سرماديا

سرماديا

الفن والجمال* المقالات 1 - 5




سلسلة مقالات
 فى الفن والجمال
---- خالد العرفى
- كلمات فى الفن والجمال
- ومضات جمال
- الفن والروح " قلب الرؤية"
- من أسرار الضوء والظلّ
- من لغة الفن
يتبع المقالات ( 6 – 30) .
---------------------------------------------------------------------------------------------------------


من لغة الفن
----- خالد العرفى
  تلك اللغة العميقة التى تصل إلى التخاطر.. إلى ما وراء الطبيعة.. لغة وجود.. تفهمها الأرواح. تتسلل معانيها إلى أعماقها.. هى لغة للفن.. من لون.. وضوء وظلّ وتشكيل.. رؤى تستمر ويقرّ نورها فى عمق النفس.. آخذة حروفها من مفردات الكون والوجود.. بحار وجبال وسماء وأرض ونجوم.. زهور ونباتات وكائنات ومخلوقات.. وهذا من عظمة الفن، لا أدرى أم من شفافية أرواح.. يدركها أثر الجمال، موجة بعد أخرى.. تتعمق فى تفاصيل، لا يمكن إلا أن تلمحها الأرواح الصافية.. وعلى سبيل المثال من جماليات الماضى، ما يظهره تاريخ التصوير الفوتوغرافى فى لقطات سجلتها ذاكرة صندوق الكاميرا.. الأبيض والأسود.. حاول مثلا جمع مجموعة صور لحقبة تاريخية ولتكن من القرن التاسع عشر أو بدايات العقد الأول من القرن العشرين.. ثم حاول مثلا تأمل أعمدة إنارة خشبية.. إتجاهاتها  وأطوالها.. تجد أشياء عجيبة آسرة.. رغم التشكيل الموحد تقريبا إلا أن نوع الأخشاب التى صنعت من أنواع أشجار محددة يعطيها ظلالا وتأثيرات فريدة، مع وقوع الضوء عليها ومصدره، خاصة  الشمس.. خذ مثالا آخر.. أشكال الأفاريز الحجرية وتكويناتها الجمالية فى واجهات العمائر والمبانى.. بل وأشكال الدرج ونوع أحجاره.. شكل الشرفات وطرازتها وزواياها.. المداخل وأمكنتها.. أبراج البنايات وقبابها.. عشرات الأمثلة.. ومنها وسائل المواصلات القديمة.. مثل العربات التى تجرها الخيل.. أشكالها.. دواليبها.. صناديقها.. أنواع أخشابها.. ومنها طرازات عربات البريد ونقل البضائع والموتى.. حتى صناديق البريد.. ومنها الخشبية على أبواب المنازل.. والحديدية تتمركز فى الطرقات والشوارع.. أشكالها الصبّ البديعة.. أعمدتها.. سواترها.. حتى حركة البشر وأمواجها.. من عابرين وسائرين.. وقوف وجلوس.. أشكال وملامح، وأردية.. نظرات ولمحات.. رجال ونساء وأطفال.. شباب ومسنين.. أين هم ذاهبون.. ومن أين أتوا.. رتم الحياة، ووتيرته.. صنائع وبدائع.. لا يمكن أن يلمس أو يصف مثل هذا التأثير، إلا تأمل روح سابحة فى أسرار الضوء وأعماق الجمال وبدائعه، من آثار الماضى.. أسرتها صور فوتوغرافية بين الأبيض والأسود.. والضوء والظلّ..
وعلى نقيض رمادية ضباب وسحب الشتاء التى تجلب إكتئابا للنفس، فرمادية الصيف المشبعة بضوء الشمس تفتح الروح على ذاتية، والنفس على وجودية من نوع خاص.. فكما للفصول ألوانها ومغزاها مما تعكسه كاميرا التصوير الفوتوغرافى فى صور الأبيض والأسود، تجد تماما للنفس البشرية فصولها هى الأخرى، أو حالاتها النفسية التى تعطى اللون دلالته وعمقه وأثره الساحر، فى الروح،.. حزنا وفرحا، مما يفتن العين ويأسر النفس ويخلب اللّب.. وهذه من جماليات الصور الفوتوغرافية، التى تنفرد بها عن غيرها من أنواع الفنون الأخرى.. فضلا عن أثر تدرج وعمق لونيها ذاتهما، بين الأبيض والأسود، والتناقض الذى يزيدهما جمالا ودلالة، زِد على ذلك موضوع الصورة وزاوية التصوير، منفتحة كانت أم منغلقة.. مركزة أم واسعة.. وقد أشرت من قبل، لبعض مفردات تلك الموضوعات خاصة التاريخى منها.. وهى نفسها مفردات الحياة من بشر ومخلوقات.. عاديات وأشياء وموجودات.. طرق وعمارة وبنايات،.. وغير ذلك.. ولعلها تكون من نفس جماليات الفن السابع، التى تعطى أفلام الأبيض والأسود رونقها وسحرها.. حتى فى الأفلام التسجيلية القديمة التى سجلت ويلات الحروب أو أحداثً تاريخية.. فى إشارة صامتة ترصد إلتفاتة زمنية أو واقعة على ضفاف تاريخ إنقضى.. فى تلهف إلى خلاص من ماض باهت ضامر.. لم يبق منه إلا أطلال من رحلوا.. لكن، ورغم ذلك، فالعين بين حين وآخر، تظل تستدعي فى حضور اللحظة ذكريات ما انقضى، وأبقته لقطة فوتوغرافية، من فصول أحزان طويلة، أو بزاوية الكاميرا سجّلت ما حدث يوما ما .. ناشدة فردوس حياة مفقود، عبر خطي الحاضر، لكن في عالم جمال خاص، لا تلمسه إلا الروح..


وعلى ما يبدو، فإن فلسفة الجمال تدور حول  معانى الجمال ومصادره.. مما ينهض فى النفس والروح، من أثر.. ويعاودنا أثرها من جديد وتثير تساؤلاتنا.. يتعاظم صداها الساحر، وتختطفنا حالاتها الغريبة، بتأثيرها الغامض.. معان نفسية تعجز العقول عن الوصول إلى مكنونها وجوهرها.. ومثلما تكون لمسة الجمال مؤثرة مثل علامة فارقة، فإن أكثر ما يكون من التداعيات الروحية هى تلك المناحى المعرفية التى تحلق بنا بأجنحة كموسيقى غيبية.. ويختلف التعبير الجمالي من فن إلى آخر، وبين لون وآخر من ألوان الإبداع، بمقتضى طبيعة كل لون، وتجربة كل مبدع. وباختلاف غموض هذا التأثير للغة الفن، يحاول المرء أن يتلمس أسبابه.. وعلى نحو أكثر دقة، ما يبلغه من حالة تثير الإلهام على نحو غير منظور.. وما هو بمثابة روح الإبداع على هذا النحو الغريب. وهو ما يستدعي أحيانا أن نقرأ فى فلسفة الجمال ونظرتها التى تساهم، فى مصداقية أكبر وتكامل نظرتنا إلى الكون والوجود.. وبقدر ما يختلف نوع فنى ما عن آخر بقدر ما يظهر من وحدانية منبع التأثير الوجدانى للفن على وجه العموم.. وليتوالى ويتنامى هذا التأثير مستوى بعد آخر، بمَ له من سحرية وأثر ويمسّ جوهر الحياة تماما كلغة رواية ما. ومن هنا أمضي إلى النظر، إلى نقيض الجمال كنقيض للحياة نفسها، بما يكمن في أعماق في خفايا القبح التى نراها فى كل مكان، تماما كالنفوس المظلمة..
كلمات فى الفن والجمال*
---- خالد العرفى

الفن ضرورة حياتية، تعبيرا عن الذات.. كناتج إبداعي، إنعكاسا للأفكار، وترجمة للشعور، ورسما لصورة الوجود، والكون والحياة، من حولنا.. حيث، يهبنا الفن عوالم جديدة، تحاكى معانى الطبيعة، بإعمال الخيال، والحسَّ المرهف، والذوق الأصيل. ومن هنا، نجد أن للفن دورا عظيما، فى الوجدان، ريّا لظمأ الروح. ففى خيال لحظة ضوء، يولد جمال الكلمة وتسثيرك لمسة فكرة، لأوتار العقل. كما فى شروق ذهبىّ للشمس، على الوجود، فيهتز لها، حنينا وشوقا. أو إنبلاج قوس قزح على البرية، بزهو ألوان الحياة، فتربو. هناك من الفن، ما يراه القلب ويعاينه، كما تقرأه العين، وهى تصبو لمكنونه المُشرق. فى الجمال نسمع موسيقى الوجود صادحة، ونرهف لعذوبة لحن الكون، يملأ أركان أسماع الأحياء، صوته. ومع تأثير جمال الفنون، يفيض الوجدان البشرى ببصيرة، بمَ لا تراه أعين فانية. 
ومن جوهر الفن، إشراقه فى النفس، وعلى الكيان. فربما نجد تأثير لمسة الجمال، تغمرنا بالدفء، فى عمارة مبنى. أو أثر. أو جدار، أو أعمدة أو درج حجرى.. إلى لوحة زيتية مرسومة، أو لقطة فوتغرافية. فى تمثال. أو بورتريه. زاوية لكاميرا. فى الظل. النور. الليل. النهار. الغروب. الشروق.. فى درجات الدفء لكل لون. فى مرآة منظر بعد لحظة مطر، .. أو تباين فى أطياف الأبيض والأسود. فى الظلال.. فى كل شئ، يمكن أن نرى ذاتية جمال،.. ونشعر بكينونة الطبيعة، نابضة بالحياة، تتسلل لأنفسنا. وكما فى الفنون التشكيلية، يسافر بنا الخيال، ليلمس أعماق النفس، وخفاياها. لا ريب أن الفنون والجمال، هما روح الحياة، وذات كل معنى. أبدا، لا غنى للإنسان عن  عالم الفن، والجمال، فى الطبيعة والكون. يحثه ويستثير خياله، فيضا وراء فيض، وإلهاما من بعد إلهام، فى دروب الإبداع، والفنون وأصعدتها، مهما كانت صورها، وأنواعها.
وما أروع الجمال الصادق، الذى يغرسه كل هذا فى النفس، بدفء من مشاعر، وإشراق  لأحاسيس.. لمسات حياة، ولحظات ضوء نيّرة، فى أغوار الروح.. ننتظرها، ونبحث عنها، لنرى معها حقيقة الحياة، وتنجلى أسرارها المدهشة، حياة للإبداع نفسه. إجابة لمَ نكتب، وكيف نكتب، وهى إشكالية الكتابة الكبرى.. هى اللحظات النادرة للإلهام، وصفو الفكر، والفن. صميم كل عمل لمفكر، وأديب، وفنان.. حفزا للأفكار وتنوعها، ومبعثا للخيال الأدبى الذى هو عامود الكتابة، ومرّده. علاوة عن، كونها، إطارا لرصانة النصّ، وجزالة العبارة، شكلا ومضمونا.. هى ما يجعل النص لوحة صادحة، وأثرا من جمال الروح البّراق.. ليس فقط جمال الفكرة، إنما الأسلوب، واللفظ، ورونق الكلام.. ومن جمال الأدب والفن، أن كليهما رسول الأرواح، للسمو،.. أثر رؤية عمل فنى، أو سماع قطعة موسيقى، أو القراءة لنصّ أدبى، على حد سواء. 
ولعل هذا يظهر فى جماليات الفنون كلها، ومنها الفنون الدينية، التى تخاطب الروح، مؤثرة فيها، تأثيرا بالغ الأثر، أيا كانت العقيدة، منذ تاريخ الإنسان البدائى، ومرورا بالديانات السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام.. فمنشأ كل هذه الفنون، هو السعى للسمو الروحى، وإرتباطها بالمعتقد الديني، والتعبير عن وجهة نظر، ورؤية الإنسان للكون والحياة، من حوله، وفق هذه العقيدة، فى أبدع صور التعبير المادى واللامرئى. 
وعلى سبيل المثال، يكفى الإشارة إلى الفن الإسلامي الفريد، وما يزخر به، من نقش وحفر على الخشب والجدر الحجرية، والخط العربى بكل أنواعه، والأرابيسك، وغيرها من أنواع الفنون الإسلامية التى تتعدد أشكالها، وصورها الكثيرة.. تخلب اللبّ، آسرة الوجدان. ومنها الفنون المادية كالرسم، وعمارة المساجد، أو فى بناء العمائر والقلاع والدور، ممّا امتازت به الحضارة الإسلامية.. وحتى فى الكتب والمخطوطات.. وأيضا منها، النحت والفخار والنسيج والزخرفة، التي امتازت بها الفنون الإسلامية. ومن أبرز موادها المستخدمة الرخام، والآجر، والفسيفساء، والجصّ، والخشب، والفخار والخزف، والعاج.. بإختصار، صناعة الجمال ظاهرا وباطنا، هي وظيفة الفن الإسلامي، فى أى شكل فنى، بمضمونها، بمختلف أنواع فنونه وأشكالها، معبرة، عن حقائق الوجود من زاوية التصور الإسلامي، وإستلهام روح العقيدة والحضارة والثقافة الإسلامية. 
كنت أفكر فى هذه المعانى، وتفاصيلها، أثناء كتابتى لمقال عن الفن، مردفا به شئ، عن فلسفة الجمال (ضمن مجموعة مقالات شراع سفر). وهو مقال، أنشره قريبا، كاملا، بإذن الله تعالى.. وألفيت نفسي، متطرقا لفصل من رواية غصن الحياة، فعدّلت به فقرات كاملة، تأثرا بفكرة المقال عن الجمال، فى الطبيعة، ودورها، كخلفية، فى مشاهد تدور أحداثها على ضفتى نهر النيل، بمدينة ملكال السودانية، عاصمة ولاية أعالى النيل، الحدودية بين الجنوب والشمال. وهى نقطة التقاء فروع النيل، من بحر الجبل وبحر الغزال وغيرهما، لتكوين النيل الأبيض، الذى يصل إلى الخرطوم، ملتقيا بالنيل الأزرق، ليكوّنا معا شريان الحياة. ومع الإنفصال إثر الصراع العنيف الطويل فى السنوات العشر الماضية، قبل أن تصبح ملكال، حاليا تابعة لدولة الجنوب. 
وملكال هذه، هى أولى النقاط التى وصلت إليها بعثات الرى المصرى بجنوب السودان، مكونة من عشرات المهندسين والعمال والإداريين، حينما أُرسلت فى عهد الملك فاروق، مدركا قيمة بلدان منابع النيل. وقد أقامت الحكومة المصرية فى عهده،  مقرا دائما لها، فى ملكال، يضم مقياسا للنيل، ومرسى نهريا، وغير ذلك. وللبعثة أراضٍ ومبان، فى ملكال تمتد من شمالها إلى جنوبها، بمحاذاة النيل الأبيض، وأراض من شرقها إلى غربها، بأفضل المواقع الساحرة، منذ ما يزيد على ثمانين عاما، على ضفاف النيل.. حيث أجمل مكان يمكن أن تراه منه.. وهذه الأجواء، لها عبقها، وجمالها، فى الرواية. مجمل القول، أن الفن يستوعب المكنون، وتستوعب به مخيلتك الغائب، عبر ما لا يُرى قبل أن تراه، من جمال.. تلمسه فى نفسك. وبدون تذوق جمال الفن، لا يتكون أبدا، وجدان للأديب يدفعه للإبداع، ولا تندهش، لأفكار فى الكتابة، خالية من هذا الأساس الجمالى.
وإن إفتقد قلم الكاتب تلك الروح، الوهاجة، فلا تنتظر أمرا، فى مضمار الإبداع الأدبى. إنه وهج القلب، وإشعاع الروح. تماما، كما لو فقد الفنان إلهام ريشته، على لوحته، فلن يبدع أو يرسم، فلا روح للألوان ولا شئ نابض بحياة، بدون هذا، قط. إن أروع أعمال الفن العالمى، حتى الأعمال التى تتعلق بالدين والعقيدة منها، أو تلك التى صوّرت الحروب، ومآسى البشرية، وهى أعمال ترجع لقرون مضت، كأعمال مايكل أنجلو.. ومن قبلها الأعمال الفنية التي تخص القرون الأولى التى تصوّر الحياة الروحية والفكرية، فى تاريخ الكنيسة الشرقى والغربى، بالكنائس والأديرة والكاتدرائيات، وحتى عصر النهضة.. كلها أعمال فنية، لها هذا الأساس الجمالى الملهم للمبدع. سواء فى العمارة، أو غيرها من أنواع الفنون. وعلى هذا، كل جمال حضارى، وفن أصيل، وغيره، يثير شجون الروح، ويحلّق بها، فى عوالم أخرى. وعلى نفس الشاكلة، وبدون هذا المفهوم، أيضا، لن تكون هناك جماليات فى الكتابة أو النصوص، تؤثر على أنفس متلقيها. ومن هنا يمكن القول، أن العلاقة بين الفن والأدب والجمال الناصع، لا يمكن إستيعابها ببساطة، فى مقال، وهى صلات متينة، ووشائج قوية، يحكمها إطار واحد، وهو التأثير فى النفس البشرية، بأثر، لا يزول. وهو ما يجب أن يتوافر لدى كل فنان، ومبدع. الأمر الذى أحاول، جاهدا مع نفسي، أستحثها، مرة بعد أخرى،، ممتثلا لمعناه، وأنتهجه فى كتابتى، ومنها ما يتعلق بالمثل الذى أشرت إليه، فيما يتعلق بزمان، ومكان رواية (غصن الحياة) اللذان يتراوحان، فى فترة زمنية، تستغرق قريبا، من خمسة عقود.. سنوات طويلة، وأماكن عديدة، لابد أن أستشعر، وأنا أكتب عنها، وعما يدور بها من أحداث، من جماليات للمكان. مما أثار شجونى حيالها، هذه الفكرة لمقال الفن والجمال.. وهو المقال القادم، بمشيئة الله تعالى، تبارك اسمه..
.............................................................


ومضات جمال**
----- خالد العرفي
الجمال ومضات.. تظهر من خلال فن الوصف والرؤية، وزوايا ومستويات التعبير، سواء أفقيا أو رأسيا، بين المفردات الفنية، والعلاقات التبادلية فيما بينها، كما فى الجماليات المتعددة، التى أعرضها من حين لآخر، من فنون شتى.. وتشرق روح الجمال، عبر القصّ المتقاطع، وتداخل الضوء والظلال، وتتوهج مع تباين درجات الأبيض والأسود، وبقية الألوان.. آنذاك تنبلج رؤى اللاوعى بعديد من التفسيرات غير محددة على الإطلاق لهذا السرد الخاص،.. وبعمق الربط الذى يدرك الإطار، وتأويل يجمع بين التفاصيل وعلاقات العناصر، فإن التأثير لا ينتهى على الحواس.. رحلة وراء أخرى، تجد العقل يبحر بين وجوه بشر، ومفردات عمارة، وملمس الأحجار، وغيرها.. وكل تفصيل صغيرا كان أم كبيرا، له دلالته، حاملا الروح على أجنحة الخيال، فى عالم جمال.. مزيد من حيرة لا تتوقف، تدهشك، وتستثير خيالك، طمعا فى تأويل وحيد، للعلاقة بين هذا وذاك، أو مصدر هذا التأثير الفريد، على العقل، ومنشأ سره الغريب، فى الروح، وعلى المشاعر.. ممّا تتخطّى  به أبعاد المكان، وتعبر معه حدود الزمان.. ولا يعدك هذا، إلا أن تقع فى دائرته العملاقة، وجولة بعد أخرى، تجد نفسك أسيرا فى زاوية درج أو تاج عمود، أو درب بازلتى طويل.. أو جانب موقد حديدى قديم، بجانب جدار.. أو طالا على نافذة حجرية، وراء سياج.. أو سابحا بهدأة موجة، سكنت شاطئ بعيد أو عانقت رصيف ميناء تغادره سفينة، وراء بحر لا ساحل له.. أو إلتقاء متناقضين يمتزجان فى مدخل مبنى، أو يفترقان بنهاية طريق... فى معبد أو تمثال أو قطعة آنية.. فى زخرفة أو نقش أو حفر..،.. كثرة من الأشياء، وعديد من مسميات قطع بديعة،.. عناصر وجود ما زال قائما أو إنقضى عهده، من بعيد،.. إنه جمال الفن الذى تقع فى براثنه، هاويا بأعماقه.. هى لغة الروح المعبّرة، وحروف نبض الحياة، التى تنطق مجتازة كل تفسير، ولا ينتهى تأثيرها، أو أثرها أبدا.. وفى رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية لعشرات الفنانين العالميين، وضعت عملا إبداعيا للغة جديدة، من نوعها أعتقد أننى صاحبها.. يمكننى أن أستعيض عن أى لوحة بعبارة أو فقرة، كروح من السماء تأتينى،..لا أعرف حقا، كل هذه المعانى التى تأتينى حينما يأسرنى عمل فنى.. فى كل لحظة، أتعلم كثيرا من الفن بكل صوره وأشكاله.. يعطيك هدوء النفس وعواصف الوجدان والشعور الدائم بالمعانى الحية... يجعل الأفكار أمامك ويعطيك الصوت والحركة وكل شئ.. أكتشفت كثيرا أننى ما زلت لم أكتب شيئا، ليس له قيمة، أو تأثير.. لو لم أشعر بهذا الإحساس.. ولا يزال الكثير لأمضى نحوه، لتمسك به قبضة العقل والروح، فكرا وأدبا وفنا..  وما أجمل القصّ، وما أقوى الإيهام، والتعبير، لهذه اللغة، التى تتباين معانيها وتتوارد، بشكل مذهل.. تسمعك ما فى العالم من حياة، وتندهش لكثرة مدلالوتها، وإرهاصاتها.. إن العلاقة بين الألوان والفراغ أو فضاء اللوحة والعناصر التى تتوزع عليها.. كل شئ يجعلك تتسائل ماذا قصد الفنان هنا، فى هذا اللون، أو هذا التكوين من تلك العناصر.. تستنطق الصمت فتهدر المعانى، فى الروح.. تود لتعرف، فيما كان يفكر، وبم كان يشعر، حينما أبدع هذا.. الحياة والموت والكون وكل تفاصيل الحياة.. وكل معنى يمكن أن تجده، حينما ترى وتقرأ الصورة، رابطا بينها وبين غيرها، بهذا الشكل، فتذهب بك إلى عالم آخر.. بعض هذه اللوحات يرجع عمره لأكثر من مائتى سنة، والبعض الآخر من القرن العشرين.. فترات تغطى تاريخ الفن.. ويتباين نوع  المدرسة الفنية الذى ينتمى إليه الفنان بعمله.. من الكلاسيكية.. إلى التعبيرية.. والرمزية.. إلى الإنطباعية..،.. وهكذا، لو تضافرت هذه الخلفيات والإنطباعات عن الفنان والعمل وموضوع اللوحة.. مع الربط والتنامى فى الخط الدرامى، للتشكيل ككل.. أو الموضوع الذى عبّرت عنه اللوحات.. تجد هذه اللغة الجديدة..تخاطبك وتمضى بك.. توقع على روحك.. تتناول المكان والزمان والشخوص، لرواية يمكن قراءتها وتذوقها، من زوايا مختلفة، وبعديد من المعانى والرؤى التى تتناغم فى الذهن، وتتآلف فى تسلسل وتتابع.. لكن للأسف ليس كل فرد قادر، على هذه القراءة الجديدة، وقد يفشل فى ذلك،... والعمل يلقى تبعية المضمون والرؤى المتنوعة، على ثقافة القارئ والمتذوق للفن والجمال، من هذه الناحية.. وربما هذا أفضل كثيرا، لإنعاش الفكر والتأمل فى عالم الخيال.. فللفن بكل أنواعه، أهمية كبيرة فى تكوين وتشكيل وجدان الأديب، كالفنون التشكيلية، والموسيقى، وغيرها من فنون.. بل هو كذلك حتما، مما له بالغ الأثر والقوة فى الإلهام والخيال، ووهب معين لا ينضب من الأفكار، للكاتب .. وبلا ريب هى من جماليات الفن وعلاقتها بكينونة الأدب، وفحواه.. وقد سبق أن وضعت بعضا من هذه المحاولات بصور متنوعة من الفنون، المختلفة.. محاولا خلق معان جديدة، وبتذوق جديد.. وقد تابع قراء ومتابعو المدونة، من هذه المحاولات بصور من جماليات متعددة، ومنها جماليات الماضى المسماة جماليات بحر، من تراث التصوير الفتوغرافى.. 
وهذا هو رابط ذاكرة البحر بالمفهوم الذى إختصرت الإشارة إليه آنفا (رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية).. على الرابط الآتى
 http://sadaroooh.blogspot.com/2013/09/blog-post_15.html

الفن والروح
" قلب الرؤية"
---- خالد العرفي 
إنها فكرة الجنون، الرابضة فى كل عمل، شكلا ومضمونا. تصدمك بالجمال الصارخ. تأسرك من الوهلة الأولى. تدع نفسك، لتغوص فى عمق العمل. تكوينات من معان، لا تراها إلا بإحساسك. فجأة، وخارج حدود الزمن، يجب عليك، أن تكون على أتم إستعداد، لإبحار أسطورى، بعينيك وعقلك معا.. تدهش الروح، برغبة خلاص من هذا العالم، بتناقضاته الغريبة. بعيدا عن كل معتاد، ومعقول. ترى الحجر، وتسمعه ينطق، دابّة فيه الحياة. تشكيلات ضد الجمود، تغاير كل شئ. تحترق فيها، رغبة فى مزيد. تتحسس كل تفصيل، بروحك.. بين الحلم والواقع. تسافر إنفعالاتك، إلى مجهول قصى، فى خيال، يجمح بك. ترهف سمعك، عبر مدى يتسع، ويتمدد لأنفاسك، وشهقاتك، متخطيّا وعابرا آفاقا. هذه هى اللوحات الفنية، التى وضعت، من قبيلها الكثير، الفترة الماضية. وهى، مما أعشق حقا. كل لوحة لها خلفيتها النابضة، كأنها تلقى بك، من ارتفاع شاهق. لكنك تهوى فى الخيال، ضد الواقع، ضد كل شئ. تستشرف به عالما أكثر جمالا، وإنسانية.. تستطلعه بروحك، حتى لا تفقد تفصيلا، من تفاصيله، وملمحا من ملامحه المختلفة، بين ظلال خفيفة وثقيلة. دلالات غامضة، غير محدودة. تسيطر على كل كيانك، بهوية وشكل غريب. لا تستطيع أن تلملم روحك بعدها، إلا وأنت تسدل عينيك، بين الأبيض والأسود.. فى عمق التضاد. بعيدا عن كل لون آخر، من الألوان. 
تتدرج بك، شيئا فشيئا، لتسرقك من نفسك، آخذة بك، لمسافات بعيدة، لا محدودة. ربما لا تعود، منها، روحك، التى انصهرت. وتجد نفسك، وقد تلاشت، بين الظلال العميقة.. لا تدرى كيف تم إستخدام الظل والضوء، هكذا، فى قلب الرؤية، لخلق هذا الجمال المشرق. هارمونية، تأخذ بوجودك. تدور به، بصورة، لا تعهدها، فى نفسك، ولا تنتهي.. 
ولا يعرف كثيرون كيف هو جمال الماضى وروعته، عندما تنقله أنامل الفنان. عصور مضت وتفاصيل فنت من الواقع. سجلت لحظاتها ألوان وظلال.. وإستخدام للضوء لا يمكن أن تراه، إلا فى مثل اللوحات الزيتية.. لانعرف، إن كان هو الضوء الذى يظهر الألوان، أم الألوان هى التى تظهر الضوء. وتسمع فيها موسيقى من نوع خاص، لتحيي النفس، وتسافر فى الزمن.. كثيرا ما قضيت وقتا، على فترات متباعدة، فى تأمل مثل تلك اللوحات المدهشة. مدن، ومناظر طبيعية، ومشاهد إنسانية، وبورتريهات بشرية،.. وقائع وأحداث. أحتفظ بها.. وكم أهدأ كثيرا، عندما أعيش فى تفاصيلها، وألوانها. ترينى أماكن لم أرها، وتحيينى فى أزمنة لم أعشها. كم هى دهشة أن أرى الشرق قديما. كل شئ أعيش تفاصيله. أنظر للوحة كأنى فيها.. الألوان. الأشياء. الخلفية. النمارق. الستائر. الملابس. الأثاث. ملامح الوجوه. الحركة.. كل شئ يتناغم فيما بينه بألوانه ومكانه وأتناغم فيه، متنقلا بين تفاصيله المدهشة، وأنا جزء منه.. هدأة وسكينة وإحساس، لا يشبهه إحساس.. 
وحتى اللوحات، التى سجلت مشاهد لأوربا، فى العصور الوسطى.. بصرف النظر عن الدين والعقيدة.. رأيت ما سجلته أنامل الفنان، لمعابد وكنائس وشواهد قبور، إستوقفتنى كثيرا. من لم يرَ فلورنسا وبيزة وجنوة وغيرها من مدن إيطاليا، فى هذه الفترة، لم يرَ جمالا لعمارة ولا شعر بجمال الفن، وروعته.. هذا موضوع كبير، لا يكتب فيه أسطر.. يحتاج لسِفر بمفرده.. أما عن البورتريهات وحكايات الفنانين الكبار، معها، فمشكلة فكل كان له ملهمة.. ويكفى أن يقع بصرى على لوحة، تسرقنى من نفسي، وأتمعن، وأضع نفسي فى نفس اللحظة، التى رسمتها فيها يد الفنان، بروحه ودمه.. لا يمكن أن تشغلنى تفاصيل الوجه فقط، ولكنها تصبح تعبيرا فى مجمله، ترى من خلاله روح الفنان، وروح العصر.. جمال وروعة.. وربما ألهم الفنان مكان، أو لحظة تاريخية.. ومن ذلك اللوحات، التى سجلت الحروب الصليبية. وقد جمعت منها كثيرا، من باطن المراجع والمصادر القديمة، حتى كدت أسمع رحى الحرب، وهى دائرة، وأسمع هسيسها.. لوحات قبل أن تعطيك الروعة، فى تفاصيلها، فهى تأسرك برهبة، تتسلل إلى كل كيانك.. كم أتمنى أن أرى كل ما أبدعته يد الإنسان، الذى سجل روح الإنسان الحقة.. وأحيانا لا أصدق نفسي وأنا أحيا فى مثل تلك اللوحات، التى تأسر الروح. تصبح أعظم من الرواية والشعر، وكل فن أدبى .. فهى تطلق عقال العقل، وتفك أسر الروح.. لا أنسى أبدا اللوحات، التى سجلت القدس قديما، أو كما يسمونها أورشليم، وكما نسميها نحن بيت المقدس.. حتى سيناء بطورها وجبالها وشعابها وأوديتها.. رأيت تفاصيل قديمة مذهلة، لها لم يرها كثير من المصريين، ولا توجد إلا بين دفتى الكتب القديمة، بروعتها وجمالها وروح عصرها. وعلى رغم، أن للوحات الزيتية سحرها، وللصور الفوتوغرافية القديمة جمالها، إلا أن هناك فرق كبير ببين جمال كل منهما وسحره..  بين الظلال والنور، والأبيض والأسود، بكل التباين والتفاوت والإختلاف، فى الدرجات.. فهذه شئ، وتلك شئ آخر، ولكل جماله وعبقه.. أما عن مصر بقاهرتها ومدنها خاصة أقليم الصعيد، فقد وقفت على شئ من ذلك كثير، فى الكتب القديمة، خاصة كتب الرحالة.. يذهل له من يراه، ويتمنى لو عاش فى هذه الفترة، من الزمن، ورأى تلك التفاصيل. 
أما عن الثغر.. الإسكندرية بتاريخها، فلا حديث يجدى عنها إلا مع رؤية تلك اللوحات فعلا، التى سجلت ما فيها.. ثم مع بدايات التصوير الفوتوغرافى، ومع وجود الجاليات الأجنبية فيها، سكنا وعملا ورحلة. التى سجلت سحر وجمال الإسكندرية، آنذاك. فقد رأيت الإسكندرية منذ ما مضى.. ورأيتها منذ قرون غبرت.. ولا يمكن وصف إحساس الإنسان وشعوره، وهو يرى مدينته، منذ مائتى عام مثلا.. كل ركن فيها .. كيف كان. الجمال كما هو موجود فى الطبيعة، بقدرة وإبداع البارئ البديع.. فقد منح الإنسان، ما يعطيه ويبينه جمالا، تسخيرا له من الله، وفتحا للعقل والوجدان البشرى، الذى أبدع بقدرة الخالق. تراه الروح، لا العقل فقط.. 
شئ لا يمكن إلا أن يشبع جميع الحواس، والجوارح، فتستكين معه الروح، وتهدأ .من لم يتذوق الفن، ويرى مافيه، ويلمس ما له، من جمال وروعة، فليس يحيا بشئ
----------------------------------
من
أسرار الضوء والظلّ
--- خالد العرفي


منذ فترة بعيدة، تعترينى دهشة كبيرة، لم أستطع إلا الإستسلام لجمالها، حيال تأثير التصوير الزيتى والضوئى.. من الصعب ترك فرص مثل تلك التى يمنحها لنا هذا النوع، من الفن.. فلا تكن أبدا مصادفة، وأنت ترى زاوية إلتقاط تتكلم.. أو عدسة ناطقة بلغة، لا تندثر.. بحروف تتسلل لعقلك، لتكون أنت كلماتك،.. تصوغ منها جنبات عالم خاص، آسر.. منذ هذا الحين، كنت على يقين أنه الجمال، ولا غيره.. عبقرية الرسم، والتصوير.. أقول لنفسي الآن: فقط أستطيع رؤية عيون رأت ما لم أراه، فترينى.. تنقل لى، من أسرار أزمنة  ماضية، وأمكنة كائنة أو مندثرة، ونفوس غريبة.. من أسرار الضوء والظلّ.. والألوان.. تتعلم معها لغات لا ينطق بها، إلا الإحساس والشعور.. ولا تفهمها إلا الأرواح.. تميّزها وتعيها.. للجبال لغة.. للصحارى لغة.. للأنهار لغة.. للغابات لغة.. البرارى.. الطيور.. البحار.. الشطآن.. الورود.. الظلام.. النور،... الليل.. النهار.. لغات، ولغات،.. لها عبقريتها وتفردها وخصوصيتها. لغات للوجود والحياة.. تلك روعة الفن، وروعة ما ينقله لك، من إحساس.. ولا شك أن قيمة كل عمل فنى، ترجع إلى ما يُشيّد به من معنى،.. له من النتائج ما يخرج عن كل ما هو مألوف، من تصورات تقليدية.. الأمر الذى يجعل للحياة دلالات جديدة بتقليد الواقع إنشادا للكمال.. ومن هذا القبيل فليس التصوير الفنى مجرد موادا للمتلقى، بقدر ما هو أفق ينتقل إليه.. تتفتت عليه أثقال الحياة نفسها وإخفاقاتها.. وتذوب على صخرته قتامة الواقع.. وتجري فيه دماء حقيقة ما، تسرى عبر هذا المتخيل.. وفي الوقت نفسه، يأتيك صوت الجمال هامسا، بتلك اللغة الساحرة غير المرئية، إلا للشعور.. فتتفاعل معه النفس البشرية، بإعمال العقل، لمعرفة مدلوله وجوهره، جمعا بين الرؤية الحسية والفكرية.. وبدون القيم الجمالية، وبكل تأكيد سيكون العالم أكثر وحشة،.. تحتله حالة تشبه الشلل،.. وهذا أحد أهم أسرار الإهتمام والتلقي، مما يعطي للحياة قيمة مضافة. وعلى هذا فإن التعبير الفنى ووجهة نظره، يعتبران قرينان للموهبة، ولغة تنبئ عنها..

ومن هذا القبيل، التصوير الزيتى فى اللوحات الملونة والبورتريهات المرسومة، حتى إنتشار التصوير الفوتوغرافى، حيث تحولت الذات إلى موضوع، للكاميرا.. علاوة عن أنواع الفنون التشكيلية الأخرى، على وجه العموم.. ومنذ أن تقع عيناك على عناصرها، تنقلك إلى ما لا نهاية، من تأثيراتها.. لحظات لا تحدث إلا مرة واحدة.. تهبك مشاعر تحدث لمرات عديدة،.. تخترقك.. من العام إلى الخاص.. ومن الذاتية إلى المطلق.. ومن الواقع إلى الخيال.. نصوص من نوع خاص، تستغرقك دوائرها.. وتترائى لك بأسرارها،.. وقد تتركك بلا معنى.. وقد يستحيل عليك إدراك دلائلها وإشاراتها إلا بشئ من التأمل، ما يحيل اللحظة إلى ديمومة من ثنائيات التفسير، وتأويلات حائرة، بين هذا التأويل وذاك، منفصلة بهويتك.. ولا يمكن إدراك جوهرها، إلا بحّسّ مرهف، وشفافية نفس.. وقد تتطابق مع ما يدور فى النفس من إنفعالات ثقيلة كانت أم ساكنة.. تبعا للمواقف والحالات النفسية ..  
وما أشد غرابة أسرار الألوان وما تحدثه فى النفوس والأرواح، من تأثيرات لا مرئية.. تحيل الكآبة إلى سرور.. والإنشراح إلى إنقباض.. عديد من مشاعر متنوعة تنتاب الإنسان، وهو يعاين عمق أسرار الفن، عابرة به إلى سكون وهدوء، أو إلى حركة وإنفعال.. لذا تستخدم ألوان معينة دون غيرها، فى علاج المرضى النفسانيين.. ولذا أيضا، تُطبق أنواع معينة، وبدرجات محددة سلفا، فى طلاء جدر المصّحّات العقلية والمستشفيات النفسية.. هذا الإلتحام الفريد فيما يحدثه التزواج بين ألوان معينة، ودرجاتها.. كما بين الضوء وما يحدثه، من عمق التأثير، لظلال متفاوتة الدرجة.. بل ويتوقف أمر التأثير وشدّته، على مصدر الضوء نفسه.. من شمس نهار ساطعة، إلى قمر منير، فى ليلة دهماء،.. إلى ضوء غير طبيعى، فى بيت أو قاعة أو طريق.. بل ووقت هذا الضوء وشدّته وزوايته، رأسية كانت أم أفقية.. وأيضا من أين يأتى الظلّ ومنبعه.. على ماذا يقع، على أرض، أم على جدار.. ونوعية كل منهما.. الظلّ على الأحجار، غير الظلّ  على الأشجار.. أشكال الظلال نفسها،.. هباءاتها.. نثراتها.. وهى تتجمع، أو تتجابه، أو تتشوه.. تركزها.. أو تلاشيها.. كل ما يثير الإهتمام.. تماما، ما تنشده ممّا لم تراه، إلا حينما ترى الأمر كما تراه، فتأخذك غرابته، وتختزل لك العالم والحياة، فى لحظة حاضرة شديدة الغموض، ..كما فى مواجهة بعض اللوحات الزيتية المرسومة، حيث لا يمكن أن ترى ألوان لوحة إلا كما تراه فقط، فتقول أين مثل هذا الأخضر عمقا ودرجة.. أو أين لون هذا الجذع، فى هذه الشجرة.. أو كما فى درجات بنّى، فى مفردات عمارة، بناية وتشييدا.. أو كما فى الصور فوتوغرافية، باللونين، الأبيض والأسود.. فيصبح الضوء هو العنصر الرئيسى، مع موضوع اللقطة، وزاوية التصوير الماثلة أمامك.. بإختصار، لا يفيدك تجرد من تصوراتك المسبقة  فى حالات آسرة، مثل هذه.. تجد نفسك أسيرا للحظة، تتسلل إلى نفسك خفية، كتسلل الأطياف الخافتة، والظلال الباهتة.. تثير إنفعالات، لا توّد مغادرتها نفسك، أبدا.. وربما تقهرك بجمالها.. كيف تتوالى هذه الرغبات الجامحة، ولا تستطيع حيالها مقاومة.. وكيف يشعر بالرضى، من لا يتذوق جمال الفن.. والمعضلة والمأزق فيمن لا يفهم كيف يفهم ما يراه، من لوحة أو صورة مثلا.. والناس فى فهمها متباينة، تباين نفوسها وأرواحها.. وبدون الإحساس، لن يكون هناك فهما.. 
ومن أروع المؤلفات فى هذا الصدد كتاب (الغرفة المضيئة) للكاتب والناقد والفيلسوف الفرنسي الراحل "رولان بارت" وهو من أهم أعلام النقد، التى شغلت الساحة الثقافية، والذى اتسعت أعماله لتشمل حقولا فكرية عديدة وله تأثيره في تطور علم الدلالة.. والكتاب مقاربة ومقياسا للمعرفة الفوتوغرافية.. إذ يرى أن صورة ما، يمكن أن تكون موضوعا لثلاث ممارسات، أو ثلاث إنفعالات أو مقاصد: أن تفعل.. أن تتحمّل.. أن تتطلع.. وهذا أو ذاك ممّا تمَّ تصويره هو الهدف أو المرجع.. ودون إستطراق، يرى فى نهاية الأمر، أنه لا يتعامل مع الصورة، إلا من واقع خبرتين: خبرة الذات المشاهدة وخبرة الموضوع المشاهد.. وإنه قرر أن يسترشد بوجدانه كما يعيه.. وله مقولته فى ذلك (كما أن الفوتوغرافيا غامضة الدلالة قليلا، سوى عند كبار رسامى البورتريهات، لا أعرف كيف أجسد ما يجيش فى نفسي..).. فى حقيقة الأمر، قد تدرك وبصعوبة أكثر، مثل تلك اللحظات الحادة الصاخبة، كمغامرة،.. يأتى بها التصوير الضوئى فى موضوعاته المصوّرة، مثل الأحلام التى تلفت إنتباهك، وتثير إبتهاجك.. تنجذب إليها،.. تتقصى جوهرها، فتستنطق مشاعرك.. تتحقق من أمرها، فتريحك.. تلاحظها.. تفكر.. تستوقفك، بحضورها المتزامن، فى النفس.. وعلى الفور تتضمنك داخلها.. وكما قال الشاعر صلاح عبد الصبور (الفن هو امتلاك ناصية الأحلام).. ومنها، ما قد لا تعرفه بعد، رغم أنها فى كل مكان، بفوضويتها.. وعلى النقيض، منها ما قد يكون كتأثير أحلام مزعجة، تنفر منها، كما الشعور بالموت.. وقد يردّك جمال الفن، إلى نفسك.. ينطق، بسريرتك الدفينة.. يكشف، عن مكنون ذاتك.. وتلك أيضا من عبقرية الفن، وأسرار علم الجمال، وعلاقتهما بالنفس البشرية.. مما يسمّي فى حينه، وحقيقة، الإبداع.. وحتما لا يكون شئ أكثر دهشة وعمقا فى الوجدان، مثل تلك اللحظات الباهرة، مثلما تماما، ما يحدثه الأدب، من تأثير، سواء نثرا أو نظما..، كما أن هذه الأسرار المتجانسة، من علاقة الفن والأدب الوطيدة، وتأثير كل منهما العميق، على النفس، وفى الروح.. ممّا يثير الإهتمام الإنسانى بكليهما..
---------


(يتبع..)