سرماديا

سرماديا

متفرقات من رواية



صفحات متفرقة
 من مسودة رواية 
(جذور)
-------- خالد العرفي


فى مواجهة صفحة البحر مباشرة، إعتدت الجلوس فى حضن تلك الصخرة. لا يفصلنى إلا أمتار قليلة عنها، وأحيانا أمواجه.. نظرت إلى أعلى، من ناحية الطريق خلفى،.. رأيته، كان أقصر مما يبديه ظله الواقع أمامى،.. توقف وقد استدار محملقا، فتبينت أن له ندبة طويلة، على طول جبهته، تحت شعره الذى يلتصق بها.. بدت دهشة على وجهه، قبل يبتسم ابتسامة عريضة غريبة، فى مواجهتى.. شعرت أن المكان كله أصبح ظلالا، يشبه قميصه الرمادي.. ضيقا مخنوقا، رغم رحابة أركانه المترامية.. كان التنفس صعبا، لا يمكننى إلتقاط أنفاسي.. كان لا يزال غامضا، كاعمأق بحر داكنة، ليس لها إتجاها.. وقد إبتلعت عاصفة هوجاء، فى باطنها، ألوانه الخضراء والأرجوانية والزرقاء. على ما يبدو فى لا نهاية،.. لم يتبق غير الأسود، رداءا لحديثه.. لم يكن تعارف بيننا، قد تم بعد.. بدأ يشق طريقه مرة أخرى نحوى. بدا شاحبا بشكل مطرد. جلس القرفصاء، وهو يتطلع إلى أسفل، في نهاية جذع خشن.. وعلى الجزء الآخر، كانت هناك ألسنة لهب، لا زالت تتطاير، من حريق لم يخمد. وقد غير الدخان ملامح وجهه.. وترددت لحظة، إلا أننى سألته:
  " ما اسمك؟"
  " غريب"
وتابع بإبتسامته الجامدة.. متحدثا مرة أخرى:
  " لم أر أي أشخاص آخرين غيرك هنا ؟"
  " وهل يجب أن يكون ؟"
  " هل هناك شك في ذلك؟"
هز رأسه قائلا :
  " على الأقل هذه هي أمواج البحر. أعتقد أنها لا توجد في أي مكان، بهذا الشكل الدوامى، إلا هنا..."
وفكرت للحظة قبل أن أجيبه:
  " أعتقد ذلك" 
وقد أدرك بعد ذلك، تغلبى عليه، بالصمت..
 -------------------
ما انقضى على وقت طويل، حتى سنحت لى فرصة أخرى، لتأكيد ظنى. حينما ظفرت، بصدفة غريبة مفاجئة. ساقنى القدر، إلى أن لقيتها، هى من ستلقى محاضرة، صبيحة هذا اليوم.  كانت كما لو كانت تنتظر أحدا. لكن، لم يتقدم أحد لسؤالها، عن الطحالب. الناس عادة لا تحبها. تماما، كما لهم، لا يروق، مجرد ذكر الأفاعى. .العناكب. الطفيلات. والقوراض. لا أعلم، لماذا إختاروا محاضِرة علمية متخصصة، فى دراسة الطحالب، بمؤتمر، للطب النفسي. ففى الثانى من شهر مايو، كنت قد تلقيت دعوتى، قبل موعده، بشهرين. ضمن خمسين طبيبا وإستشاريا، ومثلهم، من أساتذة جامعات، وقائمين على أمر مراكز تأهيل، قد حضروا. قلت فى نفسي:
- " ربما تلقت دعوتها، بطريق الخطأ. وحينما جاء دورها، لم تجد شيئا تقوله، حسب تخصص علمى مغاير، بدا واضحا، ممّا تحدثت عنه..، الطحالب"..
حسنا، لم تكن، فى عقارب، ولا ثعابين. لكن سرعان ما إستنكرت، ما حادثت به نفسي. رفضت هذا الإحتمال. فوفقا لمعطياتى الحالية، ووجود في ذلك المكان، الأمر لم يعدو عن كونه مجرد محاضرة علمية دقيقة، عن الطحالب، أمام غير متخصصين في دراستها، فى هذا الوقت من الصباح. الأمر المؤكد أن إشكاليتى هذه، قد واجهت حضورا، إستمعوا مجبورين. لم يجدوا مثلى، أية علاقة أبدا، بين موضوع مؤتمر تمت دعوتهم إليه، وبين ما أنصتنا إليه صامتين، منذ قليل، فى إحدى جلساته. رأيت الدهشة، وقد بدت فى نظرات حائرة، ملأها إستغراب وإستنكار. ظهرا على قسمات الوجوه. كأنهم، يسألون بعضهم البعض، عمن دعا متخصصة بيولوجية، قدّمت نفسها لنا "دكتورة عهد الكنانى- كلية العلوم". تعجبنا، من حديثها عن الطحالب، وسبب ذلك.  
وأمام السؤال، الذى طرح نفسه، على هواجزى، إستطردت، مرة ثانية:
- " ماذا عن أمر الطحالب؟.. هل هذا صحيح بالفعل؟.. إنها كذلك، مجرد طحالب. طحالب يا دكتور مصطفى.. طحالب!"
كنت أكرر، لأؤكد لنفسي أن ما سمعت، قد سمعته فعلا. لكننى عدت، أذكر نفسي من جديد، بموضوع المؤتمر. حتى أننى أعدت قراءة اللافتة الكبيرة، المعلقة على جدران القاعة، بإطار أسود، خلف المشاركين. تشير، إلى العنوان بلون أصفر غامق، على أرضية بلاستيكية زرقاء. عنوان كان واضحا فعلا، ومحدد تماما، لا لبس فيه مطلقا (مؤتمر الصحة النفسية السابع) كذلك الجهة التى نظمته "جمعية الطب النفسي". وكل ذلك، لا يتعلق بأمر الطحالب. لا صلة له بها، لا من قريب، ولا بعيد. مرة أخرى، عدت أحادث نفسي ساخرا، أتهكم من هذه المفارقة الغريبة، بعد أن قرأت العنوان، وقد أستدرت فى مقعدى:
- "أفكار حديثة. يحتاج العالم إلى تغيير. فلتكن الطحالب. على ما يبدو، ليس هناك تناقض، فعلا بين الطحالب، والمرض، والمرضى النفسايين.."
وواجهت نفسي:
- "بالتأكيد، لا زلت لم أفهم شيئا بعد. لم أجد لها ذكر، فى أية مراجع، أو مصادر علمية، من قبل، .. هذه العلاقة الغريبة "..
مرت عشر دقائق، فنصف ساعة.. كان منطقيا أن يسأل أحد، ما دار فى خلدى، من تساؤلات. لكن، خيّم الصمت أثناء المحاضرة، وعقبها، حتى لملمت أوراقها، وهبطت من منصة الحديث. هكذا، أدركت، لماذا لم يسأل أحد، أو يستفسر، عمّا تحدثت فيه من أمور علمية، وهذه الكائنات.. كنت، مثلهم، لم أكتشف بعد، سبب وجودها، فى زحام القاعة، بيننا، كمتخصصين. وتساءلت، مندهشا، من جديد:
- "هل هو خطأ، أم أمرا مقصودا، من القائمين على تنظيم أمر المؤتمر..؟"
لا أعرف حقا، ماذا دفعنى إلى حديث، باطنى.. وعلى محمل الجد،.. سرعان ما إنتهيت، إلى قول:
- "الأمر لا يهم، ما دام هناك سبب، أو آخر أجهله، إلى الآن، لهذه المعضلة.."
على الأقل، لم أكن وحدى، فى هذه الحيرة. كان جميع من حضروا، فى نفس المأزق. يتساءلون فى أنفسهم، مثلى تماما. ولا إجابة قاطعة مع خجل متوقع، من علانية السؤال. مؤكد، خشية هذا الجمع أن يتهم بجهل، إتجاه طبى نفسي، معاصر وجديد. لم يطلعوا عليه بعد، عن علاقة الطحالب بالأمراض النفسية والعصبية. فيتعرضوا لحرج علمى، من زملاء المهنة، أمام حشد غفير. "ماذا، لو سأل أحدهم، عن وجه الغرابة البادى، والإشكالية العجيبة؟"
 لهذا السبب، قررت أن أكتشف، ما هنالك من مجهول، وتبين ماخفى، من أمر. خاصة أنها كانت الجلسة الثانية، فى أعمال المؤتمر، الذى يستمر لأسبوع، فى "فندق مركيور رومانس" بوسط الإسكندرية، و إطلالة بانورامية ساحرة، على البحر..
------------------

على الرغم من أنه كان لا يزال غير واضح لى، إلى أى مدى، أصبح تعلقى بها، كنت أتسائل: "كيف تولد مظاهر هذا الشعور، بشكل خاص. غير مكترث بعاطفة خارقة تعمّ النفس، وتتجلى في الروح. لا يمكن السيطرة عليها.. "
كان حديثى مع نفسي، يأخذنى إلى إستنكار شديد، أواجه به، ما يدور فى عقلى، لا قلبى.  أبدا أبدا.. يجب أن تعلم أنك، لا تعرف غير إسمها فقط. بصورة مجردة، أنتهيت إلى القول أن هذا حقيقة:" لا يوجد فرصة فعلا، لمعرفة من هي، إلا بحديث معها.." وتحيّنت أول فرصة، لذلك.. لم أطق صبرا، أو أستطع الإنتظار، لآخر يوم، بالمؤتمر، لنعرف حقيقة ماحدث. داهمتنى رغبة جامحة ضاغطة، فى الحديث شخصيا معها. وقد إنتهت محاضرتها، دون أن يسألها أحد، ممن حضروا أى سؤال. رحت أفكر فى الطريقة، التى سأتحدث بها معها، وأين.. ؟
بلا تردد، ذهبت مبكرا صباح اليوم الثانى. راجعت الكشف المعد بأسماء الحضور، والجهات العلمية. أخذت أتنقل بعينى، وإصبعى، من أول اسم.. دكتور. دكتورة. دكتور. دكتور. دكتورة.. أخيرا، عثرت على إسمها "د/ عهد الكنانى- كلية العلوم – جامعة الإسكندرية".. 
كنت أمنى نفسي، أنى سأقرأ "كلية الطب" لو كان الأمر به خطأ، أو لبس. لكننى تذكرت أنها  قدّمت لنا، نفسها، بنفس المسمّى. إضافة، إلى أنها لم تذكر، ولو مرة واحدة كلمة الطبّ، أو المرض النفسي، أو العصبى. كان الأمر شائكا، وأنا أستعد لمهاتفتها، فى الرقم المذكور، بجانب إسمها. لم أعرف ماذا سوف أسألها..؟ وكانت، قد طلبت من الحضور، إذا كان لدى أحدهم سؤالا، بعد محاضرتها. لم يستفسر أى من منهم، عن سبب وجودها بيننا، ولا عن علاقة الطحالب،  بكل ما أشرت إليه. إذن، فليكن ما يكون، ليس لدى غير ذلك،..
- صباح الخير.. دكتورة عهد
- صباح النور.. نعم يا فندم من معى؟
- دكتور مصطفى صالح
- أهلا وسهلا
- هل لى فى خمس دقائق بعد جلسة اليوم؟
- يشرفنى هذا..
- حسنا، سوف أكون فى كافتريا  القاعة، الساعة الواحدة..
- إن شاء الله سأحضر
- أشكرك دكتورة "عهد"
- إلى اللقاء
- إلى اللقاء دكتور "مصطفى.."
----------


أتذكر أول مرة تقابلنا فيها. وأصبحت على مسافة خطوات. كمرآة صافية أرى نفسي، فيها. تملأ نفسى سكينة وهدأة، من نضر الحياة. كان كل شئ يناجينى بصوت خافت، فى نظرات عينيها، وكأنها تسألنى:" أين أنت؟.. وأين كنت؟.." 
كانت دهشتي مما إعترانى، من شعور، مفاجأة كبيرة لى.. لم تكن في حسبانى أبدا على هذا النحو.. كنت أراقبها بإهتمام بالغ، متسائلا فى نفسي:
- " من تكون حتى تفعل بي كل هذا؟ وماذا بعد؟.."
وما هي الا دقائق قليلة، حتى إقتربت منا نادلة، ونظرت إلينا مبتسمة، بلطف. وقبل أن تسألنا ماذا نريد، مدت يدها لتضع أمامنا قائمة مطوية أنيقة.. وغادرتنا بإبتسامة أخرى، قائلة:
- "سوف أعود بعد قليل.."
كان أمامها مرجع علمى ضخم، باللغة الإنجليزية. لم أبدا بالسؤال، لكننى إندمجت على الفور، فى الحديث معها. إستمعت مبهورا. إحتواها الجمال بنظرة حانية. إختصها بوضاءة بسمة، تشرق فى وجهها.. وكأن نسمات الصباح، قسمات وملامح، قد تنفست بين شفتيها ووجنتيها.. لتطبعها، بجوهر وفتنة شمس، توسّطت صفحة السماء..
وشغلنى التأمل، فى وجهها، عن كل شئ ألفته، كنسيم لطيف، من صبا خفيف. كانت مرتدية ثوبا أخضرا، داكنا طويلا.. وحول رقبتها البيضاء، كان هناك شريطا حريريا ورديا،.. بلون ياقوتى وقد طعم، بورود ذهبية صغيرة.. كان مختفيا تقريبا، بين موجات شعر ذهبي داكنة. تمتد جدائله الغزيرة، منسابة على كتفيها.. وكأنها قادمة من شمس، لا تشرق، إلا على بشرتها، أعلى جانبي جبينها الواسع.. لم أوفق لوسيلة، لكسر صمت اللحظة. ولم تسنح لى الفرصة لأنطق. ولم أعد أصغى إلى شئ، غير صوت الروح النابض. وكأنى نسيت كل شئ، وكل ما مضى. إرادة قاهرة، غلبتنى على أمرى. لم يخطر لى على بال، ما كان يخبؤه القدر، منذ هذه اللحظة المصيرية. لم يعلم أحدنا، بعد ذلك من مصير للآخر، غير ذلك. وقد إبتلعته فى جوفها، تلك المشاعر الدافئة والأحاسيس الجياشة. طوت معها كل لحظة، مضت علينا..
كانت تحدثنى بشغف، عن الطحالب، كمتخصصة فى دراستها. ألوانها. أنواعها. وأفضلها. وبدون أن تبدأ هى المبادرة، كانت الطحالب تقود دفة الأحداث، بيننا. فجرفتنى فوضي المشاعر، وإحساسى، بما أخبرتنى:
"-الطحالب باللاتينية " ألجا".. الطحلب نبات بسيط. يرتبط بصلة قرابة، لما يمكن تسميته بالنباتات العليا. بعضها يشبه الحيوانات أكثر"
إستثرتها، حتى تتحدث أكثر. سألتها، وأنا أظهر دهشتى، وجهلى المطبق، بما تخبرنى عنه:
 -"هل تعتبر الطحالب نباتات؟"
أجابتنى، بنبرة جدية :
- " مجموعات نباتية متنوعة. تنتمي إلى أكثر من عشرين ألف نوع"
- " أين توجد..؟"
- " تنمو في أي مكان تقريبا، إن توفرت أشعة شمس كافية، وماء، وثاني أكسيد الكربون"
وفتحت الكتاب الكبير. وقلبت بضع صفحات، لترينى صورا. وأردفت تتابع حديثها، مشيرة بأناملها، لصورة صورة، موضحة:
- "أنظر. الطحلب ليس له جذر. لا ساق. ولا أزهار. لا أوراق حقيقية. مجرد مجموعة خلايا واحدة، إلى جانب أخرى. تختلف، من حيث شكلها. حجمها. طريقة حياتها. يعيش معظمها، في الماء لتبقى حية " ..إن خرج طحلب من الماء، مات .
أخبرتنى أكثر عن طحالبها، ونحن نتصفح سويا، تلك الصور الملونة،.. ونرتشف مشروبينا الباردين. فى حين كنت أقاطعها، بقصة مختصرة، عن أحد طحالبى أقصد مرضاى.. كانت ترينى عينات، فى عدة قوارير زجاجية مخبرية، فى حوزتها.. غافلتها فى الحديث، عابثا برأس غطاء قلم الحبر، بشعيرات طحلب صغير أحمر، وهو يتحرك.. وكانت لا تزال تحادثنى:
"-الوسط المفضل للطحلب هو البحر. وهناك أنواع كثيرة، توجد في مياه الأنهار، والمستنقعات، على السواء.."
سألتها متعجبا :
" -أمعقول كل هذا التنوع؟"
أجابتنى، بلهجة علمية صارمة:
- " بلى. بالإمكان، رؤية هذا بوضوح تام. بعضها تعيش في الوحل الرطب. وعلى قشور، وأوراق الأشجار. وعلى الصخور والجدران، ملتصقة بها.."
هززت رأسى:
"-جميل. جميل"
قالت لى، وقد أطبقت بين كفيّها، على عينة أخرى:
"-أنظر. هناك طحالب طفيلية، كهذا. يعيش على حساب طحالب أخرى. وبعضها يتطفل، على بعض أنواع الفطريات. البعض الآخر موجود، في دم بعض الحيوانات "
كنت أتصنع الإنصات، مهتما لحديثها، وهى تذكر لى:
" -أنواع عديدة ومختلفة منها، تعيش في إتحاد وثيق، مؤلفة نباتا يسمى الحزاز"
وأسهبت قائلة:
- "الأعشاب البحرية طحالب، لا تحتاج إلى أسمدة، ولا مساحة. تنمو بشكل كامل، بسرعة جدا، وخلال فترة قليلة، قبل حصاد لها، يكون قريبا"
رددت، بكلمة واحدة :
- "رائع. رائع"
وكأننى إستفززت فيها روح المغامرة، فردت متحفزة:
"-أفكر فى إقامة مزرعة أعشاب بحرية خاصة بى، تحت الماء، لأراقب نموها، بطريقة مثيرة للإعجاب. يوما ما "..
فسألتها، مستفسرا :
"-ألا يوجد أثر سلبي لمزرعة طحالب كهذه. كيف تنوين إقامتها"
قالت وهى تبتسم متعجبة، من سؤالى :
"-هي الجزء السهل.. "
تبينت أن الأثر كان فقط علىّ أنا، من حديثها عن الطحالب. حالمة بالحصول على ثروة كبيرة، سوف تحصل عليها، من زراعتها، فى ماء البحر. بديل محتمل، لإستخراج وقود حيوي. كتمت تعجبى. أين ستقيم مزرعتها البحرية، لكننى علقت، باسما:
" -سوف أكون أول من يستخدم زيتك المستخرج، من  الطحالب، في سيارتى..


أشرت للنادلة من بعيد وبإيماءة، فهمت أننا سنغادر، وعلى دفع الحساب.. وغادرت المكان.. تابعت خطواتها حتى توارت، عن نظرى. وفى الصباح التالى، أخذنى فضول بداخلى غريب. ومدفوعا بقوة إحساس شديد سيطر على نفسي، شدني الذهاب إلى هناك. قررت أن أعود، إلى نفس المكان. فى نفس موعدنا. رحت حيث جلسنا، أول مرة، معا. ثم، كانت مرة أخرى، حيث إعتدتنا الجلوس، فيما بعد. أخذت مكانى، على ذات المنضدة، فى نفس ركن القاعة. إستغرق في أفكارى، وقد تبادر لذهنى، عديد من التساؤلات المحيرة،.. لم أجد لإحداها إجابة منطقية. لما أنا هنا؟. وماذا أفعل؟. أهو الحب؟. أم مجرد ما لفت إنتباهي؟. ألف علامة إستفهام، من "لما.. وماذا.."
-----------

جوا ضبابيّا غائما، كان كل ما تبقى، من هذا العام، أثر نسمات من أشهر صيف، مرت سريعا. ورياح شهور خريف، رحلت، لتستقبل بداية شتاء طويل. أتذكر، منتصف ديسمبر، وصباح نهار شتوى،.. كان يوم الإثنين. كنت قد وعدتها، بحضور إحدى محاضراتها، فى ندوة عامة. دعيت إليها، ضمن فاعليات الموسم الثقافى الشتوى. هذا اليوم، كانت مقامة، بقاعة الفنون والعلوم. تقابلنا ضُحى، فى تمام الساعة العاشرة، أمام البوابة الرئيسية، للكلية. كانت ترتدى رداءا تركوازيا فضفاضا. مطرزا، بورود بيضاء ناصعة. إزداد فتنة، مع شعرها الذهبى الجذاب، وقوام ممشوق. كانت هناك. تشبه وردة سماوية رقيقة، سامقة. ترفل فى ثوبها. بجمال طاغ، ووجه مشرق. جميلة، كضوء نهار نافذ، من خلف سحاب، غابت بين غيومه، الشمس. بهجة، تضئ عيناها. كان موعد الندوة، الحادية عشرة. قررنا التجول قليلا، قبل ذهابنا. سرنا ببطء، في اتجاه البحر. بعد منعطف الطريق، وصلنا فى هدوء، إلى رحابة أفق، بدا شاخصا، إلى بحر عميق، فى أعيننا نحن. وأخذنا المسير بعيدا، لا ندرى بوقت، يمرّ علينا. نرى ما حولنا، مجرد إسكتشات، وبورتريهات. تفاصيلها، تتحرك أمامنا، بألوانها، وأصواتها. تعكسها، أضواء أشعة شمس. تتسلل منيرة، ساطعة. تتوارى، بحياء، بين سحاب ضُحى، هذا اليوم. لوحات بشرية، وبحرية، تملأها مشاعر دافئة. أحاسيس، لا يشبهها شئ، مطلقا. إمتزجت معا، بروح البحر، يكمل بعضهما بعضا. وعلى نحو متزايد، تتصاخب ضجة النوارس، فوق الشاطئ. أصوات السيارات. إختلاف الناس. وصوت البحر.. تساءلت فى نفسي:
" -ما هذا السبب، الذى جعلنى أشعر، بإحساس غامض، تمكن من قرار نفسى، على نحو عميق ممتد.."
وقد سألتنى، هى:
" -أتسمع ما أسمعه حبيبى..؟
كنت أنصت لصوت روحها، فى قلبى.. فى عمق روحى.. أرى فيها دفئا، ووهج شئ مختلف، دون كل ما مضى علىّ.. هذه اللحظات، كان لكل شئ، فى النفس صدى غريب. شأن آخر مختلف. نرهف السمع له بكل ذرة، فى كياننا.. نتسائل، عما حولنا، من عالم، لسنا منه.. لا ننتمى إليه، مكانا. ولا ننتسب إليه، زمنا. كل منا، يسرى فى دم الآخر، حياة. يرى بعينىّ الآخر. يسمع بأذنيه. أسألها وتسألنى، حالنا.. يسائلنا البحر، ونسأله نحن:
" -ماهذا..؟.. ما ذلك العالم من حولنا..؟.. من هؤلاء، ومن أولئك..؟ ..  "أين نحن..؟"
كان الطقس دافئا، نوعا ما، بالنسبة لشهر ديسمبر. لا ندرى، أم لدفء، وحرارة مشاعرنا، وقد سرت إلى راحتىّ يدين، تشابكتا، بقوة.. كان أمرا جديدا، يشبه سيمفونية شتاء رائعة.، تهمس لنا. تعكس مكنون مشاعرنا. نصغي إليها. تلمس روحينا. بحديثنا تارة، وبصمتنا، تارة أخرى. لأعيننا بيننا، كلام. ولأناملنا، لغة. حديثا وكلاما. لغة، لا يعرفها، ولا يدركها، إلا نحن فقط.. فى قلب كل حرف منها، كنا،.. وكانت اللحظة. كأن الزمن، فيها قد توقف، بنا. لا يمضى أبدا. ولا نريده أن يمضى. وجدنا نفسينا، وقد تجولنا، لمدة تزيد، عن ثلاث ساعات. نزهة طويلة، لمسافة بعيدة.. سيرا على أقدامنا، بينما قلبانا، يحلقان، مع طيور مغردة، فى ملكوت آخر، بعيدا عن، تلاطم أمواج البحر.. لم يكن يشغلنا شئ، بالمرة، سوى أننا معا.. نحن معا. لا نصدق حقا، أننا معا. جمعنا الله، ولن يفرقنا أبدا،.. وقد تبادلنا قولها، فى نفس الوقت:
" -أتصدقين هذا حبيبتى.. نحن معا..؟"
" -نحن معا.. أتصدق ذلك حبيبى..؟ "
سرنا لمسافة أبعد. وصلنا من طريق "الكورنيش"، إلى منطقة "بحرى".. حيث كل شئ طازج، برائحة يود البحر، وصخب الصيد، ونداءات الصيادين، هدير. هنا وهناك، إيقاع تنادى الباعة، بأصواتها العذبة.. كانت نسمات الهواء منعشة. تداعب خصلات شعرها على وجنتيها، تزيدها سحرا. تخطينا إلى شارع النصر، إلى مشارف الميناء. إلى أسماعنا، تتناهى، على البعد، أصوات أبواق البواخر والسفن.. وإلتفتت بنا وجهتنا، كأننا نلف العالم، مرتحلين بإشتياق جامح. رغبة، ألا ننفصل أبدا.. عائدين، لوسط ميدان المنشية المزدحم، بمارة، ووقوف.. عبر شارع صفية زغلول، بإتجاه ميدان محطة الرمل.. حيث غرباء المدينة.. وشعرنا بحاجتنا، إلى بعض الراحة، خاصة أن الطقس قد تغير فجأة، وحلت علينا ظهيرة باردة. إقترحت عليها، أن نتناول غذاءنا، بأول مطعم يقابلنا.. وسرعان ما حملت الغيوم القاتمة الداكنة، مطرا غزيرا. سألتنى :
" -أتراها ستمطر، حبيبى..؟"
" -ليتها حبيبتى.. ليتها.. ليذهب بهذه البرودة، دفء المطر..!"
وكانت زخاته، قد بدأت تهطل، بشدة. إستمرت واحدة تلو أخرى، وقد إبتلت ملابسنا. كان شعرها، قد تموجت جدائله مبتلة،.. وعلى وقع صوت زخات المطر، من حولنا، أسرعنا بخطواتنا. أبدا، لم تفارق يدى يدها، منذ أن إلتقينا.. تكاد تلتصق بى، سائرين تحت مظلات المتاجر، وشرفات البنايات. بالفعل، حملتنا الخطوة، إلى مطعم شهير مجاور، قرب شارع النبى دانيال. يقدم وجباته المعروفة، للفئة الوسطى، من الناس.. لم يكن غريبا، أن نختار جلوسنا، بالطابق الثانى، على منضدة، بجانب شرفة زجاجية عريضة، تطل على الطريق الجانبى، لننعم ببعض الدفء، والراحة، لحين إنتهاء نوبة البرد المفاجئ، والتى إستمرت، فى الخارج.. مسحت بيديها ما إنساب، على جبينى، من حبات مطر. وناولتنى منديلا، لأجفف شعرى المبتل. لم تغادر عيناها عيني، ولم أفعل مطلقا. قلت لها، مشيرا لوجهها، ووجنتيها، بإبتسامة حانية:
" -أنت أيضا..؟"
قبل أن تقوم بتجفيف بشرتها، وخصلات شعرها، الذى تماوج.  طلبنا وجبة ساخنة، وقد إشتد جوعنا، فى هذا الجو المثير. نسينا أنفسنا. ونسينا أمر المحاضرة، تماما. ولم تذكرها هى مطلقا، إلا حينما تلقت مكالمة هاتفية، من منظمّى أمر الندوة.. إقتربت من الشرفة، ليتضح الصوت، وسط ضجيج الردهة، المحيط بنا.. قالت:
" -آسفة حقا. منعنى ظرف طارئ.. فعلا، أعتذر بشدة، لنجعلها الأسبوع القادم، فى نفس الموعد.."
كانت تمازحنى، وهى ترد،.. مشيرة بشمالها، إلى الهاتف، على أذنها. وباليد الأخرى، تكتب بأناملها، ببخار نفسها،.. على زجاج  الشرفة الجانبية البارد:
" -بحبك.. بحبك.."
إلتصق بحروفها، رذاذ المطر، من خارج الشرفة العريضة. وضحكنا بعد إنتهاء المكالمة. عاتبتنى مستبشرة، وإبتسامتها الفاتنة، مشرقة، على وجهها.. أننى لم أذكّرها، بموعد الندوة، الذى فاتها:
" -بحبك يا مجنون. أنسيتنى نفسي. أنسيتنى الدنيا كلها.. بحبك. بحبك.."
بينما كادت ضحكاتنا تننفجر، وهى تضيف:
" -لماذا. لماذا لم تذكّرنى؟.. أنا نسيت،.. وهل أنت أيضا.. ؟!"
أجبتها، وأنا، أناولها بيدى، فى فمها،.. ما إقتسمته بيننا:
" -لا تلومينى. لا تلومى علىّ حبيبتى.. لو كنت أنا نفسي تذكرت.. اليوم، لم أدرك شيئا أبدا. حبيبتى، نسيت كل شئ، إلا أنك معى.."
إستمررنا نضحك، ونحن نتناول غذاءنا.. كاد صوت ضحكنا، يعلو منا.. أوشك أن يتعالى بنا، ونحن نتغالب كى نكتمه، عمن حولنا، من أناسي.. وأخيرا، سالت حروفى، على زجاج الشرفة، وقد مددت أناملى، أنا أيضا،.. أتنفس وأكتب:
" -بحبك. بحبك. بحبك.."
وهى ترد، صداها يتردد، فى روحى.. أقرأ حروفها، ما بين شفتيها، تحركهما بها، همسا:
" -بحبك. بحبك. بحبك.."
أردفت قائلا:

" -عهد.  أتعلمين.. أننى، لا أنساكِ أبدا..؟! "
وهى تقول، بصوت وادع:
" -مصطفى.. تأخرنا حبيبى، كثيرا هذه المرة.. حبيبى. هيا بنا.."
أجبت نداها،.. وقد نهضنا معا:
" -عهد. هيا بنا.. الآن حبيبتى.. الآن.. "
وكان المطر قد توقف، مؤذنا، بمغادرتنا.. وحروف كلماتنا، لم تنمحِ بعد. تركناها، وراءنا، لتستدفأ بها، ليالى برد الشتاء،.. فى نوبات أخرى.. شئ ما هذه المرة. لمس مكنون روحينا، فى رحلتنا. مسافرين، بطريقتنا الخاصة. طريقا، إلى عالم بعيد، موجود داخلنا نحن.. مروج أودية واسعة، فى الروح، والنفس. تريضنا فيها، تلك البرهات، التى تلاقت فيها عينانا، منذ أن تقابلنا، أول مرة،. قبل أن توقظهما، تلك اللحظة العحيبة. كمن عبر لتوه جسرا، من نور، على جانب آخر، من الحياة. إجتزنا بهدوء، حقولا سماوية، لم يرها غيرنا. شئ، لا يسكن الروع معه، ولا تستكين، أبدا. تبينت شبها كبيرا، بيننا. تطابق، فى مغزى ابتساماتنا. نظراتنا،.. إذ نتبادل، من حين، إلى آخر، فى هذا الممر النورانى.. فى طريق عودتنا، مررنا، على محال كثيرة، تحتضن الزحام. يجاورها، إيقاع كل شيء. حيث يحلو السير.. حيث، لا مكان لقدم، رغم رحابة طريق، تلاحمت على جانبيه، متاجر. محلات. وبازارات التذكارات. يزخر، بباعة بضائع الأرصفة. فسيفساء ملونة، تفوح منها روائح كل شئ.. تذكر، بماض أيام وليال.. قلت لها:
- "أنظرى حولنا عهد.."
فأجابتنى بإبتسامة، تملأ عينيها:
- "حقا، لايشعر بالجمال والفن، إلا من يحب.. إنه يرى الفن بقلبه.. ويسمع الألحان بقلبه. ويلمس الأشياء بقلبه.."
وتبادلت معها حديثنا، ولم ينقطع:
- "عندما يجئ الحب، يولد معه إنسان جديد. بأحاسيس، وعيون مختلفة. رؤية جديدة، لم يسبق له إدراكها.. "
كنا نبحث عن سعادتنا،.. فى عالم آخر. قبل مائة سنة، أو بعد مائة سنة. لايهم طالما أننا معا.. نستسلم للحب، بكل جوارحنا،.. نترك فقط قلبينا، هما من يحركانا،.. وراء سعادة دائمة.. سرقنا سويعات. أو دقائق  أو لحظات. من سعادة نعيش بها، ونحيا عليها.. نسترجعها، حتى نستمر فى هذه الحياة، وتستمر بنا، لمسة بلمسة، ويدا، بيد.. يترامى، منه، لمسامعنا، صدى هارب، من أغاني يونانية، وإيطالية، وفرنسية. كأن آلة الزمن، قد خلفتها، وراءها.. ولا تزال بصماتها، ماثلة هنا.. جلسنا في هذه البقعة، في مقهي ميرانوس، الذى يقع ببناية، ذات تصميم أوروبى، بلمحات خلابة. بشرفات أنيقة، تطل على المكان، كله.. مطعمة أشكال زخارفها، بألوان زاهية، بطراز فلورنسي، إيطالي. كما لو كانت، لا تزال فى ماضى، أواخر القرن التاسع عشر، لم تغادره.. حولها، محال كثيرة. تضج، بصخب الحياة، في كل ركن.. بالوافدين إليها، من كل صوب. هذا الكرنفال المدهش، من الناس، بأنحاء المكان. تائهين،  على حافة بحر.  باحثين، عن ضالتهم، فى قلب المدينة..
--------------
الأمر الأكيد، أن حديثنا، كان الشرارة الأولي لتعارفنا، ثم فيما بعد زواجنا. كان الطريق، نحو تحقيق الرغبة والإشباع الطبيعى. إستوطنت الطحالب عقل زوجتى. أقامت فيه مملكتها. سيطرت عليها. وضعتها، على أجندة أولوياتنا اليومية. كدت أحسدها، وهى تتحدث عن تنوعها، حسب ألوانها. حمراء. خضراء. زرقاء. وصفراء....الخ،.. نوع من صبغة، تحتويه العشبة، لتقوم بعملية التخليق الضوئي. تتعرض لاشعة الشمس، والعمق، والحرارة، ومدّ البحر.. راحت الطحالب، تطل برأسها هنا وهناك، أثناء كل لقاء غريزى، بيننا. يكفى أن تبدأ هى، ثم أكون أنا مستمعا. مرة، تظهر في صورة حديث، عن مقال ألفته عنها. ومرة، تظهر في شكل محاضرة، ألقتها، فى الكلية. وأحيانا أخرى، تكون فى آخر أبحاث علمية، تخبرنى عن صدورها. ومرة، تتبادى الطحالب في أثواب ترتديها، مستوحاة من شغفها، بألوانها. أخيرا، وبشكل مفاجئ، كانت فى صورة غذاء، قدمته لى، فى عيد زواجنا. لتجاور مشاعرنا الرومانسية الحارة. أخبرتنى:
"أعشاب البحر، طحالب. أفضل مصدر للغذاء، والعلاج على حد سواء. لها قدرة على إزالة السموم، والفضلات، من جسم الانسان.."
وما لبثت أن قالت لى :
- "لذيذة جدا"
ورددت:
- "دعينى آكلها"
بسرعة أضفت:
- "أترغبين بتجريبها الليلة..؟"
- "لا. سوف أتناول شيئا من فاكهة"
عادة، ما يستثيرها الأمر هكذا، فتثيرنى بدورها. وإن أردت الإسراع من وتيرة أمر الطبيعة أكثر. لا يهم من يتحدث منا. في النهاية، بمثابة إثارة متناقضة للقاء،.. برية وحشية، وشهية، أكثر من ذى قبل. كما طبيعة أنثى فاتنة، بين يدى ساحر. وتيرة توق بالغ. عودة مرة بعد أخرى، إلى حياة ورغبة. شوق، يتفجر.  إفتقاد، فى قوة عاصفة. لا معقول، يقدم تفسيرات، أنه لا يوجد لدينا، إلا هذا النظام الحاسم. نعترف بمتعتنا، نتقلب فيها. نخوض، في خضم عالم جنون وطحالب. حقيقة حب. ووجود حقيقي، لهويتنا معا. إلى حيث ننتمى، من ذكريات نصنعها معا، ملكا لنا، وحدنا. لا يسرقها منا مجهول. وإلا صار كل شئ، لا يمكن فهمه حقا.. يصبح لا يطاق حتما. باردا مملا، بعيدا مهملا. أنفاسنا، نتنهدها. يملأنا حب لا يموت، ورغبة لا تنتهى. نشعر أننا، ما زلنا، على قيد حياة. تسير بنا، ونمضى معها. وبطريقة ما، لا نفقد إهتمامنا اللحظى الدائم. لا يؤرقها حديثى، معها، عن أشباح أنفس، تحاول الهرب بسهولة، من ماض مضطرب، يتجلى في الحاضر. يشهد على ماكان. ولا يقلقنى، مسامرتها لى، عن طحالب ملونة. يدرك كلانا، أنه لا يمكن أبدا الحصول على ماهيتنا، إلا حينما يصبح حلمنا حقيقة. في النهاية، ننطلق. لا يكبح جماحنا شئ. نستعيد طبيعتنا البرية، ومزاجنا العاطفي، بين صخب وهدوء. طبع ثابت، لا يتغير. لقاؤنا، دوما، كما فى هذه اللحظة:
- "نريد ذلك. نريد كل شيء الآن. كل شئ. معا، نفس وروح، وجسد واحد.." 
وعلى غير عادة طبيب نفسي، ينصت أكثر مما يتحدث، أقوم بمبادلتها الحديث أحيانا، عن مريض أو مريضة، من مرضاى، دون أن أسمي لها إسما. حينئذ، تأخذ الطبيعة مجراها. يتجه منحنى لقائنا، إلى أعلى، شيئا فشيئا. إلا أن الجو كان حارا، وشئ عادى، أنه كان ضروريا، أن يحدث إستثناء، هذه الليلة. ولا أنكر، أنه فى ظل صمت، كنا قد شرعنا فى الأمر، فعلا، على عادتنا. حسب روتيننا الأسبوعى، الذى كسرناه، فى لحظة، حتى فاجأتنى قائلة:
- "غدا، ينشر لى بحث جديد، فى مجلة العلوم، عن الطحالب "
لم أرعها إهتماما أكثر من اللازم. فسابق عهدنا، يؤكد أن لقاءنا الطبيعى، سوف يكتمل، وهى تحدثنى، عن مقالاتها ومحاضراتها. مثلما كل مرة، كأننا فى مختبر علمي، بكلية العلوم. الحق، أننى إعتدت، على إعتبار أن يكون هذا مؤشر جيد، لنمط حياتنا معا. أن لقاءنا الدورى المألوف يمضى، بشكل علمى ممتاز. هكذا الأمر كان دائما، طوال سبع سنوات. بين طحالب زوجتى، حيث تخصصها الدقيق، وأمراض نفسية وعقلية، لمن يرتاد عيادتى. بالطبع، وحتى ننتهى من الأمر، وإستغلالا للوقت، كلا منا يخاطب نفسه، فى الآخر. تكمل أفكار أبحاثها. وأنا، غير منقطع عن تفكيرى، فى مرضاى، وعملى. الحق، لا علاقة بين الطحالب والمرض العقلى والنفسي، سوى حديثنا عنهما، أثناء ذلك. لكن الأمر إتسم هذه المرة ببطء مملّ، وهدوء شديد، فلم أكن قد بادلتها كلمة بعد. حتى إستطردت، تخبرنى:
- "الطحلب فى بيئته الطبيعية. هذا عنوان بحثى الذى ينشر غدا.."
لم أكن قد نظرت إلى عينيها بعد، فالتفت لها، وأنا متصنّع الإهتمام، بالخبر:
- "ماذا تقصدين؟ أحقا هذا؟ مقال جديد وعن الطحالب؟ إنها مفاجأة فعلا.."
كنت أكتم، فى نفسي تعليقى:
- "مقال عادى، لطالما كل مرة تذكر لى شيئا عما تكتبه، عن الطحالب"
 ببساطة شديدة، عدت لأكمل ما كنت فيه، وأنا عاضّ على شفتى، حتى لا تظهر إبتسامة، رغما عنى. لم أتوقع أن يجذبها سؤالى، هكذا، وإلى هذا الحد.. إلى أن قامت ناهضة، مسرعة من الفراش، كأن لا شئ، كان يحدث بيننا، هذه اللحظة:
- "إنتظر. إنتظر. سأريك شيئا. لا تتعجل الأمر، أمامنا ليلة طويلة...."
لم أتوقع رد فعلها السريع، والمفاجئ، هذه المرة. كسرت الروتين المعتاد. عادة، ما تتحدث، كأن لا شئ يكون بيننا.  كدت أمسك بيدها، وأنا أهمس لها:
- "أجيبينى فيما بعد .."
لم تعرنى سمعها. أفلتت يدها من يدى. كانت تبحث عن شئ ما. ذهبت وراءها ببصرى. كنت أرى شفتيها، تمتم بشئ، لا أسمعه. ولكننى تبينت من حركتها، ما استطعت:
- "كل مرة يتكلم عن مرضاه واسمعه. سئمت من مجانين. مللت مهووسين. إنه لا يعلم أهمية الطحالب فى حياتى"
وإستمرت تزمجر، وهى تفتح حقيبة يدها، الشبيهة بصندوق أسود. بجوار المرآة. وهى تقول:
- "أين وضعتها. أين وضعتها. كانت هنا. كانت هنا.. أين ذهبت؟"
فتحت الحقيبة على عجل. فتشت بها، فلم تجد شيئا. قلبتها. بعثرت محتوياتها. القت المفاتيح بعيدا.. حاولت مرة أخرى، فلم تعثر، على ما لم تخبرنى عنه بعد. كنت أعد نفسي، بعد هذا الإنتظار، بشئ لذيذ، ألتهمه. فقالت لى:
- "تذكرت. تذكرت. وضعته، فى الثلاجة. يالى من حمقاء.."
ولم تكمل، حتى بادرت مسرعة نحو المطبخ. عبرت باب غرفتنا، وقد سال لعابى، وزادت شهيتى، مع حرارة الجو، وما كنا فيه. قلت فى نفسي:
- "لابد أنها لذيذة، وأيضا مثلجة، فى هذا الجو الحار. حتما أرادت أن تغير روتيننا، هذه المرة. لقد ظلمتها"
جاءت مسرعة، وبيدها علبة زجاجية دائرية صغيرة، قائلة بلهفة:
- "هاهى. أنظر. أنظر" ومدّت يدها، لترينى ما فيها..
قلت:
- "ما هذا..؟"
قالت:
- " إجابة سؤالك"
قلت:
- " ماذا ؟"
قالت:
- "الطحالب فى بيئتها!"
- "أو قمت من أجل هذا..؟!.. من أجل أن ترينى طحلبا صغيرا أحمرا،.. لترينى علبة زجاجية، بها عشبة، فى ماء. ونحن الآن، فيما نحن فيه "..!
صمتت قليلا. تذكرت أول مرة، أرتنى فيها الطحالب. إنتهزت الفرصة، محادثا نفسي:
- "يا للطحلب المسكين بين يدى زوجتى. كل يوم، تقتطع منه جزءا صغيرا. يالك من طحلب.."..
سمعت همسها، بنبرة خفية :
- "يا للمرضى البؤساء، وهذا الطبيب الصامت"
كان ظهور هذا الطحلب الصغير فى بيتنا، في حد ذاته، ليس سوي نذير حرب، بينى وبين الطحالب، فى دماغها. لكن القدر لم يمهلها كثيرا، فيما مضى. كان يطاح بها، بفعل الجو. عليها مواجهتها، كل مرة.. حقيقة الأمر، لا أنكر أن هذا ، كان يحقق لنا مزايا بلا حصر. أولا، يعدنا للقاء الطبيعى، وتستغله من أجل تبريره. ثانيا، وفي ذات الوقت، كان ينشط إستماعا، تعودت عليه، لمرضاى. نظرت لصور الطحالب، من حولى. خِلت تموجها، فى ستائر غرفة النوم الشفافة، أعماقا للبحر.. تذكرت، أننا لم يكن لنا طحالب بعد. أعنى أطفالا. رغم ذلك، لا أدعى أننى حققت إنتصارات كبيرة، أو سقطت فى هزيمة سريعة، فى حربى مع طحالب زوجتى. لم أنسحب مطلقا، أمام نكبة الحديث عنها. أستمع كثيرا. وأنصت طويلا، بقدر ما يتاح، لى من وقت، يجمعنا معا    .
وأردفت قائلة، كأنها سمعت ما يدور، فى نفسي :
- "لن يزيد هذا العالم السيئ، بمجانين ننجبهم فيه.. ليس بعد"
أأقول لك شيئا: 
- "ينقصنى أن أرتدى روبا أبيضا. أحضر معى أحد إو إحدى مرضاى. لقد نسيت أمرنا، وليلتنا، علينا تمرّ..  "
- "أنت لا تدرى شيئا، هذا طحلب غريب. ليس مجرد طحلب صغير عثر عليه مصادفة. هذا ليس ماء عادى. إنه ماء بحر، له تركيز ملوحة محدد. إن قل، أو زادت درجته، أو خرج منه، نفق الطحلب الصغير.. "
قلت:
- "ماذا غير ذلك؟"
تابعت قولها، بإسهاب:
- "هذه بيئته، التى يعيش فيها. أمدنا به، وبمعلومات عن خريطته الجينية، معهد علوم البحار،.. وعن الموئل الذي يعيش فيه، هذا المخلوق. كيف يحافظ على حياته، في ظل ظروف بيئة قاسية. الطحلب نفسه، حصلنا عليه، على سبيل التبادل الأكاديمى، وفقا لبروتوكول علمى.."
قلت متهكما، وقد أحضرت الطحلب الأحمر، إلى مخدعنا:
- "ينقص أن تخبرينى، أين عثروا عليه. ترى فى أي البحرين عثروا عليه: الأبيض أم الأحمر..!"
- "لا هذا، ولا ذاك.. إنه لا يعيش، إلا فى البحر الأسود، فقط!
- "يا لها من ليلة.!"
لم أدر إلا وأنا أضحك، وقد علت ضحكتى.. وأنا أتندر :
- "يا طحلبى الأحمر الصغير. أى ساحل جئت منه، أيها الطحلب!. أتراك كنت مجرد عشب بحرى، قرب جزيرة نائية.. أيها الطحلب من أين قدمت !"
وتساءلت :
- "أمعقول أن كائن بحري رخو، يأخذها منى، الآن. إنه طحلب. مجرد طحلب!"
وصاحبتها، عائدة إلى المطبخ، أمسك بيدها، وتمسك بيدى. وبيدها الأخرى الطحلب. لتعيده، مرة ثانية، إلى الثلاجة. وقبل أن تغلق بابها، مددت يدى، قبضت على تفاحة،..
قالت لى،  : وذراعى يحوط خصرها
- "أقوم قريبا بتجارب، لإستخلاص مادة فعالة منه، لعلاج إلتهاب المفاصل، والديدان المعوية"..
فرددت عليها، ناظرا للطحلب، فى ضوء مصباح الثلاجة :
- "يالك من طحلب صغير، بحجم جرثومة. خلية واحدة بيضوية صغيرة جدا. في قطرة ماء مالحة. مسكين، مصيرك، فى حبة دواء، للديدان.."
كنت فى غنى، عن إفتعال أزمة، بيننا. هذه ثغرة خطيرة، يمكن أن يتسلل منها الملل، إلى مشاعرنا، فيتوقف لقاؤنا، ولا نكمله. قد يفشل كل شئ، الآن. فهى يمكن أن تجد مبررا، لتغيير الموضوع، لو بدا منى عدم إهتمام.  ودون تهديدات، أو مخاوف من إخفاق. ومع الجو الحار جدا، كان علي أن أعترف، بأن ممارسة حياتنا الطبيعية، كانت تسير هكذا، منذ البداية، على هذا النحو الروتيني. أن طقوسنا، مازالت تسيطر عليها هذه الأحاديث وحدها. فآخر لقاء، ولا أذكر منذ متى، مع إنشغالنا مؤخرا، أخبرتنى أن: 
-"الطحالب تتوالد، فى عملية توالد غير جنسية. بانتشار براعم خاصة، تدعى بصيلات.."
وزاد إهتمامى، حينما كررت لى، وهى تنظر فى عينى، أن :
-"توالدها الجنسي موجود أيضا.. حيث هناك إنتاج لخلايا ذكرية، وأخرى أنثوية. ليبدأ جسم جديد، بالنمو.."
وعلقت، بإبتسامة، : تنّم عن رغبة نارية متأججة
- "عشب بحرى، يمنح الانسان قوة وجمال، ليعيش حياة طويلة وهنيئة ..."

في نهاية المطاف، كأننا ننظر إلى مرآة واحدة. نتعرف على أنفسنا، من جديد. نصنع لحظتنا. طريقنا، فى أن تبقى ذكرياتنا، لحظة بعد أخرى. وهمسة تلو أختها. صمتنا كلام، وكلامنا صمت.. يوما بعد يوم، ليلة إثر ليلة.. حياتنا معا.. حب لا ينتهي أبدا.. بدأت أحدثها أنا الآخر، وأنا أقضم أول قضمة، من التفاحة، وقد داعبت نسمة هواء ستائر الغرفة.. عن آخر مرضاى. مريضة باضطراب الوسواس القهري، قتلت زوجها، فى جريمة بشعة. سنوات إعتقدت أنه شبح. راح، ضحية عدة طعنات متفرقة، سددتها له. فارق الحياة، سابحا، فى بحيرة دمّ. إستطردت، وأنا أغلق باب الثلاجة. تم القبض عليها، وهى تقول :
- "أنا قتلته.. أنا قتلته"
أخذت تردد عبارات أخرى غير مفهومة، هاذية بها. تولت النيابة التحقيق، وإعترفت بإرتكابها الجريمة، عن عمد. عرضوها، على المستشفى، التى أعمل بها. وإلىّ، عُهد، بملاحظة قواها، النفسية للتأكد من صحتها العقلية. هكذا، سيطرت على عقلها، أفكار قهرية. أدخلتها فى متاهة، تعاني منها. تذكرنى بطحالب زوجتى. لا أوراق لها. لا جذور حقيقية. تمتص موادا لا تستطيع إستغناءا عنها، بكامل جسمها، لتبقيها حية. هكذا، إمتصتها الأفكار. ضللتها قتامتها. بعقلها، أودت. قادتها، إلى جريمة نكراء. كنت أمنّى نفسي،  أن الطحالب الملونة، إذا ما إندحرت، يوما ما، من عقل زوجتى، فإنها ستختفي الي الأبد. لكن هذا، سيحتاج إلي وقت آخر، حتي تتلاشي تماما، من حياتنا. هكذا دِنتُ لها، بمعرفتى عن الطحالب، وبيئتها. كنت لم أعرف عنها، من قبل، غير إسمها، فقط..
مع الوقت، إكتشفت بشكل درامي، أن الطحالب قد إختطفت منى زوجتى. إحتلت حياتنا، التى تحولت إلي ساحات فوضي طحلبية. تشعرنى دائما، أنى أسير أفكارها. فى معتقل لن أغادره، قبل أن يغادر آخر طحلب عقلها. وليس قبل أن يقضي بعضهم علي بعض، فى رأسها. تلك هى، زوجتى، وطحالبها. إنتهيت الي نتيجة، لا لبس فيها، هي أننى أشهد صراعا، بين الطحالب، منذ سنوات طويلة، خلف فوضي عارمة، فى عقلها، ربما قبل زواجنا. الأمر الذى إنعكس، على حياتنا.. كان الوقت قد قارب على الثالثة والنصف صباحا، عندما رنّ جرس الهاتف.. إستدعيت على وجه السرعة، للمستشفى، من قبل النيابة.. وحينما وصلت، أخبرنى وكيل النيابة:
- "كانت ممدة بلا حراك، عندما عثر على جثتها، ذلك الحين.. "
ثم سحب الغطاء الأبيض، من فوق وجهها، قبل أن يضيف :
- "حتى في الموت، تقابلنا أشياء غريبة.. كان لا يزال هناك إبتسامة غريبة، مرسومة على وجهها.. "
أجبته :
- "عرفتها في وقت مبكر، ومع ذلك، لا تزال غامضة،.. هذه الإبتسامة.."
 كانت بمثابة علامة مفقودة،.. لم أر لها تفسيرا غير ذلك، قبل أن يُسجى وجهها، مرة ثانية. تذكرت ما روته لى، قبل عامين، من العلاج النفسي:
- " كان تتكلم فى هذا اللقاء، عن توقع حياة، فيما بعد موتها. قوة دائمة، للعنة مستمرة، سوف تطارده.. سواء كانت حقيقية، أم لا،.. لعنة تؤثر على حياته"..
ومع ذلك، كان الشئ الوحيد المتبقي من حب قديم: رمز حقيقي للحياة. أدرك في نهاية الأمر، أن الموت كان يطلّ من عينيها.. وسرعان ما سألنى :
- " أما من علامة تخبرنا كيف توفيت؟"
إستطردت:
- "كانت تعانى من اضطرابات نفسية طويلة، سببت  وسواسا قهريا.. تجري طوال الوقت، جراء حلم، من نوع غامض، بمواجهة قبور رمادية.. مظلمة وقاتمة، من عقود سابقة.. تتناثر على حافة النافذة، في نهاية عاصفة مفاجئة،.. أرواح شريرة، هائمة، تهاجمها، مفتقرة تماما لأى قدر من رحمة.."
- "أو غير ذلك..؟"
-" أوهاما، مارستها. تنفستها روحها، ليلا ونهارا. طاردت أنفاسها. فرضت عليها حياة غارقة، فى هلاوس بصرية، حينا. وسمعية، أحيانا أخر. جنبا إلى جنب. ترتق فيها، ذكريات السنوات الأخيرة، فيما قبل، مرض نفسي عضال. ضرب بعقلها، ذاهبا بها، إلى اضطرابات نفسية.. على هذا النحو، حوصر عقلها، حتى فارقت حياتها، بابتسامة بائسة، حيرتنى معها.. "
هزّ رأسه معقبا:
- " كما لو كان المشهد طبيعيا، لهذا الحلم الغريب المأساوى"
قلت له:
- "أدركت أن ما يعود إليه، ليس يتعلق بأرواح موتى، ولكن لحقيقة هدوء تلف هذا المنزل الأرستقراطي، بأسرارها. على حد سواء، لا يدرى، لمن مقدر لها، أن تكون.. إنتهى الأمر بقتل زوجها.. "
وأسهبت قليلا:
- "رغم الشعور برياح باردة، كانت تثير القشعريرة، فى جسدها..  إكتشفت، أنه كان علىّ، أن أعيد فتح القبور، لرؤية أرواح معذبة. تحاول الهرب بسهولة، من ماض مضطرب، مؤرق لها، فى عمق ذاكرتها.. هذا ما حاولت القيام به، فى جلسات علاجها، قبل إنتحارها، فى المستشفى.. "
وإتفقنا أن أذهب إلى سراى النيابة، فى الساعة السابعة، من مساء الغد، لأدلى ببقية شهادتى.. قضيت يومى، وأنا فى حيرة من أمرى. عن ماذا..؟ ومن أين سوف أبدأ شهادتى..؟ هل عن مرضها وتاريخه معها..؟ أم عن حادثة قتل زوجها..؟ أم إنتحارها فيما بعد..؟ كانت أمامى، صورتها وهى مسجاة، وعلى وجهها تلك الإبتسامة الغريبة. تملأ مخيلتى، أينما جال نظرى، منذ رأيتها، أول مرة. نهاية الأمر، قررت أن أترك نفسى، حيثما تأخذنى أسئلة المحقق، وإجاباتى عمّا يريد معرفته بالضبط..؟
-----------------
نحن نعرف، أنه كان هناك رجل ما.. غادر، قبل قليل، من إكتشاف جثتها.. أخبرنى شاهد، قد رآه فى وقت متأخر:
" كان صامتا، تظهر نظراته القليلة، عمقا غريبا. قصير القامة. مجعد الشعر. له عينان رماديتان زاهيتان. تتألقان، من وراء نظارة، ذات ذراعين ذهبيين. كان يسير، كأنه ينحنى إلى الأمام.. "
 وفي هذه اللحظة، سيكون الأكثر إحتمالا أن مثل رجل فيما يزيد قليلا على منتصف العمر، ليس سوى رجلا غامضا، شارد الذهن، مثيرا للدهشة جدا.. اختفي كدخان، تبخر في الهواء،.. وهو ما ينبغي، أن يوصف به..
-----------
أضاف بصوت عال:
" طبيعي جدا فهذا الاحتمال يكمن فى سبب مجئ هذا الزائر المجهول في وقت متأخر جدا.. "
"ومن هو.. "
مشيرا إلى الأشباح على سبيل المثال، قال:
"أخشى، أن معظم إستنتاجاتى الخاصة كانت خاطئة.."
" وقد تكون أنت على حق سنرى ما تسفر عنه التحقيقات.."
"بالتأكيد لأكن صريحا معك، بعيدا عن التحقيق الرسمى.. أنت على حق في هذه الحالة.. فقد نكون مخطئين تماما.. أنا على ثقة أنه لا يوجد شيء من تلك المغالطات..
"ليس ذلك انما  نسترشد، في بعض الأحيان للوصول، إلى الحقيقة..
"من وجهة نظري ليس صعبا، أن نستدل عليه، بمعرفة عدد قليل من التفاصيل الصغيرة عن سمات، وسن الرجل..
"إلى هذا الحد الحقيقة غامضة.."
" الحقائق دائما توحي بنفسها عن نفسها بين التفاصيل الغريبة.."
" أهذا كل شئء؟"
"لا، لا، ليس كل شئ بأي حال من الأحوال.. وربما تكون على يقين من ذلك"
وأقترح، أن نتقابل غدا مرة أخرى.. " 
---------------
" حسنا لدينا فرصة للعمل في هذا الاتجاه،.."
"لنفترض أننا سنستدل عليه.. لا أستطيع الا أن أفكر فقط فى إستنتاج واحد واضح.. أن هذا الرجل له صلة فعلا بطريقة أو بأخرى بهذه المرأة .."
"أعتقد أننا نغامر قليلا أبعد من هذا.. لكن ليس أمامنا إلا أن ننظر إلى الأمر في ضوء ذلك.."
ارتفعت وتيرة صوته:
" دعنا لا ننجرف وراء إحتمال واحد فسوف تلاحظ أنه لا يمكن أن تكون الشكوك كلها قليلا من دخان .."
يبدو بالتأكيد ان هذا التغيير فى المنطق لن يفيدنا.. أما بالنسبة للجزء الأخير، فأمر محتمل.. نعتقد فعلا أنه كان هناك.. لسبب بسيط جدا هناك من شاهده وقال أنه تحدث فى الغرفة طوال الليل.
- على الأقل ليس لدي أي وسيلة للتحقق ممن هو يكون حتى تأتى تحريات المباحث..
- أعتقد أنني بررت إلى حد مما لدى من استدلالات.. كما أن الصفات نفسها، من بين هذه العلامات والمؤشرات، التى تركها وراءه في الليلة السابقة..
- أنت متحمس في تفكيرك الخاص أن يكون إحتمال منطقى ولدينا هذا الزائر الغريب..
- وماذا سوف يكون إذن؟
- ليس في نيتي أن أغدق فى التمنى، لكنني أعترف بأنني طمعت فى أكثر من ذلك. ليس لمجرد بغرض دراسة حالة مريضة، كنت أقوم بعلاجها حتى الليلة الماضية،.. قبل أن تختفى أنفاسها من الوجود.. أو لأنني اعترف بأنني نفسي رجل عملي واجهت فجأة مشكلة غير عادية خطيرة. ولا يسعدني أن تتاح لى فرصة لفعل غير ذلك أيضا.. وبالكاد كنت أتوقع مثل ذلك.. إنها مهنتى.."
- لا تتردد في الإتصال بى إن توصلت لشئ يفيد التحقيق..
غادرت المستشفى بعد هذه الحوار وكنت كمن قذف على شاطئ مجهول كبير..
  ----------------------
لحظة دراماتيكية، اكتشفت انه كان هناك حلقة مفقودة، بالنسبة لي.. كان ظهور الزائر مفاجأة.. كنت لا أعرف، ما إذا كان مصير المرأة، نهاية لهذا اللغز، أم بداية له..، كان من الضرورى، أن أعود مرة ثانية، إلى ملف هذه المريضة، التى لا نعرف أأنتحرت، أم قتلت.. وحتى يظهر تقرير الطب الشرعى.. لم أكن متخصص، في إكتشاف الجريمة، لكن على الأقل، كان لدى صلة، بالمحقق، لأتابع ما سوف يسفر عنه التحقيق.. وقد يكون من الأفضل، أن أعود إلى هناك. ربما أحصل على أخبار جيدة.. ففي كثير من الأحيان، أعطتني كلماته متعة كبيرة. بطريقة ما، كانت تحفزنى أساليبه المثيرة، للإهتمام..
لذلك فمن الواضح، أن ما قام به سليم تماما.. لكننى تجاهلت ما أشار إليه. سألته:
- " أي شيء لي؟" ولماذا؟"
--------------------
فى ظل دهشة غريبة، من مسحة موت، يحيق بإبتسامة غريبة.. لم تكن تحتاج لكثير، حتى تموت. كان الموت أسرع إليها، من ذلك. فبقاءها على قيد الحياة، كان نفسه مرهونا، بأفكار موت. لم تسمح لها، بتذوق ملذات حياة، لتنطلق، كما كانت تريد. شعرت كأنى أشاهدها، لأول مرة، للتو. كان الجو خانقا. جثة جلسات مسجاة. إبتسام غامض، فى مواجهتنا. لحظات كئيبة، تشرف على مقبرة، فمها مفتوح. لا ندرى ليتلقى، فى جوفه. أم ليخرج من باطنه، شئ ما. لزمت الصمت، دون أن أتكلم كلمة واحدة. مرت دقائق طويلة، أيقنت بمجرد النظر، من جديد، أنه كانت هناك فرصة، لقطع كل شك، لمعرفة سبب هذه الحالة، التى إنتابتنى.. أن أتحدث مع وكيل النيابة مجددا، الذى كانت آخر كلماته:
- "لا تتردد أن تتحدث، فى أى وقت..! "
وسألت نفسي:
- "ما الذي أفعله، غير عودة مرة ثانية، إلى ملف هذه الجثة.. أستنطق ما فى جلسات العلاج، من جديد..؟"
ومع ذلك، كان لا شيء حقا كئيب، سوى تلك الوتيرة المدبرة.. لأنها استمرت فى كل جلسة، وبعناد شديد، في إستدعاء شبح الرجل، الذى يسكنها، أحيانا ويظهر لها، فى أحيان أخرى.. بشكل حزين، قالت لى مرارا:
- " أنه يعيش وحده، في ركن بعيد، عن الساحل. كأنه في جزيرة. وفي معظم الأوقات، يجلس صامتا، على مقعد صخري، بارز من صخرة كبيرة منعزلة. ملق بنظره العميق، بعيدا في إتجاه البحر.. كأنها نظرة، لمئات من السنين، مضت.." 
بالتأكيد، شئ مثل السجن، ولا شيء غيره، كانت روحها سجينة، بين أسواره. لذا، كان هذا الأخير، أكثر من يشتبه به، في ذلك الوقت. فى سبب مرضها، ثم قتل زوجها عمدا. وفيما بعد، وإلى الآن، إنتحارها، لا أدرى، أم جريمة قتلها، هى نفسها. حتى يبين تقرير الطبيب الشرعى، وتحريات المباحث، أمر الزائر الغامض أكثر، ليلة مقتلها، فى المستشفى..
---------
في حين، بلغت الملف القديم.. كنت كمن في ريح عاصفة غاضبة.. وسط عاصفة مثيرة سوف تعلن عن نفسها .. أسيرا تحت برودة جدران عارية ذات أبواب صلبة موصدة دون مازاليج، ونوافذ صخرية في سمك هائل من الحجر.. وعلى مقربة روح تصرخ، بصوت عال بين الأنقاض، لأسباب غير مفهومة.. تمزق صرختها وتهز أركان هذا السجن الغريب.. وليس داخل غرفة.. لا أعرف، إن كنت قد تنفست، في نوع، من سعادة أبدية.. أم كانت حلقة أخيرة، من أحداث حياة أخرى قديمة جدا، وعاصفة للغاية.. بدأت في تشكيل نفسها، داخلى أنا فجأة، على هذا النحو المريب.. عندها فقط همست: " هذه كآبة.. متى تغادر رأسي، بعيدا، خارج خضم، هذه الكومة من الأفكار.." 
----------------------

شعرت، أنى لست على ما يرام. وفى نفس اللحظة، وإلى مسافة بعيدة إستطعت أن أرى وجوها ممتقعة، بالسواد متشحة. وجوه غريبة مفزعة.. أجسام نحيلة ضئيلة، هزلت بنيتها. ضاجة أصواتها، كأنها أشباح شاحبة، لقتلة وشخوص مهووسة. لقوا حتفهم منذ أمد بعيد، برهبة غامضة، فى مواجهة النور. أرواح سجينة، بين أسوار باهتة باردة. تنتشر هنا وهناك.. محدقة بها.. أيد مرتجفة. قلوب، تئن تحت ضغط، ووطأة وهن مدقع، للنفس.. كان منظرا كئيبا، يثير الألم. يأخذ بالشفقة الحانية الباقية، فى الفؤاد..
--------------------------
تلك الليلة لم يقلقتى سوى حلم، برءوس شعثة. ووجوه مشوهة قبيحة. أجساد ترتدى ملابس ملطخة قذرة.. حلم، جعلنى شديد الإرتياب.. شعرت بامتزاجى تماما، فى تلك الحيوات القديمة البعيدة. حادثونى وهم ممسكون بأحمال، يطوفون بها، بين بالات مكدسة، على رصيف الميناء.. مارة يتبادلون حديثا سقيما، فيما بينهم.. كانت أحاديث لا توافق ميولى مطلقا.. كان الأفضل ألا أعرف مطلقا ما آلت إليه.. فقد كانت تسير من أسوا إلى أسوء.. تئن، من وجع بالغ.. منزوية على حافة موت.. حاولت بتؤدة كبيرة، ألا أفرط فى تذكر هذا الحلم الغريب،.. وأنا نفسي أشعر  أنى حلم.. كان لا بد أن أغادر البقعة النى كنت فيها، فى أى لحظة.. لكن الأمر كان يحتاج منى، إلى أكثر من هذا.. أن أدّق هذه الحقيقة بالمطرقة، لأشاهد أجزائها، كلها أمامى عارية، مثل سماء جو صاف.. وكان غير منطقي، أن أشعر أن البرد القاسي، قد تواطأ، بما أحدق بنا من إقتراب غامض.. صببت غضبى، على البرد شتما.. كان آخر ما أفكر به ألا أغادر.. ولم يكن منا أحد، ليفكر أن يترك مكانه مطلقا..
-------------------
حتى فى أقرب منطقة مأهولة، من الأنحاء التى ترامت أطرافها، بعيدا عن مشارف الطابية، لم يكن الأمر أكثر من توق، إلى معرفة هذا الفارس النبيل، الذى يتحدث بلغته السحرية، مجتازا الأسماع إلى القلوب، مستوعبا بم فيه الكفاية، صفات من حضر، من قوم، إثر سماع النداء..
-----------------------
بعد فترة من التردد والصمت العقلى، فضضت ظروفا صفراء سميكة.. وقد إزدانت جوانبها بفروع الأشجار، بلون أخضر باهت.. جمعت ما أصبح مبعثرا، فى كل مكان.. على المنضدة والمقاعد.. وكنت لم أدخر وسعا فى أن أضع كل ما فى حوزتى من أوراق، فى كل مكان قد تقع عليه عيناى، حتى على صفحة فراشى. هذا ما إنتهيت إليه فعلا..
-------------------
مساءا، تبدلت حالة الجو، إلى البرودة الشديدة. وسرعان ما حملت الغيوم القاتمة الداكنة، مطرا غزيرا. نهاية الأمر، تعذر عليّ الخروج، هذه الليلة شديدة البرودة، من البيت. ورغم شعورى بتجلد أطرافى، فقد سررت ببقائى القهرى. بدلت ملابسى. وإرتديت روبا، وزوجا من الجوارب، صوفيين. تناولت عشاءا حارا، في غرفة الجلوس، ثم أعددت مشروب "كاكاو" ساخنا. ذهبت إلى حجرة المكتب، التى إمتدت على جانبيها، رفوف كثيرة للكتب، شملت الكثير، غير ما تحتويه أرفف المكتبة، ذاتها. أشعلت المدفأة الحجرية، بعدما سحبت على النافذة القديمة، ستائرها الثقيلة الحمراء القانية. وبعد قليل، بدأت نيرانها تتوهج، لتشع دفئها، فى أركان الغرفة. وشعرت بشئ، يدفعنى لتغيير جلستى، إلى بساط الغرفة اليدوى الوثير، بجانب المدفأة، بدلا من كرسى المكتب. حملت مجموعات الصور، بانتباه متلهف، إلى أرضية الغرفة، فعلا. كانت صورا غير ملونة. تتباين التواريخ القديمة، التى تعود إليها. تروى غموضا، بطريقة مثيرة للغاية، بطريقة ما، لم أدركها تماما. وبمزاج جيد، إستحوذ على نفسى، إستلقيت ومددت بقدمى، بقرب المدفأة. كان الأمر مشوقا، وأنا أقوم بتصفح كل شئ، وظلال ألسنة النار، أمام ناظرى، تنعكس على التفاصيل. يتسلل دفئها، إلى أطرافى..
---------------------
بينما إلى الخارج، وعلى طول الشرفة الأولى، كنت أرى علامات مضطربة، في بعض الأحيان، ولكن عموما، كانت تنذر البحارة محذرة، بما فيه الكفاية، بوقوع كارثة، أكثر من أي وقت مضى. وسرنا مرة أخرى، على طول مسار صخرى آمن، على نحو أقرب، من ساحل البحر ، وذلك لميل، أو ربما أقل. وعلى الرغم من ظهور أرض مقفرة بعيدة، متجاوزة الشاطئ. وقد لفها صمت خادع، على هامش الأفق. وقع نظرى، على القرب، من أرض الشاطئ المالحة، على شرذمة من أعشاب جافة، مبعثرة بطريقة غير عادية. وقد تغير لونها إلى الرمادي والبني. ومع ذلك كانت تبشر بوجود مساكن صيد قريبة، قبل أن ينالها إجتياح أو يصل اليها دمار..في حين، يمكن الوصول إليها خلال الجزء الأكبر من الأنقاض، بواسطة جسر ضيق، على طول خط شعاب. تربط جيدا العديد من أكوام ضحلة.. تبدو بالفعل، كما لو أنها بيوت، قد غرقت، في ماء البحر..
--------------

إنتابنى ألم فى قدمى.. فاسترحت إلي جذع شجرة في الظل؛ بينما كان هناك ضوء شمس جميل لا يرى في أي مكان .. يتسلل من خلال أوراق الشجر المتشابكة.. شعرت كما لو كنت، قد ذهبت لبضع ساعات، لهذا اليوم البعيد.. لم أستطع كبح جماح ثائرة ذكريات، مرّت فى مخيلتى كشريط صخرى غريب.. مثل معالم طريق، نازعته أجواء شتاء باردة.. ولكن، كان عجيبا، أن أراها، مرة ثانية، وهى ذاهبة مختفية، فى رأسى. كأشعة، تعكس شراسة شمس صيف.. تتكسر. تتلاشى غاربة، فى عمق بحر..
 

-------------
لم يكن، حتى الآن، قد ظهر أمامى شئ واضح.. ولكن، على الرغم من شعورى باضمحلال الزمن.. فقد استطعت، رؤية جدران، ذات إرتفاع كبير. تطل على شاطئ بحر. بدت تماما، كأنها من صخور شديدة الانحدار، بشكل متعمد. ولكن في الزاوية، رأيت درجا حلزونيا، كما هو الحال، عندما تم بناؤه أول مرة. بدا أنه تمت المحافظة عليه، مختف إلى حد كبير، تحت جدار سميك منخفض. يختفي هو الآخر تقريبا، تحت جذوع أشجار متصلبة، فى مكانها. وعلى الرغم من أنه كان بلا سقف، كان درجاته مثبتة بقوة، فى جدران حجرية، تحدق به من الجانبين. كأنه فى النهاية، معلق في الفضاء. وفي الوقت، الذي أدركت فيه أنى بعيد تماما عن كل ما أعرف، تخايلت لى مرة أخرى، قمة برج ضخم، مرتفعة ومضاءة، بلون زمردى عميق. وبصرف النظر،عن كونى من زمن آخر، كان عليّ أن أطرد كل فكرة، من هذا القبيل من رأسي، حتى أدرك أكثر، ما أنا فيه، الآن.. كما لو كان شاطئا ضيقا، من درب رمادي قاتم، تشكل من ذكريات ماض، من فترة طويلة. تتردد ساعية فى ذاكرتى، بلا هدف لها، سوى تشويش عقلى. ينتشر بلا منطق، بعناد. وبلا هوادة. وبسرعة، حتى يتوقف فجأة فى النفس. في الحقيقة، كنت كمن تجول لمسافة بعيدة جدا، غير محدودة بزمن، ولا مكان. كأنى وسط برية بيضاء. تموج فيها، بى أفكارى. حيث يمكن أن أجد،، ما يجعل لتفكيرى عمقا، هنا وهناك.. ماهو أكثر روعة، وأكثر إشراقا.. يمتد منفتحا، إلى مناح، غير متوقعة، بالمرة..
---------
على الرغم من توترى واضطرابى، جلست وظهرى لموقد حجرى غائر، فى الحائط،.. أتطلع بدقة باهتمام.. حريصا، لأطرق ببصرى، كل ما حولى فى هذه الحجرة، بقدر ما أستطيع من تركيز.. كانت هناك قطعة خشبية سميكة، مرئية بوضوح، على بعد أمتار قليلة أمامي. وإلى أسفل منها، طوقان حديديان غليظان. بدت تلك القطعة، كعصا ثقيلة.. إقتربت منها وأمسكت بها. مسحت ما عليها، من أتربة متراكمة ملتصقة بها.. قلبتها، بين يدى. كانت مصقولة جيدا، بينما قبضتها فكانت مزخرفة، ومطلية بالفضة الخالصة. كان طولها، نحوا من شبر واحد، محفور عليها تاريخ قديم، إستطعت قراءته. كان يعود لسنة 1872. هكذا كانت، من نوع وطراز قديم، لا يعرف إلا "أنتيكات" . مما من شأنه، ألا يكون غير متاح رؤيته، ولا يوجد إلا فى المتاحف، أو بحوزة تجار العاديات والأشياء القديمة، فقط. إلى هذه اللحظة، كنت لم أقدم لنفسي بعد، أي دلالة على ما رأيت.. سألت نفسي "حسنا، وما رأيك في ذلك.. أأنت ما زلت تحلم، وفى يدك مثل هذا..؟"
أصبح لي، أن أوضح أهمية فحص تلك التفاصيل الغريبة، لنفسي، بقدر ما أستطيع.. فقد ذهبت، وليس لدي فكرة أبدا، عما سوف أقابله، وذلك ما كان ليغيب عنى من قبل.. والآن صار لدي على الأقل، ما أصبح تذكارا، ليس عرضيا. أعطيه قدرا كبيرا، من عنايتى. بإختصار، كان الشئ الوحيد، الذي صار لدي، من هذه الليلة، ويمكن ملاحظته. أحمله معى أينما ذهبت.. فى عقلى، وليس بقبضتى، فقط..
----------
بعد زيارتى السريعة للغرفة..  سمعت وقع خطوات من يصعد السلم.. خرجت بسرعة لأستطلع الأمر.. عندها توقف الصوت، فجأة.. شعرت بمن يحملق، في وجهى، لكننى لم أعرف ما هو.. ولا كيف، يمكننى تفسير ذلك.. عدت، لأغلق باب الغرفة خلفى، فرأيت الكلب نفسه، الذى رأيته من قبل، فى القبو أسفل البيت. كان قابعا، متوسدا لذراعيه. على بعد خطوة واحدة، من الباب. مرة أخرى، ودون إمتلاك أية قوة ملحوظة، أو قدرات خاصة، حققت إنجازات صغيرة. تفوقت بها على ما توقعته، فى نفسى. بالتأكيد كان هناك من المؤشرات تعطينى أساسا، لأهمية ما سوف أعثر عليه. كنت منزعجا، وقلقا، قبل ذلك بكثير، بسبب عدم إكتراثى إلا للمحاولات، التي بذلتها دون جدوى، دون أن ألج، إلى هذه الحجرة النائية، من البيت..
-------------
فى لحظة خاطفة.. وفى أرجاء سكون تام متمكنا حتى من أطراف نفسي، كان ينتظرنى هذا الهدوء الشديد. أعماق مشمسة. تتلألأ على أشعة مرتجفة.. تغذو السير، منطلقة نحوى. تتطلع بعيني فى وجل، ونهم. أسمع فى كل خطوة " كنا دائما كذلك وسنبقى هكذا، وسوف نظل.. " فى النهاية، تصيح فى وجهى، بصوت داوٍ، ثائرة غاضبة:
"أنى هنا.. لك أنت وحدك"
قبل أن  تتلاشى من جديد، وبطرفة عين، غائبة فى عمق عقلى. غير أن هذا لم يكن السبب فى سفر عجيب، لم أعد منه. قبل أن أرى علامات جموح للعقل، وحينما لامستنى روح فكرة غريبة هائلة، لأول وآخر مرة. تلاها هاجز آخر غريب، ثم آخر وآخر. لإجابات بلا أسئلة حينا، أو أسئلة بلا إجابات، حينا آخر. فقد طافت شظايا الأمر كله بخاطرى، كوهج شديد. وبدت فى عيني جميع الصور بكل تفاصيلها الصامتة صورة واحدة، ملتهمة لزمن بعيد فى جوفها، إلى حيث لا قرار. فقط، الروح، ولا شئ غير ذلك، أبدا. كان على نزع غطاء المجهول عنها، لأستبين ماغاب فى هذا القرار البعيد. قبل أن تأخذنى رهبة شديدة مما قد أكتشفه. وقبل، أن أعى الأمر خافقا بالحقيقة، يدّق رأسى. وكأن الأحداث كلها، وقعت فى آن واحد، بنفس المكان. بطريقة أخرى، هذا ماحدث حقا، فى رحلتى..
-------------
لا طائل، أن أصف: كيف كانت حياتى.. فلا أحد يملك حياة بعينها، لنفسه. لكن هناك من الأشياء، ما هو أفضل، يمكن الحصول عليه، في العالم أكثر من موت.. شئ ما يخلد عن طريق الكتابة عنه.. أن تعيش حقيقة ما، حتى تموت فيها، فتصبح أنت حقيقة.. والواقع، هي أن لا أحد، يريد حقيقة ماثلة واقعة.. وكأنك لا تملك إلا الخيال. وعندما ينتهى بك، تشعر كأنك كنت والوقوف عاريا في مهب الريح، أو تمثال شمع، يذوب في الشمس.. لا شيء مؤكد، أن هناك ما هو أسوأ من هذا الإحساس، مما من شأنه أن يكون لأحد.. ولكن، لا يمكن بمثل هذا السبب فقط، أن نموت كما الأشجار فى مكاننا، مع شدة صرخة مفاجئة، أو إستفاقة مخيفة مروعة، من جنون.. لذلك فالخسارة، هى الشيء الوحيد الذى يعلمنا قيمة الأشياء، بفقدانها، لا الحرمان منها، بقدر ومستحيل.. حقيقة أن في الحياة أشياء، لا يمكن أن نفهمها، إلا بعد معاناة وألم.. لا شك في ذلك.. الحقيقة كانت أكثر من ذلك، بكثير: لم أستطع أن أقول "وداعا".. على الرغم من أن معنى الحياة، هو ألا تتوقف، عند حد. ففي الوقت المناسب، من زمن مضى، كان هناك ذات ما مختلفة، قد أحببت،.. لا أستطيع أن أحيا بدونها.. كما، لا أستطيع عيشا دون روحي.. عرفت مسبقا كيف سوف أشعر،.. كيف ستكون، أكثر من أن تكون شيئا مهما جدا لى، ومن الحياة نفسها.. لم يكن هناك معنى لذلك، إلا أنها قد أرتنى حياة، لم أكن أعرفها.. فى لقاءات محدودة، وسبل متفرقة، تفوق آمالى الخاصة، جميعا.. حياة برغبة، لا نهائية حقا، بكل ما فيها من غموض وجمال وألم. أن تعيش أكثر بكثير من مستحيل الحصول على ما، لا ولن تصل إليه، أبدا. ورغم ذلك، تشعر بوحدة غير متناهية. أحاسيس متباينة، ومشاعر متناقضة، فى نفس الوقت.. شاعرا بالحزن والفرح، فى نفس الآن. لا يمكننى تخيل ذلك، إلا منذ هذا الحين. وليس هناك فعلا شيء أكثر، من أن يكون عليك المضى بدونه، بعد ذلك.. ليس لديك سيطرة على شئ، ولا إرادة، ولا قوة، إلا أمل أن تكون.. هكذا كنت أحدث نفسي،..
كنت على تلك الشاكلة، فاشلا.. لا أمل قط أمامى، فى هذا الطريق.. بين الواقع والخيال. في قرارة نفسي كنت محبطا، لكن سرعان ما ملأنى تفاؤل، يدعونى للمواجهة، أكثر مما يدعونى إلى الإخفاق، متذمرا بحيرة، وبألم شديد أمام محاولات فشل. لكنها البداية، كانت دوما، ما تراوغنى. كنت كمن ينحدر صوب هوة سحيقة، غريقا فى بحر من الأفكار. أشعر بها أحيانا كأمواج قوية. تضرب برأسى بشدة، دون هوادة. تضعف معها كل محاولة، فى المقاومة. أن أكون قادرا على فعل شئ. أحيان أخرى، ولبعض الوقت، أحسها واهنة، مثل أشياء جافة، لا روح فيها، من وهن عقلى. لم تكن قد رأت مني إقدام بعد، لأنهى منها شيئا، على الأقل، ولو مرة واحدة. هل سأسمح لنفسي، بفشل جديد؟.. في هذه اللحظة العصيبة، قررت فعلا، أن أترك نفسي حرا.. وماذا غير الحرية، وما أريد، وقتما أريد، كيفما أريد.. طوال حياتي. بإختصار تساءلت:
" هل علي المواجهة أم لا؟ "
-------
إنتظرنا نحوا من ساعة، إلى أن لاحت فى الأفق، شمس الخريف الباردة. وقد طالعتنا بادرتها.. ما إن رأيتها، حتى شعرت بصدق إحساسى، أن هناك فى الأمر شئ ما.. وبصرف النظر، عن إعطاء نفسي فرصة، بعيدا عن قلق لا يطاق، فقد قالت عيناها أكثر مما أتوقعه.. شعرت أنى طائر، لا يدري أين يختبأ الموت، فى وجه السحاب.. كان لابد من وضع حد، لحلقة مفرغة يجتاحه الدوران فيها.. طريق خوف يودى به، إلى دائرة موصدة.. منفى أبدى للروح. أحسست بأنى متعب حقا، منهك.. ملق فى سماء رمادية..
حتى إلتفتت إلى قائلة بحسم:
" إما أن تكون أنت كما أعرفك، أو لا.."
وبنظرة متفائلة، برقت على ثغرها إبتسامة مشرقة، تشدّ من أزرى، قائلة لي:
"واصل الحياة. قاوم اليأس.."
كنت انظر إليها لا أملك، إلا أن أنصت إلى روحها، لا صوتها.. ثم أردفت:
" لا تقسو على نفسك. غالب فى نفسك متاهات الإحباط. لا تستسلم، أبدا.. "
------------
فاجئتنى الفكرة، على غرة. لم يكن لدى ريب فى حقيقة ما رأيت، حتى إختفت عن ناظرى، فى باطن الأرض. وفكرت فى وسيلة، أكسر بها رتابة المنطق، وأكثر ملائمة لطبيعتى، وما أعرفه من قبل، لأحل بها، هذا اللغز الذى أعيانى. لأشرف على الحقيقة، التى غابت، فى جوف تفاصيل غير مترابطة. لم يكن علىّ، إلا ترك نفسي للأفكار، تتداعى فى عقلى، من جديد..
----------
تماديت فى ذلك، حتى إشتد غضبها من سكوتى. لم أستسلم لليأس، وإنصرفت نفسى، عن كل ذلك. وقد عزمت على الكلام. وأقدمت على مجازفة الحديث معها. لكن كيف أخبرها بم إعتزمته، وقد إنحدرت الدموع من عينيها، تعاتبنى.  لم أر مناصا، من مواجهة نفسي أولا، بهذه الحقيقة :
"أنى أحبها فعلا.. على الإعتراف بهذا.."
حدث ما حدث. رأيت ما رأيت، قبيل الفجر. ولا أعرف كيف أصفه، لأننى لا أدرك كيف حدث. فى هذه اللحظة، كنا بشر، ولسنا ببشر. كفيتينى وكفيتك، عن كل شئ. لا يحول بيننا أى حائل، من مكان ولا زمان. كنت أنا حقا، وكنت أنت حقا. كنا معا. كنا أنا واحدة. كيانا واحدا. ماذا أقول، ولسانى عاجز عن الوصف. الآن إحساسى، هو الذى يتكلم بما رأيت، ولم أرَ مثله من قبل. لا فى حقيقة، ولا فى حلم. ما زلت، أجد طعم كل شئ. لون كل شئ. همس كل شئ. حتى مسيرنا معا، فى هذا الطريق الذى مشينا به.. الهواء الذى تنفسناه. ما رأيناه معا. يداك فى يدي، وذراعى يحوط بك. شعرت بدفئك، يلمس روحى. أحسست، بما لا يمكن أن أعبر عنه، ما حييت. إستيقظت، وكل ماقلت حقيقة. كل شئ حقيقى، ألمسه. أشمه. أراه. وأسمعه. إكتشفت، أن لى حواس، وجوارح. لم يكن لى، من كل هذا أى شئ، قبل هذا الحلم، لا أدرى أم الحقيقة. كل ما ذكرت الآن، ولم أقل ماذا رأيت بعد. ربما يوما، أستطيع أن أصف، أو أعبّر هذه الحقيقة أقول، لا الحلم.. عاجز إلى الآن، أمام حيرتى فى تفسير هذا..
--------------
" لكل حديث حديث.." فى واقع الأمر، جملة عابرة، كنت قد كتبتها بخطى، على ظهر إحدى الصور القديمة، لمشهد تفريغ جزء من حمولة سفينة عملاقة، وقد ربضت، مربوطة، برصيف حجرى لإحدى الموانى. هكذا بدا الأمر معى، دون أن أحدد آنذاك، فائدة مرجوة من هذه العبارة. والآن لم أعد أتذكر، لم كتبتها بهذا الخط الأحمر، الذى جفّ وبهت، مع مرور سنوات. قبل أن أقلبها فى يدى مرة أخرى، متذكرا ما علق بذهنى، من هاجز شائك، لأعبر كل سور، وأتعدى كل حدود، وضعتها لنفسي. أعدت قراءة ما كتبت، كان لدى القدرة على مناقشة نفسي، خاطٍ بخطوات واسعة صوب السبب، الذى جعلنى أتعلق إلى هذه الدرجة بمجموعات صور، صنفتها فى مجموعات، كانت هذه الصورة، إحداها، ولكنها أضاءت لى الطريق، وأضاءت لى ما حولها..
--------------
وتحت وطأة الترقب، كدت أنهار فى لحظة شعور، أننى أوشكت أن أعرف كل شئ. فقد إسترعى بصرى حجرا يشبه المعدن، قابعا فى إحدى زاويا  القبو البعيدة.. اقتربت أكثر، وفى يدى المصباح. كان يقارب ثلث متر تقريبا. أملس. ولونه بنى داكن.  جلت بلحاظى، فيما يشبه النقش البارز، على هذا الحجر. كانت أثار الصنعة واضحة تماما، فليست طبيعية، ولم يكن لى بمثل ذلك عهد من قبل. كان قد مر علىّ وقتا، ليس بقصير، وقضيت طرفا من النهار فى فحصه. تملكتنى الدهشة والحيرة، فلم أجد ما يدل على أن هذا الحجر من صنع البشر، وعلى ما يبدو لا يمت للأرض بصلة..
--------------
أول ما لفت إنتباهى، حينما تفرست نفسي أن ضوء النهار، كان يخفت شيئا فشيئا، وأنا أرى إنعكاس رحيله، على تلك الصور الغريبة، لمدن راقدة طريحة رداء التاريخ. وأخرى لسفن مبحرة، فى غيابات موج عاتٍ، لا يمكنها الهروب، أو التخلص من رعدة موت.  وأخرى راسية، على أرصفة موانى قديمة، لا يعرف أسماءها أحد. وقد تجمدت أعين المسافرين، فى بؤرة صندوق كاميرا عتيقة. على أية حال، وبنظرة مختلفة للأمور، كنت كعابر طريق، يجيش بحشائش سميكة. يعرج بى، إلى مروج شجيرات صغيرة، تحفها أطراف الذاكرة، بسياج واسعة، من ماض، لا أعرف عنه شيئا مطلقا. هكذا كان يردد لنفسه :
" أن هناك ما هناك.. وراء إضطرابات هذه المناظر أمام ناظريه.."
--------------
ومع منتصف الليل، كان حديثى مع نفسي، يأخذ منحى آخرا، وبدأ ينحصر شيئا فشيئا، فيما حدث، فى هذا الواقع البعيد المصور، بكل دقة. وقد أرشفته بطريقتى الخاصة الغريبة، كقائد يعدّ لمعركة عبور ومصير. فى الواقع، لم يقطع حديثى الباطنى شئ، أو يوقفنى. وفعلا لم أغير مسار هذا النقاش الحاد، الشبيه بمبارزة وجها لوجه، داخل نفسي. الأمر الأكثر إثارة، أننى أدركت أخيرا، أن الأمر يفوق كل توقعات منطقية مسبقة. ودون أي مقدمات، إكتشفت أنه أكثر عمقا داخل رأسى، وليس نفسي، فقط. أمر لن أعود منه، إلا بحقيقة. كان سحرا نافذا، لم يمكننى  الإفلات منه، إلا بمعرفة الكثير من الأسرار، والعبور من عالم إلى عالم آخر. فى هذه الليلة التى لا تنسى..  بين الحلم واليقظة..
--------------
لا يمكن أبدا، أن أعرب عن دهشتى. كنت، كمن ينظر إلى ماض، من خلال عدسة الغموض، إلى مدن. طرق. شواهد قبور. مرايا. مناظر طبيعية. أشباح..، نوافذ تطلّ على الحاضر، لكن من أمد بعيد.. شعرت بالقلق، فقد لعبت هذه الرابطة، التى لا أدرى ما هى، دورها فى توترى. كما أننى، لم يمكننى فهم حقا، لماذا تختفى فى رأسي، بسرعة كلما أوشكت أن أعرف: ماذا تنطوي عليه، من لا معقول. بعد فترة وجيزة، ومع مزيد من تأمل، أمكننى رؤية أن هناك أرض، ليست كأرض مشيت عليها، من قبل، وقد وطأتها بقدمى.. لكنها بدت على وجه التحديد، فرصة جيدة، من أجل خوض ما يحيرنى، في واقع غريب. تجسد فى ومضات بارقة.. كنت أصرخ فى نفسي: "أريد معرفة ذلك.. أريد كل شيء الآن.." كان الخيار الوحيد المتاح لى، حقا، أن أنجح، في عبور حدود نوعين من واقع، لا يمكن التوفيق بينها. ما أراه عالما حقيقيا، فى عقلي. وما أراه أمامى الآن، من أشياء متناثرة، تمثل أجزاء معضلة. هذا اللغز، الذى لفت إنتباهى، أول مرة، رأيت فيها تلك الصور. أولا، كان على تحليل هوية هذا التوتر، غير العقلاني. ثانيا، سبب التضارب الموجود بين الحقائق. كنت أدرك حاجتى، إلى حل وسط، بمفهوم مبدأ واقع. كان بعيدا تماما، عن كل ما هو متوقع، وكل إحتمال. كان لا يمكننى، أن أرى السبيل إليه، أو أعرف إلى أين ينتهي، بى، منفصلا عما حولى. بشكل حاسم، عرفت نهاية الأمر، أننى لم أقف عليه بعد، لكن كان يجب أن أفعل..
-----------------
"من الأفضل ألا أغرق أكثر فى هذا الأمر"
هكذا قلت لنفسي، قبل أن أحتفى بمصادفة مثيرة غريبة، دفعتنى إلى أن أعود متحفزا، يدفعنى فضول، لملاحظات أخرى عديدة، كنت قد دونتها سلفا أيضا، وإرهاصات سجلتها عن أول إنطباعاتى عنها، عن هذه الصور، حينما وقعت فى ملكيتى. كان إحساسى صادقا، حيال هذا الغموض المثير، الذى يكتنف شعورى، حتى أننى هذه المرة، لم أولى أى إهتمام لدأبى، وما إعتدت عليه، من حس ساخر مرير، أمام هذه المشاهد الجمّة، فى هذا الكم الكبير، من صور قديمة. وقد تجانست فى عقلى،..
--------------
كأى يوم آخر، وكذى قبل. وقد ممدت قدماى نحو سياج المدفأة القديمة، على فروة صوفية عتيقة، تبعث على الدفء. إرتكزت بمرفقى، على نمرقة وثيرة، إلى جانب مدفأتى الحجرية.. بين فترة وأخرى، وببطء أحرك الجمر بذراع حديدى، من جانب الى آخر، فتشتد النيران من أسفل إلى أعلى. مرتفعة لتتناقل أمواج ظلالها متلاطمة، على الحائط. مرتفعة حينا، ومنخفضة حينا آخر، بحركات غريبة، أسفل حواف السقف. ومع أن النار كانت لا زالت موقدة بالمدفأة. تستعر متوهجة . تشيع دفئها، الذى يغمر المكان كله، إلا أن الأمر لم يدم فترة طويلة، قبل أن أطفا مصباح الغرفة، ويلزمنى هدوء للنفس وسكون عميق. شبع بموسيقى يمتد مداها وعمقها فى الروح. هناك بعيدا وراء البحر، كانت نظرتى شاردة، شاخصا ببصرى، مفكرا بنظره مختلفة، فى هذا الجو الممطر، لأدرك حقيقة الأمر..
----------
بذلت كل جهدى فى المحاولة. كانت فى مخيلتى، تلك الشارة الحريرية المفعمة، بلون زهرتها البرية. تهتز لها مخيلتى، حينما تجول بخاطرى، أو فكرى. تموج بين مخامل، تسكن بينهما ذكريات دفء غريب، فى مكان ما من ذاكرتى. تنطلق بى، فى لحظة خاطفة. لا تنطفا جذوتها، أو تتوقف. تتجاوب معها الردود، فى ذاكرتى العميقة..
--------------
غربت الشمس واقترب الليل، مؤذنا بروعه الهادئ.. لا أدرى أم بعاصفة عنيفة تهبّ، وقد إختبأت فى ظلامه، لتنقض علينا. طوال الطريق، كنت أستعيد كلمات الشيخ، بعدما سألته:
"سافرت إلى حيث لا أدرى. إنقطعت أخبارها. لم أعد أعلم شيئا عنها. لا يعرف لها من سبيل.."
هكذا، ذهبت ولم تعد. إختفت، ولم يرها من أحد. ليس لها أثر.. إستقرت فى خبر مجهول.. ولم يكن بيننا يوما من جدران، إلا مما عبرت من زمن، لنلتقى، عبر جسر حياة..‏ لم أنجح، فى أى شئ آخر، إلا محاولات غريزية وشعور دائم، أنى سألتقى بها فى عالم آخر. ولآخر لحظة، لم أعرف حقا، ما سوف يأتى به القدر. واجهت عواصف نفسى، وأنا يكاد، يقتلنى البحث عنها. شعرت أن أفكارى، كأنها ذهبت هى الأخرى.. فى النهاية، أتسائل لماذا كان، هذا، فى حياة، لم تعد حياة كما أعهدها. حقيقة مدهشة، أقوى من أوهام الخيال. أقوى من موت، قد يواجهنى ويهزمنى، قبل أن أجدها. عجبت كثيرا، أن كل شئ تغير بعمق.. وأنا، تغيرت لأشعر، وأحس بذلك. فكان دأبى،  محاولة إثر أخرى، لإكتشفت مجددا، ما ربطنى بها.. أن هناك الكثير، لم أعرفه بعد، عن نفسي إلا من خلالها، شيئا، له قيمة، وذا معنى.. لايزال الكثير، يجب على أن أفعله، حينما أمسك ما توارى فى عقلى، مختف،.. هذا الصوت الذى ينادينى .. بت أسترجع، كل كلمة نطقناها، معا.. طالما ملأت نفسينا، بالأمل.. كل نظرة، بدت على وجهينا، منذ أول لقاء لنا.. تارة، أفكر إلى أين ذهبت، وتارة أخرى، أتذكر ما كان بيننا.. فلا أخلص، من هاجز، حتى يسلمنى إلى آخر. كأنها أمواج هائجة، تصطخب فى عرض بحر، يضطرب فى رأسي. لا تهدأ أبدا ثائرته. ما لبثت، أن فقدت كل فرصة، يمكن أن تدنو علىّ بأمل نسيان، ما كان. أن أتجنب، أن أظل أتذكرها، فيما بقى من طريقى. خفقت من محاولات النجاة، من ذكرى، يذعن لها قلبى..
------------------------
في الليل، جلسنا إلى جانب المدفأة، في باحة الردهة. وبعد وقت قصير، إنفتح الباب، وأطل منه رجل غريب الأطوار. ذو بشرة شاحبة،  في خده الأيمن جرح غائر. دخل فجأة، وتوقفنا جميعا عن الكلام. بدا رثّ الملابس، وضيعا. فظ الأسلوب. بذيئا. له ما يشبه الوجه. ذو ندوب ممتدة، ظاهرة بوضوح،  ببياض شاحب، ملتصقة بعظام وجنتيه، على بشرته الصفراء. أثارت إشمئزازنا، وتأففنا. أخذت أراقبه، عن كثب. إنشغلت بادئ الأمر، بالنظر بشدة، في أرجاء آثار تلك الندوب الغائرة، التى تصل إلى أنفه. في الحقيقة، كان  كل شيء فيه، قذرا جدا. يداه. أصابعه. وأظافره الطويلة. بدا لى، أن هذا الكريه، لم يعرف طريقا للماء، منذ سنوات طويلة. وقد فاحت منه، رائحة عفنة، نفاذة. تشبه رائحة عطن أوراق شجر ذابلة. بعد وقت قصير، كل ما إستطعت أن أعرفه، عن هذا الغامض العبوس، بعد أن لاحظت نظراته المرتابة، أنه كلما إقترب من الجمع أحد، وجدته واقفا، لا ينبس بكلمة. يظل في مكانه مرتعبا، ثابتا كالصنم، لا يحرك ساكنا. يراقب، من وراء ظهورنا، كفأر مذعور، من مخالب قطّ، يتحين الفرصة للصيد. سرعان ما أدركت، أنه كان يحاول الإختباء بيننا، من شخص ما، يترقب مجيئه. كانت هذه الحقيقة الأخيرة، قبل أن ألحظ صندوقا خشبيا غريبا، لأمتعته. وضعه بين قدميه. يغطيه  بجراب قماشى، يتدلى، من تحت معطفه القديم. كان معلقا، فى رقبته، قبل أن يضعه، على الأرض. ولم يمض وقت طويل، حتى حدث شيء غريب. سمعته يقول، بصوت عال، وبأنفاس لاهثة، وقد بدا أكثر شحوبا، مما هو عليه، كمن أشرف على الموت:
"سأمكث هنا بعض الوقت.. إلى حين.."
فى الواقع، لم تحدث نبرة صوته البوقية، أى تغيير يذكر، سوى توجس وترقب منا، من مصير غامض له، فى هذه الليلة قارصة البرودة، ونحن نسمع دويَ رياح ليلة عاصفة. ولم يكن أحد يجرؤ، على المغادرة، إلى أن ينتهي ظلام الليل. وقلت فى نفسي:
" لقد مرت عدة سنوات، قبل أن أضطر، إلى رؤية كومة قذارة كهذه، أو أن أنصت لوغد، من أوغاد الطريق وأرذاله، مثل هذا الغريب الغامض الكريه.."
----------
قال لى: "تمنيت أكثر من أى وقت مضى.. أتمنى لو كنت ميتا.."
فأجبته: " لا يمكن لأحد أن يقول أن الموت وجد ليكون حلا لمشكلة.. لكن من الأفضل أن تموت، من أن تعيش كل لحظة في خوف.."
وحتى العاصفة التى أعقبت ذلك جعلتنى أردف:
"أأنت خائف من الموت؟!"
فاجابنى بصوت خفيض: 
"نحن على وشك الموت. لن  يخرج أحد من هنا، وهو على قيد الحياة.."
أجبته بهدوء:
 "هذا غير صحيح. إذا كنت قد فقدت الفرصة فى الحياة .. فجدير بك، أن تحاول ألا تموت عبثا،.. الخوف من الموت نفسه عبث.."
---------
وقفت متكأ على جذع رمادي لشجرة ساقطة، واشتعلت رغبتى، فصرخت بها:
"انتظرى لحظة علينا إزالة بعض الأشواك بعناية، حتى يمكننا المرور، والمتابعة بعيون يقظة" ..
تجمدت الدموع فى عينيها قبل أن تنساب على وجنتيها.. مخبرة عن كل شئ.. لم تمض فترة قصيرة، قبل أن تتردد صرخة، من الجانب الآخر. تشبه ريح، إنطلقت من وراء ظلام الفضاء.. بدت مثل أصوات ساحرات ثملة.. همهمات كانت تسرع وراءنا.. كان من الواضح، أنها غير مهتمة، إلا باللحاق بمصدر الصوت، غير عابئة بخطر.. كانت الأرض أسفلنا مغطاة بعشب خشن، وأوراق شجر متشابكة.. بينما رأيتها، متوسطة القامة، شعرها منسدل إلى الخلف، فى جدائل متموجة منسابة على كتفيها..كانت ممشوقة.. عارية القدمين.. استطاعت بالكاد التحرك، بين كل هذه الأشياء القديمة، التى تكومت متناثرة، متحللة هنا وهناك.. اصطدمت بجذوع سميكة مقطوعة، وأغصان متكسرة.. تتقلب ألوانها بين الأحمر والأصفر والبنى.. خدشت أشواكها ساقيها.. قبل أن تتعثر بفرع بارز، من جانب الطريق الضيق.. تسلقت إلى الأمام، بصعوبة كبيرة. نزف دمها بشكل كبير.. غير أنها في بضع ثوان، فصلت نفسها، بحذر عن الفروع، كانت لا تزال ماثلة بيننا.. فى النهاية، بدأنا فى إختيار طريقا ممكنا وآمنا.. وقد أضافت:
"ليست هناك على الإطلاق، أى فرصة غير ذلك لننجو"..
وسرعان ما جاءنا، صوت تساقط قطرات مطر رقيقة. تتلألأ بوضوح بين شجيرات بعيدة تهتز.. هناك حيث لفت نظرنا، ممر جانبى آمن، إلى اليمين، دليل لنا..
-----

يئس من الظفر بى، وهو يتبعنى، كظلنا. ولم نكن لنأمن شره. قررنا أن نقتله، إن لاح منه غدر أو خديعة، حتى لا نتعرض نحن جميعا، إلى الهلاك. خطا بضعة خطوات، وهو يتشحط فى دمه، زاحفا على جنبه، كأفعى، مستندا على مرفقه، حتى منتصف الطريق بيننا، وبينه. خرّ فى النهاية صريعا. نهاية المطاف، كفانا مؤنته. وإستمررنا، فى طريقنا، من جديد..
--------------
على مبعدة من خط الساحل الملتوى، زاحفا بين فصول العام، الذى أنصرم بأخباره، ترتكز الطابية، بعيدا عن الشاطئ الرملى المنبسط، بعيدا عن مرفأ المدينة القديمة.. يتسلق اليها من القاعدة، بضعة مئات من الصخور، محيطة بها الأمواج الهادرة. لا يتوقف هديرها، دون ملل أو كلل.. كان هناك جمع غفير فى جو متقلب، وقد أظلته سحب ثقيلة. وقد عانقت السماء الأرض، لتشق رمادية طقس الخريف الأعين. قبل أن يخترق رذاذه الصدور المتحلقة، حول النبأ المنتظر. يمم الجميع أنظارهم صوب الأفق. يترقبون. همهمات، أن ثمة شيئا مجهولا قادم. متعلقة أعينهم، وقد أرسلوها. يجهدونها، ليروا، على حافة مجهول، ما وراء الأفق. جماعة تروح، وقد إمتطت خيولها، وأخرى غادية وراءها، راقية إلى سطح طابية الثغر. متنامية خطواتها على الدرج، على إيقاع صدى أصوات حشود نوارس البحر، شارعة على البعد الشاسع أوتار حناجرها، تتردد صادحة. وأنّى لجمع الحامية هذا، أن يتوقف عن الدوران، مع إنتظار لآت، رفيقا لنوة عاصفة معتمة، توقف خفق الدم فى الوجوه التى تطلعت. كما لو أنها تشعر بنبض هبوب ريح خريف، يسلم أوراقه لشتاء يتنهد بداية البرد والصقيع. كانوا قد سمعوا الأخبار الدائرة. يتناقلها المدى عن سفن أسطول الصيد السكندري. أو قدمت بها زواجل سرايا الجند، أوعسس الدرك، عن قرب قدوم، ما يفوق معرفتهم..   فزعت تلك الجمهرة، من الناس عند رؤيتى، أول مرة. إشتد إرتباكهم، وكأننى جنىّ. علت صيحاتهم. وأيقنت أن علىّ، الإستمرار للنهاية. زالت مخاوفى. وقررت أن أترك الرجل المجهول، ليلقى مصيره، الذى يستحقه..
----------------
لم أكن إلا على  ثقة، أننى سوف أنجح، بتلك العزيمة. وزاد من إصرارى، أن زادى قد أوشك أن ينفد، وينتهى قبل ان أبلغ مأربى، وأواصل رحيلى. لم يكن أمامنا إلا الهلاك، إن توقفنا، أو عدلنا عن الطريق. إستأنفنا سيرنا بسرعة، نحو الجنوب، حيث كان علينا قضاء تلك الليلة، بالقرب من المعسكر. وحينما حان المساء، وجنّ الليل علينا بستائره، دنونا من السور الخارجى، قبل أن نسمع صوتا مروعا. تملك صاحبى الذعر والرعب. وعهدت إليه، بالبقاء ساكنا، بالقرب منى. شعرت بأنفاسه فى صدرى، وكأنه يتشبث بى، بضلوعى. ظللت أطمأنه، وأهدئ من روعه، حتى زال خوفه، وذعره. هدأت أخيرا، نفسه بين جنبيه. وإستأنفنا زحفنا بين الأحجار والصخور، على بطوننا مرة أخرى، حتى إقتربنا، من قاعدة السور الخلفى للمعسكر. وحمل خوفه، عن عاتقى المهمة، فقد عقد لسانه عن النطق. وظل صامتا، أسمع أنفاسه لاهثة. ريثما إنتهيت، من حفر ثقب، فى جدار السور. نظرت من خلاله، فلمحت كلبا كبيرا جاثما، من بعيد. كان علىّ أن أطلب، من صاحبى مجددا ، بصوت خفيض، أن يسكن أكثر ولا يتحرك، حتى لا ينتبه أحد الينا. غير أننا شعرنا بوقع أقدام تقبل نحونا، حتى كادت تداني رأسينا. كدنا أن نفقد الأمل، فى النجاة. لم يكن هناك وراءنا، أو أمامنا، موضع قدم نطمأن اليه لنتسلل، أو سبيل لطلب النجدة والغوث. لم نكن إلا نحن، وهذا الموت، الذى يتربصنا. ونترقبه نحن، بين حين وآخر..
--------------
إنهمكت فى عملى بدأب، ولم أتوقف إلا فترات قليلة. كنت أستعيد فيها قوتى، قبل أن يحول بينى وبين الإسراع نحوها، ما بدأت فيه. ولم يضع وقتى عبثا. ولم يكن لدى من سبيل، إلا مالدى من ذكريات. لم أهتد الى معرفة السر، لا من قريب، ولا من بعيد. بل كان ينتابنى حمى أصابتنى، وأنهكت قواى، قبل أن أتماثل للشفاء بعد ذلك، بعدة أيام. ولقيت عناءا شديدا، فى هذه الليلة، فى مغالبة قلق، أننى لم أعثر على أثر بعد. ولم يهدأ لى بال، ولم يقر لى قرار. وإنقضت هذه الليلة، بعد أن تملكنى الحزن والألم. لم يزر النوم جفنا لى، حتى مطلع الفجر.. كان جديرا بى أن أتحلى بالشجاعة والحزم، فى مواجهة الخطر، وجها لوجه، قبل أن يدفعنى العناد، إلى الإقدام. قبل أن يخالجنى شعور، أن هذه حماقة كبيرة إن لم أحفل بشئ، من خطر، يواجهنا بين لحظة وأخرى، سوف أندم إن لم أقدر عواقب الأمور. إلا أننى فى النهاية، سكن إضطرابى. ونمت نوما عميقا، على ما أهدأ ما يكون، مطمئنا قرير العين، وقد رتبت نفسي ليكون الغد، كيفما كان له أن يكون، من يوم سوف أراه، حتما. ومع أول ضوء للفجر، تملكتنى رغبة شديدة ومجنونة، فى الرحيل، مجددا. رغبة أبغضت لى البقاء فى هذا المكان، الذى أويت إليه. وعدت أدراجى، متابعا طريقى. لم تقع عيناى أثناء مسيرى، إلا على أنقاض، وأطلال.. كنت أرى هلاوس بصرية، لمدن وأشباح، لكل ما ساورنى من قلق.. وسرت مسافة طويلة، ولم أصل إلا بعد عناء شديد، حتى إنتهى بى الأمر، إلى مكان، لا يبعد كثيرا، يشبه المكان الذى حللت فيه، أول مرة.. لم أعرف أين أنا. وكأنى فى أرض قفر جدباء قاحلة، لم تطأها قدم إنسان، من قبل. حتى بلغتها. وأشرقت الشمس، وأقبل النهار. كان الجو صحوا، كنت فى أشد الحاجة، إلى إنهاء الأمر، وتبين ما أراه، أمامى، وقد حل علىّ نور الصباح. كان منظرا لم يلقه أحد قبلى، قط.. فعلى بعد خطوات قليلة، كان المنظر مفزعا.. أيقنت أنهم هلكوا جميعا.. لم يكتب لهم نجاة، من تلك المكيدة. كان كل شئ محطما متناثرا، ممزقا تحت حرارة الشمس، ولهيب الأرض. عقدت الدهشة لسانى. تبينت ماخلفته الهجمة النكراء، من جثث وأشلاء. كان أول ما شغلنى، هو أن أتلمس رؤية أحد من رفاقى، وقد كدت أيأس، من إدراك غايتى.. ولم أحزن، لأننى لم أدخر وسعا، فى حمل كل ما إستطعت من مئونة وذخائر، كانت تحويه، تلك المجموعة التى قضت نحبها، تحت القذف. وواتتنى شجاعة القلب حتى أقضى مهمتى، ولم يسبق لى فعل أي شئ، من ذلك. أحادث نفسي:
" ها أنا أقوم بدفن موتى.."
 إلا أننى لم أكن أطمئن للبقاء، وقد رأيت نذر الخطر الداهم ما زالت ماثلة، بعد أن كدت أن أدفن حيا تحت الأنقاض، والأسوار الآيلة للسقوط. وظللت للظهيرة، أقوم بدفن، ومواراة ما تبقى منهم، تحت التراب. وسرعان، ما سمعت صوت تأوهات. سرت خلفها، حتى وجدت مصدرها. رأيته، كان فى حالة يرثى لها، تلح عليه آلام الجراح التى أثخنت جسده، وجوع، طوى أياما مضت.. أعجزته جراحه عن المشي. لم يعد يصلح لشئ، قال لى:
"خشيت أن تدهمنى تلك الفئة، وأنا عييّ تعب. زويت مختبئا، إلى ظل كثيف، من تلك الأغصان المتشابكة.. "
سألته:
" لما؟"
فأجابنى، بصعوبة:
"كدت أقضى نحبى، بين خطر سلاح ينال منى، وخطر هوام الأرض، يحيق بى، من كل جانب.."
" يبدو أننا هنا، آمنين بشكل جيد .."
"هنا يجب أن نكون.."
" لهذا يجب التشبث بهذه الفرصة .."
------------------