سرماديا

سرماديا

خواطر أدبية منوعة




 

خواطر أدبية 
من كتاب
 (فى ماهية الكتابة والإبداع)
----   خالد العرفى




  آلام فارتر
---
أخذتنى خرافة أنى ولدت، فى أوج شهور الصيف، فلن أتذكر منه شيئا. دائما شتاء غائم. وبحر عاصف. وشهور البرد والريح. بالكاد نذهب لطرف خيال ما، فتختطفنا لحظة جميلة، ننقاد لها. كسحابة بيضاء، تتهادى فى سماء زرقاء. كنسيم يداعب زهرة فى فردوس النفس، فتهبنا من أريجها، الهدوء والسكينة. لكنها الحياة نفسها، ترينا ما لم نكن نتوقعه أو نرتقب حدوثه، من عواصف، فلا نرى هدوءا ولا سكينة. لماذا لا أتذكر نسمات ربيع، تهتزّ لها أوراق الشجر، على أغصانها. ألم أرى هذا..؟!

ومع ذلك، لا أدرى أنغمض أعيننا، فى غيبوبة، نفرضها على أنفسنا، لنتحرر من الوعى. نتذكر ما نشاء، أو ننسى ما نريد. ربما ونحن غائبين، عن كل منطق، يكون أجمل ما نكتبه. بشئ من مغامرة عبور هذه المسافة البعيدة، إلى الخيال. نتسائل أنصف نظرات رقيقة أم زائفة..؟!
أنصف نبضات قلب، من دهشة تتلألأ، فى الروح، أم فزعة ألم فى صدر، يتلقى ما يتلقاه..؟!
إبتسامة أم دمعة..؟!
سرور أم حيرة..؟!
حقيقة أم كذب..؟!
إنها أحاسيس، تنتاب كل كاتب، حينما يمتلكه الخيال. ولا يكون إلا ما فى نفسه، ملكا له وحده. فإذا كتب، ضاع كل شئ. وضاعت الحقيقة، إلا من نفسه. لا يعرفها أحد، إلا قلبه. حبّا كان أم ألما. ولو كان هناك عدم يقين:
هل تتضمّن الكتابة ما يدور فى أنفسنا، أم تذهب فيها..؟!
وإلا كيف يشعر كاتب، دون أن يعرف لذلك سببا، أنه طفل أو شاب أو شيخ كبير، فى ذات الوقت. كيف يحسّ بمَ يألمون به. كيف يحبّون.. كيف وكيف..؟!
كيف يدرك ما عليه أمره، فى الواقع، دون أن تميته برودة ريح شتاء، تسكن ذاكرته. تجمدها. دون أن تصهره حرارة مشاعر وأحاسيس، بقلبه، وتهرب منها روحه. كيف يتحرر من تلك القيود.. فيكون حسبما يريد. كيف يروى أو يحكى ما يحدث، أكثر عمقا فى الخيال، ويراه واقعا. أو رأه فى الواقع، فيصيّره خيالا..؟!


كنت فى حالة إستثارة إستثنائية وانفعال شديد، وأمامى صفحة البحر تومض على البعد، فى قلب الليل. وعدا بصباح، ربما لن يأتى. كحقيقة محيرة لا أعرفها.. فلم تعد الاسكندرية ولا البحر ولا الشاطئ ولا تلك البقعة حيث أخلو بنفسى، من حين لآخر،  كما عهدت. كل شئ تغير فى عينى، أم أنا الذى تغيرت. أم كل شئ صار كفكرة زائفة، أصابت رأسى. لم أكن لأحجم، عن التفكير. لما كل شئ لا كما أراه، فى الواقع، الآن. أم أنا لم أكن قد رأيت نفسى بعد، وأن كل شئ فعلا كما هو..
لم أجد صعوبة كبيرة فى التهكم على نفسى، ولن تنجح الحيل النفسية فى رؤية غير تلك. شعور كئيب صادم، كفيل بأن يضع قدميك، على الطريق الصحيح، أو إلى منفى نفسى وعزلة. انقسمت أفكارى إلى نصفين، فى رأسى، تماما. بين مدينة وبحر، وبقعة على شاطئ، وأشياء باتت تنكرنى، وأنكرها. هراء واضطرابات حياة، لا يجدى معها شئ، سوى أن أغمض عينى قليلا، لأرى ما لم أكن أراه. فالحقائق، ربما لا نراها، إلا أغمضنا أعيننا، قليلا. تبدو واضحة جلية، بينما نتلاشى فى البحث عنها، وهى داخلنا ساكنة. نولد ليكون مصيرنا الموت. وبين ميلاد وموت، حياة ربما لن يتذكرها أحد. ذكريات تضيع بذهاب روح، فى لحظة إحتضار. وما كان ممكنا قريبا، يصير بعيدا مستحيلا. كاستحالة أن تعيش حياتين. أن يكون لك روحين. فى الواقع، لا أعرف كثيرا عن تلك الفلسفة والأفكار التى تجعلنى، أعيد التفكير فيما كان مسلمات، وأصبح أقل إقناعا. أستمتع بهذا الإغراء الذى يشدنى إلى إصرار مع نفسى غريب. أنه لن يبقى غير لحظات نحاول فيها، إدراك أنفسنا، وسط عبث الحياة، وعدم معقوليتها. هذا العالم الذى نحيا به داخلنا، أكثر مما نعيشه ونحياه، فى هذا العالم الكبير. لا يهم أن لوّحه البحر، بالتحرر من قيود وأغلال، تضربها عواصف الحياة وتكسرها. ليبقى لنا مساحة إرتياح داخل النفس، وفى أعماقها. وحينما أفكر بهذه الطريقة لأفهم ما يستغلق علىّ فهمه، يصبح الأمر مثل تلك البقعة على شاطئ خال، وقد إختفت. ضاعت، كخيط قصة محكوم بفشلها. لن تكون إلا فى رأسى. فى مكان ما، وسط تفاصيل كثيرة، يبدو معها المستقبل مجهولا، وعين الحزن مسهبة رهيبة. ونتمّ المسافات بين أماكن متباعدة، برحلة ذهنية، حين نخلو بأنفسنا، نائين عن اضطراب حياة، ربما تعود إلى كل شئ. وفى اجتياز هذه المسافات، نعجز عن وصف أصداءها، حين نمضى لشأننا، ونسير بلا توقف. لا نكاد نبلغها، حتى نلقى شيئا كثيرا، من حيرة. لا تفارق أعيننا ما تثيره فينا حوادثها، فنلقي إلى الورق، ما يملأه بين متعة ومرارة، إلى أقصى درجات شدة. وأبدا، لا يستقر ما كان مضطربا، ولا يملأ القلب إلا روع. نتبع فى آخر الأمر، ما لا يصدق، كمن يدفع بردا قارسا عن يديه، فيضعها، فى النار. بكل تأكيد، يختار البعض طريق الهروب كما اختاره "جوتة" فى رائعته "آلام فارتر". وقبل وقوع مثل تلك الحوادث العارضة للتفكير، والأسئلة التى تدور بدون إجابة، فقد لا يكون هناك ما يذكر، فى حياتنا. حتى تبدأ سلاسلها تشدنا، إلى ما لا نتوقع، كبّحار لا يعرف أين يذهب، إلا بمقامرة على حظ وأمل. ومغامرة قد تنتهى إلى الوعى بالذات، أو إلى ضياع وتلاشى. مثل هذا ما جعل "جوزيف كونراد"، أديبا. مسافرا فى البحر، على متن سفن محملة بأكوام الفحم، ومحاولا أن يقدم حلولا ممكنة لحياته الصعبة، ورفقته حقيبة كتب كبيرة، فى مسافات رحلات غامضة. المعنى الحقيقى، أنه اضطر أن يحيا. يجرب كل إمكانيات نفسه، متمردا، طوال حياته كلها. أنفق سنوات عمره، يحاول أن يفهم. ليغادر مرافئ آلامه. ولا شك فى أن أعرف جيدا، فعادة مبكرة، فشلت دوما، فى الإلتزام بها. إنما أحظى فقط ببرهات باهرة نادرة، عبر مسار فوضى صعب. أتلاشى بين أفكارى المنقسمة أو أنكر نفسى، فى لحظات مثيرة، يعجز الوصف عنها، فأستطيع أن أكتب أو أحلم، إلى حد مدهش. حينما يبتسم الحظ لخيالنا، دون سبب معقول. هذا كل ما فى الأمر. وربما لم يحدث مطلقا، فى الواقع، أن أدركت شيئا، مثلما أدرك الآن. الحقيقة الأكثر إثارة، أن تكون الحياة على مدارها، حياة رديئة، دوما. هذا إن لم تكن شيئا آخرا، ننكر أنفسنا معه.. 

حصادا غريبا، للحظات غريبة. فتنة، تجول معها الروح بين تفاصيل. ربما مرّ عليها زمن طويل. أو ربما ما لم يحدث أو يكون، قط. لِمَ، لم يكن قد رآه، أبدا. هذا الغموض الآسر، الذى يكتشفه الكاتب، فى مجهول نفسه أولا، ويطارد فيه الخيال، ويطارده. سرّ ما، ما زال مستغلقا، لا يعرف له، حل.  حتى يظن أنه من الممكن جدا، أن يظل أسيرا لمخيلته، و ربما عليه أن يكون، على الحافة، بين العقل والجنون، حتى يكتب. ولا يعرف ما خلفها، من رؤى وهاجة، أو ما وراءها، من عالم، أبعد من هذه الحياة. وفي شدة توتر وقلق، كان كل ما أكتبه ولا أفكر إلا فيه، أسوأ حالا، من إرهاصات نفسية وتمزق شخصيات قصص، تطارد مخيّلتى. ربما كان هناك شئ خاطئ، فيما يدور فى رأسى. لكن بلا شك، وبأي حال من الأحوال، كان تمهيدا لفقدان ذاكرة إرادى. وليس  معروفا لى بالضبط، متى بدأت أعانى من هذه الحالة المثيرة، مع الموت.. لأعرف كم هو جميل. ومن الأفضل، أن أراه فى عينىّ بطل أو بطلة، أموت فى أحدهما. أن تعرف كيف تخلو، بنفسك. تطرق برأسك، مفكرا، كيف تمضى، فى خبايا نفوس وشخصيات قصة، إلى درجة بعيدة.. ولا ينغص الحياة، غير كوابيس، لا يُعلم متى تظهر، فى عناد وإصرار. لا يفزع فيها، إلا ما يصطخب، فى النفس، من هواجس غريبة. يبدو لى أن أشباحا، تطاردنى ليلا ونهارا، فى ظلمة حالكة دامسة، تترامى أطرافها، ولا تنتهى، إلا بالكتابة. ولا يخلو الأمر، من غرابة شرود وحيرة. محاولة إعتبارالمسألة كلها، مجرد حلم مروع، يجب إجتياز أثره. إعتبار الأمر كأن لم يكن، حينما ننتهى من الكتابة. نشعر فى هذه اللحظة، أننا ألقينا نظرة فاحصة، إلى السراب. كل ما أستطيع تذكره، فى النهاية، أن هناك نّصّا، حمل من النفس شيئا، من هذا الإحساس المسمّى الكتابة. ولم يكن هناك مبررا معقولا، إلا الموت، ليعطيه هذه القوة. موتا، يكشف لى شيئا، من وجه حقيقة غائبة، من اضطراب الحياة، فيحيا النصّ. حقا، أمر غريب.  للأسف، حينما تظهر هذه الحقيقة إلى حيز الوجود، فى النّصّ، نكون، قد تلاشينا. وربما ذهبنا، إلى أجل غير مسمى. لا نعرف متى نعود، من لحظة، تتجاوز بنا غرابة الحياة. وتتجاوز شعور بقلق وضيق وتوتر. تخلص من كل شئ، حتى الحياة نفسها، فى فضاء نص أدبى. ولا أعرف كم مرّ من وقت، منذ أن إنقضت ليلتى الأخيرة. بشكل مدهش، إذ حرتُ مع أسئلة، لا تنتهى أبدا. دائما، بلا إجابة. بينما البعض الآخر منها غامض، والأكثر، أسئلة غريبة الأطوار معى. تظهر لتختفى. وتختفى لتظهر. إدراكا لحقيقة، قد تدفع بى أكثر، إلى رؤى نفسية، أكثر منافاة للعقل والمنطق.  هكذا حللت مشكلتى، بسهولة. ببعض جماليات الموت، فى جوهرها. برغبة شديدة، أن أكتب الموت، قبل أن أموت. بحثا عن فرصة تتاح، لتخطى تناقضات الحياة. أحاولا يائسا، تحقيق إستنتاجات ممكنة، عن وجود ملموس. أو رؤية تفاصيل واقع غريب ومؤلم،  فى تلك المسافة الرمادية، من النفس. وهكذا ألفيتنى، فى مساء قصة "صوت الحياة"، لا أعرف إلى الآن، كيف أنتهى منها. فلا أدرك لها بداية، إنما سيطرت علىّ نهاية غريبة. الموت من جديد، كفرصة للكتابة. فبعض الموت، حياة. وبعض اليأس، أمل. إحتفاظ، بهواجس النفس، فنكتب عن أشياء، كالموت. أمام حيرة مثيرة، وإجابات غائبة. غموض، لعلى أعرف له تبريرا أو سببا، عن كيف نكتب، للخروج، من هذا الظلام. كمن يروح فى إغفاءة، فيرى ما يرى. أن نعمد إلى التخلص، من أفكار غريبة بالية، تكاد تحطم الأعصاب. غموض مبهم، يحجب رؤية الحقيقة. حالة، لا ندرك معها ما يحدث أو يستغلق الأمر كلية. نحار فى إستجلاء سرّ شئ ما. أن يدركنا شئ، من جنون، لم نكن نعرفه أو  نعلم عنه كثيرا، حتى نشرع فى الكتابة.. 

ونكتب لكى نحب. أم نحب كى نكتب. فتلك مفارقة غريبة. لكننى أعتقد الآن وبوعى وفهم، أن الكتابة تقينى من الألم والحزن والتعاسة.. حينما، يختارنى موضوع أو فكرة تنساب، فى العقل، ما لأكون قريبا، كل القرب من التخيّل الجميل. ورغم ذلك يظل الأدب، نتاجا لتأثير خبراتنا الأساسية، ولتجاربنا الحسية، في الحياة. التى تخلق تلك الرغبة الحقيقية والحاجة الملحة للكتابة، بطريقة غامضة وبقدر ما يعنى الأمر، ليأسرنا. وهذا يعتمد على طريقة، ندرك بها، ما يقرّ فى الذاكرة، ويفرض نفسه علينا، ليتمثل أمامنا، بشكل مرئى. لا مجرد نقلا، لواقع. أن نفتش في الذاكرة. لنصوغ، من أحداث حياتية عادية جدا، ما يسمى بالأدب المبهر المتألق. وربما تكون إختياراتنا، لأفكارنا بطريقة لا عقلانية، لمَ تفرضه علينا الحياة نفسها، فتتوالد أفكار أخرى، نجد معها روح حميمية، مع تجاربنا الذاتية، حينما نكتب. فتثيرنا لحظة، أن نجد ما نكتبه، وقد دّبّت فيه الحياة. كرواية تجذبنا. قصة تسحرنا. تصل إلى العقل، بمنطق يأخذنا إلى عالمها، تأويلا للواقع، وليست مرآة له، تعكس تناقضاته. وتصل إلى الوعى بالضرورة. هذا ما ننهل منه أفكارنا، عبر علاقتنا، بالحقائق، من حولنا. سواء موضوعات تطارد مخيلتنا، أم  هروب، من واقع إنسانى نحياه. تمرد على عالم، لتصبح الكتابة حقيقية وأصيلة، بهذا الخيال والإختلاق، الذى يعطى قوة الإقناع والإيهام..






كيف نكتب
فى ماهية الكتابة"
------- خالد العرفى


الكتابة أجمل إنتاج إنسانى، عرفه البشر، وجوهر الحالة الإنسانية،.. وروعتها، فى هذا السّحر، الذى تحدثه، فى عقل القارئ ونفسه. ولن يكون هناك مكان للروح، في هذا الواقع والعالم خالى، من الكتابة. ولا يوجد غيرها، لنثرى حياتنا الوحيدة، التى نعيشها، من خلال الخيال، لنرضى رغبات تتملكنا، كأن نكون أشخاصً آخرين، أو نكون فيما نكتب. لكى نفهم الحياة ونستوعبها، فى ظل حقائق ضخمة متعارضة ومعقدة. وجودنا الفعلى بينها، ولا يمكننا تغييرها. لئلا ننقاد، لرتابتها. أن نحيا الحياة، بطريقة أفضل، وأقرب للكمال. فلا شيء أفضل من تلك الحقائق، التي يظهرها دائما الأدب الحقيقى، لتحمى الإنسان، من تعاسة الحياة. من مشاعر وأحاسيس، مثل الخوف والغضب وغيرها. حتى المشاعر الرومانسية، التى نكتبها، لتجاوز أزماتنا.. لنتخطى الواقع، عبر الزمان والمكان، لحياة، ما كان لها أن توجد..
فكيف يمكن أن نكتب؟! ولماذا نكتب؟!
هل الكتابة شعور بتحقيق ذات؟!
أم قلق، لتحقيق إنسجام مع النفس والحياة؟!
أم لغز يزداد غموضه كلما فكرنا فيه؟!
أم نكتب حياة لم تكن، يوما، ولم نمتلكها..؟!
هل للكاتب قدر مصيرى، لاكتشاف أعمق تجارب الإنسان.. وحقيقة النفس والحياة؟!
نكتب نقيض الواقع، والذى لم يحدث. الحياة الحقيقية، تلك التى لم تحدث.. فنختلقها إختلاقا. لذلك فالحقيقة العميقة، أن الكتابة الحقيقية، إبداع بالخيال، من صنع مخيلتنا. عالم نشيّده بالكلمات، ونبنيه بأنفسنا. فنشعر بأنفسنا، ننتمى إلى هذه العوالم، فى الأعمال التي نكتبها. أو نقرأها. تمردا، ضد الحياة نفسها، لتحقيق ما نعجز عن إشباعه. هذا هو السبب والمحرك الحقيقى للأدب، أو ما نسميه الكتابة.  يظهرها الموهبة والإستعداد والمثابرة والإلهام. مهما كانت الدوافع والمسميات. بهذا التناقض الفجّ، بين واقع نعيشه ونراه، وما نريده ونتمناه. تعارض مع الحياة، بمَ فيها. ولولا ذلك، ما كتبنا شيئا. لذلك فالكتابة ضد تعاسة وألم وضجر واقع موجود. لنصنع بخيالنا، ما لم يكن، يوما. وربما لن يكون..
وبكل تأكيد، قد يبدو الأمر مسألة مبهمة وغامضة. وفى كثير من الأحيان، فإن أى كاتب، يراوه هذا الإحساس البائس التشاؤمى، فى عدم القدرة، على الكتابة. حينما يصبح الأمر غير مؤكد له، وتراوده أحلام اليقظة، مع أمور ضبابية، بلا شكل، أو ملامح.. حالة من الاضطراب النفسى، مثل مشاهد فيلم سينمائى مبعثرة، فى الذاكرة. تلح على النفس. وتفرض نفسها عليها. إحباط شديد وعصبية، حينما تغيب عنه نقطة البداية، لفكرة ممكنة، ينطلق منها. حتى تأتى لحظة نابضة بالحياة، تثير الإهتمام، وتخلق الفضول، بانطباع يتملك المرء، فيمثل له الأولوية. فتتجمع الصورة، فى الذهن، بتأمل العقل. لا نتخلى عن الخيال. أن يشعر الكاتب، أن هذا أفضل ما يحدث. إلى الحد يجعل كل شئ يسير، إلى الأمام. يحمله الخيال، كعاصفة تشرع به، فيستطيع أن يكتب، ويؤثر فى القارئ. مع أحلام ومتعة. مع قراءة كلمات حميمية، وتركيز عقلى يأخذه، إلى عزلة روحية، يمنحها له، ما يقرأه. من خلال سياق طويل، من المعاناة وربما لسنوات، مع مثابرة وسعى. تكريسا، لصقل الموهبة. جهد شاق وبذل كل طاقة ممكنة، فى مواجهة إحباط وشعور بائس، بعدم المقدرة، على الكتابة..
والكاتب، إن لم يكن ساحرا للعقل، فليس بكاتب. ولا يمكن للنص، أن يكون واضحا، لقارئ ما لم يكن واضحا، فى عقل صاحبه. أن يكون هناك إصرار، على القول.. التأكيد، أن الأمر هو هكذا. لذا، فأى نص، يعتمد على سلسلة متوالية، من أمور. تعتمد فى جوهرها، على رابط، من شئ آخر، وبشكل عضوى، فى الذهن. ورغم هذا، لا نعرف ماذا سوف نكتب، قبل أن نبدأ ونشرع فى الكتابة. إغراءات واضطرابات تتداعى.. تواجهنا.. فندرك أمورا لم نكن نعرفها، فى أنفسنا، قبل ذلك. وهذا يعتمد، أساسا، على وجود موضوع أو فكرة ذات هدف، يتناولها الكاتب.. أن يفتح بابا للتأويل والتفسير، بمَ لم يرد، على ذهن الكاتب، نفسه. وليس الأمر بطول جمل أو فقرات أو إختيار كلمات، تنير السبيل لعقل القارئ، بقدر ما هو متعلق، بما يريد الكاتب قوله، بقوة وببساطة، فى نفس الوقت، من روحه وذاته. وأيضا، ما يتكبدّه فى توصيل وتبليغ أفكاره.. لغة.. كلمات، تشكل عالم النص وتبنى أركانه، مما ينقلنا وبدقة من زماننا إلى أزمنة أخرى، ومن مكاننا إلى أمكنة أخرى، بصحبة ما أبدعه سفر الخيال.

 ونعرف الكاتب الجيّد من مقدرته، على التغريب والتقريب. بين ما يستطيع أن يجعله غريبا، وهو فى حقيقته عادى ومألوف.  وبين جعل غريب وغامض الأشياء أبسط وأكثر وضوحا، فى عين القارئ، بمَ يعرف بالتقريب. ممّا يسحره فى النص، بهذا التأثير، فيجعله يراه بطريقة جديدة، من زاوية مختلفة، أو كأنه يراه لأول مرة. وفى كلتا الحالتين، فشكل النص، من كلمات مفردة وعبارات وجمل، ينبغى أن يتبع مضمون أفكار الكاتب، للحد الذى يمكن القارئ، من الفهم. وبهذه الطريقة، يظهر أسلوب  الكاتب الرصين، فى قدرته، على تحويل النص. بأفكاره، وبشكله ومضمونه. إلى مقطوعة موسيقية، عذبة أو صاخبة. ولا يظهر أثر الكتابة هذا، إلا حينما يستغرق الكاتب فى أمر الأفكار التى يكتبها، وبغرق فيها بإحساسه، فيفهم القارئ بطريقة جديدة ما يقرأ. وهى التفاعلات التى تحدث داخل النص. تثير المعانى المادية، واللفظية، والمجازية، فتصبح الأشياء أكثر حيوية. وهذه حقيقة، لا يمكن المجادلة فيها.. تزوّد النص بأبعاد، لا يمكن التنبؤ بها. وتمنحنا القدرة على التخيل من جديد، وباحتمالات مختلفة.. ونتعلق بأسئلة عالقة بأذهاننا. نتوه معها. فتظهر فينا، تلك المقدرة الإستثنائية. تدفعنا لنكتب، من جديد، فى منطقة مجهول. يغدو فيها كل شئ، ذا علاقة جوهرية ومتجددة باللغة. لا نعرف ماذا سوف نفعل، أو نعلم ماذا سوف ننتهى إليه.. شئ ما من السِّحر. تلك هى الكتابة. لا نعرف متى نبدأ، ولا نعرف ما هو الممكن. حيرة، مع ما لا يمكن تصوره، مسبقا.. ولا شئ محدد ندركه، كما لا ندرك كيف نمضى، للأمام فى النص. ومهما رُمنا لصدق النص وبساطته، يطاردنا دائما سؤال: ماذا يمكن قوله أو الحديث عنه. ونفاجئ أن ما لا يمكن، هو الأروع. هو الذى لا يزال ما لا يمكننا، ونشعر به داخلنا، قبل أن يتسنى لنا معرفة كيف نكتبه، حقا. لذلك، فأول ميزة يحتاج إليها الكاتب وأول الموهبة هذا الخيال الخصب الواسع. الخيال، كمصدر للإلهام، ثم تأتى حرفته، بعد ذلك فى إختيار الكلمات وإنتقاء المفردات، التى تثير الإهتمام بم تحمل، من معان. خاصة تلك التى لم يعتد رؤيتها أو يألفها القارئ. تجعله يرى الأشياء كمن يراها، لأول مرة. ولا شك أن النظر والرؤية أمور تقود الكاتب إلى لغة مفاجئة تطلق العنان لخياله. لمفرداته اللغوية. وربما تثوّر، فى نفسه، ما لم يفكر به من قبل، من كلمات ومعان. يبدأ بكلمة واحدة، ثم ما يأتى لاحقا من جمل تتدفق، مفعمة بالحياة، تعطى النص روحه ومعناه. وهذا ما يخلق تأثير النصّ، نتيجة لمخيلة الكاتب الواسعة، وحرفته فى القول، معا. وهو نظام وأصالة الكتابة والأسلوب، لا يخلو أحدها، من حياة، يشعر بها القارئ..  

 


 
من أسرار الكتابة
----
ومن أسرار الكتابة، التى يدركها الكتاب والمؤلفون، فيوّجهون قارئ النّصّ إلى أمر ما، لجعله، يفكر به، كحقيقة مطلقة، أن الأمر يجب عرضه وتناوله، فى أقصر ما يمكن، من جملة، تحمل معنى. والكلمات بمفردها، لا تحقق إلا غرضا معيّنا.. لكنها تحمل معان أخرى، فى سياق الجملة أو الفقرة الواحدة بهذا الترتيب التى يأتى به الكاتب. وإختيار الكلمات ليس هاما فقط فى حد ذاته أنما تركيب الجملة بكلماتها. وطولها وقصرها. نظم الكلام. إطنابا وإيجازا. وحقا، الكلمات المبهمة غير الواضحة يجب أن يوضحها فحوى النصّ.. حتى لا تظل غامضة، بشكل ما. ونحن، لا نكتب من أجل كلمات أو عبارات. والكاتب عموما، على إنتقاء دائم لمفرداته، من عمق ما تحمله نفسه، من ثروة لغوية. وربما، هذا من الأسباب، التى تجذب القارئ لكاتب ما، وتجعله يهتم بقراءة نصوصه. ومن هنا، يختار الكاتب كلماته ليفهمها القراء، ليشكّل عالما ثريا وخصبا، من هذه المفردات. وفي الحقيقة، فالكاتب يشكّل بلغته ويبنى نّصّا ما، بنفس الطريقة التى يشعر بها، بالمعانى تدور داخل نفسه. ومن مقاييس الكتابة الجيدة، سهولة العبور من كلمة واحدة، لإثنتين. لثلاثة. وهكذا. لجملة فأخرى. فعبارة، ففقرة. ونادرا، ما تأتي الكلمات لتحمل معان وأفكارا مثل الموت والحياة والحزن والفرح، وغيرها مما يتضمن معان متناقضة مجتمعة. ولا بد من سبيل ما، للتعبير في سياق إختيار وإنتقاء المفردات عزفا باللغة. والطريقة فى ذلك إستخدام التورية وشدة نبرة اللغة، مع هذه المعانى المزدوجة، مما يملأ مساحة النص بالمعانى العظيمة. كل هذه أمور تصنع أسلوب الكاتب، وتكسبه فرادة وندرة. ليس فقط مجرد حصيلة مفردات تتراصّ. أو ثروة لغوية يختار منها كلماته، سواء بوعى أو تأثرا، بحالة معينة، تفرضها كينونة النّصّ ومضمونه، ونوعه. نثرا كان أم نظما. مما يسمى بلغة المعنى الواحد أو المعني الظاهرى و المعجمى للكلمات، الذى يكشف عنه النظر العقلى. فالكلمات المفردة، لها خاصيّة التماسك، وميزة الفكرة المفردة. وهى تنبئ، عن غياب بدائل، ما تحت تلك المعانى الدلالية المحددة، فكلمات مثل البكاء والصداع وغيرها.. مفردات لها معان دلالية ومعجمية محددة، لو جاءت بصفة مفردة.. وتختلف تماما، لو ضفّرت، بكلمات آخرى، لتعطى معان  أخرى،  فيما يعرف بلغة الكلمات الثنائية. وهى لغة، تحمل فى مضمونها، ما يجبر الكاتب قارئه، على تعديل وجهة نظر معينة، نحو العالم الذى يحيط به. لغة، تجعل للقارئ خيارات مختلفة، بسبب ما تحمله ثنائيات الكلام هذه، من حمل لصفات وأحوال متعددة، وفى الوقت ذاته، تجعل العقل فى حالة دائمة من الموازنة والمقارنة بين المعانى، بسبب هذه الإختلافات والتباينات، فيما بينهما. وبالتالى، فى تعدد مناحى تفكير القارئ، بكلمات آتية معا، بما يضعه الكاتب فى الجملة، فى سياق معين. فالمثال المشار إليه عاليه، مع كلمات مفردة مثل البكاء. الصداع. ضع معها كلمات أخرى، وأنظر إلى المعانى كيف تتعدد وتختلف وتتباين.  فبكى فرحا غير بكى حزنا. والصداع أو الشقيقة كمرض. غير أن تقول صداع الواقع. المعنى يختلف تماما، مع كل مفردة تضاف إلى مفردة أخرى. علاوة عن دلالة السياق ذاته، فى جملة ما. وهكذا، فلغة الثنائيات  تُقسِّم الفكر وتشطر العالم، وتشتتنا بينهما. ومع نمو صنعة الكاتب وإمتلاكه لناصية الجملة، يرى القارئ ويقرأ بشكل متكامل، أكثر فأكثر. فتعدد الكلمات وترتيبها على نحو ما متقن، يمنح أبعادا واسعة، للمعنى المراد. ويعطى لحسّ القارئ التكامل العقلى والحسى. يشعره بالاحساس بالكليّة، وفهم ما هو هام، حقا. وكلما كانت الكلمات، فى طريقها على نحو يقصد به أن نستخدم كلمة واحدة مثلا للقوة. وكلمتان للمقارنة والتباين. ونستخدم ثلاث كلمات للتكامل، والكلية. والأربع أو أكثر للتعدد، والتوسع، فى أبعاد المعنى. وعلى هذا، يتزايد الإحساس بالكمال ويتنامى. ويكون أكثر مما تحققه االكلمات المفردة و الثنائية، وما زاد عن ذلك. ورغم ذلك، يظل السياق هو كل شئ، فى النّصّ، الذى يبدأ من أول كلمة، لخلق هذا التأثير المتدفق.. يظهر منذ أول مفردة، كضوء مصباح خافت. يتوهج كلما تعمقنا، فى القراءة. هذا ما يقصده الكتّاب البارعون، ويتلاعبون به. متعة للقارئ، وسّحرا، لعقله..







 
سيمفونية السماء 
---- خالد العرفى
 شيئان، لا متناهيان، ليس لهما حدود.. الكون والإنسان. ولست متأكدا لماذا ولسنوات عديدة، حيرتنى مثل تلك الأسرار. لمَ أهتم بمسائل غريبة عن الكون، وعن الحياة وعن نفسي. لا أستطيع أن أفهم، لماذا أعتقد أننى غير نفسي. لماذا شعورى أن شخص ما، هو أنا. أو أننى لا أعرف هذا أو ذاك. لست أنا. أخيرا، لا أعرف، إلا مثل حقيقة تتحول، إلى ذرة تغيب، تتلاشى، فى أعماق أكوان موازية. راهنت نفسى، على هذا الإحتمال. أن الكاتب يخبرك ما يشبه أن يكون. ما يمكن أن يكون إنسان ما. أن تبحث عن ذلك، فى  ممارسة عقيمة، فى قراءة، سؤال لا معنى له. كل ما هنالك الشيء الوحيد، الذي يثيرنى أكثر، أن نعيش بين افتراضات وخرافات. إذ يجب أن تشاهد الكثير، لتعرف معنى الحياة، وكيف تسير. حسنا، أعتقد فعلا أن هذه حقيقة، إلى حد ما. بدأت بالكاد أفهم كيف تكون. كأننى إنسان آخر، لا أكاد أعرف من أنا. أو ما أعنيه. أتمنى أن يكون لدى نوع، من الخيال، يسمح لى، أن أرحل خارج حدود الوعى. أتجه إلى ما يجب. أطلق العنان لأحلام، وتأملات ذاتية، فيما وراء العقل. بين نجوم أراها، بعينى روحى، فيما لا نهاية الكون والوجود. من ينكر أن هذه اللحظة، بكل ما فيها من غرابة وإثارة، هى لحظة حقيقة، تتجاوز بنا، حدود الزمان والمكان، فى كون لا نهائي ممتد. وأي شيء يمكن تصوره، مع حياة، قد تكون موجودة، في مكان ما. مثلما تصل للنجوم، لأبعد ما يكون، من مكان. تصل إلى عمق نفسك، فى رحلة بعيدة واسعة المدى. هذا هو الشيء، ولكن في اتجاه معاكس، من الإلهام العميق. وهذا ما نشعر به عندما نكون على اتصال روحى، مع جمال الكون الآخاذ. هذه إثارة ما نلقاه، فى رؤية النجوم، في ليلة ظلماء. تسمع معها صوت السكون، وسيمفونية سماء بديعة. ورغم ذلك، هى تأملات تثير ضجة مستمرة وكبيرة، فى النفس، لذكرى بعيدة، لم تنته بعد. ذهبت مع الزمن. لا يمكن أن نستعيدها، من قبضة النسيان. هذه هي الحقيقة، ولا أكثر من ذلك. ما أعرفه وأهتم به. وكذلك أفعل. الخروج من هذا العالم، إلى عالم آخر، ونبضى يتطابق، مع إيقاع الكون. على الأقل بعض الأفكار العظيمة، في نهاية المطاف. أن أحاول معرفة من أنا، وأن تدرك أنت.. أين تكون.. 


وكثيرا ما نصر على أن نكون مركزا، لهذا الواقع، ومحورا له، متجاهلين كل ما حولنا، وما فيه.. هنا الإشكالية، فالعقل ومنطقه، لا يقرران ذلك أبدا.. فأنا وأنت وكل ما حولنا، لا نعتبر إلا أجزاء، من هذا الواقع. ولا يمكن أن نكون أنا وأنت، كل ما يدور حوله.. وإلا، فهذا من شأنه تعقيد وتناقض غريبين، يقودان بدورهما، إلى قلب فوضى كبيرة سواء أكانت نفسية أم عقلية، تدفع بنا إلى نوع من الاضطراب والجنون. وإدراك الحقيقة، هو أن نرى، ما تنطوى عليه أنفسنا، من هذا النوع  أو ذاك. من خبايا النفوس وطواياها. ولا يمكن أيضا، أن يحدث هذا أبدا، بدون ما يدفعه الإنسان، من رشده وراحته وإتزانه. ورؤية الواقع، لا تكون إلا بإمتداداته، المكانية والزمانية. ألا تترك للظروف، شيئا. وهو أمر شاق وغريب. للأسف نفهمه قليلا، حتى يحين الوقت المناسب، من خلال تأمل هادئ يقظ، ونشاط عقلى خصب وحثيث، لتحقيق نتائج مفيدة مرجوة.  أن ندرك جيدا، مثل هذه الحقيقة الكبيرة. وبطبيعة الحال، مرّد ذلك أساسا، إلى إرادة قوية، نرغب بها، فى تحقيق المستحيل. وفى الوقت نفسه، تصبح هناك تلك القدرة العجيبة لدينا، على تحمل ما لا يُطاق من مشاعر وأحاسيس، خارج حدود قدرات البشر، ضد المحال وما لا يمكن تصور، أن يقع أو يكون. في نهاية المطاف، وبهذه الطريقة، نرى من سرائر أنفسنا غرائب، ما هو مذهل وفريد...


ومن السهل الحياة وسط حشد. بالطريقة التي نريدها هنا وهناك.. ومع سنوات العمر، ندرك أفكارنا، ويدركنا منها، ما يدركنا، لنكتب ما له معنى.. في عالم، حقيقة كان، أم خيالا. لكن الحقيقة جميلة بلا شك، رغم ما تواجهنا به، من ألم يعصف بشعورنا،  بالهدوء الداخلى. وربما بمَ يتعارض، مع كل شيء، تعرفه فى الحياة، أو عنها. وما أعجب الحياة وغرائبها، مما نلجأ أمامه، إلى الخيال. أن تحيا، فى نصوص. تذوب ما بين الخيال والحقيقة، وفى داخلك شئ ما، من حقيقة، تعيش به، كما يحيا النّصّ، فى روح القارئ. بما، نفكر فيه.. وبما، نستشعره، فى لحظة صادقة. فى عمق نفس بعيد. فى لحظات الكتابة الحقيقية. لذلك فأفضل الأفكار، على الإطلاق، تأتي، حينما نعرف أنفسنا. حينما نعرف أكاذيب الحياة. متناقضاتها. مفارقاتها. فى الوقت، الذى نؤمن فيه، برهاننا على السبب والنتيجة. وربما يمكن أن نفعل شيئا أفضل، مع تكّسّر المنطق. نكتب شيئا متقنا، بحثا عن ما هو جميل وأفضل، بمَ يُسمى الكتابة، التى تؤثر فينا، قبل أن تؤثر، فى قارئ، وتوهمه بتفسيراتها. حينها، ندرك أن علينا، أن ندير ظهورنا، للحياة، فمن يريد أن يوجه أوركسترا، فى نفسه، عليه أن يدير ظهره للجمهور. للسامعين. أن يتلاشى، مع تيمات معزوفة غيبية، تنبثق من الروح، ولا يسمعها إلا هو. حتى يتمتع بها غيره. لكن، كتابة بروتين معين، أم كتابة بلا طقوس، أو روتين ما. أو متى أو ماذا نكتب..؟ فلا نستطيع أن نحدد إلى أى مدى، إلى هذا النوع، أم ذاك الجانب، نكون، أو ننتمى. فقط، أكتب وأكتب وأكتب.. هذا بإختصار ما يحدث، وفى أونة قليلة. وأحيان كثيرة، لا نستطيع كتابة سطرا واحدا، أو جملة أو فقرة واحدة. وعادة الخطوة الأولى، والبداية، هى الصعبة. صعوبة أن تحركنا فكرة معينة، أو تستولى علينا، إرهاصات تفاصيلها. وعلى ما تقتضى الضرورة، فى هذه الحالات النادرة الفريدة، لا نجد أنفسنا، إلا ونحن غارقين. ندع كل شئ، مهما كان. فقط لنكتب. حالة من ديمومة إحساس مجهول وغامض. لا وقت فيه، من ساعة نهار، أو ليل. لا صباح. ولا ظهيرة. ولا منتصف ليل. لا تشعر بمرور وقت، أو زمن. لحظة حياة حاضرة، فى الروح، فحسب. لا شئ، إلا قلق نفس. تشتت. عدم إنتباه. شعور، بخوف، ألا يكون ممكنا، ما يمكن فعله وتصوره فى العقل، قبل أن يكون، على أوراقنا. بين شرود ومعاناة. لا يهم، إن كنت واعيا، أم غير واع. تبحث عمّا يدفعك دائما، إلى هذه اللحظة الغيبية. تتحين كل فرصة، لتجذبك فكرة، تحفل بها، لتكتبها. وغالبا، فإن الأمور تسير بنا، على غير ما يرام، حتى نكتب، على هذه الوتيرة والتوتر الذى تحدثه، فى النفس. ورغم ذلك فهذا هو الوقت الأفضل، لنكتب. ولا نتيجة إلا مزيد، من رغبة صادقة، قبل أن يكون هناك نص ما، يستحق أن نقرأه لأنفسنا،.. أن يكون قطعة منا. شئ  ما، من أمر العقل وجموح الإحساس. يرضى توقعنا، من أنفسنا، حينما نخلق هذه المشاعر. هذه هى أحجية الكتابة، وكيف تسير بنا.. كمن يكتب، وأمامه دُّمى وشخوص. بمَ يختلج، بين المشاعر والفكر. لا نعرف فحوى النصّ ومضمونه، ولا ندرك ما يؤدى بنا إليه، حتى نخطو قدما. قبل أن يأخذنا معه إلى تلك المسافات البعيدة. وثمة علاقة ما، بين هذه الحالة الغريبة، وما لا نتوقعه أبدا، من أنفسنا، حينما نكتب، ونتفاعل مع تفاعل النصّ، ويتفاعل فينا، فنكتب، ما لا نتوقع.. لا تعرف، بوضوح ما يمكن أن يكون، حينما تبدأ الكتابة، شيئا جديدا. أو تنقح أمرا ما، أو ترتب تفاصيل فكرة ما، فتلقى، شيئا، مثل أحلام اليقظة. لا تعرف له ملامح. يأخذك، إلى عالم ما وراء النفس. شئ، مؤكد، يفوق كل توقع. ليس ذلك فحسب، لكن عندما نكتب، ونستمر فى الكتابة، بصبر وجلد، بمهارة إعادة الكتابة نفسها مرارا. تتدفق اللغة الجميلة. وتؤصل لفكر واضح. فى نهاية الأمر، باحثين عن رؤى وأفكار فريدة، لا تنضب. لصقل النّصّ، كحجر كريم، لا يُسأم، ولا يُملّ منه، كلما نظر إليه، أو كلما أطلنا تأملنا به، مرة تلو أخرى. وبطبيعة الحال، هو أمر ليس بالسهل، لكن لا نستطيع التوقف عنه، مطلقا.. ولا تجد نفسك، إلا وأنت، فى كثير من وقت، شغوفا راغبا، وهذا الأمر الغامض، الذى يحث النفس، على الاستمرار، فى هذه العملية الدائبة، التى تتدفق فيها روحك، لتتسلل، إلى النّص، ساكنة فيه. وربما وددت، لو ظلت هذه الحالة، للأبد. وهذا ما يؤثر فى القارئ، ويشعر به. وتشعر به أنت قبل أن يدركه قارئ. ومن قبيل ذلك، يحاول الكتّاب أن يبحثوا، عن طقوسهم وعاداتهم وسلوكهم الذى يألفوه، فى الكتابة، للوصول إلى حالة  مثيرة للإهتمام، يبدعون فيها، كل مرة..

 
----------
(يتبع)