. كلانا يكمل الآخر بعيدا عن الإحتياجات الطبيعية.. أبدت مع مرور الوقت لسنوات عديدة تطورا هائلا، ووجودا أكثر مما كان فى السابق.

مساء اليوم ذكرتنى أنه كان عليّ أن أكتب بحثا لمجلة الدراسات النفسية ربع السنوية، التى تصدر عن جمعية الطب النفسي.. وذلك قبل تفويت الفرصة..
وكنت قد كتبت مقالا عن الدوافع الكامنة وراء الشّرّ فى أعماق النفس البشرية فى العدد السابق.
سهرت فى العيادة بين أوراقى ومراجعى كان عنوان البحث الذى إخترته "الإنتحار والسياسة : من وجهة نظر الطبّ النفسي".. غريب أنى لم أستشهد باسم أحد السياسين، فلم ينتحر سياسى نعرفه فى مصر.. كنت أجادل فى المقال بمفهومى الخاص العلمى عن الإنتحار النفسي لشخصيات رأيتها.. إختفت عن الساحة السياسية.. وأخرى تقلبت أراها فى طريقها لنفس المصير.. بدأت أكتب مسودة المقال.. حينما قاربت على الإنتهاء منها.. رأيت مدى سخافة الفكرة كلها، فالسياسة حياة عامة مميتة ومدمرة. فلابد أن أذكر أسماءا أعنيها فعلا وغير معروف عنى إهتماما بأمور السياسة.. كنت سأختم المقال (عليهم أن يعزلوهم بعيدا عن واقعنا المضرّ بعبقرياتهم ولصحتهم النفسية والعقلية.. أولئك الساسة) سألت نفسي من سوف يهتم بنظرينى عن الإنتحار السياسى، إلا صحفى إستقصائى يقتبس عن هذا المقال لمن دائما على حافة العبث طوال الوقت.. طويت الأوراق وتركت أماكن الأسماء التى أستشهد بتاريخها فى هذه الظاهرة.. نهاية الأمر، كانت الساعة الثانية صباحا، وصباح الغد آخر موعد لإرسال البحث كما أكد معى رئيس تحرير المجلة، وإلا لن أنشر قبل مرور ربع سنة آخر.. غيرت موضوع البحث.. كان على أن تغيير كلمة واحدة فقط.. فعنونته "الإنتحار والعنوسة : من وجهة نظر الطبّ النفسي".. وواجهتنى نفس المشكلة فغير معروف حجم تلك المشكلة وهل تؤدى إلى إنتحار أم لا؟.. تذكرت مساعدتى جيهان  حينما تجده صباحا على المكتب جاهزا.. عادة ما تخبرنى رأيها الذى بت أثق فيه.. لاحظت أنني خلال عشر سنوات لم أركز فى وجهها سوى المرة الأولى فقط.. كدت أقول لنفسي أننى لم أدرك مرور الوقت.. فشطبت العنوان الثانى.. وفكرت فى عنوان ثالث ""الإنتحار وضغوط الحياة الزوجية : من وجهة نظر..".. وقبل أن أكمل كتابة العنوان وبدون التلفظ وجدت المشكلة تكمن فى كلمة الإنتحار التى فرضت نفسها على العناوين التى إخترتها كلها.. ولم آخذ فكرة الموت على نحو جاد مقرونة بالطلاق أو الترمل أو العنوسة وغير ذلك من بدائل.. كنت كمن يردد نغمة قاسية أنا نفسي لا أفهمها، عمن يفقدون فى النهاية حياة لم يستحقوا أن يعيشوها. راجعت مكالمتى الأخيرة مع رئيس التحرير الذى ترك لى حرية إختيار الموضوع معلقا بصوته الأجش:
- نريد رفع توزيع المجلة أكثر يادكتور أدهم.. لا نريد المجلة للمتخصصين فحسب.. ألست معى فى ذلك.. لا تتأخر يجب أن نطبع العدد..
شعرت أن هناك أملا باق لى لأنهى المقال.. جاءتنى الفكرة طائرة بعد لهاث عبثي نحو هوية الموضوع فليكن العنوان" كيف تكمل حياتك وأنت سعيد ".. وضحكت لأننى شطبت كلمة (وأنت أبله) قبل أن أضع مكانها (وأنت سعيد) على المرء هذه الآونة أن يكون أبلها فى هذا المجتمع ليكمل عمره سعيدا.. عانسة كانت.. أم أرملة لن ترى رجلا أو تشم رائحته.. أو مطلقة تئد أنوثتها.. عاطلين عن العمل.. أو سياسيا يقفز كقرد متنقلا على الحبال فى سيرك.. حالات عديدة.. عامة إستقررت على موضوع البله هذا.. أقصد  السعادة الضائعة فى هذا المجتمع..
مددت يدى على المكتب لأطفأ نور الأباجورة بعدما إنتهيت من المقال،.. ألقيت نظرة عابرة على أجندة مواعيد باكر التى راجعتها مساعدتى قبل أن تنصرف ووضعتها أمامى.. قرأت: 
- لا تنس يا دكتور أدهم موعدك فى مديرية الأمن غدا الساعة التاسعة صباحا مع مفتش المباحث الجديد
- تذكر موعد شركة السمسرة المالية الساعة الثانية عشرة.. 
إنصرفت من العيادة ورأسى محشوة بزوبعة من الأفكار ذات سلطة صارمة قاسية، بين مرح وقلق.. مقال عن السعادة الوهمية. قضية لا أعرف عنها شيئا. أسهم سوف أبيعها قبل أن تنهار البورصة مجددا.. وأتسائل بحماقة من هو العميد حازم أبو الخير الذى تولى فى حركة يناير لتنقلات الشرطة الجديدة.. القانون دائما يبحث عن الإدراك والوعى.. حرية التصرف، لتحديد مسؤلية الجانى.. وكان دورى هذا.. أن أنفى أو أثبت المسؤلية النفسية الجنائية.. وتذكرت العميد أحمد رضا مفتش المباحث حينما كان يستدعينى فى بعض المهام.. ليستشيرنى فى عديد من المسائل فى فترة خدمته آخرها قضية طبيب إغتصب مريضة، ثم إدعى الجنون عند القبض عليه، قبل أن يحول إلى النيابة العامة.. تذكرت زياراتى للسجون، حينما أطلب كخبير.. غريب أنى وجدت معظم حالات السجناء النفسية معاناة من الذهان الإنفصامى.. عالجت عددا من حالات إنفصام الشخصية بينما فشلت أمام حالات أخرى..  كان لدراستى علم نفس الإجرام.. لتحديد المذنب.. أهمية كبيرة فى بعض القضايا.. أما تلك السمات النفسية للمجرمين والعقل الإجرامى وشخصيات الضحايا وتقديم المساعدة والعلاج النفسي.. والصحة العقلية للسجناء وسلوكيات الإدمان وتعاطى المخدرات.. فقد بات لى بون كبير فى هذه الأمور مع متابعتى آخر الأبحاث فى هذا المجال. حينما أنتدب فى قضية بالطبع لا أهمل أثر العوامل الأخرى العصبية والإجتماعية لأولئك الذين لديهم إستعدادا للجنوح نحو الجريمة لأسباب وراثية أو بيئية.. تدخلهم منطقة المرض أولا ثم الجريمة. بت أرى العيون كأوعية أسبر غور ما فيها.. عيون المرض النفاسيين غريبة حقا..خاصة النساء.. أسمى نفس الغائص فى العيون أمام مرضاى.. لا شك فى الحالات التى لا تستدعى منى القيام بتنويم مغناطيسى دراستى للعين تماما كالأسئلة التى أوجهها للمريض أو أدعه يستدعى ذكرياته أمامى كأنى غير موجود.. عدت أفكر فى مواعيدى باكر وعلقت لنفسي بحسى الساخر المرح :

- الصباح رباح.. كلها ثلاث ساعات.. المهم هذه المرة لا أجد قضية لزميل متهم فى قضية يدعى أنه ورث جنونا عن أمه..
أظن نفسي دائما مثل هذا الميكانيكى فى الشارع المقابل قائما يصلح أعطاب السيارات.. سألته مرة أن يبحث لى عن سيارة نصف عمر.. فقال يمازحنى :
- البلد كلها لابد أن تتعالج يا دكتور أدهم.. لا تقلق سوف أجد لك ما تريد..
يذكرنى كلما رأيته أننى ميكانيكى العقول.. أصلح أعطاب الدماغ المؤدية لإنحرافات واضطرابات السلوك نتيجة ضرر ما يلّم بالمريض.. كنومته الدائمة ببذلته الزرقاء  تحت السيارت، أمامى .. 
إقترب الفجر ومن البديهي ألا يتوجب عليّ التفكير أثناء ذلك بلقاء طبيب آخر مجنون غدا.. في الحقيقة لم يكن في عقلى فكرة واحدة.. لا شيء كان هناك سوى إفتتاني الشديد بإنتهاز الفرصة لنوم ثلاث ساعات.. تملكني شئ واحد أن أعود للمنزل وآخذ قسط أدنى من الراحة بعد إطمئنانى على أمى، .. وليتأتى الغد بما فيه
------------------