سرماديا

سرماديا

رواية جذور * سرد متفرق من الفصلين الأول والثانى* تباعا



من مسودة 
رواية جذور
صفحات من الفصل الأول
وبقية الفصول مرتبة، تباعا..
-------- خالد العرفي

---------------------------------


(1)
مرّ هذا العام، بطيئا. ولم آت إلى هنا، منذ السنة الفائتة، فى نفس الموعد. كما هى عادتى، منذ سنوات، مضت. قد أكون غير محق، فى هذا. لكن، على أية حال، بات دأبى هذا، تذكرة لى، لما عشته يوما. ولم أنساه. على الأقل، عرفته، منذ ما يربو، عن عقد مضى. أدركت حياة، لم أكن لأدرك معناها، حتى مات.
-" تراك، يا دكتور مصطفى، لو كنت مازلت حياّ، أكنت تتذكر، تلك الأحداث؟!"
أيام مضت، وليال، قد مرّت.. للأسف، لم تسقط من ذاكرتى، يوم أن علمت خبر إنتحارك، من فوق سور كوبرى خليج إستانلى، يوم ثلاثاء، بمنتصف ديسمبر 2004. إبتلعك البحر، لثلاثة أيام، قبل العثور، على جثتك طافية. لفظك، وسط محضنة طحالب، وأعشاب بحر، بين صخور شاطئ، يبعد عن الخليج، ثلاث كيلومترات. وقد حملها التيار الشديد..
قال الشهود:
-"أنك ألقيت بنفسك، فى لمح البصر، والسماء تمطر..
لم ينظر خلفه، أبدا..
لم يقاوم الأمواج.
إبتلعه البحر، فى جوفه.."
ربما، لم توّد أن تودع الإسكندرية، أو تودعك، فى هذه اللحظة. مثلما، ودعتك الحياة، صباح ثلاثاء شاتى، بديسمبر.. عمر قد فنى، بين قدر، ومصير أليم..
-"أخشى أحد قِلة، قد رأت منيّتك، أن يقفز خلفك، فى بحر هائج، بيوم قارس البرودة، ليمد إليك يدا؟!"
-"أم كانوا يعلمون، أنك تستحق الموت، فى نهاية مطاف حياة طبيب، غريبة؟!"
-"أم تركوك، لمصير إخترت يومه، أم إختارك، هو.. ؟!"
-"أم كان موتا، بلا إختيار.. ومصير لا يُرجع، عنه؟!"
حينما وصلنا الكوبرى ليلا، بعدما علمنا الخبر، كان مضيئا، يلفه الضباب. بالكاد، قد أقول أنه كوبرى. ولا نرى البحر، بمحاذاة شاطئ، قد غاب أفقه، فى عمق الظلام. لم نسمع، إلا صوته. تندفع أمواجه بسرعة، تدوى هادرة. رغم ذلك، لم يخبرنا، عمّا حدث،.. الموج، ولا الصخور. لم أره، كما رأيته أنت. منذ آخر نفس، وآخر نظرة، كانت لك.
فى السنوات الست، التى تلت، تلك اللحظات، من منتصف ديسمبر 2004، وحتى أواخره، دأبت على إستعادة تلك الكومات الهائلة، من ذكريات مغمورة، تحت سطح البحر، فى ذاكرتى. لم تذهب معك راحلة، إلى عالم آخر. أو هكذا أظن. فلم تكن تلك التفاصيل بعيدة عنى، أو عن حياتى. لكننى الآن، أعرف ما رأيت فيها، حقا. أدرك كمّ الفوضى، التى كانت. فكّرت أنك، لو كنت تجلس معى، كما كنت تفعل، لرأيت ذلك، حسبما، صار الأمر عليه..
-"أين أنت الآن..؟! وأين هم..؟!" وأين نحن..؟!
فكّرت كثيرا، فى المرحوم أبيك، وزوجته المسكينة.
فكّرت، فى مرضاك النفسيين، وما آلت إليه، مصائرهم.
وكم فكّرت، فى الدكتورة عهد الكنانى، والدكتور يحيا شرف.
وفكّرت، فى جَنى، ووالديها، اللواء عبد الحافظ سليم، ودكتورة دريّة عطا.
لم أنس، الدكتور توفيق العلمى، أستاذ الطب النفسي بكلية الطب.
ولا وكيل النيابة كمال بك.
وحتى إدريس النادل النوبى العجوز، ومساعدتك الآنسة جيهان.
وحتى، عبد الباقى معاون المستشفى، والتاجر الأرمنى كالفيان جستنيان، ووريثه أوهان..
متولى خيرت صاحب صالة المزادات، بكامب شيزار..
حجازى بستانى البيت القديم، بكفر عبده..
الصحفى عصام صابر، ورئيس التحرير فوزى عمران..
ومروان المصرى، من رويت باسمه مذكراتك، ومذكرات أبيك..
وغيرهم كثيرون.. صحافة، ووسائل إعلام..
طوال هذه السنين، لم ينقطع تفكيرى، فيك وفيهم. لم يرحل أحد منهم، عن ذهنى أو يغادر مخيلتى، أبدا. وقد إرتبط كل منهم، بك أو بقصتك، لسبب أو لآخر..
أأخبرك أمرا آخرا:
لم أتصور أن هذا فعلا، ما كان وحدث. إنما، كل ما أفعله، يا صديقى، أننى أزور قبرك، كل يوم، مثل هذا اليوم، طوال سنوات، منذ إنتحارك. أحادث نفسي. تذكرة، أتفكّر. وليس فقط، تنفيذا لوصيتك، أننى الوحيد، الذى سيفعل ذلك، كصديق، لما بعد الموت.. عامة، يبدو لى الأمر، الآن، على حقيقته، أكثر سطوعا. ليس كما رأيتك، أول مرة، عصر يوم ثلاثاء، وافق بداية يوليو عام 1999. نفس شهر مولدى. كأن مقابلتى بك، ثم موتك، كانت ميلادا جديدا، لى. هذا هو الحديث، الذى يعصف برأسي، كلما أتيت هنا، فى ذكرى منتصف ديسمبر، كل عام. راحلة، إلىّ ذكريات ما وقع، بلا ضجر، من أعماقى. إنما اليوم، بات هاجز جديد، يسكننى. منذ جئت، قبيل نصف ساعة، إلى مدافن المنارة القديمة. على مبعدة، من باب، يجاور طريق أبى قير. أشعر بك تماما، بجانبى. تقرأ معى، شاهد قبر رخامي، هو لك. بدأ، يبهت ويتآكل. يمين، ممّر ترابى ضيق، يلاصق سور، محدق بمقابر، شرق مدينة البحر. فى هذه الظهيرة الشتوية الغائمة، المنذرة، بمطر، فى جو متقلب.. ليروى ظمأ، رفات موتى، وعظام نخرة، بأجداثها. ما إن نغمض عين، إلا ونرى، تحت أطباق الثرى، من وُري فيها. أودع، هذه الحفرة، فابتلعته، هاوية. وعلى طول مدى، ماض ينتظر، أن تغرب شمسه. إنقضت، كأوراق غصون ذابلة. لا تنوح على أحد، فى ذاكرتى. احتوشتهم، فى بطنها. أعادت صورتها، فى ثوان خاطفة، قراءة ما نُقش، على رخام أبيض، بلون أسود غائر. إرتكز على مقدمة قبر، تحت ظلال أفنان، شائكة سميكة. لشجرة صبّار هرمة، رؤوسها، كالإبر. عمرها، أكثر من ثلاثين عاما. يُلملم أطرافها، سكون الموت الهاديء. تحرسه. وعلى شاهد، يخفر مدفن كبير، فى مقابر المنارة، حتى تاريخ اليوم،.. كنت أقرأ:
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
عائلة /
المرحوم د / مصطفى صالح
توفى فى يوم الثلاثاء 15 ديسمبر / 2004 م
 الموافق لغرة شهر/ ...... هـ
غير أن سكينة وخشوع الدائرة، التى تصدرت مشهدا، مملوءا هيبة، آتانى صداه، قد تلاشت، مع صوت مشبوب، بأمل خروج. صدع ذاكرتى، وهو ينادى: "العزاء، العزاء"..
إنتبهت على صوت المطر، وقد بدأ يهطل، وصوت أحد التربيّة، منتظرا عطيته ، ذاهبا رائحا، علىّ:
-"كل سنة، وأنت طيب يا بك. تعيش وتفتكر.."
بخلفية صوت آخر، بين مشيّعى جنازة، على مقربة منى:
-"سيروا ببطء.. لئلا، نزعج موتى راقدين.. لن يخرجوا معنا"! 
بينما، كنت أقارن، بين تاريخ الوفاة أمامى، أقرأه. وتاريخ يوم، فيه رأيتك، محفور فى ذاكرتى. ما بين ثلاثاء، وافق أول يوليو عام 1999، وثلاثاء آخر، بمنتصف ديسمبر 2004.
دسست، فى يدّ الرجل، ما دسست. غادرت، بصمتى، خلف المشيّعين. لم يساورني أبدا شك، فى أن يوما سيأتى، ليطلق عقال صمتى، تحت ستار ضباب الشتاء. لأضع أحمال روح، وذكريات، لا تغادرنى.. كانت أحاديث نفس، لا تنقطع. غلالات رقيقة، لا تفارق عقلى. أسمع صداها، كطقطقة نار، بقلب موقد، فى ليلة شتاء طويلة. لا يُعرف كم بقى منها، أو كم مضى. كانت قد مرت سنوات معدودة، لم تكن كفيلة، بطمس صورة تلك الأيام البعيدة، من أماكن، شاهدت وقائعها. كبقايا ضرائح منسية، بنسيم حزن. يمسّ حطام مهدّم، وأنقاض ركام قديم، شهد أجزاءا، من حيوات أصحابها، فيما مضى. خمس سنوات ونصف كاملة، ناهزت فترة معرفتى به، إلى أن إنتحر. ثم إنتهائى، من سرد، يحكى ما حدث، عائدا، إلى تلك  السنوات،التى خلت، وحتى الآن.. معنى مباشر لإدراك تجربة خاصة، أن هناك ما يحب أن يقال،  لنمسك، بزمام حقيقته. 
 (2)
ليس مؤكدا لى، مطلقا، أية إجابة، عن كل ماشغلنى، من تساؤلات، منذ ذلك اليوم الشاتى البعيد، وحتى الآن.
بداية أتنصل، من قدرة على التعبير، أو قوة للتخيل. لا أدعى إمتلاكا لموهبة خاصة، فى كتابة قصة أسردها، عن نفسي، أو عن عن هذا الطبيب المدعو مصطفى صالح.. لا أملك هذا الخيال، لتكون التفاصيل، إلا بكلمات حية واقعية. راغبا، لو إنتهت بشكل مختلف. ومحققا قدرا من النجاح. ليس لى فعلا، إلا ما لرجل عادى، قاده القدر ليكون هو. لا بصيرة، عابرة لى. ولا موهبة سامية، تحلق بى وراء لامعقول. أن أخمن شيئا، ومبتدعا، بحرية مطلقة. بعبارة أخرى، لم يكن، فى ذهنى شيئا محددا، يستفزنى البتة. سوى إرث مجهول، كان يمكن أن يحدث، لإنسان آخر. رفض، ضد منطق الحياة الصادم، وأسئلة بلا معنى. حقيقة الأمر، تركت لغريزتى الإنطلاق، دون توقع شئ معين، يقابلنى، أمام ما حدث فعلا. لم يكن فى حقيقته، إلا شيئا، غير عادي. واقع، أكثر إثارة، من كل خيال. ذلك، العدو الأكبر للحقيقة. تبيّنت، أن كلماتى الأولى، لم تعد هى، كما أعهد. لم أعد أناقش كل شئ، مرة واحدة. حقا، رأيت حياة واقعية، أكثر عمقا، وإتساعا، من الخيال، نفسه. إكتشفت زيف الفكرة القديمة، عن الذات، مادمت أفعل ما أريد، من أشياء، تستحق أن أفعلها. يحلم بالقيام بها، كل إمرئ، طالما، لم يصدم بعد. أدع الأمور سائرة، فى طريقها، رغم أية صعوبة. قطعت شوطا كبيرا، حتى أصبح البحث، فى الأعماق الخلفية الساحرة، لأنفس هذا النوع المسمى النوع البشرى، أكثر سلاسة، بالنسبة لى. بعقلية عنيدة، ونفس هادئة، لا تنخدع معها. يصعب، السير فى نفس الطريق، بذات المفاهيم بتساؤل:
-"ما الحياة، ومّن نكون..؟!"
شكل حزين، من تيه كريتيى مرواغ، لتيسيوس. بناء غير مستقر. متسائلين، بحيرة، وتحت ضغط:
-"إلى أين نتجه..؟!"
 الأمر كله، قائم على العلة والمعلول. هكذا دائما، حاولت أن أبحث، دون أن تقودنى صعوبة، إلى ذاك اليأس الهادئ. لكننى حافظت على الحياد والموضوعية، دون عواطف، أو تحيزات وشروط مسبقة. أستطلع، ما لا أعرف من مجهول. لمحة من الحياة، لوضوح رؤياي المستقبلية، وصحة حكمى، فيما بعد.. كم، هو كبير تيار الحياة، فى عالم، لا يبالى بنا. الحياة نفسها لغز كبير. يتزايد غموضه. لا يتضاءل أبدا. إنما تضمحل ذوات. يصيبها البلى والفشل. تتلاشى، أمام، تحدٍ قائم للحياة.لا أنكر، أن الأحداث التى رأيتها، لم تتكشف لى بكاملها، بداية الأمر، حينما شرعت أكتب وقائعها. ما كنت أعرف شيئا مسبقا، عن سير خيوطها الغريبة، على نحو واضح، بما فيه الكفاية، يؤهلنى لتوقع أمور تحدث، وتقع فى الحياة.. إذن لابد من إعترافى، بأنه بسبب ما يسمى بظروف مهنتى، كنت قد كتبت، ما حدث يوم ما. على نحو غير متخيل، مطلقا..  ولم يكن يسيطر علىّ، تنبوء بنهاية هذه القصة. وعلى نحو ما وضعت نصب عيني، ألا أقترب من حقيقة، لا تكمن، إلا وراء أحداثها الفعلية. هذا صحيح تماما، فالأمر كله، إستعادة جزء من الماضى. شخصيات وضعتها الظروف، فى طريقى، بحكم عملى، وأقدار. ربما، لهذا التجرد المفروض، فى هذه الحالات، نلت مكافأتى، أن كتبت قصة حقيقية غريبة..
 (3)
فى الواقع، لم يحتج الأمر منى، سوى إعادة ترتيب تفاصيل حياتى وحيوات رأيتها، لأفهم. تسبب الإرباك، وتنتزع منى السخرية، لأسباب لم أرغب فيها، مطلقا. وإنتهيت أخيرا بالتسليم:
- " أن هذا ما كان وما قدر لمدعو غامض. طبيب نفسي، بت أعرفه، فى نفسي، شيئا فشيئا. لا تخلو حياته، من طرافة وصدف، وأقدار عجيبة.."
 حتما، لم أعرف مسبقا، أننى سأعرفه متفردا، وحياة غريبة، لهذه الدرجة. وليذهب إستمتاعى أو تهكمى، من تساؤلاتى، إلى سراب هجير صيف. بالطبع، لم أكن أنا سوى رئيسا لنفسي. كما حلمت دائما، أن يكون عملى. كبيتنا، الذى لا يشاكله مبنى آخر، فى المنطقة، ولا يناهزه. فى تلك المدينة الساحلية، التى لا تعرف للحقيقة وجها، ويحملها بحر، فى كفّه، حيث أعيش. ما إن تطأها بقدميك، حتى تكتشف الزيف الحقيقي، لصخبها. تغسل أدرانها أمواج البحر، كل شتاء. تتركها شبه عارية. لا تملك لنفسها، من قوة تميزها. لا تلوّنها بشكل جليّ، سوى تلك الشرور القديمة، المسماة بالتاريخ التليد، لمارية المتوسط. تغتصب الذاكرة، مرة بشيء لذيذ ممتع. ومرات أخرى، في حملة شرسة عنيفة ومؤلمة، على ضفتي إستعباد سنين حاضرة، لم يحكم عليها بعد. دائرة معارف فاتنة.
على أن أذكر أننى أعيش، مع والدتى، هنا. بعد وفاة الوالد، فى بيت بإيجار قانون قديم، كان قد بناه الخواجة إبراهام سعدون، بعد الحرب العالمية الأولى. قبل أن يهاجر، فى خمسينيات القرن العشرين. ويؤمم، هذا البيت الأشبه بفيلا، من بداية القرن. كان والدى قد أخبرنى، فى طفولتى:
-"يا يوسف الخواجة بناه حصينا، كقلعة، ليتحمل ضرب قنابل الطائرات للإسكندرية، والغارات، إذا حدثت حرب.."
حديقة صغيرة، ببضعة أشجار معمرة. وبوابة خارجية، تطوق مبنى، مكون من طابقين، وقبو سفلى.. الجدران كلها، من الأحجار الكلسية السميكة، وطبقة طلاء، لم يزلها مرور الزمن.. هنا ولدت أثناء النكسة، بهذا الحى المسمى (ثروت باشا) فى الإسكندرية، ظهير سان إستيفانو. موقع متميز، يتوسط مناطق: لوران، وزيزينيا، وجليم. وعلى غير بعيد من طابية السراى، وسيدى بشر.. حيث يسهل الوصول، إلى أى شاطئ قريب. ومن الجنوب، شارع عبد السلام عارف، حيث شريط ترام الرمل، بعرض، خمسة وأربعون مترا. أما بيتنا، فكان فى حوزة والدى، إيجارا، من الحكومة.
تنتهى شوارع مدينتى، بطريقة عامودية، دائما. على طريق، يسيطر عليه خط ساحلى بحرى. يمتد، من الشرق إلى الغرب. دائما، هو نفسه البحر، بصخوره العجوزة، التى تعرفها الشمس. بحر الروم القديم أو الأبيض، لا يهم إسمه. طالما، ذابت فيه تلك الأرواح. طواها تاريخها، في سكينة وإطمئنان، أنه لا يوجد غيره نهاية. لا يعطى وجهه أبدا، للغرباء. لا يتسائل، ماذا عليه أن يفعل. تلك، هى مدينتى. أصبحت، لا تحمل سوى مسوح تاريخ عريق، باعث للحقيقة. ينافسه، صيرورة زمن. شاهدة على الماضى، ومثالا للحاضر. لكن غابت فكرتها المدهشة. تضخمت، وتطورت لا ذاتيا. شوارع، نمت خلاياها كالكوابيس. تحملها نوّات، وعواصف الشتاء. لا شئ عاد يكفى. على المرء، أن يبحث عمّا ضاع، فى المدينة الكبيرة، للحصول على مزيد من التيه، لمقيمين وزائرين. شكل، غاية من الفوضى. نحتاج، لعدسات مصقولة، لنرى بها جذور حقائق، لتعود الدهشة والمصداقية. وليس، لغريزة أديب، أو إستبصار مشعوذ.
طبعنى المظهر الآثر، لكل ركن فى البيت، بهذا الهدوء. نفس عازفة بنفسها أمام عبثية الحياة، وجنونها العاري الهمجى، كأعاصير الشتاء العاتية، بعيدا عن كل ثبات وجمال. كنت محظوظا، أننى نشأت هنا. لم يخطر ببالي، حتى هذه اللحظة، وجوب أن هذه ستكون فعلا مهنتى. أن يكون، من غير المعقول عدم التصديق، أنى سأحمل فيما بعد، وأرى من تناقضات الحياة، مقابل هدوء يسكننى، وأعشقه. ثم مفارقات مدينتى، تماما، بين تاريخها القديم، وحاضرها الجديد.. أو مثل خط المترو الهرم هذا، المارّ أمام الشارع، الذى أسكن فيه. كان من الواضح حقا، أني لا أملك لنفسي حق الإجابة، بالنفي:
-"لما أنا بالذات؟ ولماذا لم أعمل شيئا آخرا..؟"
 كنت لا أعرف، قط:
-"من هو ذا، الذى أحمل إسمه يوسف فهمى..؟"
 وحينما تساءلت مؤخرا، لم تحتمل أسئلتى، هذه إجابات مقنعة ومنطقية، لى. أكد لي هذا ردة فعلى وصدمتى عند إستفهاماتى المريبة، لنفسي. كان عليّ أن أجد بنفسي، ولنفسي لغة سابقة أخاطب بها ذاتى. ومحدثا بها يوسف فهمى، هذا الذى أحمل اسمه. لغة بين السكون والحركة. بين الصمت والصوت. صمت، يخلق كل شئ. أخذت أجرب كل الإحتمالات، لإستنبط منهجا. حتى لا أصل إلى طريق مسدود، أو أواجهه. جانب آخر من التناظر مع ما لا نرى، فى الحياة. دون فقد لحظة واحدة، تقفز بى إلى شئ، لا نهائى، يعود بى إلى المحدود. كأنى عالم واسع من الخيال، عالم مفترض تماما، بصورة سرية. بشكل مدهش، كشفا للحقيقة
 (4)
متقاربا العمر. جمع بيننا، ما لم أكن أتصور، أن يكون سببا، فى صداقة، ولا فى قدر. متشابهان، كثيرا، ربما. وربما، على طرفى نقيض، فى الحياة. وقائع حياتنا، تقول ذلك. تقرره. مارسنا مرارتها، وإثارتها. عرفنا هذا عن بعضنا البعض، منذ أن تقابلنا، بيوم قائظ، بداية يوليو عام 1999. كاد أن يغرق، أمامى، فى حمام سباحة النادى. بادئ الأمر، ظننته، يمازح أحدا ما، إلى أن تعالت صيحاته، على بعد أمتار قليلة، منى:
-"أرجوك هات يدك.."
-"أتمزح.. !"
حتى أيقنت جدية الأمر، من نبرة، وطريقة إستنجاده، بى:
-"هات يدك.."
بسرعة، قمت بالسباحة، نحوه. شددته من العمق، الذى إنزلق له. ولم أكتم تعليقى الساخر، وأنا أضحك:
-"هذه أول مرة، أرى من يغرق بحمام سباحة. وأظنها الأخيرة.." 
-"لك حق أن تسخر. لكننى فعلا، لا أعرف السباحة. إنزلقت قدماى، إلى هذا العمق الأبعد. كدت أغرق.."
-"يا رجل.. أيوجد سكندرى واحد، لا يعرف كيف يعوم. يغرق فى حمام سباحة..؟!"
وبصوت عال، رد:
-"أنا يا أخى.. أنا.."
وضحكنا، وقد دعانى، بعدما إرتدينا ملابسنا، إلى مشروب، تحت مظلة.. وكان الحرّ قد إشتد..
-"دكتور مصطفى صالح.. طبيب نفسي.."
-"أه طبيب.. يوسف فهمى يا سيدى. صاحب قلم. تستطيع أن تقول، دون حرج، أديبا فاشلا.. أرانا، متقاربا العمر. أليس كذلك؟"
-"بالقاهرة، ولدت في مارس 1965 لأب تاجر، إنتظر ست سنوات، قبل مولدى. وعامين قبل أن يرحل، عن الدنيا، إثر حادث، بعد إنتقالنا إلى الإسكندرية. تركنى وشقيقة، تصغرنى بعام واحد. هكذا، أنا أول طفلين، لأم كلمت فى زوجها.. وأنت؟"
-"بعدك بعامين، فى يوليو 1967. وحيد أب. إستشهد، على خط بارليف، عام 1973. وأنا، بالسادسة من عمرى. ترك أرملة شابة، وابنا وحيدا، فى رعايتها.."
-"أرى أن كلانا تيتم مبكرا.."
-"لم لا تقل أننا، قد نشأنا مبكرا، متشابهين.."
- "اضطررت والدتى متابعة عمله التجاري، بشجاعة، يحسدها عليها الرجال.. متجر، للتذكارات السياحية.. تركة، من بعده.."
-"بطبيعتها، حاولت بحكمة تدبير معيشتنا، فى حدود معاشه كضابط.. إستطعنا مواصلة حياتنا،.. الآن، كاتب فاشل.. وأرجوك، ألا تمارس مهنتك علىّ.. بى، مسّ من جنون الكتابة، أصلا.."
-"أعدت للسخرية، ثانية..؟ أعتقد، أننى قرأت لك أشياءا. أنت كاتب خيال علمى. عامة من الإبداع، ما هو جنون. أدرك ذلك.."
-"ربما. وربما، لم تقرأ لى، بعد..!"
-"ألست أنت، من كتب، عن إمكانية وجود حياة، بكواكب أخرى، فيما وراء مجرتنا. وعن كائنات الفضاء الغريبة..؟!"
-"العلم نفسه أثبت ذلك، مؤخرا. إن شئت، إقرأ إكتشافات المرصد الفضائى كبلر. وعن كوكب جودزيلا، وغيره. أكثر من ألف كوكب، أكتشفت، فعلا.."
وضحكنا معا. تواعدنا أن نلتقى، مساء اليوم التالى، فقد كان لدي موعدا، ولديه إرتباطات عيادته، هذه الليلة. لوح لى بيده مغادرا، وبصوت عال:
-"الليلة، بالتأكيد، سوف أقرأ عن جودزيلا.."
 (5)
إستمرت صداقتنا منذ هذا اليوم. منذ حادثة غرق فاشلة،.. لم تكتمل، فى حمام سباحة. ذات ظهيرة صيفية، شديدة الحرّ. طبيبا نفسيا، وكاتبا ينازع الحياة. وتنازعه. يكتب رواية، بعيدا عن الخيال.. أصبح حديثنا، يأخذنا بعيدا، مع تكرر لقاءاتنا، وتنوع ما نتحدث عنه. لا أنكر، أنى كنت الأكثر إستفادة. أسمتع له، بإهتمام بالغ. يتكلم بعمق عن الطب النفسي، وأغوار النفس البشرية. كنت أكتشف جهلى. يزداد يقينى، أنى لم أكتب قصصا بعد، فيها هذا البعد الهام. كان يستمع، لى. وربما شكوت له عن معاناتى. أنى على إقتناع تام، أنى لم أصبح، من وجهة نظرى، شيئا بعد. لمست منه، ما بدا فى شخصيته، وإهتمامه، بعالم الأدب. لم يخلو حديثنا، من دعابة نتبادلها، من حين، إلى آخر. ولم يتطرق حديثنا مطلقا، إلى غير ذلك، حتى هذا الحين. حتى نهاية صيف 1999. أذكر أننى رأيته ذات أمسية حارة، قبل إنقضائه. كنت، كأنما أراه، لأول مرة. طويلا. أبيضا. قوى البنية. ذا شعر بنى، داكن. وحاجبين ثقيلين، تحتهما عينان عميقتان. ذى شارب هذبه، جيدا. مهندما. إهتم كثيرا، بتناسق ألوان، ما إرتداه.. علقت، على أناقته الشديدة، فقال لى:
-"الألوان شخصية صاحبها. هذا ما إستفاد منه الطب النفسي كثيرا. حتى فى طلاء غرف المرضى، بألوان محددة. وفى تشخيص المرض، وأساليب العلاج الحديثة.. "
-"بلا ريب، فالطب النفسي أحد فروع الطب. والطب، له منهجه. وما أكثر أحاجى العلم، وخباياه. لا أستبعد، أن للألوان أسرار أخرى، لم تكتشف بعد.."
أدهشنى بتعليقه:
-"بالتأكيد. ما أكثر أسرار الأدب والفن والألوان.. "
علقت بدورى:
-"أما أنا، فالأسود لدى، ملك الألوان كلها.."
ومكملا، حلقة الحديث الدائرة :
-"كما للتاريخ، أسرار، وألغاز. ومنه، تاريخ العلم، نفسه. وتاريخ الفنون والفنانين والجنون معهم. بلا شك، أوافقك الرأى، للألوان أسرارها. وهذه ألوانى.."
وقبل أن نكمل حديثنا، ويأخذنا، لواد آخر. أردفت معلقا، على تلك الليلة الحارة، التى خلت، من نسيم هواء الصيف:
-"يتوقع أن تكون الفترة القادمة، الأعلى حرارة، في تاريخ التغيرات المناخية، في العالم.."
قال، مندهشا، من تغيير الحديث، على هذا النحو:
-"كيف علمت إحتمال إرتفاع درجات الحرارة، على الأرض؟"
قلت، بجدية:
-"بالطبع، لست بعالم طقس، وأرصاد جوية. لست بمذيع لها، عقب نشرة أخبار. إنما هى معطيات. علماء قاسوا درجة حرارة الجو، فوق سطح مناطق مختلفة، من المحيط الهادى.. "
قال:
-"أهذا، يؤكد أن تغيرات جذرية سوف تحدث ؟"
قلت، مستطردا:
-"بلى. في الرياح. التيارات المائية. الجفاف. الأمطار. والفيضانات. في مناطق واسعة. شئ لم يشهد مثله، من قبل. كتطورات الإضطرابات النفسية والعقلية. تحدثنى عنها، من حين لآخر. لمرضاك.."
قال:
-"ماذا سنفعل..؟!"
قلت، وأنا أشير له، بسبابتى:
-"ربما، لا شئ بالمرة. فلن تكون موجودا. فربما إحدى هذه الكوارث، تكون حينئذ، قد ضربتك،...."
صمت قليلا، ثم أجابنى:
-"سوف تتمنى أكثر، من أى وقت مضى. وأتمنى، لو كنت ميتا.."
أجبته:
-"لا يمكن لأحد أن يقول، أن الموت وجد ليكون حلا، لمشكلة. من الأفضل أن تموت، من أن تعيش كل لحظة، في خوف.. الخوف موت.."
وحتى عاصفة الحديث التى أعقبت ذلك، جعلتنى أردف:
-"أأنت خائف من الموت؟"!
أجابنى، بصوت خفيض:
-"حينذاك، نكون على وشك الموت. نقول فى أنفسنا: لن  يخرج أحد من هنا، وهو على قيد الحياة"
أجبته بهدوء:
 -"هذا غير صحيح. إذا كنت قد فقدت الفرصة، فى الحياة. جدير بك، أن تحاول ألا تموت عبثا. الخوف، من الموت نفسه، عبث.."
مرة ثانية صمت واجما، قبل أن يسألنى، من جديد:
-"لم لا تحدثنى، عن الكائنات الفضائية. ألم تكتب عنها كثيرا، فى مؤلفاتك..؟"
ضحكت، قبل أن أجيبه، مداعبا له، مازحا. وقد إستغربت، من العلاقة، بين سؤاليه:
-"لعلها تقتلك. حدثتك عن تغيرات المناخ، فكدت تدخل فى غيبوبة. ربما لم تكن لتعود منها. ماذا لو أخبرتك، عن أشياء فى الفضاء، لم أكتبها فى أحد كتبى. شئ من قبيل أحاجي، وأسرار التاريخ، وخفاياه.. ؟"
تردد قليلا، قبل أن يجيبنى، وقد أخذه فضول، وشغف:
-"حسنا. لعلك تقصد إختفاءات غامضة، أو إختطافات فضائية. أمور من هذا القبيل ؟"
-"ليس هذا تحديدا، إنما لدى أدلة قطعية، على وجود كائنات فضائية، أو مخلوقات كونية، على الأرض.."
 وقبل أن أكمل، ضحكت، مرة ثانية. لكننى، سرعان ما أردفت، قائلا:
-"أترى هذا الأصلع، هناك.. يذكرنى بها. لعل، لو تم تشريح جثته، بعد موته، لوجدناه، أحد هذه المخلوقات الغريبة.."
عاد إلى الوجوم، والصمت، مرة ثانية.. وكان قد رمق الرجل، بنظرة فاحصة لطبيب، وكأنه يتأكد من قولى، قائلا:
-"بلى. هناك تشابه عجيب، بينه وبينها. يكاد يصل إلى حد التطابق. يشبه ما تواتر من صفات، جاءت بها مشاهدات موثقة، من الشرق والغرب، كما قرأت لك.. وكما شاهدت، فى أفلام الخيال العلمى.. فرأسه كبيرة. عيناه تشبه أعينها. وهو، قصير القامة، بطول يماثل أطوالها.."
علقت على حديثه، وقد اسهبت قليلا:
-"كائنات غريبة. تقلها سفن فضائية مجهولة. ترتاد جو سماء الأرض.."
على أية حال، كان علىّ أن أجيبه، مضطرا، وقد ألح علىّ فى السؤال، مرة تلو أخرى، بعيدا عن أحوال مناخ كوكبنا المتوقع، ومصائب إرتفاع درجة حرارته، وأهوالها، فى المستقبل. كان محور حديثنا، فى هذا للقاء، فى تلك الليلة، الحرارة والكائنات الفضائية. قبل أن أذكر له، ما سجله ابن إياس، فى تاريخه، عن أجسام طائرة مجهولة. ومشاهدة الرحالة العربي ابن بطوطة، لجسم غامض..
إستغرب حديثى، عن كتب قديمة معروفة.. فأضفت له، قائلا:
-"الرجل وصف طبقا طائرا، كان رابضا فوق البحر. ثم إرتفع محلقا، غائبا، فى أفق السماء.."
فرد قائلا:
-"أنت تدهشنى حقا، بإستطراداتك، يا أستاذ يوسف.."
 وختمت حديثنا بما ذكرته أيضا، عن حادثة "روزويل" الشهيرة، عام 1947، قرب صحراء نيفادا. ومشاهدة أشياء غريبة، تحدثت بالسماء. معلقا بإقتضاب:
-"سقوط طبق طائر. إثر إنفجار راعد.."
تستطيع أن تقول عنها:
-"أشهر واقعة عثور، على جثث كائنات فضائية. أشبه ماتكون فى صفاتها التشريحية، بالبشر.. "
وأنهينا نقاشنا بهذه اللحظة، التى لم يسبق لها مثيل، في التاريخ البشري، قبل أكثر من خمسة وستين عاما، مضت..
 (6)
وفى لقاء آخر، ربما بعد أسبوع أو أكثر، على ما أذكر، سألنى:
-"كيف تكتب ؟"
حاولت أن أعرض له الأمر، كمرض، أعانى منه، فعلا..
-"شئ مثل الصداع. نهاية ملائمة له، دائما، أن يضاء مصباح، فى أعماقى. ومنذ تلك اللحظة، لا أفكر فى أى حل آخر، مطلقا، غير مواصلة الكتابة. أستمر مستسلما، لسطور قصة أكتبها. رويدا رويدا، حتى آخر سطر. لا أحتفظ بها فى داخلى، أو أحملها أكثر من ذلك، كشحنة بارود، تنتهى صلاحيتها..
كان يهزّ رأسه، صامتا، قبل أن يطالبنى، بمزيد من شرح، لم أعرف له سببا، فأضفت:
-"أبحر بعيدا، قبل أن تؤرقنى فكرة أخرى جنونية، تضيع معها الأولى، إلى غيابات نسيان. على إمتداد نفس الشعور الغريب. أمر حتمى تماما. لا أحتاج معه مزيدا، من وقت، أضيعه. مقاومة نوع آخر، من صداع درامى، لفترة طويلة.."
-"قال لى وصفك رائع فعلا.. "
قلت له مستطردا، وأنا أبطن دهشتى:
-"فى النهاية، أسميه مرضا أدبيا. جنون إبداع. وإبداع جنون. لاشفاء منه. لا أقاوم أبدا بريق ومضاته، بارقة فى عقلى، موغلة فى كيانى.. "
قال:
-"أرى، أن الأمر كله أساسه الخيال.."
قلت:
-"فى أحيان عديدة، لا أزعم بأى حال من الأحوال، أن أياّ، من هذه الأفكار، ينتسب لخيالى الراعد. حينما، يبدو الأمر كله، أغرب من دائرة الخيال نفسها، وأوسع من أفكارها، وحدودها.."
قال لى:
-"أحيانا، يتكفل الواقع المثير فعلا، بكل شئ،.. !!"
لحسن الحظ، وحتى هذه اللحظة، لم أفكر فى أمر أكثر، أو أبعد من ذلك. اللحظة، التى أكتب فيها مثل ما يحدث. إستطردت، فى حديثى، قائلا له:
-"تعلم أن البحث والتأليف العلمى، غير هذا تماما، وإن جمعت بينهما خطوط تماس، فى عالم الكتابة.."
لكننى عدت، وكأنه قرأ ما يدور فى ذهنى، فقلت:
-"أرانى أعانى من حالة إكتئاب كتابى حاد ومزمن.."
ضحك حتى ملأت ضحكته، ما حولنا، معلقا:
-"أراك تستخدم مصطلحات الطب النفسي. أنه مرض يا أستاذ يوسف. الإكتئاب مرض. من المؤكد أنك، لا تعانى منه. أنت على وشك أن تبدع أكثر.."
ومع الوقت طلب منى، أن يقرأ لى صفحات من مسودات، لم تصدر بعد. يناقشنى حولها. فى وقت كان يحاول فيه أن يقول، أنه يجد متعة كبيرة، فيما يقرأ لى. بينما، أؤكد له، أنى أكتب ما ليس له قيمة. بل وأزيد، أنها محاولات فاشلة، واحدة تلو الأخرى. حتى ذكر لى مؤخرا، يداعبنى:
-"أرى أنك سوف تزورنى، فى عيادتى، قريبا. هذه المرة ليس كصديق..!"
ورددت مداعبته:
-"بلا شك. فقد إشتقت، لرؤية مساعدتك الجميلة الماهرة..!"
وهو يعلم مشاكساتى لها، فى المرات القليلة، التى زرته فيها، عابرا.. وإنتهى لقاؤنا. أحادث نفسي، أن حلمى يظل دوما. يجمع شعث النفس، وتفرق الذات. أسافر، فى أشعة شمس دافئة، إلى دور التاريخ، وسكرة أفكار غير مكتوبة، أبحث عنها. تتدافع فى رأسى تفاصيل أضواء مصابيح وقناديل. ما إن تتملكنى، بدفء غريب، أصبح، شهابا، بين النجوم والكواكب والأقمار، فى أعماق سموات بلورية. تنحبس أنفاس توترى، أمام رغبتى المتوقدة فى المعرفة. هكذا، لا تتركنى، إلا وقد ذبت، فى تلك الأضواء المتلألأة، بلون الياقوت والذهب والعنبر. مزيجا، بلا إنتهاء، فى أرض غير الأرض. سماء غير السماء. كون غير الكون. أنفصل عن كل شئ. بقلبى وروحى.غارقا بعقلى، فى عالم آخر. لا شئ، يضاهى هذا الشعور، مطلقا
 (7)
وفى مرات، زارنى فيها ببيتى، كنت أقنع أمى، أنه يتابع حالتها الصحية، بعيدا، عن طبيبها الخاص. ولا يتعدى الأمر منه، قياس ضغط،  أو قراءة تحاليل طبية دورية تجريها. وربما، وهو يهم، بالإنصراف، بعد جلستنا معا، فى حجرة مكتبى.. وفى كل مرة، يقول عبارة واحدة:
-"الضغط عادى، والتحاليل جيدة.."
ولم أذكر لها مرة واحدة، أن صديقى طبيب نفسي. لم أكن لأسلم منها، إن علمت ذلك. فهى تعانى، من مضاعفات، مرضىّ السكرى والضغط..!
كانت تتعجب منذ بداية صداقتنا، ولا تخفى تعجبها، وقد لفت إنتباهها، أنه لا يلبس خاتما لخطبة، أو زواج:
-"لماذا، لم يتزوج صديقك دكتور مصطفى، إلى الآن. رغم وسامته. قل له: أن له لدى، عروس جميلة!"
كل مرة، أجيبها:
-"أراه، لا يحتاج خاطبة، يا أمى. أنسيت، أننى الآخر، لم أتزوج بعد، إلى الآن..!"
ولم تأت الفرصة لسؤاله، عن سبب عزوفه، عن الزواج. بينما المرة الوحيدة، التى وصف لى فيها، دواءا، كطبيب، إثر شعورى بأرق مستمر، لعدة ليال. فكانت حبوبا منومة، رأى أنى:
-" فى حاجة ماسة، لها.."
 بعد أن رأى هالات سوداء شديدة، حول عينىّ، وإرهاق بدا علىّ، قد ضرب بجفونى. وقد ترجمت اسم الدواء، بالعربية "ليلة هادئة"..!
-------------------------

من الفصل الثانى

أتعرفين الألكسيادا..؟!

-----------

شتاء 2000 


(1

لا أنسى يوم أن رأيتها. يوم، أن تبادلنا الحديث، لأول مرة . وكان عن كتاب الإليكسادا ، الذى جمعنى بها، فى مكتبة الإسكندرية.. فى ظهيرة يوم الإثنين، بالأسبوع الأول، من يناير 2000. كنت أختلف إلى المكتبة، أثناء عملى، فى روايتى التاريخية "شيزر". للرجوع، لبعض المصادر التاريخية، التى لا توجد، فى مكتبتى الخاصة. منها، كتاب المؤرخة البيزنطية "أنّا كومينا" ابنة الإمبراطور البيزنطى "ألكيسوس كومنين". أرّخت، لفترة حكم أبيها، فى هذا الكتاب. كنت أعلم، أنه لا يوجد، إلا نسخة واحدة منه، فى المكتبة، التى كانت تحتفل، ببداية ألفية العالم الثالثة، فى هذا الحين.. كنت فى حاجة، لأنهى فصلا من الرواية، وكنت قد توقفت فترة. وكان لابد من الرجوع، إلى الكتاب، بصدد بعض المعلومات، عما قام به، البيزنطيون والفرنجة، بسبب أطماعهم، إزاء إمارة بنى منقذ، فى شيزر سنة 532هـ/1138م.. وعلاقاتهم، التى بدأت مبكرا، وتنوع صورها، مع الوقت، بحكم الظروف والأحداث، بين الجانبين.. بناءا على إرث سياسى وحضارى للإمارة، وموقعها الإستراتيجي. بالفعل، الكتاب، كان يمثل أهمية كبيرة، بالنسبة لى. لذلك، سبقت زيارتى هذه للمكتبة، زيارتان أخروان، مؤخرا.. فشلت فيهما، فى الوصول إليه ، والإمساك به، رغم وجوده يقينا، بالمكتبة. لم أكن أجده، فى مكانه، على الرّف المخصص، لمجموعة الكتب، التى ينتمى إليها.. وعدت، من كلتا الزيارتين، خاوى الوفاض.

كانت الساعة، قد قاربت الواحدة، ظهرا. ورغم ذلك، كان الجو ضبابيا، وباردا إلى حد كبير.. وقد أثقلت علىّ، من ملابسي. كنت أرتدى بنطالا رماديا ثقيلا. وكنزة صوفية بنفس اللون، لكن أشد درجة. وهذا "البالطو" الإنجليزى الداكن، وكوفية صوفية سوداء.. لا تفارقنى، طوال أيام وليال البرد.. نسجتها أمى، لى، برائحة يديها.

ذهبت، إلى المكتبة. رأيت الأكتاف، من حولى، مضمومة. تكاد تلتصق برؤوس أصحابها، من شدة جو، قارس البرودة. إنحنى بعضهم، واضعا يديه، فى جيوبه. بينما إرتدى البعض الآخر، قفازات جلدية.. بينما معظم الشباب الجامعى، كان يرتدى "طواقى" صوفية، بألوان متعددة.. كان"الجينز" السمة الغالبة، على ما يرتديه جمع المارّة،.. متنقل هنا، أو متسكع هناك.. قبل أن أدلف، إلى ساحة المكتبة، أمام البوابة الحديدية، لجامعة الإسكندرية، بمجمع كلياتها النظرى.. تحديدا، أمام مدخل كلية التجارة.

دخلت المكتبة، آملا فى نتيجة مرجوة، هذه المرة. وقد حرتُ، فى الأمر.. ربما يكون، قد تغير مكانه. ووقف عدم معرفتى به، حائلا دون وصولى، إليه. إستفسرت، من أحد العاملين، على الحاسب، برقم الكتاب وبياناته، التى معى. كان شابا مهذبا، ضمن مجموعة عاملين ذكور وإناث. رأيته، بقميص أبيض، ورابطة عنق زرقاء مقلمة كبيرة، بعقدة كبيرة، وبنطال أسود، ذى نسيج لامع. حدثته، عن الأمر:
- "قدِمتُ مرتين. وفشلت، فى الحصول على الكتاب.. كيف، يمكننى الوصول إليه؟"
إلا أنه، قد أكد لى:
- " الكتاب موجود فعلا. مؤكد يا أستاذ، هناك من يسبق حضرتك، كل مرة، إليه.. للأسف نسخة واحدة فقط، موجودة منه.."
سألته، مستفسرا:
- " والحلّ..؟!"
صمت قليلا، ثم أجابنى، وقد رأى، أنه قد حلّ لى المشكلة :
" تعالى مبكرا.. لعلّ، وعسى.."
كتمت غيظى، وقلت له:
- " ليست بمسابقة، فيمن يحضر، قبل الآخر.. كل، له مواعيده. وظروفه، التى يستطيع أن يأتى فيها.."
عاد إلى صمته، من جديد. ولم يجبنى، كأنه يسخر منى.. لكننى، قرأت بين عينيه:
- " وماذا أفعل لك، أنا..؟!"
(2
هذه المرة، عزمت، على عدم مغادرة المكتبة، قبل أن أرى هذا، الذى يسبقنى، كل مرة، للكتاب.. وقد حرص دائما، على أن يحوزه، قبل غيره.. لم يكن أمامى، سوى أن أقوم بالتجول، بهدوء وببطء، بين أعمدتها، وأروقتها الأنيقة. أمرر ناظرى هنا. وأنظر هناك، بين المناضد الخشبية الكبيرة، بلون الأرو. لعلّ بصرى، يقع على الكتاب.. إنتهيت، من هذا الركن، إلى ركن آخر.. ومرّ وقت غير قليل. كنت، على وشك اليأس، من عثورى عليه، مع هذا العدد غير القليل، من مرتادى المكتبة، فى كل أركانها. بين زائر وقارئ ومتصفح..
وفى اللحظة التى هممت فيها، بإنصرافى، وقد مرت فترة، وشعرت بالحرج، ويأست أن أجده.. قائلا فى نفسي:
" هذا الكتاب لعنة..!"
 ولحسن الحظ، لمحت على بُعد مترين منى، كعب الكتاب.. وقد إستطعت قراءة العنوان، واضحا عليه، وببنط كبير عريض:
" الإليكسادا".
كان يفصلنى عنه، منضدة كبيرة، محاطة من ثلاث جوانب، بمجموعة من الكراسي الخشبية الثقيلة. رأيته، وقد ثنيت بعض صفحاته، على بعض الأوراق البيضاء، من الحجم الكبير. كان هناك، شبه مفتوح، بين أنامل دقيقة، تقبض عليه. إقتربت، لأجد، على المنضدة، كتابين آخرين، مفتوحين. مجموعة متنوعة، من الأقلام. تجاور عديدا من الأوراق، لنسخ ضوئية مصورة. كان واضحا أن، قد تم تعليم بعضها، أو تخطيط البعض الآخر. أو تظليل، مواضع منها، بين سطورها، بألوان مختلفة..
لم أستطع، أن أتبين وجه، من يفعل ذلك. ولم يكن غيره، يجلس على هذه المنضدة. إقتربت أكثر.. كنت واقفا وراءها تماما. كانت جالسة على مسافة، نصف المتر، تقريبا. ألقيت برأسى، من خلف كتفها، الذى إنسدل عليه شعر أسود، مضموم، على جانب واحد، بشريط وردى قانى. درت أمام المنضدة. حتى هذه اللحظة، لم تكن تشعر، بوجودى، مطلقا. كانت هناك غارقة، فى تلك الأوراق، فى عالم آخر.. قلت، فى نفسي:
- " هذه هى إذن، من تسبقنى، دوما.. هنا، فى بيزنطة!"
وترددت، قبل أن إقترب منها، بهدوء، قائلا:
- " صباح الخير.."
وكررت قولى:
- " صباح الخير.. يا آنسة"
لكنها، لم ترد، كأن لم تسمعنى. لم أشأ رفع صوتى، حفاظا على هدوء هذا الركن، من المكتبة.. إنخفضت بكتفيّ، مستندا بيدى، على طرف المنضدة، مكررا، مرة أخرى:
- " صباح الخير.. يا آنسة، آسف لإزعاجك.."
أرخت طرفها، تحت زجاج نظارة شفافة رقيقة، بإطار أسود رفيع رائع. إختفى ذراعاه غارقان، فى موجات شعرها، على جانبي، جبينها الأبيض.. لمحت من يحدثها، أخيرا. وبصوت ملائكي، ردّت :
- "صباح النور.. أيمكنني فعل أي شيء، لك يا أستاذ ؟"
قلت:
- "مؤكد.. وأكرر مرة أخرى، أسفى .. "
صمتت، ثم قالت بعد برهة:
- " وماذا..؟"
أجبتها، بسؤالى:
- " هل لى، أن أعرف متى، يمكننى أن أقرأ، هذا، الذى بين يديك..!"
وعادت إلى الصمت، برهة أخرى، قبل أن تجيبنى، بإستغراب:
- " وما دخلى بالأمر..؟!
أجبت:
- " حضرتك مستحوذة على الكتاب، منذ أسبوعين، قدمت فيهما ثلاث مرات. وفى كل مرة أجدك، قد سبقتينى إليه. لا يوجد غير هذه النسخة.. وهو هام، يلزمنى العودة إليه!"
إبتسمت نصف إبتسامة، وهى تهزّ رأسها، قائلة:
- " آه.. فهمت الآن.. وما شأنى وحضرتك تأتى متأخرا.. المكتبة تفتح أبوابها، فى العاشرة، والآن الواحدة ظهرا.. !"
كدت أغضب، ويرتفع صوتى،. كان على أن أكتم غيظى، للمرة الثانية بعد حديثى مع ذاك الموظف، ثم هذه التى، كانت تلقى باللوم، علىّ أنا. تقول لى، بطريقة غير مباشرة، أن الخطأ خطئى. قلت لها:
- "ليس لأحد أن يحدد لى، متى أحضر..!"
وردت هى قائلة، بحدّة:
- "ليس لأحد، أن يقرر لى، متى أقرأ.. ومتى أنتهى، من قرائتى..!"
أحسست أن عبارتى، خانتنى، فقد كنت حادا، أنا الآخر، وكأننا فى شجار نفسي مكتوم، وغريب.. إعتذرت بلطف، مجددا:
- "لا تعلمين أهمية هذا الكتاب، لى. وقتى ليس بيدى. أرجو أن تتفهمى هذا.."
(3
كنت واقفا، فجلست، إلى كرسي خشبى بجانبها. لم يمنعنى حديثنا، أن أستشف، بمقارنتى، لمستوى رأسينا، بالمنضدة،.. أنها كانت أقصر منى قليلا.. قارب عمرها، على الثلاثين، وربما أقل من عمرى، بعدة أعوام. قوامها متوسط.. بيضاء. ذات وجه دائرى، بملامح هادئة جميلة. وجنتان رقيقتان. عينان عسليتان صافيتان، بحاجبين طبيعين رائعين.. وفم رائع، بشفتين ورديتين دقيقتين. يتبوأ، بينهما أنف ملائكى.. دون أثر، لأى مساحيق. تحاشيت النظر إليها مباشرة، وأنا أحدثها.. ولبرودة الجو، كانت ترتدى بنطالا ثقيلا داكنا، يتناسب لونه مع "جاكت" من الجلد الطبيعى، طويل، بلون بني داكن. يصل إلى ركبتها، وهى جالسة.. مخفٍ تحته "بلوفرا" صوفيا، بلون كريمى غامق.. ذى رقبة واسعة جميلة، مثنية طبقتين.. وقد أحاطتها، بسلسلة ذهبية رقيقة. بها ثلاث أحرف عريبة متشابكة، مشغولة، بدقة، على شكل هلال. إستطعت تبيّن حرف الجيم، يتوسط حرفين آخرين. يحيطان به، حرف الدال يمينا، وحرف العين، يسارا. كانت تلمع، مع إنعكاس أشعة الشمس عليها، التى تتسلل، من سقف المكتبة الشفاف، فوقنا..
وشعرت بصدق إعتذارى، وما أقول. هدأت، وكأنها أرادت الإعتذار، هى الأخرى، لكنها توارت، قائلة:
- " حسنا، أو تعرف الإليكسادا..؟!"
فابتسمت، ملتفتا إليها بوجهى، أجيبها:
- "وكيف آتى ثلاث مرات، باحثا عن الكتاب. كيف أعرف، أنه لا يوجد منه، غير نسخة واحدة فقط، هنا؟!.."
لكنها أردفت:
- "ليس هذا ما أقصد. إنما، أنت الذى قلت، بأهميته، بالنسبة لك..!"
قلت:
- "من المؤكد، أنك تعلمين أن "الإليكسادا" للأميرة البيزنطية المؤرخة "أنّا كومينا "ابنة الإمبراطور ألكيسوس كومنين.."
وقبل أن أكمل، قاطعتنى:
- "طبعا، أرخت فيه لعهده، وما شهد من وقائع، فى هذه الفترة"
وأكملت أنا، بجرأة:
- "دوّنته باللغة اليونانية. وأنهته بعد عشر سنوات، بأحد الأديرة، آنذاك.. هذه هى النسخة المترجمة، بالعربية. لا غيرها رأيت..، قطّ..!!"
وأخذنا سجال الحديث، بيينا عن الكتاب. قالت لى:
- "أنت تقريبا، تعرف كل شئ عنه.."
فقلت:
- " إن شئت، قولى: تقريبا كل شئ.. وكثير من المصادر التاريخية الأخرى .."
صمتت واجمة، كأنها إستغربت ما أقول.. شعرت أنها كظمت غيظها.. تجنبّت أن تسألنى عمّا ذكرت، وعادت إلى الحديث، عن الكتاب، مرة أخرى، قالت:
- "مصدر تاريخي هام. قيمته كبيرة، لكل دارس لهذه الفترة، التى أرّختها الأميرة أنّا .. "
قلت:
- "أعلم، فهو يعتبر مصدرا أساسيا. يرقى إلى درجة الوثائقية، وإلا ما بحثت عنه مطلقا..!!"
سألتنى:
- "تراك فيما تحتاجه.. ؟"
أجبت:
- "هو نفسه السبب الذى تقرأينه من أجله...!"
سألتنى، وكأنها حددّت لى الإجابة:
- "أتُعد بحثا، أو رسالة ما، عن هذه الفترة .. وفى أى كلية باحث أنت..؟"
أجبت، بإستنكار:
- " لا.. لست بباحث تاريخ!"
إستغربت، من إجابتى، وسألتنى، مندهشة:
- "لا بحث. لا رسالة تاريخية.. ماذا إذن.. ! "
مشيرا بيدى إليها، وقد إستندت، إلى المنضدة، قلت لها:
- "مهلا مهلا.. وهل الباحثون فقط، هم من يقرأون التاريخ ومصادره.. ؟!"
أجابتنى:
- "لم أقل ذلك.. ولم أعنيه، مطلقا.."
قلت:
- "حسنا، لست أحتاجه، بسبب ما ذكرت.. لا هذا. ولا ذاك.."
قالت:
- "أثرت فضولى.. نوعية هذه الكتب،لا يعرفها إلا المتخصصون"
قلت:
- " وجهة نظر سليمة،.. لكن، هناك غير ذلك.."
سألتنى:
- "إذن، ما السبب الملح، الذى جعلك تأتى، من أجله، أكثر من مرة؟"
- " أولا، لأننى أعد رواية تاريخية، فى نفس الفترة. ثانيا، لم أجده، إلا هنا... ثالثا، لأنه معك الآن..!"
وكنت سأقول :
- "رابعا، أننا معا الآن.. " غير أن الكلمات، وقفت على لسانى.. وبكلمات قليلة، سألتنى هى، مندهشة:
- "أو كاتب أنت. أديب..؟! الآن أفهم.."
ولم يعنها أمر روايتى، فى شئ. فلم تسألنى عنها، كما توقعت، قبل أن تضيف معلقة، على كتاب الألكسيادا، نفسه، وأمرى معه..
- "رائع، كتاب واحد فعل ذلك، بك.. مؤكد أن هناك كثير، من الكتب غيره..!"
قلت:
- " طبعا،.. لابد أن أغطى فترة الرواية، قبل كتابتها تاريخيا، من كافة المصادر، للوصول لحقيقة تاريخية مجردة.. موضوعية كاملة، تجبرنى على كتابتها.. "
سألتنى:
- "منذ متى، بدأت فى هذا..؟"
قلت، بإختصار:
- " خمس سنوات تقريبا.."
سألتنى:
- "أليست هذه بفترة طويلة.. ؟"
قلت:
- "لا أعتقد ذلك. هناك من إستغرق أكثر منى، بكثير. إن أردت عدّدّت لك، من الأدباء والكتّاب عدد لا بأس به.. ولذكرت لك ما أبدعوه، فى فترات أطول.."
لكنها أجابتنى: 
- "لا تغضب من سؤالى.."
- "لا بالطبع.. لكنه الأدب والإبداع. لذلك يبقى فيما بعد. يكون له أثر، لا يُمحى أبدا.. الكاتب وإنتاجه..."
(4
وعدنا إلى حديثنا، من جديد، عن الكتاب، الذى جمع بيننا.. قلت لها:
" الكتاب فعلا هام.. يحتاجه الباحثون، فى هذه الفترة، من التاريخ الوسيط!"
وعلقت:
- "لا يوجد عليه، سوى إنتصارها دائما لأبيها، على حساب الحقيقة التاريخية. ألا ترى ذلك..؟"
قلت:
- "لم أقرأه بعد .. وسوف تكون ملاحظتك فى ذهنى، وأنا أقرأه؟!"
قالت، مستطردة:
- " رغم ذلك، يبقى فى النهاية، من أبرز المؤلفات التاريخية اليونانية، فى العصور الوسطى .."
وعلقت بدورى:
- "أعتقد أن له أهمية كبيرة أخرى، لم يذكرها من قبل، دارسو المصادر التاريخية، وناقدوها، من قبل.."
وإبتسمت، قائلة:
- "وما هى..؟!"
أجبتها، دون شرح..
- " بالطبع، شئنا أم أبينا، هذا الكتاب فعلا هام.. بل هام جدا!"
وتلاقت إبتسامتنا، وكان لها مغزاها.. قبل أن تسألنى، عن إسم الرواية التاريخية التى أكتبها، ولم تسألنى معرضة عنها، حينما أشرت لها..
- "وما إسم روايتك..؟"
أخبرتها :
- " أحاديث شيزر"
ولم إستطرد. بدورى، سألتها، عن عنوان رسالة الدكتوراة، التى تعدّها.. فأجابتنى:
- "التاريخ والمؤرخون: فى القرنين الحادى والثانى عشر الميلاديين- دراسة نقدية موضوعية مقارنة "
رددت عليها، مندهشا متعجبا:
- "هكذا نلتقى معا، فى جنبات التاريخ. فروايتى تدور أحداثها، فى أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجريين، بما يتفق مع نفس الفترة، التى تغطيها دراستك العلمية التاريخية.."
لم تبد تعليقا، غير إبتسامة صامتة، ودهشة عينيها.. حينما وقعت كلماتى، على مسمعها، موقعها. إستإذنتها، فى تصوير الكتاب لى، حلا للمشكلة.. ووعدتنى. وهكذا أتيح لى فرصة، الحصول على صورة ضوئية، منه. لكنها نبهتنى أن :
- "لوائح المكتبة تمنع من تصوير، إلا قدر أو نسبة معينة، من الصفحات، فى كل مرة.."
ورددت :
- "أتعنين، لن يتم تصويره مرة واحدة؟!"
أجابت:
- " بلى.."
وبدهشة، أنها لم تسألنى، عن إسمى، حتى سألتها أنا:
- " يوسف فهمى.. أتعلمين، أننى لم أعرف إسمك، إلى الآن.."
وإبتسمت إبتسامة، أشرق لها وجهها، غاضّة طرفها، وهى تجيب:
- " جنى. جنى عبد الحافظ"
وفى الوقت، الذى كنت أفكر، فى نفسي، بمعنى إسمها الجميل، أشرت إلى سلسلتها الذهبية الرقيقة، وحروفها، وكأنها فهمت ما عنيته.. قالت لى، وهى تمسك بها:
- "إنها أحرف إسمى، وأمى، وأبى.. "
وإستحييت أن أسألها، عن الحرف الثالث، الذى يبدأ به، إسم والدتها.. إلا أننى عُدت أسألها:
- " منذ متى تعدّين رسالتك..؟"
وعن الفترة التي سوف تمكثها، حتى تناقشها.. ووجدتها فرصة أخرى. ولم أدر سببا، لماذا فكَّرت في ذلك:
- " بإستطاعتى إمدادك، من مكتبتى الخاصة، ببعض المصادر والمراجع الهامة، تتصل بموضوع رسالتك.."
- "أشكرك جدا أستاذ يوسف.."
- "لا، بل أنا، الذى أشكرك كثيرا أستاذة جنى.."
وقبل أن نفترق على موعد، بعد غد، فى نفس الموعد.. وجدت نفسي، بدلا من أقول لها إلى اللقاء، أقول:
- " أهلا بك أستاذة جنى.."
ردت بإبتسامة هادئة:
- " أهلا بك أستاذ يوسف.. أراك يوم الخميس، إن شاء الله"
وقمت من مقعدى، أعيده إلى مكانه، وأنا أجيبها:
- " إن شاء الله.. الواحدة ظهرا.. أتركك الآن، مع الأليكسادا..!! وربما نتكلم عن رسالتك..!"
وإختتمت لقاءنا قائلة:
- " وربما تحدثنى عن روايتك..!"
(5
لم أدرِ، كم إستغرق حديثنا، من وقت، حتى نظرت إلى ساعة يدى. كانت تقارب الثانية وعشر دقائق. مر الوقت كانه لحظات، وليس ما يزيد عن ساعة. غادرت المكتبة، وقد أخفيت سرورى. كانت فرصة، لنلتقى مرات أخرى. تمنيت، ألا تنتهى أبدا، من إعداد، تلك النسخة المصورة. يكفى، أن أطّلع على الأصل. ونتبادل الحديث، عن الأدب والتاريخ.. لم أستطع أن أهدأ، وأنا أستعيد تأثير تلك اللحظات، التى جمعتنى بها. هذا القدر الغريب. عبرت باب المكتبة الزجاجى الواسع،.. يتمتم فى أعماقى، صوت:
- " أيمكن أن يكون هذا القدر الغريب..؟!"
سرعان ما حاولت ألا أفكر، فى هذا الهاجز، الذى عاودنى. قائلا، فى نفسي، كأنى أوقظ نفسي من حلم:
- "أنه مجرد لقاء عابر. لقاء عابر. صدفة يا يوسف. صدفة، ويحدث لك هذا..؟!"
ورغم ذلك، لم يجعلنى شيء أنجح، في التوقف مطلقا، عن التفكير فيها، منذ هذه اللحظة. وفي طريقى، على الكورنيش، عائدا.. وجدت نفسي، مستغرقا تماما، فيما حدث. كان وجهها الجميل، بملامحه الهادئة، يملأ الأفق أمامى. لا أرى غيره. بثقتها فى نفسها، والأثر، الذى تركته فى كيانى. كان إحساسا مدهشا. وشعورا غامضا. تملك منى الروح، والعقل، معا.. شئ لم أعرفه، فى نفسي، من قبل. وألفيت هذا الصوت داخلى، من جديد:
- "قدر غريب..غريب!"
- "تُرى، أكان هناك حرف رابع، لم أره.. أم، لم يوجد بعد، فى السلسلة الذهبية؟!"
وقد ظهر لى بُعد آخر، فى روايتى. لم أكن قد فكّرت، أو شرعت به، من قبل.. كنت أفكر فقط، فى الأميرة " أنّا كومينا ".. وأميرة "شيزر"!!
-----------------
يتبع بقية الفصل الثانى كامل...