سرماديا

سرماديا

رحلة مع كتاب**

رحلة مع كتاب 
   خالد العرفي --------

يرجع تاريخ الإنسان المتحضّر المكتوب إلى نحو 3200 سنة قبل الميلاد، أو منذ خمسة آلاف سنة فقط على وجه التحديد. وليست هذه الفترة رغم ضخامتها وامتدادها، إلاَّ شريحة زمنية صغيرة في تاريخ الإنسان على الأرض. وبرغم ذلك فقد حفظت ذاكرة التاريخ أهم المدارك والمعارف والآثار التي تركها الإنسان خلفه، خلال مراحل تحضّره عبر هذه الآلاف الخمسة من الزمن، وخاصة من الحضارة المصرية القديمة. ومن بين جميع هذه الحضارات الإنسانية التي ظهرت واندثرت عبر آلاف السنين من التاريخ الإنساني المكتوب أو المعروف، تبوأت الحضارة المصرية القديمة مكان الصدارة والأولوية. واعتبرت بكل المقاييس العلمية الحضارة الأم الرائدة التي احتلت مكانة عظيمة لا تنافسها فيها حضارة أخرى. وأنارت الطريق بما قدَّمته من إنجازات حضارية، أمام الإنسان ليبلغ أقصى درجات الرقي. وليس من قبيل المبالغة أن نجد بعض المؤرخين الغربيين يطلقون على الحضارة المصرية القديمة اسماً شهيراً هو "أم الحضارات" بما وصلت إليه وقدَّمته من مستوى حضاري عظيم. وقد ظلَّت مصر محور التاريخ العالمي ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة من تاريخ العالم الحضاري البالغ خمسة آلاف سنة.. أي أنها قامت بالدور الرئيسي على مسرح الحضارة العالمية بنسبة سبعين في المائة من تلك الفترة الطويلة. ولم ينقطع دورها الحضاري بعد ذلك من قيادة العالم صوب المدنيّة والتقدم الحضاري. ولا يجب إغفال ذكر صلات مصر بالحضارات الأخرى بمعظم العالم القديم، طوال تاريخها الذي يبدأ من عام 3200 ق.م وحتى عام 332 ق.م حين فتح الاسكندر الأكبر مصر. فقد رحل المصريون القدماء إلى أقاصي الأرض المعروفة لتحقيق أغراضهم الحربية والسياسية و التجارية والثقافية. وهى عوامل احتكاك بالمناطق الحضارية المختلفة في العالم القديم . وتّسلم جمهرة المؤرخين بأن مصر هي أول بلد في العالم انبثقت منه الثورة الحضارية بمنحزاتها الرائعة التي مهدت للحضارة الإنسانية سّبل الرقي والتمدن. وتكاد تجمع آراء المؤرخين على أنها أول حضارة، قد قامت على ضفاف النيل، إذ ازدهرت الحضارة المصرية في هذه البقعة من العالم، منذ سبعة آلاف سنة. ولا تزال الأهرام شاهداً صادقاً ودليلاً ناطقاً على تلك العبقرية الفذّة التي تمتع بها بناة الأهرام، وهذه الآثار، التي تشهد بنهضة معمارية– علمياً وعملياً– شملت الديار المصرية بطول البلاد وعرضها. وامتدت أيضاً إلى الأقاليم التابعة للنفوذ المصري، وحيث كان لمصر أثر بعيد في الحضارات الأخرى، ممّا ذهب إلى أفاق عميقة وحدود بعيدة، عندما اتصلت مصر بهذه الحضارات. يقول المؤرخ "أدولف أرمان": 
(إن دراسة المنجزات الحضارية المصرية تؤكد أن المصريين عنصر فنان فذّ سبق العالم بأثره بابتكاراته الحضارية الرائعة). وتشمل مصر القديمة وتعني عصوراً متطاولة، كما تتضمن ديانة فلسفية وآداباً وعلوماً تضمّ في مخبأها علماً بعيد الغور ومكتنفاً بالرموز والألغاز. كما تعني فنّاً سامياً متنوع الفروع، ونظماً راقية للحكومة والإدارة . ومع أن الكنوز الأثرية قد جُدَّ في اكتشافها منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان، وبذل العلماء المختصون ما في وسعهم في إزاحة ما عليها من الأستار والحجب، إلاَّ أننا ما زلنا لا نعلم كل شيء عن المصريين القدماء. وما زالت هناك مسائل من أهم ما يتوق العلماء إلى معرفته عن تلك الحضارة التليدة. وما زالت كامنة في عالم المجهول تنتظر الكشف عنها..، فكيف عرف المصريون القدماء التخصص بفروعه المختلفة في العلوم ؟! وكيف أحرزوا فيه التقدم والنجاح إلى حد بعيد ؟! كيف تتبعوا مدارات النجوم في أفلاكها، فحسبوا الأيام والسنين؟! كيف شيدوا الأهرام الهائلة؟!..، كيف حققوا تلك المعجزات في هذا العهد السحيق الغابر؟! كيف..، وكيف ..؟!
فمنذ ما يزيد عن مائتي عام، وهب الكثيرون من العلماء والمؤرخين الأجانب على مختلف جنسياتهم، حياتهم العلمية للبحث في الحضارة المصرية القديمة، والكشف عن عظمتها ورقيّها البالغ. بل، ولقد ظهر علم تخصصي حقيقي مستقل بعناصره وأركانه وقواعده ومنهجه، وهو علم "المصريات" أو "الايجيتولوجي" - علم الآثار المصرية القديمة، الذي يقوم علماء، بدراسة الآثار وتاريخ مصر على أسس علمية واقعية واضحة، منها الآثار المصرية من تلك العصور البعيدة، لدراسة فترات موغلة في القدم، فتمدّهم بالكثير من المعلومات. وقد أصبحت لهذا العلم مصادر يستقي منها معارفه ومداركه وصلبه، ومن هذه  المصادر العديدة تبلورت صور بعينها تُعطى المعرفة التي ينشدها هذا العلم..، ومنها، الأشياء والآثار والعاديات واللقيات الظاهرة أو التي استخلصت مع المجموعات الأثرية التي كانت ثمرة لجهود وتنقيبات علماء كثيرين مختلفي الجنسية كذلك، من دراسة المعابد والمقابر المتناثرة وأطلال المدائن الماثلة، أو التي اندفنت تحت الرمال والأنقاض مع مرور آلاف السنين من الزمن. وانبثق منها ألمع الشواهد وأقواها على المنجزات البديعة لتلك الحضارة. وقد وُلد علم المصريات من عشرات السنين، وما إن وُلد حتى استثار حوافز علمية صادقة وجهود علماء صادقين، وبدأ في الظهور والتبلور شيئاً فشيئاً.. يدرس آلاف السنين من التجربة البشرية على ضفاف النيل بدءاً من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة ومعتقدات وتقاليد هؤلاء القدماء، وحتى فكر الكتاب والحكماء والعلماء، والإصلاحات الاجتماعية والدينية. ويتسم علم المصريات بمكانة خاصة، وينتمي إلى العلوم الإنسانية مثله مثل علوم أخرى كتاريخ القرون الوسطى والتاريخ الحديث والتاريخ المعاصر. وينتمي علم المصريات الذى ولد فى القرن التاسع عشر إلى العلوم الإجتماعية كذلك، فهو يعالج مادة هائلة تغطي آلاف السنين، تدور حول فروع كثيرة على مجرى مرحلة زمنية تمتد منذ فجر الإنسانية. ومكانة الحضارة المصرية القديمة، ليست وهي قائمة فقط، ولكنها ظلَّت كذلك بعد ما زالت، فعندما اندثرت تلك الحضارة الفذّة، وحلّت محلها حضارات أخرى، بقيت الآثار المبهرة التي خلّفتها تلك الحضارة الزائلة، دفينة في الرمال وبطون الجبال وبين طبقات الطمي المتراكمة. وما زالت تكتشف يوماً بعد يوم.. فى مدنهم، ومعابدهم، وقصورهم،.. المطمورة والمفقودة في الرمال وطبقات الطمي..!! وأغلبها أطلال، ولكن ما زالت حتى الآن ذات قدرة سحرية فائقة على إبهار الإنسان الذي يعيش في عالم اليوم، بما تشهد عليه من دقة وروعة ومهارة في إنجازها العظيم الذي لفت الأنظارإليها..، بقيت ليكشف عنها علماء الآثار، وليحل طلاسمها المختصون والمؤرخون، ولتغمر الدهشة والإعجاب كل من يراها زائراً كان أم سائحاً. ولحدوث ظاهرة عالمية تسمى "الايجيبتومانيا" وهو مصطلح علمي معناه الجنون بمصر أو الولع الشديد بمعرفة المعلومات عن تاريخ مصر والآثار المصرية. وأكثر من ذلك، وهو ظهور علم المصريات نفسه !!
ولا شك أن اكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية، كان له الساعد الكبير في مساعدة العلماء والأثريين في الكشف عن أسرار التاريخ الحقيقي لمصر القديمة الذي أصبح في متناول القادرين على قراءة الهيروغليفية، وعلماء المصريات.. وفي ظهور ملامح عظمة الحضارة المصرية القديمة التي أدهشت العالم وأذهلته. علمُ الآثارِِعلمٌ عجيبٌ، يُعْنَى بِالدراسةِ العلميةِ، لبَقَايَا الحضاراتِ القَدْيمةِ، بإقتفاءِ الأثرِ، والبحثِ عَنْ الدلائل والبراهين، فِي تِلْكَ البَقَايَا مِن المباني واللغاتِ، والنُقوشِ والأدواتِ، وغيرها مِن اللُقيّات الأثريَّة التى يُعْثَرُ عَلَيْها بالتَنقِيبِ.. فِي محاولةِ تجميعِ أجزاءِ قِصَّةِ الحَضَارةِ الإنسانيةِ، بَعْضها إلَى جَانبِ بعضٍ. والوصُولِ إلى جوهرِ حَقِيقةِ الماضي، وبَعْثَهُ مِن المَجْهُولِ إلى بؤرةِ الحَاضرِ. لا شيء يُعرقلُ ضوْءَ الشمسِ أوْ يَحُولُ دُونه، بالبحثِ عَنْ الحَقائقِ المختبئةِ، فِي ثَنَايَا الأساطيرِ أوالمخفيَّةِ بِبَاطِنِ الأرضِ، لإكمالِ النَقْصِ فِي معلوماتِ الإنسانِ عَنْ تلك الحياةِ فِي المّاضي، الذى يضربُ بجذوره فِي أعماقِ التاريخِ البعيدِ.. وعلم الآثار ليس مجرد تكنيك واحد.. بل مجموع أساليب تكنيكية خاصة بكل موقع أثرى، ومعرفة عميقة بالأمور المألوفة المطروقة، وبالقدرة على وضع تلك الأساليب، فى خدجة هذه المعرفة. ويمثل علم الآثار منجما، لا ينضب من المعلومات، حول عدد لا بأس به، من الموضوعات. ولا ينحصر هذا العلم، فى مجرد التنقيب، عن المباني والتحف والآثار. بل يمتد إلى معالجة هذه المكتشفا،ت ودراستها والنشر عنها. ويَعيشُ عالِمُ الآثارِ عُمرَه، مَعَ المَاضِي. ويَحْيَا مَعَ تَارِيخه وأَساطِيره، ويَتنفسُ قِصصَهُ وفلسفتَهُ، قارئاً حَتَّى الأساطِيرِ والخُرافاتِ والروايَاتِ القديمةِ ،وكلّ ما يتصلُ بِالماضي. يجتذبُه ألغازُه وأَحَاجِيه حَوْلَ حَضاراتٍ مَعْلُومةٍ أو أُخْرَى مَجْهُولةٍ، أوْ أُممٍ بَادتْ وَسِوَاها سَادتْ. بِشوقٍ وشَغَفٍ تَوَّاقاً فِى سبيلِ الكشفِ عَنْ الحقيقةِ، والمَعْرِفَةِ عَنْ مَاضِي الجِنْسِ البشريّ، فِى المَكَانِ والزمانِ.. يظلُّ يركضُ وَرَاءَ أَملٍ مدفونٍ، فِى التُّرابِ، تَحْتَ سطحِ الأرضِ، فِي طبقاتِ الرَّوابيّ والتِّلالِ والسُّهولِ. يُمحصُّ فِى صُلبِ الصَّخرِ وطَّمي النَّهرِ. أَوْ رُّبمَا مَا كَانَ غَارِقاً تَحْتَ الماءِ، مِنْ محيطٍ ونهرٍ وبحرٍ ، أو حتى دَاخِلِ بئرٍ.. فِي عَالَمٍ قَدْ تَطوِيه أيَّامُ وسُّنون، قَبْلَ أَنْ يَعْثُرَ فِيه عَلَى بَارِقةِ أملٍ، يُكْمِلُ بِه جُزءاً نَاقصاً، فِى تَارِيخِ جُذورِ الحضارات المَطْمُورةِ..، لِنَرَى مَعَه قِصَّة الإنسانِ الذِّي عَاشَ مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ.. الأمرُ، الذي يحتاجُ معه دائماً مِن عالمِ الآثارِ، إلى القِيامِ بِالتَنقِيبِ الأثريّ ، للوصُولِ إِلَى الدَّلائلِ والكشفِ عمّا تُخفيه وَرَاءَها،  لأنَّ معظمَ الأشياءِ التي يتمُّ البحثُ عَنْها، بطبيعةِ الحالِ دفينةٌ، تَحْتَ سطحِ الأرضِ، أو مطمورةٌ فِي بَطْنِهَا،.. كثيرمِن القَدْماءِ قَدْ دفنوا مَعَهُم، فِي قُبورهم معظمَ كُنوزهم، إضافةً إِلَى أنَّ هُنَاكَ مُدناً بأكملِها، قَدْ طُمِرَت فِي جَوْفِ الأرضِ، عَلَى مستوى عميقٍ تَحْتَ سطْحِها.. ربما بَقِىَ الأساسُ المدفونُ، هكذا دُونَ أنْ تمسَّه يدُ أي مِن علماءِ الآثار لسنينٍ طويلةٍ.. لذلك فعملُ عالمِ الآثارِ ،عملٌ شاقٌ ومضنيٌّ جداً، مَعَ التضافرِ، مع مَا تُقَدْمه العلوم الأخرى، عَسَاه يصيبُ مَا تَبَقَى مِن الماضي، ممّا يُوجبُ عليه أنْ يَضعَ أَمَامَه، كلَّ البراهين والدلائلِ المُمكنةِ، عِلاوَةً إلَى ما تُشيرُ إلَيه مِن نَتَائجٍ، ليُعطيَ للعالمِ صُورةً، عمَّن عاشوا فِي المَاضِي المَجْهُول. وفِي النهايةِ التى ليس لَهَا حدٌ، تكونُ النتائجُ هي ثمرةُ مهارتهِ العلميةِ وهَذَا العملُ الشاقُ.. ومِن هُنَا يستعينُ عالمُ الآثار، بِغيْرهِ مِن العلماءِ، الذين ينتمونَ إلى العُلومِ الأخرى، لدراسةِ هذهِ المُخلَّفات، بَعْد إندثارِ أَصحَابِها بآلافِ السنين..، ولبحثِ تِلكَ الأدلةِ، التِّى تُكتشفُ فِي الأمكنةِ القَدْيمةِ، للحضارةِ دراسةً علميةً وافيةً، للوصُولِ إلى المعرفةِ الكاملةِ، أو التى تقتربُ مِن الكمالِِ عَلَى خيرِ وجهٍ.. ويتعيَّنُ عَلَى عَالمِ الآثارِ أَنْ يتسلَّحَ بذخيرةٍ مِن المعارفِ، وأنْ يَتِصَفَّ بطائفةٍ مِن الصفاتِ، كَأنَ يَكُونَ ثاقبَ الفكرِ، وَاسِعَ المَدَارِكِ ، سَرِيعَ البَدِيهة.. عالىَ الهمِّةِ فِي التفكيرِ والعمل، مَعَ الربطِ المِنطقىّ والتفكيرِ العقلانيّ، الذي قَدْ يَأخذُهُ بَعِيداً عَن المِنطقِ نَفْسَهُ، فِي أحيانٍ كثيرةٍ، للوصُولِ إلى ما قَدْ لايخطرُ عَلَى بالِ أو خاطرِ.. قَدْ يكونُ الأمرُ فِي النهايةِ، إزاحةَ الستارِ عَنْ كشفٍ عجيبٍ مثيرٍ، فِي قصةِ حضارةِ الإنسانِ عَلَى الأرضِ، ومِن عَاشُوا مِن آلافِ السنين.. والأمثلةُ عَلَى ذلك المِنحى كثيرةٌ ممِّا أدَّى فِي نهايةِ الأمرِ إلى إكتشافاتٍ أثريَّةٍ مُثيرةٍ.. يقفُ الإنسانُ أمَامَها مبهوراً. تأخذُهُ الدهشةُ والعجبُ، مِن الكشفِ الأثريّ نًفْسَهُ، أو طَريقةِ الوصولِ إليه. ولعلَّ أوضح وأبيْن مثالٍ عَلَى ذلك، هو كشفُ مقبرةِ الملكِ تُوت عَنْخ آمُون. وَكَانَ السِّرُّ يَكْمُنُ فِى عَدْمِ إِهْتِدَاءِ أَحَدٍ إِلَى المَقْبَرَةِ طُوَالَ هَذَا الزَّمَنِ الطَّوِيلِ. لمْ يَخْطُرْعَلَى بَالِ أَحَدٍ، أَنَّ هُنَاكَ مَقْبَرةً مُخْتَفَيِّةً، تَعَاوَنَ عَلَى كَتْمِ سِّرهَا طبِيعةُ الوَّادِي الغامض، وَمُرورُ زَّمَنِ طويل..
----
أدركته مِنيتُه فِي الثامِنةِ عشرة مِن عُمره، بَعْد فترةِ حُكمٍ قصيرةٍ جداً. كَبَعْضِِ أسلافهِ مِن المُلوك. الفرعونُ التائهُ. الملكُ الشابُّ. الفرعونُ الذَّهبيّّ، كما أُطلقَ عليه تُوت عَنْخ آمُون.. بَعْد رقادٍ طويلٍ كَانَ يُمكنُ أنَْ يظلَّ إلى الأبد. فِي بَطْنِ وادى الملوكِ، بخفاءٍ بعيداً عَنْ الأنظار. وعَنْ أيدي اللصوص ! الذين يغريهم الذَّهبُ والكُنوزُ،  فسَرِقةُ المقابرِ، مِن أقَدْمِ الحرفِ التي  مُورِسَتْ  فِي التاريخِ  ..
وأستحضر اللحظة. إذ بَدَأتْ الشَّمسُ رِحْلَتَهَا نَحْو الغَربِ، فِى فَضَاءٍ لا محْدُود.. فِي مكَانَ ناءٍ تمَّ إختيارُه بدقةٍ، فِي بَطْنِ وادٍ مُنْعَزلٍ قَاحِلٍٍ.. أشبه بمجهولٍ، لِيظلَّ بَعْد ذلكَ مطوياً فِي غيابتِ الزمانِ والمكَانَ.. سَاَرَتْ جنازةُ الفرعون الشابّ، وصلِ المّوْكبِ الملكيّ الجنائزيّ المهيبِ تَصْحَبُهُ الكهنةُ.. رُّبَمَا كَانَ يفكرُ بعضُهم فِي حالِ الملكِ، فِي تَابُوتِه الذى حُمِلَ عَلَى سفينةٍ.. إعتقَدْ المصريون القَدْماءُ أنَّها تعودُ به فِيما بَعْد، إِلَى العالمِ السُفلي، بعثاً لِرُوحِهِ التي تُسرُّ لدموعِ الحدادِ مَعَ كلِّ زيارةٍ.. تظلُّ باقيةً، طالما كَانَ الجسدُ مُحنطاً وسليماً إلى الأبدَّ.. وُضِعَت السفينةُ تُغطيها الأزهارُ النَّضرةُ،.. مغطاةٌ هى الأخرى بزهورٍ يظهرُ مِن خِلالَها بريقُ الذَّهبِ الجميلِ.. عَلَى مركبٍ حجبتها بالأزهارِ.. جرَّ نبلاءُ القصرِ والحاشيةُ والبِطانَةُ، المركبَ الثقيلَ..، مِن فوقه التابوتُ إلى المقرّ الأخير..، مقبرة تمَّ إِعدادُها بسريةٍ تامةٍ بِوادي الملوكِ المَهِيبِ، حيَْثُ تمَّ دَفْنُ أسلافِ مُلوكِ مصرَ، فِي مقابرٍ صخريةٍ رمليةٍ جافةٍ..، بتقاليد دَفْنٍ عجيبةٍ، وِفْقَ إعتقاداتٍ تُحَتِمُ عليهم وضعَ كُلِّ ما سوف يحتاجُ إليه فِي المستقبلِ، وكُلِّ ما كَانَ يُستخدمُ فِي الحياةِ اليوميةِ فِي المقبرةِ. بالرغم مِن ذلك، فلعلّها كَانَت معروفةً للبعضِ، ولكنَّ رمال الصحراءِ الصامتةِ، زحفت شيئاً فشيئاً، عبر مئاتٍ ثم آلافِ السنين، لِتسدَّ مدخلها، ثمَّ لِتحْجبَها كُليةً عَنْ الأنظارِ، لتختفِيَ وتضيعَ مِن ذاكرةِ الزمِن، والتاريخِ.. خلفِ بابٍ عجيبٍ. مُوصدٍ. مُغلقٍ بالأختامِ.. كَانَ تنتظرُ مِن يَفُضُّ سرّها ..
تسابقُ الجميعُ فِي مُطالعةِ ما نشر عالميا.. إذْ عَثَرَ أحدُ علماءِ الآثارِ الإنجليزعَنْ مومياءِِ فرعون مجهولٍ، مِن فراعَنْةِ مصرَ القَدْماء. سليمةً فِي تَابُوتِها الذهبيّ لم تَمسْسْهَا يدٌ أحدٍ.. ملكٌ حكمَ مصرَ حوالي عام 1350 قبلِ الميلادِ. كُنوزٍ مِن أجملَ وأنفسَ الحليّ الثمينةِ. وأثاثٍ مِن أَسِرَّة وكراسيّ مزيّنةٍ ومُحَلاةٍ بالذَّهبِ والجواهرِ والأحجارِ الكريمةِ. كرسيّ عرشٍ وعرباتٍ ملكيةٍ مُذَّهبّةٍ. بنقوشٍ مِن الذَّهبِ المحفورِ حفراً بديعاً. ملابسٍ وأسلحةٍ وألاتٍ موسيقيةٍ. نَفائس وأَنْواعِ طعامٍ وقرابين. وغيرذلك مِن نقوشٍ عَلَى جُدرانِ المقبرةِ بألوانٍ احتفظت بِرونقها الآخاذ، وتمائم وتعاويذٍ لحمايةِ الملكِ فِي رحلته الطويلةِ فِي العالم الآخر. مِنذَ أكثر مِن ثلاثةِ آلاف سنة..
كانَ الحديثُ دائراً داخلَ نفسِ كُلِّ عالمِ آثارٍ آخرٍ، كَانَ يَتُوقُ لهَذَا الكشفِ، فعَضَّ عَلَى شفتيهِ حَسْرةً،.. فَاتته تِلكَ الفرصةُ، بَعْد أن إعتقَدْ الكثيرون أنه  لم تُصبحْ هُنَاكَ حبةُ رملٍ واحدةٍ  قَدْ تُرِكَت دُونَما غربلةٍ، فِي وادي الملوك، فِي هَذَا الحينِ. َبَدَا شِبهَ مُؤكدٍ قَبْلَ عامِ مِن الكشفِ أنَّه لا فائدة تُرجى لمزيدٍ مِن التنقيبِ عَنْ المقابرِ فِي الوادي، أو أَنَّ هُنَاكَ أملاً يُنتظرُ تحقيقهُ.. لكنَّها كَانَت المحاولةُ الأخيرةُ بَعْد مضي ست مواسمٍ، مِن العملِ الشاقِ المضنيّ، لهوارد كارتر الذِّى عملُ لِحِسَابِ اللورد كارنر فون. كَانَ الإصرارُ، عَلَى العثورِ عَلَى الضالّةِ الضَّائعةِ، وتحقيقِ الأملِ المِنشُودِ.. فِي لحظةٍ مثيرةٍ، حينما خرجَ للحاضرِ، ما كَانَ مَدفُوناً فِي عَالمِ النِسيَانِ، بَعْد أمدٍ طويلٍ، عَلَى يدِ هِوَارد كَارتر.
َمَا بَيْنَ هذين المَشهَديْن مِن الزَّمَنِ مَا يَرْبُو عَن ثَلاثَةِ آلافِ سَنَة.. أما ما دَفَعَ كَارْتَر إلى هَذَا الإعتقادِ، وكَانَ حافزاً له، فهو رؤيتهُ الصائبةُ فِي أَنَّ وادي الملوك، لابدَّ أنَّه يحتوى فِي بَطْنِه عَلَى جميعِ المقابرِ الملكيةِ،  لتلك الفترةِ الزمِنيةِ فِي تاريخِ مصرَ، مِن الأسرةِ الثامِنةِ عشرة، التي تنتمي للدولةِ الحديثةِ،.. خاصةً، لمْ يكنْ ثمةُ أيّ وجودٍ لمقبرةِ الملكِ تُوت عَنْخ آمُون، حتَّى ذلكَ الحينِ. كما أنَّ هُنَاكَ سراً آخراً، وَرَاءَ هَذَا الإعتقادِ، وهو العثُورُ أثْنَاءّ عملياتِ تنقيبٍ سابقةٍ، عَلَى آثارٍ تخصُّ تُوت عَنْخ آمُون، فقَدْ عَثَرَ المِنقّبُون عَلَى كأسٍ وصندوقٍ خشبيٍّ يحملُ اسمَهُ. ممِّا يشيرُ إلى حقيقةِ أَنَّ هُنَاكَ شيئاً ما، لمُ يُكشف عَنْه بَعْد، وليس مِن نسجِ الخَيَالِ أبدا. أوالحَدْسِ والتَّخمينِ. يصبحُ الأمرُغريباً أَنْ تُهملَ أية ُمحاولةٍ فيه، لِيخرجَ مِن خبيآتِ المّاضي المجهولِ، إلى حيِّزِ المعرفةِ واليقينِ، بَعْد أنَْ سادَ إعتقاد تام فِي أَنَّ الوادي لمْ يبحْ بِسرهِ بَعْد. هُنَاكَ مقبرةً. مخفيّةً مِنسيّةً. هى المقرُّ الأخيرُ لهَذَا الفرعون، فِي وادي الملوك. أصبحت المسألةُ هى مُحاولةَ الكشفِ، عَنْ مَوْقِعِ تلكََ المقبرةِ، والعثورِ عَلَى هَذَا المقرّ التائهِ، كصاحبهِ، قَبْلَ أنَْ يمرَّ وقتٌ طويلٌ آخرٌ ..
ممِّا دعى إلى التساؤلِ بفضولٍ إستأثرت عليه الرغبةُ الجامحةُ :
 أين إذن توجد مقبرةُ هَذَا الملك ؟!
كيف يتمُّ الإجابةُ عَنْ هَذَا السؤال ِ؟!
أزاحَتْ تِلْكَ المعاولُ المنقِّبةُ السِّتَارَ. أمَاطَتْ اللِثامَ عَنْ الْمَجْهُولِ، بَعْدَ أَنْ كَاَن البَحْثُ أشبهَ بِالبحثِ عَنْ إبرةٍ وَسْطَ كَوْمةٍ قشٍ، دُونَ أَنْ يَظْهَرَ أىُّ أَثَرٍ، أوْ بَصِيصِ مِنْ نورٍ، بَعْدَ إنْقِضَاءِ سَنواتٍ، مِن صعَابِ وعَقبَاتِ، كَانَتْ كَافِيةً بتثبيطِ الهمِّةِ، وصرفِ العزيمةِ والتَّخلِي عَنْ تحقيقِ الْحُلْمِ... لَمْ يَفُتْ فِي عَضُدِ كل مِنهُمَا مَا كَانَ دائراً، بَيْنَ عُلماءِ الآثارِ، وأقْوَالِ الآخرين، فقَدْ كَانَ هُنَاكَ دائماً الأملُ يدفعُ بهما نحوَ المزيدِ مِن الجهدِ، لكشفِ مقبرةٍ بعينها، وفِرعون بِذاتهِ واسمهِ.. تُوت عَنْخ آمُون.. كَانَ لابدَّ مِن حلّ تلك الأحجيةِ وكشفِ الغموضِ عَنْها، وفكِّ شفرةِ هَذَا اللغزِ،.. عَمِلَ "هِوَارد كَارْتَر" مع شريكهُ الثريُّ البريطانيُّ "اللورد كارنرفون" أحد أثرياء النُّبلاء الإنجليز، الذِّى كَانَ مغرماً إلى حدٍ بعيدٍ بالآثار.. وكَانَ قَدْ مُنِحَ الإذنَ بالتنقيبِ عَنْ الآثارِ وعَلَى تصريح بالحفرِ فِي وادي المُلوكِ بِطيبة غَرْبِ الأُقصرِ فِي عامِ ألفٍ وتسعمائة وأربعة عشرة، حَيْثُ تمَّ الكشفُ عَنْ ستٍ وعشرين مقبرةٍ ملكيةٍ، فَطَلَبَ إلى هِوَارد كارتر والذِّي كَانَ عَلَى صِلةٍ بِسُلطاتِ مَصلحةِ الآثارِ، أَنْ يَتَوْلَى الحَفَائِرَ فِي طِيبةٍ.. اضُطر إلَى وَقْفِ الحفرِ عِنْدِ بِدايةِ الحربِ العالميةِ الأولى، عام ألفٍ وتسعمائةٍ وأربعة عشر. لكنَّه استأنفَ العملَ عامَ ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعة عشر حتَّى أّوْلَ نُوفمبر عامَ ألفِ وتسعمائةٍ واثنيْن وعشرين،.. إِذْ نَقَلَ الحفرَ إلى موقعٍ قريبٍ، من مدخلِ قبرِ رمسيس السادسِ
َهَكَذا أصبَحَ الأمرُ وصَارتْ القضيةُ عَزِيمةً قويةً، وتصميماً ماضياً، وعَمَلاً دَءُوبَاً ، وإيماناً بِمَا تمَّ الإعتقادُ فِيه، ورؤيةً للنجاحِ فِيما يُسعَى إلى بُلوغه، عَبْرَ صعابٍ جمَّةٍ، ويأسٍ قَدْ يَتسربُ إلى النُّفوسِ، قَبْلَ الظفرِ بنيْلٍ للهدفِ، وتحقيقٍ للحُلمِ بروحٍ مغامرةٍ، تَشُعُّ بِوهَجِ الإرادة، وشغفٍ بكشفِ المّجْهُولِ.. وبِالفعلِ، كَانَ مفتاحُ سرِّ إكتشافِ المقبرةِ، التَّي تَراكمَ عليها أَتْرِبةُ الزَّمنِ التَّى كّتَمَتْ سرَّها فِى بَطْنِ الوادي، وظَّلت مُخْتَفِيةً زمناً طويلاً.. هُوَ التصميمُ والإرادةُ التَّى لا تَلِينُ..
مضت على الرجلين، مواسم من العمل الشاق والمعاناة، دون أن يعثرا على المقبرة أو أي شئ يدل على وجودها، حتى كاد يتسلل اليأس والإحباط إلى نفسيهما، ويظنان أنهما كانا على خطأ، فى الإعتقاد كبقية الآخرين. وإذا بالحفائر تكشف عما لم يكن متوقعا، من أروع ما عثر عليه في مصر، أو في غيرها، بعدما ظلت مقبرة توت عنخ آمون، مخبئة على مدى ما تجاوز ثلاثة آلاف عام. فما إن بدأ الموسم التالي لأعمال التنقيب والحفر، حتى ضربت المعاول درجات الزمن الماضي.. الدرجات الست عشرة الأولى المنحوتة فى الصخر الصلد لهذا السُّلم شديد الإنحدار.. فقد وقع العمال على أخدود مليء بالأنقاض وكسر الصوان، يؤدي إلى سلم منحوت في الصخر..  تلك الدرجات التى تفصل بينهما وبين لحظات الروعة والدهشة والإنبهار.. بين الحاضر والماضي.. عتبة أخرى للتاريخ القديم ومدخلٍ لأسرار الماضي البعيد وروعته، وليس مجرد بابٍ مولجٍ لمقبرة مسدودةٍ ببابٍ مختومٍ بالأختام .. ودرج يؤدي الى ممر قصير متوجها إلى الشرق، والذي يفتح مباشرة إلى غرفة انتظار. وقد تم النحت الأعمق للوصول لحجرة كبيرة الحجم لتحتوي الأثاث الجنائزي في المقبرة.  كما تم إغلاق الممر بالجصِّ. ووراء هذا غرفة الانتظار والأثاث المهم جدا - هكذا كان اسمها من قبل كارتر - وهذه الغرفة مستطيلة الشكل مرتبة عموديا، مع اتجاه الجنوب والشمال.  وعلى الحائط الغربي، على اليسار، تفتح صالة سميت الملحق  دون المستوى من غرفة انتظار. ويؤدى الجدار الشمالي- وكان في البداية مغلقا ومجصصا ، مع عدد لا يحصى من الأختام مع اسم الملك الشاب-  من هذه الغرفة نحو حجرة الدفن  وهي الغرفة الوحيدة المزينة بالمقبرة وهى حجرة التابوت التى سميت "غرفة من الذهب" في مساحة شبه مغلقة مما قلل كثيرا من عدد المشاهد قاعدة صفراء في تقليد لون الذهب. إذ يهبط السلم ذو الست عشرة درجة لينتهي بباب أومدخل مسدود ومكسو بالملاط وجد مختوما بختم جبانة طيبة الملكية ، ويبدو أن هذا الختم قد وضع بمعرفة مفتشي القصرعند زيارتهم للمقبرة عقب إقتحام اللصوص لها .
وكان السؤال : تُرى ماذا يكون وراء هذا الباب العجيب ؟!
أهى مقبرة كاهن ؟ أَمْ مقبرة ناقصة لَمْ تكتمل ؟
أَمْ مقبرة حقيقية ؟ وهل هي لملك أم لملكة ؟
وإِنْ كانت كذلك ، فهلْ يوجد شئٌ قد بَقِيَ بعد عبثِ اللصوص ؟ أَمْ لمْ تمتدْ إلى محتوياتها أيدي لصوص المقابر والتاريخ ؟
لَمْ يكنْ هناك شئٌ للإجابة عَنَْ فيض التساؤلات إلاَّ العمل للكشف عَنَْ الحقيقة القابعة هناك خلف الباب المثير للدهشة.. ولكنهما لَمْ يجدا خلفه سوى دهليزٍ ينتهي ببابٍ آخرٍ مغلقٍ هو أيضاً بالأختامِ أشدُّ إثارة كما تركتها أيدي القدماء..!
تُرى ماذا كان شعورهما وهما يلمسان شيئاّ لم يُلمس مِن آلاف السنين ؟!
 يفضان بِكَارةِ الماضي بشجاعةٍ تلتبس بالخوفِ والترددِ ؟ّ!
وفُتح الباب ، لتُرى حجرة تزخرُ بالكنوز ، ليتحدثَ هِوَارد كَارتر فى تلك اللحظة التاريخية المثيرة قائلاً :
" ثلاثة آلاف سنة مرت منذ أن لمست آخر قدم آدمية هذه الأرض التي نقف عليها ، ومع ذلك فأنت ترى آثار الحياة القدمية كلها من حولك.. ترى بصمات الأصابع على المسطحات المرسومة، وأزهار الوداع ساقطة فوق العتبة ، وتحس وتشعر أن كلَّ هذا حدث بالأمس فقط.. ليتبع ذلك إحساس ثقيل سريع هو مزيج من الشك والتأمل.. إنه شعور الإنسان وإحساسه بأنه على وشك أن يضيف صفحة جديدة إلى التاريخ ، إنه التطلع والإنتظار المشحون بالقلق والملئ بالتوتر.. قلق الباحث والعالم والمغامر عن الكنز المأمول بعد سبع سنوات من البحث المضنيّ !"
وكأنه يقول قد آن للعالم آنذاك أن يعرف شيئا بفتح المقبرة وبفتح حجرة الدفن الأصلية بمقاصيرها الكبيرة التي احتوت على التابوت الخارجي والتوابيت المختلفة فى يوم الجمعة الموافق السادس عشر من نوفمبر سنة 1923 . فقد كان الباب يؤدى إلى ممر ومنه إلى باب آخر يفتح على حجرة أمامية هى أكبر حجرات المقبرة إذ يبلغ مقاسها ست وعشرون قدما فى ثمانية أقدام والنصف .
أَطلَّ هِوَارد كارتر مِن خلالِ فتحةٍ صغيرةٍ على الماضى ليِسألَه اللورد كارنارفون : "هَلْ يُمكنُك أَنَْ تَرى أيَّ شيءٍ ؟ "
أَجَابَ كارتر : " نَعمْ ، أشيَاءٌ رَائِعةٌ
" هِوَارد كَارتر ".. و" اللورد كَارنرفون ".. صَمْتٌ رهِيبٌ.. عُيونٌ مُتَرِصِّدةٌ !!
وأُخْرَى تَتَرصَّدُ !
أَنْفاسٌ لاَهِثةٌ يَكَادُ يُسْمَعُ مَعَها دَّقَاتُ القُلوبِ !
حَيوانَاتٌ غَرِيبةٌ !
 لاَ.. لاَ.. بَلْ سِتُ أَسِرَّةٍ على شَكْلِ حيواناتِ .. مُخْتَلِطةٌ دٌونَ نظامٍ مَعَ كَراسيّ صغيرةٍ .. وهَاهُو كُرسيّ العَرشِ الذَّهبيّ !
ملابسٌ مخرجةٌ منثورةٌ حَوْلَ الصناديق .. أُخْرِجَتْ بِفعلِ فاعلٍ ..!
زُهْرِيَاتٌ مَنْقُوشَةٌ. صنَادِيقٌ خَشبيَّةٌ. جَدائلٌ. أَطْعِمَةٌ وَقرابينٌ وَزهورٌ !
كَوْمٌة مِن العرباتِ الذهبيَّةِ .. مُحَطَّمةٌ أوْ مُفَكَكةٌ .. بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. كُنوزٌ مُتَرَاكِمَةٌ. وتساءلَ كارتر مُتَعَجِبَاً فِى نَفْسِهِ: 
ما سببُ هَذِه الفَوْضَى وهَذَا الوَضْعُ الغَرِيبُ؟!
كَانَتْ الإجابةُ التّي لا مَنَاصَ منها :  " لُصوصٌ قدْ سَبَقُوا إِلَى هَذَا المَكَانِ !! "
" شئُ مَا أَفْزَعهم فعَاجَلُوا إلى الهَرَبِ وَ الفِرَارِ والنَّجَاةِ بِحَيَاتِهِم.  أَوْ خَافُوا مِنْ أَنْ يُقْبَضَ عليهِم بإقلاقِ الراحةِ الأبديَّة لِلمَوتَى.. فمَاذَا أَخَذُوا ؟ ومَاذَا تَركُوا ؟ "
وحينما كان المنقبون يمهدون طريقا بين تلك الأشياء المتراكمة والمتناثرة هنا وهناك، رأوا بابا آخرا موصدا ولكنهم سرعان ما علموا أن اللصوص قد سبقوهم إليه أيضا .
اختلط الامر على هوارد كارتر واللورد كارنرفون ، إذ كيف يتم نهب المقبرة وسرقتها على حين لا تزال الابواب موصدة ومختومة بالأختام  ؟! ثم لماذا ترك لصوص المقابر تلك الأشياء الثمينة والجميلة إن كانت المقبرة سرقت بالفعل من قبل ؟!
وجد كارتر على الأرض ثماني حلقات ذهبية مربوطة فى وشاح رقيق، وتبدو كما لو أنها قد سقطت بالفعل من شخص كان على عجلة من أمره ولم ينتبه لها بسبب حالة اضطرابه وعجلته. ولذلك استخلص كلا من كارتر وكارنرفون مما شاهداه فى هذه الحجرة الأولى أن لصوص المقبرة أقلقهم شئ ما قبل أن يستطيعوا أخذ الكثير معهم رغم أنهم استطاعوا أن يصلوا إلى المقبرة بالفعل، وفى عجلتهم المشوبة بالتوتر والقلق سقط منهم الوشاح ذو الثماني الحلقات الذهبية، والراجح أن هذا كان بعد وقت قصير من إتمام عملية الدفن للملك، لأن الكهنة والمسؤلين قد عملوا على إعادة إحكام الأبواب بالأختام الملكية بعد هرب اللصوص، وربما كان هذا عندما علم حراس الوادي بما حدث أو عندما تنامى إلى علم اللصوص أنهم سوف يوقع بهم وهم يسرقون المقبرة .
وعلى ذلك تبين للرجلين أن المقبرة اقتحمت فى الأزمنة القديمة ولكن يبدو أن اللصوص قد فوجئوا حال سرقتها.. ولكن رغم الاضطراب فى الحجرة الأمامية إلا أن محتويات المقبرة لم تمس بأى حال، فقد تدخل المفتشون بعد أعمال النهب وأعادوا الأمر بشكل غير مرتب من دون رعاية. ومن هنا كان أملهما العثور على المومياء وسيطر على عقليهما فكرة واحدة : أين توجد المومياء إذن ؟!
خالجهما الشك، فقد وجدا أن كل الأبواب المختومة قد فتحت قبل أن يعاد غلقها مرة أخرى، ولكنهما لم يكونا قد عثرا على التابوت بعد، ومن هنا كان الأمل من الناحية الأخرى. وفى الزاوية اليسرى من هذه الحجرة ينفتح باب فى ملحق، ..هاتان الحجرتان كانتا مكدستين بالأثاث الجنائزي، ومنه ما يعتبر من أثمن وأقيم القطع جمالا وفنا وقيمة وصنعة، ولعل أروع القطع هى كرسى العرش المذهب... كان الجانب الشمالي من الحجرة الأمامية مسدودا بحائط مغطى بطبقة من الجصّ.. وكان يقف أمامها تمثالان للملك بالحجم الطبيعى مصنوعان من الخشب المدهون، ويلبس كل منهما غطاء الرأس والنقبة وقطع الزينة المذهبة.. فقد أكتشفا أخيرا بابا رابعا لم تفض أختامه بعد ، ولم يسبقهما اللصوص إليه هذه المرة ، لقد ظل هذا الباب مغلقا منذ ثلاثة آلاف سنة، وظلت أختامه سليمة، وعليها الإسم الذى طالما طاف بخيال كارتر وراوده فى أحلامه: "توت عنخ آمون". ووقف على جانبي هذا الباب تمثالان كبيران للملك، باللونين الأسود والذهبي، يحرسان المدخل. وفى النهاية وجدا الرجلان نفسيهما أمام الحجرة التى دفن فيها الملك الشاب، وانتهى بذلك الشك الذى ساورهما فى ألا يجدا المومياء والتابوت .
أزاح كارتر الملاط باحتراس شديد من فوق الباب المختوم، وحينما نزع الباب رأى حائطا مذهلا من الذهب !!
وانقضت اللحظات المثيرة على الرجلين لم يستطيعا فيها معرفة ما وراء هذا الشئ، من فرط الدهشة والذهول، ووقفا لرؤية ما عسى أن يكون هذا الشئ و ماذا عسى يكون هذا الحائط  ووراء الباب الذي تم نزعه للظفر به..   ولكن لم تستمر الحيرة والدهشة طويلا ، وسرعان ما انكشف سر الحائط الذهبي، فقد كان غرفة كبيرة أو صندوقا أو ناموسا مقدسا..
---------------------------------------------------------

رحلة مع كتاب 
 توت عنخ آمون
--------
وضعت بالأمس القريب، مقالا بعنوان ظلال الماضى - بين مشهدين، وهو مأخوذ من نصّ مقدمة كتابى (توت عنه آمون ظلال من الماضى) المنشور والصادر عام 2010. ويمكن الرجوع له فى مكتبة الإسكندرية، للمطالعة والقراءة، مع بقية كتبى، التى تقتنيها المكتبة. ونظرا لعدد قراءات هذا المقال، وددت أن أشير بنبذة، عن تأليفى هذا الكتاب فى التاريخ الفرعونى. وكان قد صدر كتاب آخر، لى، سابق عنه بعنوان (الفراعنة أسرار وخفايا) عام 1997، وهو بصغة عامة عن هذا التاريخ العظيم، وذلك ضمن كتبى التى أتناول فيها التاريخ. إلا أن كتاب ( توت غنح أمون ) له ذكريات معى، مثل بقية كتاباتى. وفى هذا المقال، نبذة عامة عن رحلتى فى تأليفه، دون الإستطراد إلى المراجع والمصادر التاريخية التى رجعت له فى مادة الكتاب. والواقع أنى فى مقدمة هذا الكتاب إنتهجت أسلوب أقرب إلى السيناريو والحوار( مشاهد زمنية ومكانية)، فى تقريب الصورة إلى القارئ، الذى يُأخذ بقصة هذا الإكتشاف الكبير، والإرادة والتحدى خلفه، ثم الروعة والدهشة فى آن واحد أمام تلك الكنوز المذهلة. وكان نهجى فى هذا الكتاب، بخلاف كتبى الأخرى، فلكل مجال علمى أسلوبه، ولكل فكرته، ما يجعل الكاتب، يلتمس طريقه، لينهى كتابه على أكمل وجه، يرضى عنه. إذ تظل حياة هذا الفرعون  لغزاً يؤرق المؤرخين، إضافة إلى أنه لم يعرف عنه أو عن حياته الكثير.. فلم يكن توت عنخ آمون قد تجاوز التاسعة من عمره عندما تولى عرش مصر، ولم تمر عليه ثمانية أعوام في ارتقاء عرش مصر حتى انتقل من صفحة الوجود إلى صفحة التاريخ بعد سنوات قلائل من حكمه، فمات وعمره لم يتجاوز التاسعة عشرة.. في ظروف تؤكد أن شمس الأسرة الثامنة عشرةقد مالت، وأوشكت على المغيب، بعد أن شهدت أحداثاً جساماً كان لها تأثيراً كبيراً على مجريات التاريخ المصري القديم .. خاصة أن سبب الوفاة ما زال غامضاً هو الآخر، لكن الجديد الذي تم التوصل إليه أن الفرعون لم يُقتل.. مما يعتبر فصل جديد في علم المصريات..!! وقد توفي الملك الشاب توت عنخ آمون، في الثامنة أو التاسعة عشرة من عمره ، حوالي سنة  1352 قبل الميلاد، دون ولي عهد، في ظروف وفاة بقيت دائما غامضة، ولكن المنشور بناء على تقرير المسح لمومياء الملك والذى هدف إلى التحقق من أنه تعرض للقتل، نظراً لأن الصور السابقة بأشعة إكس كشفت عن وجود ثقب في جمجمته.. يسمح بفصل من فرضية القتل، على الأقل عن طريق أداة حادة كما قيل !!
وتولى الملك بعد وفاة توت عنخ آمون رجل الدولة المخضرم والمستشار العجوز والناصح الأمين لتوت عنخ آمون، الكاهن الأكبر "آي" الذي لم يكن من سلالة ملوك الأسرة الثامنة عشرة . وقام مباشرة تقاليد "فتح الفم" لمومياء توت عنخ آمون – وهي التي يقصد بها بعث الحياة في الملك المتوفى من جديد في العالم الآخر !!
ومن القصص المثيرة الطريفة التي سجلها التاريخ، حول وفاة توت عنخ آمون، وما حدث بعدها، هو ما فعلته أرملته الملكة "عنخسن آمون" التي كانت قد حزمت أمرها لأن تمارس السلطة الملكية بنفسها إلى جانب أمير زوج تختار بنفسها، ولكيّ تحقق  هذا الغرض، اتجهت إلى ملك الحيثيين بطلب لم يُسمع بمثله من قبل، ليرسل إليها بأسرع ما يستطيع أميراً حيثياً من أبنائه تتزوجه وتجعله يرتقي عرش مصر، فأرسلت خطاباً سرياً إلى "شومبليون" – ملك الحيثين – طالبة منه إرسال أحد الأمراء لتتزوجه ويجلسان معاً على عرش مصر. وقد عمل سفير مصر في الفترة التي مات فيها توت عنخ آمون – وسيطاً بين الملكة الأرملة وملك الحيثيين لتدبير زواج الأمير الحيثي "زانانزا" منها..، فبعث أكثر من رسالة للتأكيد على أهمية وحقيقة الأمر وتبديد الشكوك والمخاوف لدى ملك الحيثيين، والذي أرسل بالفعل أميراً حيثياً "زانانزا" والذي قُتل في كمين في الطريق حينما كان مسافراً إلى مصر ليلحق بعنخسن آمون. وكان الاغتيال لهذا الأمير الأجنبي يأمر "حور محب"، الذي ارتقى أعلى المناصب والوظائف أثناء حكمي إخناتون وتوت عنخ آمون ، وكان قائداً للجيش في ذلك الوقت – وانكشف الأمر على يده، فأحبط خطة الأرملة السرية التي دبرتها لإعطاء الحق لأمير حيثي أجنبي في ارتقاء عرش البلاد..، فقام حور محب بتدبير قتله قبل أن تطأ قدماه الحدود المصرية !!والظاهر، أن حور محب كان طامعاً في أن يصبح فرعوناً. وبالفعل اعتلى عرش مصر بسهولة بعد موت الملك الكاهن "آي" الذي تولى الملك بعد توت عنخ آمون الذي كُتبت له الشهرة بعد آلاف السنين بفضل اكتشاف مقبرته العجيبة التي احتوت على مئات من الأشياء والآثار الثمينة التي ضمّتها كنوز هذا الملك الشاب.. بالمعنى الكامل لكلمة كنوز.. تحف فنية من أعلى طراز فني مصري، تشهد برقى في الصناعة وجمال في الفنون المصرية، إضافة لأنها تمثل وثائق دينية وتاريخية بالغة الأهمية حول حياة فرعون من فراعنة مصر من الأسرة الثامنة عشرة.. وغير ذلك، ممّا يدل على الأهمية الكبيرة لاكتشاف هذه المقبرة سواء من الناحية التاريخية أو العلمية. وقد حكم آي لفترة قصيرة لا تزيد عن ثلاث سنوات بالنظر إلى كبر سنه. وكان قد ارتقى العرش بعد ترأسه جنازة توت عنخ آمون ودفنه في الجبانة الملكية بوادي الملوك، في عظمة وأبهة ما كان من الممكن لأحد أن يصدقها لو لم تكتشف كنوز مقبرته للعالم. وكان "مايا" مدير أعمال البناء في مكان الخلود، كما كان يُطلق قدماء المصريين على المقبرة، كما كان (مدير الخزانة) في عهد توت عنخ آمون – قد كرَّس باسم مليكه صورة جنازية تُعتبر من أندر التحف التي تشهد في مقبرة الملك على مقدار وفائه وحبه لمليكه. ويبدو أنه قد بذل كل ما في وسعه في القيام بوظيفة مدير الجبانة، فسهر على تشييدها في جوف الصخر، وعمل على أمن وسلامة مقبرة مليكه المحبوب بإخفاء مدخلها وموضعها عن الأنظار. وعندما توصل لصوص المقابر إليها، وقاموا بمحاولة سرقتها، مرتين متتاليتين، مما ظهر من الدلائل التي تبيّنت واضحة عند اكتشاف المقبرة على يدّ هوارد كارتر في عام 1920 ، فمن المرجح أن اللصوص قد تم القبض عليهم، وأن "مايا" قام بإصدار أوامره بإصلاح ما أفسده اللصوص في غرف المقبرة، وإرجاع قطع الأثاث الجنازي إلى مكانها الذي كانت عليه عند دفن توت عنخ آمون، ومن الواضح أن الكهنة أو مفتشي الجبانة قد قاموا بهذا الإصلاح على وجه السرعة، لأنه لم يمكنهم سوى ذلك، ثم قاموا بعد ذلك، بفتح الفتحات التي نقبها اللصوص في باب المقبرة وداخلها، للانسلال إليها للقيام بعملهم غير المشروع، ضمن سلسلة نهب المقابر الملكية في وادي الملوك.
----
ورحلتي مع هذا الكتاب كانت قد بدأت ، عندما كُتب لي زيارة أكثر من موقع أثري مصري قديم، وكنت أستعد دائماً بالقراءة المسبقة عمّا سأراه . ولكنني دائماً قد أرجع بغير الذي ذهبت به. وكغيري ممن شاهدوا تلك الآثار الفذّة ، فلابد في أول الأمر أن تستولي عليّ الدهشة والإعجاب. ولا أنسى في أول مرة رأيت فيها الهرم الأكبر، منذ أزمنة مضت، فعلى أي حال، لم يكن من الممكن أن أنجو من سيل الأسئلة، والتساؤلات التي هاجمت رأسي، أو من الأفكار التي دارت في خلدي.. متى بُني هذا الأثر العملاق ؟! وكيف تم هذا البناء؟! وبأي وسيلة تم رفع تلك الأحجار الضخمة وكيف وضع تصميمه وكيف..؟! وكيف..؟!  وكنت في هذا ، كغيري ممن أُخذوا بالدهشة والحيرة. وارتدت زمنياً إلى تلك العصور التي زاد فيها الرحالة العرب والأجانب هذه الآثار، منذ المؤرخ الإغريقي هيرودوت حينما كانت مصر، وما زالت جاذبة، فأتاها الزوار من كل مكان، وتوافد إليها الكثيرون . وقد سجل التاريخ، الرحلات التي تمت إليها، خلال العصر اليوناني الروماني، حينما أتى اليونان والرومان القدماء، وخلدوا تلك الزيارات، في مئات من القصائد الشعرية، والكتابات الوصفية النثرية. ولم يقتصر الأمر على الشغوفين بالرحلات والارتحال من هؤلاء، بل شعوب وحكام وأباطرة ذاك الزمان. وبعد ذلك، وقرب نهاية النصف الأول من القرن السابع الميلادي، كانت مصر قد بدأت عصورها الإسلامية، وبدأت حقبة تاريخية جديدة ذات ثقافة واسعة متميّزة، ظهر فيها العديد من العلماء المسلمين الذين استهوتهم دراسة التاريخ ووصف البلدان.. فرأينا من هؤلاء الرحالة والعلماء العرب المسلمين من سجَّل في كتاباته آثار ممن وصفها ..، منذ بداية الفتح الإسلامي العربي لمصر، وطوال القرون التالية . ولم يقتصر الأمر على الرحالة العرب كابن إياس، وابن بطوطة، والبغدادي..، وغيرهم من الرحالة والمؤرخين – بل تعدّى إلى الرحالة والمؤرخين والعلماء الأجانب ممن زاروا مصر طوال تلك العصور، وحتى الآن. كان كل هذا يدور في رأسي، وأنا أقف أمام تلك الآثار العجيبة، التي دَّلت على ريادة مصر الحضارية، التي أرست خلالها دعائم وأسس الحضارة البشرية..، تلك الحضارة التي بلغت أعلى ذراها وأوج قمتها، في عصر الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام، فتركت لنا أثاراً شاهداً على حضاراتها وريادتها بكل جوانبها الثقافية والعلمية، ممّا كان سبباً مباشراً في النهضة والتقدم العلمي والحضاري في جميع المجالات. وبعد سنوات، كنت في زيارة لمدينتي الأقصر – طيبة – وأسوان، فتجولت بين آثارهما، بين معابد الكرنك والأقصر..، ذاك بهو أعمدة ، وتلك مسلات وتماثيل ضخمة...، وغير ذلك من آثار جنائزية وتعبدية. وأذكر أن دار حوار بيني وبين مرشد سياحي كان يصاحبنا واحتدم النقاش والجدل فيما بيننا حول التاريخ الفرعوني وآثار مصر القديمة، وكان محور الحديث آنذاك يدور حول شخصية فرعون موسى !! ثم انتقلنا إلى البر الغربي لطيبة، حيث وادي الملوك بمقابره العجيبة المنحوتة في الصخر، ولم أشعر بنفسي إلاَّ وأنا أنسل من الصحبة التي كانت تنتقل من مقبرة إلى أخرى. وصحبني رفقاء وأصدقاء لطالما جمعتنا الرحلات، وكان هدفنا مقبرة فرعون شهير، هو توت عنخ آمون. وكنت في ذلك الوقت قد شرعت في كتاب جديد هو (حضارات قديمة عجيبة) وكان من بين ما تطرقت إليه، مسألة الاكتشافات الأثرية الشهيرة، وبلا شك كان اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون من أعظمها وأكبرها أثراً، وأكثرها دوياً وصيتاً في الآفاق. وتساءلت : أليس من الجدير والأحرى، أن يحتل هذا الحدث أكثر ممّا فرضت له في هذا المصنف؟! فليس هناك جدال أن هناك قصة مثيرة ومغامرة كبيرة وراء هذا الحدث العظيم الذي يمثل ثمرة كبيرة لعلم الآثار (العاديات) عامة، وعلم المصريات خاصة. ومن هنا كانت البذرة الأولى لهذا الكتاب. فقد أصبح من المسّلم به الآن في علم الآثار، أن قيام هوارد كارتر باكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك بطيبة في الربع الأول من هذا القرن، يُعتبر أهم وأعظم الاكتشافات الأثرية التي تمت في القرن العشرين. كما تُعتبر المقبرة بما فيها من محتويات كنزية نفيسة، وبما ضمَّته من أكداس ضخمة من الذهب والقطع الأثرية الفنية البديعة التي أذهلت العالم – أعظم كنز علمي أثري حقيقي، عثر عليه الإنسان في هذا القرن، وحتى الآن .
-----------

أما الحدث الثاني.. وهو موضوع هذا الكتاب – وهو حدث عظيم في تاريخ علم المصريات، ويمكن أن ينافس في الأهمية والجاذبية والقوة،  وإلى الآن، حدث فكّ رموز اللغة الهيروغليفية، فهو هذا الكشف العجيب لكنوز مقبرة توت عنخ آمون، وذلك الذي تم على يدّ الانجليزين هوارد كارتر واللورد كانر فون، ممَّا وضع في أيدي العلماء صورة للحياة الدنيوية وكيفيتها لفرعون شاب من فراعنة مصر ، كان على وجه التقريب مجهولاً لا يدري به أحد أو يعرف عنه شيئاً حتى ذلك الأوان، فصار بين لحظة وأخرى صاحب أكبر عناوين رئيسية على صدر صحف العالم الأولى وأخبار وكالات أنبائه، بعد حوالي ثلاثة آلاف عام، أو ما يزيد، عن وفاته !!
ولا جدال في أن كشف مقبرة توت عنخ آمون يدين في المقام الأول إلى النجاح الذي أحرزه علم الآثار عامة، وعلم المصريات خاصة، والذي تطور من مجرد حفائر وتنقيبات أثرية للبحث عن الكنوز، إلى علم من العلوم له وسائله وقواعده ومنهجه وطبيعته الخاصة. والكشف عن كنز ثمين في مقبرة ملكية ، حادث مثير في حدّ ذاته، فلكلمة كنز دوّي كبير ورنين خاص، يجذب الأسماع والأنظار إليه، وخاصة إذا لم تمتد إليه أيدّي اللصوص وناهبي القبور طوال تلك الأجيال الطويلة. وتفاصيل هذا الحدث والكشف العلمي ،  تفاصيل مثيرة جداً، نظراً لتطرقها لنواح عديدة لها أهميتها، وهي قصة جهاد وكفاح وعناية سنوات طوال..،...، وعند الولوج إلى غرفها، وعند فتح التابوت الجميل الموضوع داخل المقاصير الذهبية...،ممّا يُثير المشاعر والانفعالات والأراجيف، ورغم ما قد يمرّ من فترات يأس وقنوط ومشاعر الخوف من المجهول، والرهبة ممّا هو قادم، والقلق من الإخفاق والفشل، والحيرة فيما يستعصي فهمه.. وفي ظلّ رغبة أكيدة جامحة في الوصول لشيء جديد، والأمل في العثور على ما يُعوّض جهد السنين، وحب الاستطلاع، والفرحة العارمة لما قد يُكشف عنه سواء كان مادياً ملموساً أو معنى قد يُضيف شيئاً لمعرفة الإنسان عن تاريخه الطويل. وبلا جدال فإن قصص اكتشاف مجموعة الملك توت عنخ آمون من الأسرة الثامنة عشرة التي عثر عليها عالم الآثار هوارد كارتر سنة 1922 م في جبانة الملوك بوادي الملوك بطيبة ، هي قصة أثارت إعجاب العالم ودهشته، مرَّ فيها ما يُثير تلك المشاعر الإنسانية العظيمة – التي أشرنا إليها – ممّا سنلمحه في رحلتنا مع هذا الحدث العلمي الكبير، عبر فصول هذا الكتاب، مع قصة مغامرة مثيرة عاشها علماء من أولئك الذين يصطدم في أعماقهم طموح عارم ورغبة قويّة كيّ يكونوا ممن يُسجل لهم التاريخ كلمة تخلد ذكراهم وتشيد بأعمالهم العظيمة التي تصبح مثار دهشة العالم وإعجابه ، ويقف أمامهم مأخوذاً مذهولاّ!!
لذلك، فإن علماء التاريخ والآثار المصرية يقررون أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، في عام 1922م، يعتبر بكل معيار تاريخي وعلمي، أعظم كشف أثري في القرن العشرين بأكمله ومن المؤكد أن طبقات الطمي والرمال في المواقع الأثرية – معروفة أو غير معروفة – ما زالت تُخفي الكثير من الآثار الفذّة الرائعة التي خلفّتها تلك الحضارة العظيمة المبهرة وراءها، والتي تُعتبر من جميع الوجوه أعلى وأرقى الحضارات التي ظهرت واندثرت في تاريخ الإنسان القديم، ممّا أكدته الدراسات العلمية التي ضمّتها بين دفتيها كتب وموسوعات مؤلفات ضخمة وعديدة، تكتظ بها مكتبات العالم. وليس فيما ذكرناه أي مبالغة، فالحياد العلمي والموضوعية والدقة والدراسات التي أُجريت طوال عمر تاريخ المصريات – كلها معايير صادقة تؤكد نلك الآراء. وقد اعترف بهذا وأقرَّ به غالبية علماء الآثار والمؤرخين على اختلاف جنسياتهم. وإن كانت هناك بعض الجوانب التي تتعلق بهذه الحضارة العريقة. وليس هناك أمراً مقنعاً، أكثر من تلك النتائج التي توصل إليها علماء التاريخ والآثار، من خلال الدراسات التي قاموا بها على نحو أكثر تخصصية مما نراه في مصنفاتهم ومؤلفاتهم عن الحضارة المصرية القديمة، والتي شملت مختلف جوانبها منذ عصور ما قبل الأسرات ومروراً بتاريخ الأسرات الفرعونية، وحتى زوال هذه الحضارات واضمحلالها. ومن ناحية أخرى، ما تشير إليه الآثار المصرية القديمة التي بقيت رغم اندثار تلك الحضارة، ويكفينا مثال واحد، وهو الهرم الأكبر، تلك الأعجوبة الهندسية، الذي يقف على وجه الخصوص، من بين جميع آثار مصر القديمة، مثيراً للتساؤلات التي لا تنتهي ، كيف؟! ومتى ؟! بل ومن بنوه ؟!!
--------
ولا ترجع شهرته لأسباب تتعلق بإنجازات حققها أو حروب انتصر فيها، وإنما لأسباب أخرى لا تعتبر مهمة من الناحية التاريخية ومن أبرزها إكتشاف مقبرته، وكنوزه الملكية بالكامل دون أي تلف.. وتعتبر المقبرة الملكية الوحيدة التي اكتشفت شبة سليمة، في وادي الملوك من قبل عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر، إذ لم تكن هناك مقابر سليمة يمكن إكتشافها. وأحدث هذا الاكتشاف ضجة إعلامية واسعة النطاق في العالم وشد انتباهه، رغم أن  تلك المقبرة صغيرة الحجم نسبياً بالمقارنة بالمقابر الأخرى لفراعنة مصر، والتي  تقع في شرق الوادي، بالقرب من أمنحتب الثالث ومن المؤكد أن هذا ليس من قبيل الصدفة!! فحجمها مثير للدهشة، إنها صغيرة جدا بالمقارنة مع غيرها من مقابر الفراعنة، وفى الواقع أصغر من المقابر الملكية في وادي الملوك، والتي لا تتبع خطة عامة!! وزينت في عجلة من الامر في وقت الوفاة المفاجئة للملك فلم تكن الزخارف الملونة واسعة النطاق، لإعدادها على عجل، فى مقبرة كانت قد جُهزت لنبيل أو قائد كبير. ومع ذلك فإن التقديرات تشير إلى أنها تجمع ما يكفي من المعايير الجنائزية للسماح لطقوس الدفن ولتشكل قبرا للملك فريدا من نوعه منحوتا،.. ويمكن القول أن أهمية المقبرة تكاد تنحصر فى أهمية ما احتوت عليه من كنوز ذات قيمة عالية من كل الوجوه وغاية فى كمال الصنعة وأبهاها ، فكنز توت عنخ آمون هو أكمل كنز ملكي عثر عليه، ولا نظير له، إذ يتألف من ثلاثمائة وثمان وخمسين قطعة تمثل قائمة من المعدات الجنائزية التي كانت مفيدة جدا لعلماء المصريات، لتعطيهم فكرة عما قد أزيل من المقابر الملكية الأخرى . وترجع أهمية كنوز الملك توت عنخ آمون إلى العديد من الأسباب، وأولها أن تلك الأمتعة الحياتية والجنائزية التي ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، ومنها يمكن معرفة كيف كان القبر الملكي يجهز ويعد. إضافة إلى أنه يمكن معرفة من كان وثيق الصلة بحياة الملك وما يحبه، من خلال هذا الكنز، مثل حبه للصيد وعلاقته السعيدة بزوجته عنخ اسن آمون وحاشيته الذين زودوه بما يلزم لإنجاز الأعمال بالنيابة عن المتوفى فى العالم الآخر.. إذ وجد أمتعة الحياة اليومية، وأدوات ومعدات حربية ، فضلا عن رموز أخرى وتماثيل، تتعلق بدفن الملك وما يؤدى له من شعائر....
وعلى هذا كانت هذه الدراسة متضمنة قصة اكتشاف هذا الأثر الكنزي، وتبلورت الفكرة على الصورة التي هي عليها. وكان لابد من التطرق إلى عديد من النقاط تُمثّل محاور الموضوع، بالإشارة إلى علم الآثار ودوره الهام في الكشف عن ماضي الإنسان، وإبرازه بصورة ماثلة للعيان يُستقي منها الصورة التي كان عليها ماضية على الأرض وتاريخها المتلاحق المتطور في بناء حضارته وأسس مدنيته... وآليت على نفسى أن أقَلِبُّ صفحاتَ المّاضي القريبِ نسبياً، حِينَمَا تمَّ هَذَا الكشفُ الآثريّ، لِنعودَ مِنه إلى المّاضي البعيدِ، فِي عمقِ التاريخِ لِنرَى كنوزاً لاَ يّقِلُّ عَنْها روعةُ العملِ المستمرِ، والرغبةُ فِي الكشفِ عَنْ المجهولِ، والعملُ يوماً بَعْد يومٍ فِي حفائرٍ بَعْدها حفائرُ، بإزاحةِ أكوامٍ مِن الرمالِ والأتربةِ فِي أشغالٍ شاقةٍ تَحْتَ أشعةِ الشمسِ وحرارةِ الصحراءِ المُحرقةِ ، لإختراقِ حاجزَ الزمِن، للوصولِ إلى أعظمِ كشفٍ أثريٍّ هامٍ ،عَلَى يَدِ "هِوَارد كَارْتَر" الذي لمْ يَهْدَأْ حتى كَشَفَََ الغطاءَ عَنْ مقبرةِ  تُوت عَنْخ آمُون، لِيُحققَ حُلْمَ كلِّ عالمِ آثارٍ، فِي أَنْ يجدَ يوماً مَا مقبرةً سليمةً، لمْ تمسْسْهَا أيدي اللصوصِ، مِنذَ أَنْ تَرَكَها الكهنةُ، بَعْد عمليةِ دَفْنِ الفرعون، راقَدْاً فِيها، فِي تَابُوتِه، عَلَيْهِ مَسُوحُ الدَفْنِ المُزركشةِ، كمَا غَادَرَتْهَا أيدي الكهنةِ، فِي صُحْبَةِ أثاثِه الجَنَائزيّ، ومُتطلباتِ الرِحلةِ الأُخْرَويَّةِ الطَّويلةِ.. ويعتبر العثور على مقبرة توت عنخ آمون أعظم كشف فى تاريخ علم الآثار الحديث ونقطة فارقة في تاريخ علم المصريات والمكانة الخاصة التى إكتسبتها في حقل الاكتشافات الاثرية الفرعونية لكون الملك توت عنخ آمون، هو الفرعون الوحيد بين الملوك الذي اكتشفت مقبرته كاملة حيث نجت من عبث اللصوص وعاديات الزمن  ..!!
ومنذ بداية القرن التاسع عشر توالت عمليات الكشف والتنقيب عن آثار مصر القديمة، بالتنقيب في الجبانات المصرية القديمة، وتلال المدن الأثرية، وأطلال المعابد والتي لا تزال مستمرة إلى زمننا الحاضر، وأنشئت المتاحف المصرية كيّ تحفظ ما يعثر عليه من الآثار، وأخذت المجموعات الأثرية تزداد تباعاً من مختلف مجموعات المواد العلمية، ممّا أتاح مجالاً للبحث يزداد باستمرار.
من المعلوم أن من دون سائر الملوك الأقوياء لمصر القديمة، الذين دفنوا فى وادي الملوك، لم ينج من عبث اللصوص وأيدى المارقين، خلال تلك القرون الطويلة، سوى " توت عنخ آمون" الذى نظَّمَ له  خليفته مراسم جنائزية، في وادي الملوك، مع إتخاذ كل الاحتياطات الواجب اتخاذها، لتأمين عملية الدفن، ورغم ذلك فلم تتوقف الزيارات، لمقبرة توت عنخ آمون، بما لا يقل، عن اثنتين من المحاولات، التى قام بها المغتصبون للمقابر، في وقت قصير جدا بعد الجنازة، رغم أن جبانة طيبة كانت محروسة جيداً، في هذا الوقت، لمنع أعمال النهب والسلب الكبيرة. ووفقا للتقاليد، ورد اسمه في القبر، من خلفه، ولكنه لقى موتا سريعا، بعد أربعة سنوات فقط في وقت لاحق، وهى سمة أخرى، للذين لم يكن لديهم الحق الشرعي، فى العرش. ونقشت على الجدران، كتابات وتعاويذ، لتحفظه، راقدا فى سلام....
-------------------------------------------------------------------------------------------------