سرماديا

سرماديا

بين القلم والكتابة** مقالات أدبية



 فى ماهية الكتابة والإبداع

من كتاب

" بين القلم والكتابة "

------  خالد العرفي

من حين إلى آخر أكتب، من شجون النفس، والكتابة، وهى، وإن بدت فى ظاهرها، من هنا وهناك، إلا أنها فى نهاية المطاف تجتمع، فى نقطة واحدة، من دائرة إهتمامى، ومن ذلك ما نشر مؤخرا. وهى أحاديث ذات، للذات، وطريقة لا يفرضها أسلوب معين، بقدر ما هى، من مسار القلم، فى رياض ودوحات الفكر. تنبع من توزع إهتماماتى، بين عدة أمور، متباينة. وفى النهاية هى ثمرة الكتابة، ومن نتاج القلم، وهمومه. وقد رأيت، كما تعودت، وتعود معى القراء المتابعون، تجميع لبعض الكتابات، ذات الجوانب المرتبطة، ببعضها البعض- ومنها المقالات الأخيرة، وهى ذات إهتمام خاص وواحد - وهو الشأن، كسابقتها.  وهى أفكار مترابطة فى باطنها، وإن لم يظهر للقارئ ذلك، للوهلة الأولى، كما أننى لم أكتبها، مرة واحدة. وعليه، هناك قدر كبير من الأهمية لى، على الأقل، وللقارئ، أن تقرأ بهذه الطريقة، هكذا. وهكذا تولد الأفكار، وتُعد الكتب، من هذا النوع. وبلا ريب، فهى متعة للقارئ المهتم- إن وجد هذا- أن يتابع مثل هذه المسألة، أولا بأول. إضافة إلى أنها تحمل من ذات وروح الكاتب، شيئا، ويلمس من مجموعها، تجارب الكتابة، واحدة بعد أخرى. كما أنها قد تكون مشروع لكتاب ما، مستقبلا، يإذن الله تعالى، مع ماسبق نشره من مقالات، عن الكتابة. وسوف يكون الكتاب بأكمله، عن الكتابة وتجاربها، بما سوف أضيف إليه، من فصول أخرى. ومن هذا القبيل، مقال (أشياء عقيمة - كيف لا تصبح فيلسوفا؟) فهو ظاهره، كما هو معنون، إنما له بصلة، بموضوع الكتابة، وشأنها معى. ومن ناحية أخرى، هو من الأدب الساخر.. تناولت فيه سؤال "هل لأن تكون كاتبا يجب أن تقرأ فى الفسلفة أو تكون فيلسوفا؟". وقد بدأته كما يلى، فقد خانتنى الذاكرة، هذه المرة، فلم أتذكر أين قرأت منذ زمن أن الفيلسوف الحقيقى يظهر ما بين الأربعين والخامسة والأربعين من عمره. حقيقة الأمر، لم أشأ البحث عن مصدر هذه المعلومة، التى سكنت رأسى مؤخرا.. ثم ألقيتها بعيدا. أقنعت نفسي أن من قالها فيلسوف فاشل، وإلا كنت قد تذكرت اسمه، بسهولة. بالطبع ليس ديكارت ولا جان بول سارتر، ولا أشباههم.. الدليل الأرجح على الصواب، كان فى يدى. فقد أكملت الخامسة والأربعين، هذا العام.. ببساطة شديدة، إنتصف عقدى الخامس، ولم تظهر على أية بادرة لفلسفة ولا أيضا أشباهها. شئ محزن ألا تصبح فليسوفا، فى هذا العصر.. ولم تكن من قبل حتى تعرف، ولا من بعد، لتتيقن.. طبعا هذا شئ مقلق للغاية.. لكن يحب ألا تقلق، فى هذه المرحلة العمرية من حياتك.. كيف لا تصبح فيلسوفا؟  الأكثر ترجيحا، أننى وأنت لن نكون، فى يوم من الأيام فلاسفة. ويزداد الأمر قلقا، مع تقدم العمر، إن كان.. فليست مشكلة كبيرة أن عدد الفلاسفة سوف ينقص، واحدا.. أو أن أحد العرب أو العجم لن يقرأ  إتجاها فلسفيا جديدا، فى القرن الواحد والعشرين.. عن نفسي لا يتعدى نصيبى من الأمر سوى حب الحكمة.. وتلك لم أطلها هى الأخرى، مطلقا..  وما الحل إذن فى تلك المعضلة، سؤال تافه، وغير مجدى بلا شك.. بالطبع لا تشغل بالك به، أو أن تجعل مثله يدور فى خلدك. وأنصحك ألا تفعل، فبما ستفيدك الفلسفة؟.. وأرجّح مرة أخرى ألا تنشغل بمثل تلك الأمور، واتركها، واحتفظ بعقلك.. لا أقول لك افعل مثلى، فأنا لا أعتنق مثلا الكتابة فى الأمور السياسية.. وهذه طبعا ليست بفلسفة أو بحكمة.. لأنك لو فعلت سنكون إثنين فى هذا الوطن.. وأنا أحب ألا ينافسنى أحد فى عدم إنشغالى، على الأقل بعدم المبالاة والكتابة من حيث قلة الفلسفة، والسياسة.. من هنا، ربما نعرف سبب لماذا تأخرت أمارات الفلسفة فى الظهور.. وماذا كنا سنفعل بها؟ فليأتى عامك السادس والأربعين إذن ولا تكون فيلسوفا.. فماذا أعطى أفلاطون ولا أرسطو ولا سقراط، وغيرهم..... للعالم؟! فهذه أشياء تافهة وعقيمة، لا تنشعل بها.. إعتنق أو لا تعتنق شيئا! ورحبّ بعقود عمرك ومنتصفاتها، وابتسم شريطة ألا تنتظر رأى مثل من نسيت اسمه.. فقد تكتشف أنك الوحيد الفيلسوف، وأنت لا تعلم! فقط إحتفظ بفلسفتك بنفسك، لنفسك. ومن عدم الفلسفة أن فى ضحوة هذا اليوم الصافى ضوئه، لم أستسلم لإغراء جديد، فلم أضع شيئا.. كانت كل القواعد والمبادئ مكسورة من حولى، كان كل شئ ممكن. كل شئ يقول وينطق بذلك.. إذن، لن أفعل شيئا جديدا..، أجل، لن أضع، هذا اليوم، قاعدة جديدة أكسرها، كما أفعل، دوما. أعرف جيدا ما أستطيعه، وما لا أستطيعه.. إذن، لايجب الإقدام على عمل ثان فى نفس الوقت،  أليس كذلك..؟ هكذا دائما أحذر نفسي. ودائما، فى كل مرة، أخالف ما أضعه من قواعد، ساخرا من نفسى. أحادثها، ضع القاعدة كى تكسرها، لا شئ  ثابت أو صلب، فالقواعد دائما يتم مخالفتها.. بالطبع، هذا أفضل من لا شئ. الأمر هكذا أكثر إثارة. هذه هى القاعدة الدائمة، التى لا أخالفها..، خالف كل شئ، ولا إستثناء. تلك هى العلاقة الوحيدة الغريبة، التي أقمتها فى سنوات حياتى، مع الأشياء من حولى.. فأكتب، أو لا أكتب.. ودائما القراءة هى الفائزة. هذا هو الإستثناء الوحيد.
المعنى والكلمة

------------------ لا أصبر على معنى ممّا ينبت غريبا تائها. يحاججنى، حتى لا أتولى عنه، إلى ما تهوى نفسى. ومن هنا، أولى وجهى قبل أعماق أفكار، لم أكن لأفكر فيها. أو أطرق مجاهل رؤى ليست بعابرة، تمسّ القلم، ويُبتلى بها، بين بأساء وضّرّاء، فأحرص على ألا تتخبَّط النفس، بين مكامن هذه أو تلك. فلا تزال تقاتلنى المعانى، وأقاتلها. تصارعنى، وأصارعها، حتى تردنى الموارد.. فآتيها وتأتينى، من حيث لا ندرى. أو تصطحبنى لنذهب معا أنّّى نشاء، لا يعجزنا شئ. وهى حرب لا غنى عنها، أعتابا للعقل لها يعدو ويعبر، ومواقيت وثقى، لا تنفصم عُراها، للروح. يقوم معها الفكر قَانتا، يتبصّر طريقه. وتذهب معها الروح مسافرة إلى ملكوت، وهي ظمآنة خمصة. ولا تقضى هذه الحرب بينى وبين المعانى، أو تضع أوزارها، حتى أكون أحرص على حياة، وحذرا من موت. وسرعان ما يُضاء لى كل شئ من حولى. ويباشر العقل رغدا لا يغيض. ويتمّ للروح نور لا يخبو، فتعود بطنة، من حيث قُدر للحقيقة مُستقرّ. وعلى امتداد أبعاد الوعي، أحدّق في عمق عقلي، متسائلا، دوما. أطرح الوساوس بعيدا. أتفرّس، متنقلا بين وهجات مديدة، فوق ما غامّ. أرى الفجر قبل أن يُرى. أعى لغة، ليس ينطق بسواها الفجر. تلك اللغة القريبة، لا تدركها إلا رّوح ذات رؤيا. تحلق عاليا، مبحرة بين هذا وذاك.  فتصل أخيرا، بخفقاتها، إلى مقام زكيّ. حيث الحلم لا يخضع لأحد، ولا صمت بلون غسق قاتم.. وأعود مرة أخرى، من جديد، ولا أصبر على معنى غريب تائه.. وتصبح القضية دوما، هل الكلمات أم المعانى.. وكأنى أبرئ القلم من خرس، لأنطقه لأول مرة، ليصدِّق ما بين يَدَيّ الفكر من معان. وهذا هو المعنى على كل حال، وهو الأساس. فعندما تحسّ مِنْ هوى نفسك ميلا إلى معنى غير ما يسلمك إليه رّسوخ الفكر، فإنه يظهر لك فى كثير من الأحيان، ضرورة الموازنة بين ما رسخ فى الفكر، أو ما مال إليه العقل، مع ما جنحت إليه النفس لأول وهلة، وذلك عند طروق باب تلك المعانى. والأمر على هذه الشاكلة، أظهر منه فى الشعر عنه فى النثر، مهما تعددت صوره. وهو الأمر ذاته الذى يمكننا من الحكم على جيد ما نقرأه للغير من عدمه. فكثير من الأحايين تجد أن هناك من يكتب ويضع أمامه ألفاظا بعينها، ليكتبها كما هى. وذلك مرّده بالطبع لضعف الحصيلة اللغوية والثروة المعجمية، من مناهلها ومواردها. وهو أيضا ما يسبّب ضعف المضمون والمحتوى.. خلاصة الأمر خور كلا من المعنى والمبنى.. حتى أنه يمكنك أن تُحصى المفردات المعجمية لكل من تقرأ، مّمّا يمكنك فى نهاية الأمر إطلاق الحكم عليه .. فهو لا يتعدى ذلك أبدا قيد بنان، أقول لا شبر..! وبالطبع ونحن نكتب، فإن حاضر المعنى ليس كغائبه. ومن هنا تأتى أهمية الألفاظ والكلمات، حاملة للمعنى الدقيق، ومبينة ومصقلة لمبتغاه. والتى لا بد أن تأتى على هذا الوجه، وتُنادم أصداءه. وما يختلف التأويل لمعنى عن آخر، إلا للصور والمبانى البلاغية، التى تتأطّر فيها تلك الألفاظ، أو ترد من خلالها الكلمات الناهضة بالمعنى الكلّى، صادحة به.. وهو الأسلوب، الذى يميز كاتب عن آخر.. ويفقد غيره ميزة وأمل اللحاق به، أبدا..! وأسلوب الكاتب تاريخه، وصبره، ودرسه،.. وقبل كل هذا موهبته، التى يبنى عليها بنيانا سامقا، راسخ الجذور، ثابت الأصل.. لا هاوٍ أمام ريح، ولا خاوٍ عرشا..  ومن هنا كذلك، تتأتى أهمية ما يُعرف ب"السياق والدلالة "على مختلف مناحيهما. وهى أمور لا يجب أن تغيب عن الكاتب سواء فى كتابته، أو قرائته لنصوص أخرى.. ومن لزم هذه الأمور مبكرا، فهو يعى أن الأمر أعمق بكثير،.. من مجرد إشارة عابرة. يكفى فقط أن نجمل الإشارة إلى علوم البلاغة فى العربية،  بفروعها. وهى العلوم التى لا غنى عنها لكل كاتب وأديب وشاعر.. وأذكر فقط ما أورده محمود سامى البارودى فى شهادته للشيخ حسن المرصفى ومصنفه الرائع فى علوم البلاغة والذى إستفاد منه البارودى أيّما إستفادة.. ولا ينكر أحد ما للبارودى من ثروة لغوية، إلا أنه رّدّ الفضل لأهله و أوضح ذلك. وحديثا نجد تلك الأسفار، التى تتحدث عن علوم، مثل السياق والدلالة، وغيرهما من علوم متصلة باللغة، مما يرجع بتنمية وإتقان المهارات اللغوية والبلاغية وصقلها. حبذا لو كان للكاتب إطلاع واسع، يردّه مردا إلى علم فقه اللغة وأصولها. وهنا يظهر أهمية التراث العربي، فى هذا الجانب الذى ذكرته فى مقال سابق، من أهمية مؤلفات ابن فارس وابن سيده والمعرى والجاحظ.. وغيرهم من أرباب اللغة وأصحابها. هنالك حيث أسفار لا يشبع منها، ويرجع إليها مرارا، كل متذوق للغة، قارئا كان أم كاتبا. والجلد الصبور، هو الذى يذهب وراء كل ذلك بشئ من نفسه، ولا يعود إلا بنفس أخرى، لم يعهدها، عمّا ذى قبل، مع  الأسلوب، حتى لو كتب بشوْكة، لا قلم..! 
شيئا فشيئا كن أنت
-------------- أحيانا ينتابنى شعور، أننى فى قضية خاسرة، حينما أبدا عملا وأتاخر فيه شيئا من الوقت، كنت قد نظمت له سلفا. إلا أن الأمر يكون بصورة أخرى، فى كتابة رواية أو قصة.. فالأمر غير محدد بوقت قطعى. بل على العكس تماما قد تجد نفسك تغير الكثير والكثير، وتعيد أكثر ما كتبت. وقد يأخذك هذا إلى ما لم تكن تفكر فيه، من قبل من أمور، لتتملك بنيان عملك. والمشكلة الحقيقية، أنك تكاد ترى بعينى عقلك كل شئ، وتصارع المعانى والكلمات التى تحملها فى العمل.. حتى ترضى بعض الشئ عن نفسك. والمشكلة الأخرى، حينما حتما تعطى لأبطالك سمات نفسية، تحتاج منك للبحث والتدقيق. ولا ريب أن الأمر يصبح مع الوقت والممارسة نوعا آخرا من الصراع لإتقان العمل. ناهيك عن عدم هروب البعدين الأساسيين منك، وهما المكان والزمان.. وكلها دوائر متداخلة، أنت الحكم الوحيد فيها. وفى النهاية، لا يمكنك الحصول على كل شئ، فلا تقترب أبدا من الكمال ولا الرضا عن نفسك. دائما هناك شئ ناقص، أنت وحدك من تشعر بوجوده. وحينما تتقدم بك التجربة، خاصة بعد الأعمال الطويلة، تتفتح لك أبواب تكتشف بعدها أنك لا زلت لم تقدم شيئا بعد.. وأنك فعلا لم تذق مشقة ولا متعة بعد. دائما هناك شئ مفقود وناقص كما قلت. والغريب، أن هذا الشعور، لا يقتصر على الأعمال الإبداعية فى القصة والرواية والشعر.. بل الأمر يتخطّاه إلى أنواع الكتابة الأخرى، مع تنوع الأسلوب وتراوحه. ومثل هذا لا ينبغى أن يقنعك إلا أن تسلم أنك لديك الكثير يجب عليك البحث لإخراجه، والتصدى للأمر مرة بعد أخرى. ليس وصولا إلى دقة، ولكن لحالة إبداعية، ما كنت تتصورها فى نفسك قط. ولا أحسبنى قد نلت من هذا إلا القليل جدا. وأحسب كذلك أن علىّ النيل من سعة الموارد اللغوية أكثر، التى فى ظلها تمتد للقلم جسارة، وللفكرة آفاقا.. وتبرز قيمة المعنى. ولا يكن الوقت إلا فاصلا بيننا وبين الوصول إلى هذا مرحلة بعد أخرى، على نحو منظم وخطوات منطقية، من الفعل و التصميم. وعن نفسى، لا ينحسم الجدل أبدا فى داخلها، عن نوعية هذه الموارد، ومنهجية التعامل معها. وقد إستفدت كثيرا، من كتب السيرة الذاتية لكثيرين، فهى تعطى إشارات وومضات وعلامات على الطريق فى سير أولئك الكتاب والأدباء، لما يؤحذ فى الإعتبار.. وأنت بدورك تنتقى وتتذوق.. وهو رأى ليس مطلق تماما. وفى حقيقة الأمر، فإن دراسة العصور الأدبية مثلا، تكون قاعدة أخرى، فى هذا المضمار. وهى قاعدة مثلى، إذ تعطيك أسماء المؤلفين والكتب فى كل عصر.. وما عليك إلا البحث والصبر، على الدرس والقراءة بل والتمتع..ومن ثم، شيئا فشيئا يتراكم لديك شئ.. ثم تكون أنت.. ولا شئ غيرك..
ظلال الكلمات
-------- أحيانا كثيرة حينما نقرأ نصا أدبيا سواء نثرا أوشعرا ونجد له ظلالا فى النفس قوية، لها أصداؤها وتأثيرها الكبير فى الروح. ونبحث عن السبب فى ذلك، ونتفحص النص، فإننا نجد كلمة أو كلمات أو صيغا بلاغية مستقاة، من القرآن المجيد.  وما كان للنص أن يترك أثرا، لولا وجود تلك الكلمات، التى تعطى رحابة وبحارا واسعة، يأخذ جمالها بالنفس. وهذا هو السبب الأساسى، فى بلاغة أدباء عظام، أمثال الرافعى والمنفلوطى والعقاد وباكثير وغيرهم. مما يبينه التناص مع القرآن الكريم، والذى يخفى على القارئ، إلا لمن له خلفية وقراءة واسعة. بل وبات الأمر، محل دراسات أكاديمية تكشف هذا الوجه الهام، من جماليات القرآن الكريم  بل ومن أسرار إعجازه. وهذا الجانب شدّنى منذ فترة مع شغفى بالقراءة فى مصنفات إعجاز القرآن الكريم. فمن الأمور المحببة للنفس والآخذة بلبّها أن تغوض مع كلمات القرآن وهو الأمر ذاته الذى دفعنى منذ فترة لمحاولة الكتابة فى وجه من وجوه الإعجاز الذى يقف الإنسان أمامه مذهولا وهو الإعجاز الموضوعى للقرآن. فما من أمر أو موضوع أو مسألة إذا أردت أن تبحث عنه فى القرآن كتاب الله رب العالمين إلا ووجدت لها حقيقة موضوعية كاملة ومطلقة ليس بعدها من حقيقة. وأدعو الله تيارك وتعالى أن يوفقنى قى تقديم هذه الجانب وتحديدا فيما يتعلق بالحقائق الكونية والفلكية فى القرآن الكريم بصفة موضوعية.

فكرة النص الأدبى
---------- مّمّا يتأصل فى النفس، ويكون له أقوى الأثر من وقع عليها، تلك التجارب الأدبية الحافلة بالذكريات الإنسانية، وتحمل معان بالغة الأثر، مثل الرحيل. أو تلك التى تجمل من معان، متمثلة فيما يقذف به الإنسان خلف ظهره، من صروف يتعرض لها عبر رحلة الحياة، ودروبها. الأمر الأشبه بتكسر سلاسل من الأمواج العاتية، حينما يكون على صخرة قوة النفس والروح. ومن هذا القبيل أذكر عملين أدبين لى، وهما (غربة طفل ذى تميمة) و(سرماديا). وأزعم أنها تجربة أدبية جديدة، جاءتا من بوتقة واحدة، إتصالا بعلاقة الأدب بالنفس الإنسانية بمفهومها الواسع. كما لا أتصور أن يفهم مثل هذين النصين النثرين، إلا من كان له قدرة موضوعية، وسابق تجربة فى النقد الأدبى الموضوعي.  ولست بصدد تأويل هذين النصين، نظرا لأنهما ينتسبان لى، إلا أن الأمر لا يخلو من فائدة للقارئ الذى وقف عليهما، حينما نشرتهما. ومجمل القول، هو وجه الجدّة فى هذين النصين اللذين شغلا من فكرى  فى بنائهما وصياغتهما، هذا المنحى.. وأقصد به الوجه غير المسبوق فى الكتابة. وجوهر التجربة هنا، هو الإبتعاد تماما عن كل ما هو متعارف عليه، فى فن القصة القصيرة وأصوله والتى باتت تقيد الأديب فى تفكيره، حتى ربما أنها قد تصبح قيدا على الإبداع الأدبى الخلاقوسوف أوجز النقاط الرئيسية، التى تعطى هذين النصين هذه الميزات التى أشرت إليها من تفرد، على سبيل التجربة، ربما إستفاد منها كل متعمق، أو وقف عليها بالفعل البعض، ممن يحسنون القراءة الواعية التى تكشف عن مواطن الجمال. ومن هذا البعد عن الشكل النمطى المعروف، فعلى سبيل المثال يتأرجح النص الأدبي (غربة طفل ذى تميمة) بين الرواية والقصة القصيرة رغم أنه يتعدى أبعاد الأخيرة، ويُجافى قواعدها تماما. والسبك الذى جاء فى هذا النص، بين عناصر أساسية مثل المكان والمكان والشخوص، هو المحكّ هنا. فقد عمدت إلى تحييد العنصرين الأولين (المكان / الزمان) فلم أذكر أسماءا لأمكنة معينة، كما لم أحدد زمانا أو تاريخا.. ولا شك أن هذا أعطى إتساعا وعمقا، ولا يقف على هذا الجانب إلا الناقد الواعى، والقارئ المتمرس. والغريب أننى فى بادئ الأمر، لم أخطط لهذا الجانب خاصة فيما يتعلق بزمان النص.. لكننى وجدت التجربة تستأهل تلك المغامرة المحسوبة فى الكتابة، وهو الأمر الذى أعطانى رحابة وقدرة على التنقل فى صيرورة الزمن، ببعديه الماضى والحاضر، والدفع بالنص إلى الأمام. والسؤال هنا، ماهى الطريقة التى انتهجتها فى هذا.. الأمر لى كان أشبه بالإمساك بدفة سفينة مبحرة فى الزمن، تحمل أحداثها الرئيسية. وهذا هيأ لى أن استغل آلية جديدة وهى الحدث / تغييب الزمن، كلما إحتاج الأمر منى ذلك. وللتغلب على الفواصل الزمنية الممتدة كان الحدث، هو البطل الرئيسى. والأمر الاكثر أهمية الذى ساعد فى ذلك وتعمدته، هو تغييب الأسماء، مع إعتماد الحوار الضيق لأقصى حد. والأكثر الأهمية صوت الراوى الذى لا يغيب فى النص/ بعيدا عن الإسهاب الذى يسببه المنولوح الداخلى. والتجربة فى هذا النص (غربة طفل ذى تميمة) لولا أننى اتكلم عنها وانا صاحب النص، لأسهبت فى تناولها من وجوه كثيرة. ولا شك أن النص الآخر وهو (سرماديا) يحمل من نفس السمات الشئ نفسه. وكم أثلج صدرى معدل القراءة العالى فى المدونة لهذين النصين بالذات حينما نشرتهما. ورغم عدم وقوفى عادة لمثل هذه الأمور، إلا ان الأمر كان ملفتا لنظرى، وربما هذا هو السبب المباشر فى كتابة هذا المقال القصيرعنهما، وهى صعوبة على الكاتب أو الأديب، أن يكتب كيف يكتب. على أية حال، كلما رحبت آفاق الكاتب وجد معينا بعد معين لتجربته الإبداعية، تتدانى إليه على ضفافها أبعاد النفس البشرية، وتتقارب معها أطراف الكون، فيتسع المدى أمامه، ليطال فيه من كل ثمار الفكر. ولاريب، حينما يلج العقل مثل تلك هذه العوالم الرحبة، التى لا تضيق إلا على كل ضيق الأفق، وتتوه عن كل مغلق الفهم، فإن الكاتب يجد ثروة من الأفكار، تأخذ وقتها حتى تنضج. وتستغرق من جمرة الفكرة الموقدة، حتى تطيب، فتظهر من خبايا الذاكرة، وينزف بها القلم مسكا لا يشمه، ولا يستطيبه إلا كل قارئ باحث عن متعة فكر، ومتذوق لعذوبة لسان عربى مبين. ولا شك كذلك، أن هذا الصنف هو النازح دائما عن كل غثّ ،آنفا بنفسه عن كل ما لا يستسيغه العقل الراجح والفكر السليم. وأخيرا أن نجد متكأ للحظات، يرهف فيه العقل السمع لصرير القلم، تناجيه فيه الأفكار والرؤى، عبر كل بنيان فكرى، فرعه فى السماء، وقد أتى أكله بإذن ربه.
رمزية جورنيكا !

------- وضعت فيما سبق مقالا، عن الفن، وتحديدا عن أثر الرسم فى النفس البشرية، ودور ذلك فى الأدب، وفى تشكيل وتكوين نفسية الأديب، وعوالمه. ومن اللوحات المدهشة، لوحة الفنان العالمى بيكاسو الآسرة، التى رسمها عام 1937م، والمشهورة باسم (جورنيكا). وهى اللوحة، التى تنبض بكل عفوية وتلقائية، بالروح البشرية. وقد رسمها بيكاسو، بعد قصف النازي لقرية جورنيكا الإسبانية، قاضيا على عدد كبير من سكانها، في الشمال. والرائع فى هذه اللوحة، أنها اعتبرت، أهم لوحة رمزية لتصوير أهوال الحروب، ومن هنا، اقتنت الأمم المتحدة صورة منها، فى مبناها، للتذكير بويلات الحروب، وآثارها المدمرة على العالم. وقد إلتزم فيها بيكاسو فقط، باللونين الأبيض والأسود، مع درجات متفاوتة ومتباينة من الرمادي، محرما على نفسه بقية الألوان الأخرى، وهي الأكثر قدرة على التعبير، والنبض بمعان يريدها فى اللوحة. ومن هنا، إستعاض بيكاسو بحل آخر، فكان إصراره على أن تكون اللوحة، أو أي لمسة فيها رمزا، على مآساة من فاجآهم القتل، والتشريد. وهنا يظهر دور الرمز،  وأهمية دلالته، والذى إستخدمه بيكاسو، على نحو واضح، بتسليطه الضوء على أعضاء بشرية، متناثرة ومشوهة! تمثل فى مجملها كومة من الإحساس، لـتكثيف الشعور بفظاعة الحرب، وضرورة الإحساس بويلاتها، على الضحايا الأبرياء. ومن تلك الرموز الموجودة فى اللوحة، والتى أدت فى تضافرها المعنى الكلى (الثور، الحصان، الرأس الصائحة، الذراع، العين، ..). ناهيك عن الحركة الإنسيابية فى اللوحة، على إمتداد أبعادها. ولا ريب، أن كل رمز له دلالته الفنية العميقة، فى تصوير مآساة البشرية، ومعاناتها من الحرب، أيا كان وقتها، وأطرافها، من البشر.. ولا أنكر، أننى إستفدت من دلالتها كثيرا، فى كتابتى لقصة سرماديا، فهناك علاقة بين سرماديا وجورنيكا، وهى مما يُشار إليه، من علاقة مباشرة، دوما هى، بين الفن والأدب.

الخَلق الأدبى - القصة فن أصيل رفيع

--------- إن كتابة القصة فن أصيل رفيع. لا يمارسه إلا صاحب موهبة، من البداية إلى النهاية. وترتبط هذه العملية بمجملها، بما يسمى بالخَلق الأدبى. وبهذا المفهوم، ليس من المعقول أو المنطقى، أن يكون كل من أمسك قلما، صاحب منبع خلاق. فهو أمر نامٍ مع الوقت. ينضج، ولا يمكن أن يتوقف تأثيره.. والخلق الأدبى نفسه، أن تعطى شيئا تتمثل فيه الحياة، وتنطقه الموهبة. ومن هنا، نستطيع القول، أن هناك كثيرين يتمنون ويتمنون.. بل ويأخذهم الخيال غير الخلاق، وأحلام اليقظة، أن يكونوا كذلك، فيبذلون محاولة فاشلة تلو محاولة، لكن أبدا، لا يمكنهم تحقيق ذلك الخلق، أوبث حياة فى عمل أدبى، يُعدّ أعلى ما يتوقعه قارئ أو متلق. والدليل الواضح، هذا الكم الكبير من الأسماء واللا أسماء، ممن لو أحصيت، لن تجد منهم إلا أقل القليل، الذى يحمل حقا، موهبة حقيقية. ولاشك أن العملية برمتها، لها جانبان. أولهما بطبيعة الحال، تلك الموهبة الصادقة، بالأساس، والتى يجب صقلها إثر إكتشافها. والثانى القواعد العلمية، التى لها سمات محددة، لا غنى عن معرفتها، وإتقانها قبل الكتابة. ويرجع (يوسف ادريس -  رحمه الله) وهو رائد من رواد القصة القصيرة - هذا الأمر، إلى أن الموهبة المؤثرة، هى التى تلمس الوجدان، وتعبر عن العواطف والإنفعالات، بل ولها القدرة على تغيير السلوك فى الحياة وإثرائها. وكما يرى (تيمور – رحمه الله) أن فيها الفقر، الذى تصفر فيه ريح الخواء، وفيها الخصب، الذى يزهر بالنماء والازدهار. وعلى هذا، يصح القول، أن القصة القصيرة تعد فنا صعبا، بل وأحيانا، أكثر صعوبة وفنية من الرواية الطويلة، من أبعاد شتى، رغم إختلاف البناء والقواعد بينهما. وحتى تقف على هذا الجانب الخلاق، لتعرف مدى صحة هذا الرأى، فى القصة القصيرة وتكامل صورتها وبنيانها عند روادها، عليك مثلا، قراءة أعمال الأديب الفرنسي (موبسان). مختصر القول، وعلى وجه التحديد، فإن القصة القصيرة، تمثل عالما له بصمته على الإنسان، بدنياها الزاخرة، بشتى الأحاسيس والإنفعالات.. الحياة بكل جمالها ورشاقتها وعذوبتها وآلامها.. عالم المفارقات والمتناقضات. الأمر أعمق، بالطبع من هذا التناول المقتضب، وله عودة أكثر تفصيلا.

الروح والكتب

--------- أدفع للخلف إطارا معدنيا لنظارة، أضعها فوق  رأسي، كعادة ليس أكثر. أشعر أنها ليست نظارة. يدان تمسكان برأسي .لا أحتاج نظارة، لأرى اللوحة. وضع نظارتى هكذا عادة ليس أكثر. أعارتنى بصيرتها زرقاء اليمامة.نظارتي تتمم طقوس غرابة نفسي. أخدع عقلي. أسخر من نفسي. لا أغيّر عدساتها، أمام مدن حيّة صاخبة. أسمعها. أنظرها نابضة، أسمع ضجيجها، كما أحب الصحراء البعيدة، بهجيرها وسرابها. إنما ضوضاء الكتب حياة. أعشقها. الكتب مدن. الكتب حياة. مدن بحرية ترى بحرها وتشم يودها. دليل ومرشد فيها.. سباحة لمسافات طويلة. وكتب بريّة، أدع نفسي فيها على سجيتي. أعدو. أركض. أنام على أرضها وجهي للسماء. أتمرغ فى مروجها الخضراء. أحلق مع الطيّر. أغرّد. أنام حتى على أغصان.. الكتب مدن وبراري، وأرياف وصحاري. الكتب حياة. أصحاب المدن تاريخ. يسكنون قلوبها أحياء. ويسكنون قلوبنا. نزورهم. لا نعرف كيف تكون الحياة بدونهم حياة. الكتب مدن. صامتة. غاضبة. ثائرة. الكتب حياة. أشرع سفرا لكتاب. وأرحل عن كتاب. محطات.. فيستقبلنى كتاب بقوس "هزيمة" على بوابة مدينته. وأودع كتاب مدينة فسيحة رحبة، على عهد  أنى سوف أعود له يوما مستسلما. فى تاريخ مدينتي أسطورة سقطت من الإغريق. لم يسطروها. مكانها فوق قوس "نصر" على قاعدة تمثال كبير. أرفع نظارتى التى لا أضعها على أنفي. أركع. أحدّق. أنحنى. اقترب أكثر. لا ألصق عدستي نظارتي بأنفي، ببرودة رخام تمثال. هى عادة لا أكثر. أضع نظارة بإطار معدنى على رأسي . هى ميزان. أستطيع قراءة ما كتب تحت التمثال من أسطورة.. الكتب حياة. سفر. وداع. الكتب قرار. حلم من الأحلام. وبعض الكتب تجعلنى أحلم. والبعض الآخر يجعلنى أكون واقعيا.. وبعضها ملهم يفتح آفاقا أرتادها لأول مرة.  وفى النهاية كل كتاب بجديد من عوالم ورحابات للتأمل ولإشباع الروح التى لا تشبع من كل جوهر. ويستمر حديثى مع الكتب فى رأسى، وكأنها أحاديث مع أصحابها أراهم ويرونى. وأعتقد أننى عقدت صداقات مع أصحابها العباقرة، فى عالم القراءة. كم هو عظيم أن يمنحونى أعمارهم عمرا بعد عمر، وعصرا بعد عصر، وفكرا بعد فكر.  قد بدأ الأمر، وأنا جالس مع صديقى الكبير الأوحد فى صفاته. يكبرنى ليس بكثير من السنوات، إلا أننا صنوان فى كثير من الأمور.. فرغم أن صداقتنا، بدأت قبل بعيد من السنوات، حينما جمعنا حانوت للكتب القديمة ذات مرة، عجب من أمرى، كيف وأنا فى عمرى ذاك، كنت أفاوض على ثمن كتاب "لسان العرب". وبدأت صداقتنا بقدر، دون شعور منا، فكنت أستعير منه ماندر من الكتب، ويستعير منى ما أعلم أنه يستطيع الحصول عليه.. ولكنه كان التشجيع وحب القراءة والعلم. وكم وقفت منه على أسماء كتب، لم أكن أعرف عنها شيئا.. وحينما يقع فى علمى من هذا شيئا يساهم فى تنمية لغتى أو تفكيرى، كنت أقول لنفسي : " يالله كيف لم أكن أعلم عن ذلك الكتاب شيئا من قبل... " ولكنه على أية حال كان دأبى لاكتساب العلم والتجربة، حتى برعت مع الوقت فصار العكس. وصرت أكتشف جهلى كل يوم، كلما قرأت...  ومن الحالات الأولى، بداية تعرفى على إمام من أئمة اللغة، وهو ابن فارس، حينما أخبرنى عنه صديقى الكبير، منذ سنوات طويلة  مضت.. وهو صاحب كتاب فقه اللغة. وهو كتاب فريد من نوعه، ووحيد نسجه، ولا غنى عنه. إضافة لبقية مصنفات الرجل العظيم، التى سعيت وراءها واحدا بعد آخر. والتى تشكل فى مجموعها، مع كتب لآخرين - أمثال المعرى وابن سيده والجاحظ وغيرهم - ثروة كبيرة جدا، للكاتب والأديب وكل صاحب قلم.

بين الإلهام والعقلانية
------------ قد يكون الكاتب بين أكثر من عمل يستغرقه.. وقد لا يجمع بين مشاريع الكتابة هذه  إلا خط رفيع، يحمل من روح القلم عبر الزمن. فإذا كان للكاتب أكثر من كتاب، يعمل فيها متنقلا بين حدائق الفكر، والتدبر بروية وتؤدة، فهو فى أسمى حالاته.   ومن الكتابة ما يكون له خطة عمل مسبقة، يضعها الكاتب على أسس المنهج العلمى الموضوعى. وهذه الأسس هى التى تحكم عمله، فى كل مرحلة من مراحل الكتابة، حتى ينهيه كما تصوره مسبقا. والإبداع فى هذا الصنف من المؤلفات، لا يتعدى كونه تقديم الموضوع، من وجهة نظر مغايرة لما سبقه من مؤلفات، وإن كان يستند إليها فى الإلمام بشتات الأمر كله، وله بنائه ولغته الخاصة بهولاشك أن الكاتب يتطور عبر الوقت، ويتقن آليات البحث العلمى فى الموضوعات التى يجيدها، والعلوم التى تصادف فى نفسه ميلا إليها. وأعتقد أن هذا الصنف من الكتاب، يكاد ينحصر فى علوم معينة.. ومن تعدى هذا يكون فى صراع دائب مستمر، بين أكثر من مجال يدرى أنه يتقنها، ويرغب فى الإسهام فى كل منها. ومن هنا يأتى تنوع إبداع هذا النوع من المؤلفين. ومن هنا أيضا، يكون الصراع مع الزمن أثناء الكتابة، حتى تثمر جهود الكاتب وسهره، عما يثلج له صدره قبل قارئه. والغريب أن هذا النوع كذلك، قد تكون له ميول أدبية دفينة، تتصارع قى قلب مكنونات أعماله البعيدة ،عن الإبداع الأدبى حتى تأتى لحظة قدرية، تنفجر فيها الرغبة المكبوتة، لتعلن عن مولد أديب له سمته وتميزه، يمضي معها ما تبقى من عمره. ومن هذا الصنف أذكر الكاتب الإيطالى (أمبرتو إيكو) الذى قدم رائعة الأدب الإيطالي رواية (اسم الوردة) بخصوصية أسلوبه الروائى، والذى يختلف تماما، عن أسلوبه فى كتبه الأخرى، مثل كتابه الشهير (حدود التأويل). وهذا يستوجب مصارعة من نوع جديد، بين ماتعود عليه الكاتب من عقلانية، وبين مايحتاجه الأديب من إلهام.. بين العمل الفكرى المنظم، وفوضى الكتابة الخلاقة.  وهى قضية الفائز الوحيد فيها هو القارئ، الذى يرتبط بالأديب والكاتب. وهى مفارقة غريبة، تثير سخرية الأديب، الذى تتفجر فيه ينابيع من كل نوع.. جولة بعد جولة، مع قلمه مغرما ومفتونا بمعاناته، التى لايدرى بها القارئ، أو يعرف عنها شيئا. وهنا يصبح ماكان إستثناءا هو القاعدة، متفردا به القلم، فى مغامرة مارقة عن المعقول، تعترك رحاها فى سويداء القلب، قبل عقل الكاتب، تلتهب بها الصياغة، وتنسكب بما يُوصم به أسلوبه ويتفرد. وهذا العزف أو العدول اصطلاحا ، ليس ورائه من نفس الكاتب الشئ الكثير، قبل الخيال الأدبى، كما قد يرى القارئ والمتلقى. وقد تكون النصوص نفسها مرايا، تعكس وميض خلجات القلوب وعوالم الأديب. وليس هذا مبررا أن كل الحالات تكون على هذا الشاكلة، وعلى وتيرة واحدة، وإلا كانت جناية  على القلم، وحكما بموت الإبداع، الذى يحمل شرارة حرية التحليق، وإلا كانت نيلا من فيضان الإلهام، أيا كان نوع النصوص الأدبية، حتى على مستوى الخاطرة. بين دموع القلم ودمه وغضبه، حتى صمته وأحيانا كثيرة عجزه تماما، الذى ينازع ما لا يكون بعد، ولا يلوح من بعيد من إبداع. كما يعتبر من قبيل أصداء النفس، ورجعها المسجون كآثار لتاريخ في زمن غريب، لايؤطره إطار، ليس فيه حين وحين آخر.  لايتأرجح بين غد وآنذاك.. يتواءم مع كل لحظة، لا يحمل ذكريات أو بقايا بعد، فيها القلم.. فهو شئ يفوق قدرات الكاتب وحدهولابد له من إلهام، يستنهض القلم، بين معاناة ألم أشبه  بنسمات الفجر الباردة وطياتها العذبة، تارة وأخرى.. وهذا تناقض غريب بين وحدة وعذاب واغتراب، وشعور بصوت، لا يسمع إلا في أعماق المجهول، والنفس والروح. كأنه شئ من آلام الجنون.. وهذا ما نلمحه من عقلانية (أمبرتو إيكو) فى كتابه (حدود التأويل) وجنونه فى روايته الرائعة الصادمة (اسم الوردة).

الكتابة
-------- تعذبني الكتابة وأجد لها ألما داخلى يستغرق كل وجداني. ولا أعرف كيف أخرج من هذه الحالة التى تتملكني. صراع بيني وبين نفسي لا ينقطع. أكاد أرى ما سوف أكتبه، قبل أن أكتبه. ولكن يظل داخلى لا أعرف متى ينطلق. شئ أشعر معه أننى مقسوم من الداخل. كأنى أنظر لإنسان آخر داخلى يملى عليّ ما يعرف هو، لا أعرف أنا فأصبح مسخّرا له، يقودني. يعذبني، حتى أمسك بالفكرة، ولا أعرف لها أول من آخر. كأن القلم لايعرف كيف يخطو خطوة، دون قلق يساور العقل، ويستولى على الروح. وحينما أحاول رفع رأسى عما يستغرقنى، أكتشف أنني مازلت فيه، بهواجس لا تنقطع عن الخاطر.   ولا أعرف إلا أن أشكو من هذه الحالة، التى تنتابنى فأشعر معها أنى بكون آخر وزمان آخر. لا أعرف أيتلبسّني القلم أم أنا أتلبسه؟! أم هذا الإنسان الذى داخلى يمتلكني وقلمي معا..؟!  فأنا مجزّأ بين هذا وذاك. لا أعرف كيف أشرح ذلك. ولا أعرف كيف تستولى على كل مداركى، هذه الحالة. فأشعر أننى فى يد اللاوعيى.   لا يحكمنى عقل ولا منطق. تنساب الكلمات والمعاني كنهر كبير بدون ضفاف. وأحيانا أجدنى وسط صحراء، أنظر لنفسي مشدوها. وأنا داخل ما يعرفه هذا الإنسان ولا أعرفه، فأستجدي القلم  وأركض راءه. ولا أعرف إلا أن أسمي هذا، شيئا من جنون الكتابة. وددت لو كان جنونا دائما، ليخرج كل ما يعتلج فى عقلي ووجداني. لا أكاد أستبين معناه ولا ملامحه، إلا إذا دخلت فى هذه الحالة. وأشكو نفسي لنفسي وأشكو قلمي عاتبا على ما كمن وراء عقلي. ويصبح شيئا أتلاشى فيه، وأمزق اكثر ما أكتب. وحينما تحين اللحظة، التى أظل أنتظرها، يكون قد أعتصرنى ما لم أكتب أكثر مما كتبت.. فأظل تائها، أبحث عن سبيل. فهناك دائما شيئا ناقصا لا أعرفهوأحيانا أصوم عن الكتابة، كمن به عُقم. لكنه شعور آخر، حينما يكون شيئا برأسى، يسكننى ولا أكاد أدركه. لا أعرف لماذا أكتب لكنه شيئا ينتابني.. لا أعرف له أولا من آخر، فأنا فى وسطه غارق. شئ ليس  له ملامح واضحة، أو محددة..أشياء تأتينى كفلاشات الكاميرا فى عقلي. ومضات وراء ومضات. تنعكس حتى على حالتي النفسية. ألوانا وصورا تعبرعن معان تائهة لتتضافر الكلمة مع الصورة. الأبيض مع الأسود، الظلال مع النور. كأننى أعبر بذلك فى عقلي، عما لا أستطيع  بيانه بوجداني. تمنيت لو كنت فنانا تشكيليا، لأعبر بريشتى، كما أعبر بقلمى، ليخرج الألم من داخلى، مصاغا فى سبيكة واحدة. تراها العين وتقرأها. ولا أظن أننى أحسن صنعا. فما زال داخلى كثيرا يسكن وجدانى فكرة وراء فكرة، أنقسم بينها وتنازع روحي. هذا شئ أعرف أننى أعرفه فى نفسي. ولكن ما لا أعرفه، لماذا  يزداد معى يوما بعد يوم مع مرور الوقت، كنار تأكل الأخضر واليابس فى وجداني، ليصدر نزف القلم، ويفيض من كل شئ. آراه فى عقلى، حتى فى نومي البسيط المتقطع. ما زلت على ساحل الكتابة، وأشعر أن هناك شيئا ضائعا، داخلى أتوه معه، حتى حال يقظتى.  وحينما أفكر فيه يهرب منيوحينما تتملكنى تلك الحالة الغريبة، أنتقل لحالة أخرى مغايرة تماما لحالة الألم. ولا أشعر إلا وقد كتبت وكتبت، وأخشى على ما كتبت أن أمزقه. ومرارا تنتصر رغبة عدم الرضا، فليس هذا ما فى عقلى. لكننى أظل دائما أبحث عن لحظة التلاشي هذه، لأتوحد مع قلمى ومع ما بداخلى. وحينما أقترب يزداد شعوري، أننى أبتعد أكثر. وهكذا أدور فى دائرة لا تنتهي. وهذا جنون فعلا، حينما أدخل فيه لا أشعر بنفسي، إلا منعزلا عن كل شئ. باحثا عما فى عقلي ووجداني يسكنني. أريد له أن يكون تحت ناظري. لا أعرف كيف أشرح ذلك لنفسي.  تمنيت أن أعبر عنه وأصرخ  به، حتى لو كنت وحيدا مع نفسي.. وأشكو نفسي وما بداخلي. وددت لو فسره عقل أو منطق. وددت لو عرفت سبب ما زال يعتلج داخلى.لا ينكسر قيده من وجداني. أتألم فاكتب ليخرج كما آراه فعلا يدور فى خلدى. وقد يكون هناك رباط لا يُرى، يجمع بين نصوص نوعية خاصة للكاتب، أشبه بأحاديث مع النفس، مما قد يعانيه وحده فى عملية إبداعه، أو الكتابة بصفة عامة. فلا يشعر به أحد. وما يعانيه ربما لا يعرف طريقه إلى الأوراق. ويظل حبيسا فى عقله وصدره فيتحدث به مع نفسه. حتى لحظة الكتابة رغما عنه. فيجد نفسه مدفوعا إليها. وتزداد الحيرة حينئذ. وقد يتهم نفسه فى هذه الحالة أنه عاد بل لا يستطيع أن يفهم شيئا، بما يدور فى نفسه. وهى حالة أشبه بالجنون العارض. وهو مبحث هام فى عملية الإبداع، وقد تربط بعملية التحليل النفسى. وفى كثير من الأحيان، بكون الكاتب فى عملية إختيار بين الكلمات والألفاظ. خاصة حينما يكون لها أكثر من معنى تتأطر فيه. ولكن المدهش، حينما لا يحتار فى الإختيار إنسياقا وراء حالة نفسية، تدفعه دفعا للكتابة فلا يقف على شئ. وإنما يصبح الأمر كله أشبه بتيار مندفع، لا يستطيع أن يوقفه أو يقف أمامه. وهى لحظة أكثر إثارة. وهى ما يبحث عنه الكاتب أو الاديب دائما، حينما ينساق باللاوعى، فيصير هو نفسه كهباءة، تتناقله أصداء الكلمات عاصفة به، فتولد منه ما لايمكن أن يتصوره هو فى نفسه. وهى لحظة كذلك، من لحظات مايسمى بالإلهام. والتى يقف وراءها دافعا خفيا لا يعلمه إلا مبدع النص. كنافذة فتحت ليطلع منها على روحه. يرى ويقدم ويحجم. بعدما تركت فيه بقايا أحاديثه مع نفسه ما يشبه درجات اللونين الأبيض والأسود. يتحرك بينها كأسوار وسياجات وظلال متدرجة، أو مرآة تعكس فيها صورة ما يعتلج فى نفسه.  وقد يسمعها كأنفاس، وهمسات وأصداء تتردد فى عقله، فيقصّ أثر ما كان غائبا يبحث عنه، فيوقن أن لحظة الكتابة فعلا قد أتت. وبشئ من الصبر والتصّبر والجلد ومعايشة الأمر، والممارسة، تكون متعة الكتابة بصدق الإحساس. ومن لم يصل إلى هذه الحالة، يفشل مرة بعد مرة، حتى تواتيه الفرصة، وتأتيه لحظة الكتابة الصادقة. ولولا ذلك لاستمرت تائهة عنه، وراء غيب وتحيره. ولظلت كأحاديث نفس  كثيرا، ما تضيع بين الصمت والنطق. ومن هنا، يأتى سبب من أسباب الإختلاف فى تلقى وتأويل النصوص. وفى مقال (مذكرات صديق) ولم أكن أتوقع هذا الإقبال، على قراءة هذا النوع من الأدب، فكثيرون أولئك، من لهم إهتمام بالطب، والتحليل النفسي.. حتى أننى فكرت "ولما لا أغيرها إلى مجموعة قصصية باسم (حالات).." مستفيدا من هذا الثراء النفسي، إستنادا إلى التحليل، ومرجعية الطب النفسي، لما كنت سوف أضعه فى هذه السلسلة من المقالات. بلا ريب، فإن هذا النسيج، يعطى عالما كبيرا ورحبا للكاتب، يستوعب، هذه النوعية المستقاة من الواقع، وهى تجربة جديدة، أخوض فيها مع القلم.. ولعلى أسمّى كل قصة منها ب"حالة".. فلم أقف بعد، على المسميات، بقدر ما، وقفت على مدلول وعصب، كل قصة منها. فكانت أول قصة منها بعنوان (الحقيبة)، بعد تعديل المقال المذكور، إلى قصة مفتوحة النهاية.. لتكون مدخل المجموعة. وهذا ما جعلنى أستطرد فى بيان كتابة القصة، وكيف أنها فن أصيل رفيع، فى مقال (القصة هذا الفن الرائع) الذى لا يمارسه إلا صاحب موهبة، من البداية إلى النهاية. وترتبط هذه العملية بمجملها، بما يسمى بالخَلق الأدبى. وبهذا المفهوم، فليس من المعقول أو المنطقى، أن يكون كل من أمسك قلما، صاحب منبع خلاق. فهو أمر نامٍ مع الوقت. ينضج، ولا يمكن أن يتوقف تأثيره.. والخلق الأدبى نفسه، أن تعطى شيئا تتمثل فيه الحياة، وتنطقه الموهبة. ومن هنا، نستطيع القول، أن هناك كثيرين يتمنون ويتمنون.. بل ويأخذهم الخيال غير الخلاق، وأحلام اليقظة، أن يكونوا كذلك، فيبذلون محاولة فاشلة تلو محاولة، لكن أبدا، لا يمكنهم تحقيق ذلك الخلق، أوبث حياة فى عمل أدبى، يُعدّ أعلى ما يتوقعه قارئ أو متلق. والدليل الواضح، هذا الكم الكبير من الأسماء واللا أسماء، ممن لو أحصيت، لن تجد منهم إلا أقل القليل، الذى يحمل حقا، موهبة حقيقية. ولاشك أن العملية برمتها، لها جانبان. أولهما بطبيعة الحال، تلك الموهبة الصادقة، بالأساس، والتى يجب صقلها إثر إكتشافها. والثانى القواعد العلمية، التى لها سمات محددة، لا غنى عن معرفتها، وإتقانها قبل الكتابة. ويرجع (يوسف ادريس -  رحمه الله) وهو رائد من رواد القصة القصيرة - هذا الأمر، إلى أن الموهبة المؤثرة، هى التى تلمس الوجدان، وتعبر عن العواطف والإنفعالات، بل ولها القدرة على تغيير السلوك فى الحياة وإثرائها. وكما يرى (تيمور – رحمه الله) أن فيها الفقر، الذى تصفر فيه ريح الخواء، وفيها الخصب، الذى يزهر بالنماء والازدهار. وعلى هذا، يصح القول، أن القصة القصيرة تعد فنا صعبا، بل وأحيانا، أكثر صعوبة وفنية من الرواية الطويلة، من أبعاد شتى، رغم إختلاف البناء والقواعد، بينهما. وحتى تقف على هذا الجانب الخلاق، وصحة هذا الرأى، فى القصة القصيرة وتكامل صورتها وبنيانها عند روادها، عليك مثلا، قراءة أعمال الأديب الفرنسي (موبسان). مختصر القول، وعلى وجه التحديد، فإن القصة القصيرة، تمثل عالما له بصمته على الإنسان، بدنياها الزاخرة، بشتى الأحاسيس والإنفعالات.. الحياة بكل جمالها ورشاقتها وعذوبتها وآلامها.. عالم المفارقات والمتناقضات. الأمر أعمق، بالطبع من هذا التناول المقتضب.فالقصة القصيرة نوع من الحكاية له مضمون، مكتوب نثرا، وتروي القصة حدثا بلغة أدبية راقية، ويقصد بها الإفادة أو خلق متعة ما في نفس القارئ، عن طريق إسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخيلية والواقعية. وذلك بهدف إستثارة الإنتباه والإهتمام. سواء كان هذا نابع من تتابع وتطور الأحداث التى تتناولها أو بتصوير الأديب لحدث معين، يطال عادة أو يخلق  حدثا غريبا. إنها قطعة من الخيال، عبارة عن وحدة فنية، تتناول قطاعا عرضيا من الحياة ، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعـالج لحظة وموقفا تستشف أغوارهما، تاركة أثرا واحدا وانطباعا محددا في نفس القارئ. ومن أبرز خصائص القصة القصيرة وعيها الشديد، بالتفرد الإنساني، وتصور حدثا معينا، لا يهتم الكاتب لما قبله أو لما بعده. فى النهابة، هى عمل أدبي يصور حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، يتعمق القاصّ العبقرى في تقصيها وتتبعها، والنظر إليها من جوانب متعددة مترابطة، ليكسبها قيمة إنسانية كبيرة. خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي، وما يكتنفها من مصاعب وعقبات، على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة، تنتهي إلى غاية معينة، وهدف، مخطط بوعى وإدراك. تعتبر القصة القصيرة من الأنواع الأدبية الوافدة، وإن كانت لها جذورها في حكايانا وأخبارنا ومقاماتنا العربية. ويدرك المطلع على الأدب العربي القديم أن نواة هذا الفن القصصى وبدايته لم تكن غريبة أبدا على الأدب العربي بالمرة،  إذ نجد أن العربي قد عرف بسليقته وفطرته فن القصّ، وعرف القصة بمعناها ومفهومها العام، فيما أوردته أخباره وحكاياته، التى وردت فى الأدب العربى، بصور وأشكال مختلفة ومتنوعة، من نثرا وشعرا، مسايرة حياته، التى تنطق بخصائص ومفردات البيئة المحيطة به. ومن هذا جاءت القصة، التى تستقى وتنبع من تلك البيئة الأصيلة،  كقصة عنترة والمقامات والسير والأخبار والنوادر وقصص الأمثال العربية القديمة، التى تمتلأ بها المصادر والتراث العربي، والتي نلتمس فيها بوضـوح روح الـقصة أو على الأقـل نلمس مشابهة روح الحكاية المشابهة لروح القصة من حيث البساطة. وما قصص الحب العذري، مثل قصة (قيس ولبنى) إلا واحدة من ذلك، بينما نرى البعض الآخر، من تلك النوعية المتعددة قد ورد ونشأ، نتيجةً الإتصال بأمم أخرى مثل الفرس، وغيرها، مثل (كليلة و دمنة) و(ألف ليلة وليلة) ثم فيما بعد، لتجسد الآخر في الأدب الشعبي والتصويرى، الذي عنيت به العامة، ووجدت فيه متعـة، وإن كـان يضـرب فى كثير من الأحيان إلى الخيال. ومن أهـم القصص الشعبية ما يعرف بالسير الشعبية. وتروي الحكايات الشعبية كثيرًا من الموروثات الشعبية إبتداء بالأساطير ووصولا إلى حكايات الجان.. ثم الحكايات، التى تمخضت عنها الأمثال والحكم . وعلى ذلك فللقصة القصيرة، أصل في تراثنا العربي، على أننا لا نجد فيه ما يمكن أن الإطلاق عليه قصة قصيرة، بالشكل المعروف، والذي نعرفه وفي صياغتها الخاصة بها، الآن. فالقصة القصيرة كفن مستقل بذاته، لم يظهر فجأة، أو من فراغ في أوربا نفسها، بل سبقته مراحل تطور عديدة، حتى وصلت إلى صورتها الحالية، والشكل الذى تتميز به. وعلى الساحة العربية لو تتبعنا ما يمكن أن نطلق عليه الفن القصصي عند العرب، فستكون البداية حتما من هذا النوع المعروف بالقصص الخرافية.  ومما يدل على أن هذا اللون من القصص كان يُعد من الأدب كتاب "سهل بن علي أبي غالب الخزرجي" عن الجن وحكاياتها، والذى حمله إلى "هارون الرشيد". وكانت المرحلة التالية هي القصص الشعرية الحماسية (الملاحم) بعد الفتوحات الإسلامية، والتي روت سير أبطال العرب ومغامراتهم في القتال والحب، مثل سيرة (عنترة بن شداد)، و(الملك سيف بن ذي يزن) و(السيرة الهلالية) وغيرها، وكان السرد والحوار فيها، يتكون من النثر والشعر. وتعتبر المقامة أشهر وأهم لون أدبي فى القصة العربية، ومن مراحل تطورها المهمة، وأول من ابتكر المقامات "بديع الزمان الهمذاني" ثم "الحريري".  ولا ينكر الدور الذى لعبه القصص الديني، مع ظهور الإسلام، إذ نزل القرآن الكريم بأروع القصص وأجملها، كقصص الأنبياء والرسل. وحديثا ظهرت القصة القصيرة، بشكلها الأدبى المعاصر، على أيدي عـدد من روادها، في مقدمتهم الأمريكي ( إدجار آلان بو) الذي لم يكتف بكتابتها، بل حاول التنظير لها، وقد لخص خصائـصها، بوحدة التأثير أو الإنطباع، وأنها تقرأ في مرة واحدة. وتمثل إبداعات (تشيكوف) و(جوجول) القصة القصيرة، ثم (موبسان) أحجار زاوية كبيرة فى هذا الفن الأدبى. وعلى مستوى الأدب العربي، يرجع الفضل في ظهور القصة القصيرة إلى الآداب الغربية إذ أتيح للأدباء العرب الاطلاع عليها، فتأثروا بها. ويعتبر الأخوان محمد ومحمود تيمور، من الروّاد فيها. وفي منتصف القرن العشرين ظهرت القصة القصيرة أقوى عند الأدباء المصريين، مثل نجيب محفوظ ويوسف السباعي. وبدأت تطورها السريع، وبرع فيها الكثير من الأدباء العرب، مثل يوسف أدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله، وغيرهم. ويعتقد البعض أن القصة القصيرة فى متناول اليد سهلة المنال، فتطفل الكثيرون على دائرتها. والأغرب هو الخلط الذى يحدث بين الخاطرة وبين الحكاية أوالحدوتة، وبين القصة القصيرة، فتأتى منهم القصة خديجة، لم تكتمل لها، لا عناصر ولا حبكة ولا بنية ولا لغة، ممن يدعون كتابتها، ظانين أنها قصة قصيرة.

شظايا أفكار

--------- تلك الليلة، الأخيرة، كنت منكبا فى كتاب  أعمل على إنهائه، تأخرت، فيه بعضا من وقت، إلى أن أتتنى ومضة بارقة، لم تأتنى منذ أمد. تذكرت المثل الصينى "فى المحنة، دائما، هناك فرصة لائحة". على نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من معلوم إلى مجهول، والعكس. هكذا، الأفكار، دائما، ماكرة. والوقت إن لم تملكه كارثة. كان هذا التنافر، فى تفاصيل معلقة، للفصل الأخير، دونما مخرج، كانت خادعة للعقل، لا أكثر. لم يرهقنى شئ، قدر ما أنهكتنى، فى هذا الكتاب، الذى أنتهيت منه، فقط البارحة. ولم يتبق منه، إلا خاتمة. كان علىّ أولا، أن أكبّر التفاصيل، التى تستدير، وتتماوج، وتذهب من أمام ناظرى. أحللها، وأربط فيما بينها، لأقبض على عمق غائب عنى، وراء الفكر، فأصغى لهمسه، ورعده. كان الشئ الوحيد الظاهر، من التفاصيل مريبا فعلا. راوغتنى بدهاء. تقافزت أمامى. حيرة تلعق ألوان الأفكار، تُوهس العقل. نحّيّتها جانبا، ووضعت حولها سياجا، محكما، حتى لا يختلط النقاء، ببقية تفاصيل مضطربة، فأراها كلها صافية تماما.. جمعت ما تبقى، من أفكار، فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عمّا أريد. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الدوامة الثابتة، التى تبقت فى حلقة وحيدة منعزلة. إنفتحت الدائرة المنغلقة قليلا، شيئا فشيئا. وسرعان ما تتابعت حلقاتها، حلقة وراء حلقة. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صور متعددة، لشخصيات شيكسبيرية. أجزاء كانت مبتورة، غائبة عن ذهنى. غابت الأفكار الباهتة، وسكت عنى، صريف صمتها. إلا أن كل شئ ظلّ، كما هو. الأفكار ذاتها، هى هى. الأشياء من حولى، كانت كما هى دوما، عليه. الأوراق، هى نفسها الأوراق. السقف، هو السقف. لم أشك، فى أنه لا زال مرتفعا فوق رأسى، شأن كل الأسقف، فرفعت عينيّ.. فكان كما هو، مثبت، على جدران أربع، ثابتة، هى الأخرى. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ ثابت، فى هذه الليلة، حينما بدأت العمل. لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه فى عقلى، فى طريقه للقلم، حينما وخزته، بين التأمل والمعرفة. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه، منذ أن رأيته، آخر مرة.. كان هو هو، سققا، كما كان دوما. لماذا لم يعصف بصمت أوراقى، فى رأسى شئ جديد. لمَ، لم ينطق سكون الليل. لم يُسفر شئ عن شئ، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذه الرتابة، وذلك الضمور، خاطر غريب، دون سابق إشارة أو إنذار. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان، من أوراقى، كما رأيتها، أول الليلة. كانت فعلا ألوانا كثيرة، سائبة. ملأت مسافة واسعة، منسدلة، على غرابة صارخة. أخرجتها من منئاها، ورسمتها على ورقة، جانبية.. وضعت، علامة كبيرة، بدم القلم الذى تخثر، مقاوما مللا، أصابنى هذه الساعة، من الكتابة. ليس على البشر أن يفكروا، دائما، فى شئ. ندع أنفسنا، فى أحيان كثيرة، للذاكرة، لتتداعى، من الخلف، إلى الأمام. كان على الأرجح،  هنا، أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى نبضا، شيئا ضائعا بين تفاصيل باهتة. لأعيد حياة لأفكار كادت تحتضر، فى هذا الفصل، إثر ليل ثقيل غائم، خيّم عليه. لم يكن علىّ، منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بين السطور، بدم متخثر، لأنهى كتابا علقت نهايته، فى مجهول. قبعت فى آخر ضواحى عقلى. نهاية، كأن لا نهاية لها. إكتشفت إلى أى مدى، كانت فكرة التفاصيل تائهة عنى، على أفق سماء نائية. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا لا متناهية، بدرجات تهرب هنا وهناك، فى كل الإتجاهات، بغير صواب. إلى أن جاءت ومضة بارقة، لتطوّق لى الأمر كله، وبأكمله.. فى لحظة خاطفة، انجلت الرؤية، بعدما راوغنى هذا الغموض، قدرا من الزمن، داخل سياج ورقى شاسع. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، وتتلاشى، بين حشود ألوان، تتداخل تفاصيلها فى غور عميق. وكعادتى، فى النهاية، إنفجرت الأفكار شلالا ضخما، فأنهيت منها، ما تأخر. وبقى لى من دفقاتها، تيار صاخب. هدير، لكتاب آخر، فى عمق ثنايا ذاكرتى..

عينا العقل والخيال

------------- الحياة فى جوهرها، دون تشذيب، وزخرف من قول، هى الحقيقة المفقودة، التى تظهر شيئا فشيئا، للعقل، دون ألوان، إلا لون الحقيقة المجردة. فى عالم صاف، بلا زخرفة، أو إنتقاء. تفسح المجال لتُظهر، ما نسميه بالتجارب، تفاصيل خافية عن العقل، فتعبّر حينئذ، الحياة ذاتها، عن نفسها، بكل مافيها، بصورة واضحة، غثا وسمينا، فلا يشطح الفكر، ولا يندفع، إلا سعيا وراء حقيقة، بلا رتوش. هى الحقيقة المفقودة، دوما. غائبة فى معين عميق، ودرب طويل. ومنذ ذلك الحين، الذى يقف الإنسان على هذا، وتظهر له تلك الحقيقة، يشعر فعلا أنه على قيد الحياة، متلألئا كالجوهر، متفجرا وهج فكره، متدفقا ذهنه. يعبر العواصف والدوامات. لا يجمح به جامح، إلى مخمل حريرى، فيستكين، ولا إلى لا معقول شائك، فيتوه، فى خضمّ كينونته. وبكل معنى الكلمة، يبدأ الإنسان، وسط تأثير فراغ الحياة من هذا الجوهر، ليعى ويدرك لب الحقيقة. الأمر أشبه برؤيا كشفية له، ليس لها علاقة أو صلة، بمكان أو زمان، ولا حدود، إلا أن عين العقل، وبصيرة تمسك بها، تأويلا وتفسيرا. دون شك، إن الأفق العقلى الذى يحدّ الأمر، لا يكون فى متناول كل إنسان، فهى قدرات خاصة، الأصل فيها هبة إلهية، وعطاء ربانى. وغريب الأمر، إن ثورة العقل هذه على نفسه، هى الأخرى أشبه بمعجزة مؤقتة بقدرها، وثيقة الصلة بتلك الرؤية الغيبية، التى تجعل الإنسان، ربما يسخر من كل شئ مرّ عليه من قبل، لإنه لم يعٍ الحكمة، آنذاك، وهو فى حقيقته كان أمرا، يفسح له طريقا، إلى الحقيقة. ولكل شئ حقيقة، وشيئا فشيئا، يمدّ العقل به ومعه، بخطوة إلى الأمام. يجاهد كل شئ، دون أن يدرك، أن هذا فعلا ما يحدث فى زمان محدد، أومكان معين. ولا يحدّه العقل، فى حينه. ولولا هذا، ما إجتاز العقل آفاقا، ولضاعت أفكار، إلى آخر الأبدوقليل من البشر، من يحيا هذه التجارب العميقة. تختارهم لها الأقدار، ويختارهم القدر، لها. مثل الوقوع على قطعة أثرية مطلسمة، لا تكتشف سرها أبدا، إلا إذا انفصلت عن الواقع لتغوص فى تاريخ غير مرئى، وتتمعن أبعادا غير منظورة، وكل شئ لازال، فى مكانه، أمام ناظريك. حينئذ، فقط، يُضاف سطر جديد لتاريخ البشرية، عبر الروح، يُعلى من قيمته المسطورة، فى بطن الزمن، كيفية إكتشافه، وإستعادة ما فقد منه، جوهرا نفيسا، فى مسيرة الإنسان، خلال حياته. وحتى لو لعبت الصدفة القدرية، دورها فى الوقوف على فكرة أو إبداع، أو إكتشاف، فلو لم يكن هناك مثل هذه النظرة الكاشفة، بعين العقل وراء الأفق، ما تقدمت البشرية، ولما قرأ إنسان شيئا، يحمل من إبداع، من قبل. والواقع المتراكم من تجارب الحياة، ليس وحده كافيا، دون هذه النظرة الثاقبة، تعزوها روح خيال خلاق مبدع. لذا، وقطعا لهذا السبب، فإن العلماء والمفكرين والأدباء الحقيقيين، ندرة وأشد من الندرة، نفسها. فالألوان وحدها فى يد الفنان أو الرسام، ليست كافية أبدا، دون روح محلقة بعينى العقل،  والخيال. وهنا فقط، لا ينفصل كلاهما، لا العقل، ولا الروح، عن بعضهما. وفلسفة الجمال لها دور كبير، فى هذا التذوق. وفى الأدب، هذا الأمر قلما نصادفه، وهو فقط، الذى يؤثر، فى النفس، كما تؤثر تماما الحقيقة التاريخية، التى لاشك فيها أبدا، مغادرة بنا، إلى جهة أوسع من العالم نفسه، سالخين جلد الزمن، فيحيا الإنسان الجمال، لا أن يتذوقه فقط.. يترك نقطة زمنية، إلى بقاع أخرى رحبة، فيصل إلى جوهر ما يحمله الزمن، نفسه، من حقيقة وحيدة، بعين العقل، ولكنه يعيشها جمالا بعد جمال. تنظر بها الروح، وتقرأها غاصّة فى كل فريد وفذّ، تحررا من الجسد. هى خطوات، بعد خطوات. صفاء من بعد نشاز. بشكل أفضل كثيرا جدا، مما نتخيل أى شئ يحوى حقيقة، فى غير ذلك. والأدب، وإن حمل أسئلة من قبيل، كيف نكتب، ولمن نكتب، وماذا نكتب، وكينونة الكتابة ذاتها، إلا أنه يحمل من ذلك كثيرا. وربما هذا هو السبب الأساسي الذى جعل "جان بول سارتر" يؤلف كتابا كاملا عنوانه (ما الأدب). هى دائرة عملاقة، من الجمال والفكر والإحساس، وكلما تقدمت خطوة وتوغلت داخلها، لم ترغب فى الخروج منها، بعيدا عن كل شئ، بحثا وراء حقيقة لكل شئ، بعينى العقل والخيال.
تجربة غريبة
------------- ماكان ليقدر لى الإنصات هكذا، لهذا الصوت الغامض.. ليست لأن الكتابة، كمردود لتلك التجربة الغريبة التى إكتسبتها، من هذا النداء الصامت، أو لوحة أمتلكت ألوانها لفترة، ثم تلاشت وراء دروب العقل فجأة. لكن، لأن النور كان قويا فى بادئ الأمر، وسرعان ما تلاشى وأنا أتبعه، كأفضل قصّاصّ أثر، فى قلب مجهول. إكتشفت أنه لم يحدنى أمل براق فى رؤيته، أو أحيط بمصدره تماما فى عقلى، فأهتدى إليه. قبل هذه الحادثة مع الكتابة، كنت أتلقى ومضات، كأنها تخطط لتوقعنى فى الأمر، وإستمالتى دونما شعور منى. فوضى من دعوات متكررة، تدفعنى لأقطن هذا العالم المجهول، لأختص به وحدى، ويختص بى. ولكننى بت أكتشف الأمر، بين الحلم والواقع. كأننى أتنقل بين التاريخ والأسطورة، فاقدا براعتى، على الإمساك بخيوط  غائب، وراء حدود حواسى، وعقلى. أنها تجربة غامضة ومتوهجة، مع الكتابة، جولة بعد أخرى.. لكنها فشلت، لتهدينى إليها، وفشلت معها، قبل أن أنغمس فى محاولة كشف مدلولها معى، هذه المرة، من حياتى. وبمجرد أن ألقيت النظرة الأولى الخاطفة، على ما تبقى منها، قاصدا دليل، استجلى به هذا الغموض وسببه، وجدت ما حيّرنى أكثر، كمتاهة للروح. لكنه، كان شيئا فائق الأهمية، للنهوض، إلى مرحلة متقدمة مع الذات، وإكتشافها، على الأقل ملاذا منشودا للقلم، فكرة ومعنى، وزادا. إكتشفت معه، أننى لم أكتب شيئا بعد، يستحق أن أقرأه، ويأخذنى إلى ما أفكر به. حتى الشعر أرانى أتنصل منه، وأنكره، على نفسي. أعتبره مجرد تجربة نفسية، مضت وذهبت، حملت عينا للروح، لا تحملها القصة أو الرواية. ولست شاعرا، ولن أكون يوما، ما حييت. إذن كانت مواجهة الذات، فيما أعمق مما تحمله كتابة الشعر من قصائد نثرية، من معان وآفاق نفسية. ولا شك، فتلك هى الكتابة، بمفهومها ومعناها الواسع، لما نكتب، وللتعرف على ما نفكر به، ونهتم به فى الحياة. نمخر به عباب آفاق الروح. فنصبح مع الأمور، وجها لوجه، ومعنا تصبح. وأعتقد أن هذا هو القاسم المشترك، لما وقفت عليه بين تلك الأمور، التى حيرت عقلى وفكرى، رغم الفرق الشاسع بينها. والحديث، حديث ذات، وهموم نخوض فيها، وبها مع القلم، تستغرق وقتا، بل أمدا. وما إكتشفته حديثا، أوقفنى عند أشياء ما كان يأتى بها، إلا الزمن وحده، خلال تجربة إنسانية، تستثير كوامن الروح، قبل أن تقع عيناى على جوهر الأمر، حتى لو كان عملا واحدا، يستغرق العمر كله، ويأخذنا  معه، حتى يظهر. وحتى وإن استوعبت التجربة الشعرية جانبا من هذا، فقد صرت على بينة ويقين أن الأمر، لم أستكمله بعد، مع نفسي. ويتلاشى معه كل ما مضى من القلم. إنه فراغ، لا يملأه إلا الفكر الصافى، فى دقائق الأمور. وهنا لا يحمل هذه المعانى، ليس الشعر أبدا. إنما التجربة الكلية، فى عمل تعطيه من نفسك وفكرك. وهذا هو السبب الأساسى، فى إلغاء أو تعديل أشياء نشرع فيها، فتسلمنا إلى أشياء أخرى أعمق، تثنينا إليها، وتميل بنا، قوة خارقة. وتوصيف الأمر على هذه الشاكلة، هو بداية طريق جديد، نستجمع فيه الشأن، وإن كان فيه معاناة وألم. وأعترف لنفسي، أن مايمر بالإنسان من خبرات وتجارب، له دخل كبير فى هذا، وإن لم يره من قبل، دهرا، حتى يواجهه فى نفسه. وكأنك عالم آثار، تكتشف من بقايا الماضى، وتبنى صورة لواقع يقود إلى مستقبل. قد أكون مخطئا، فى إهدار تجربة كتابة مررت بها، وإستغرقت وقتا، لكن بلا ريب إستفدت بها، كتلك البقايا، التى ينظر إليها بتمعن العالم الأثرى، يستنطق فيها، ما لم يره إنسان، قبله، أو لم تتح له فرصة التزود بمعلومات، عن هذا الغموض، الذى إكتنف الأمر. وفى النهاية، تبقى لى هنا، ومعى، روايتى الأثيرة (شيزر) لتحمل من كل هذا، وأحملها، ما لا يمكن أن يحمله شئ غيرها، من معان وفكر، رفقة فى رحلة الكتابة..

في النّصّ
----------- من الإشكاليات التى تواجه الأديب، الكيفية التى يتم بها التجسيد للأشياء، لتقفز فى العقل، بعد أن تمر على العين، أو بمعنى آخر، ما يسمى بالوصف. وللوصف مهمة جمالية، قد تظهر للقارئ، فى نص طويل، كلوحات أدبية وجمالية مستقلة، لا يتعثر فيها.. شئ أشبه بأشكال من السحاب، ينثره الأديب، تحت ضوء الشمس، عن وعى وإدراك، يرصّع به نصه، ويزخرفه بنجوم لامعة.. وقد تأتى المقاطع الوصفية، فى أحيان أخر، عن لا إدراك، من اللاوعى ليؤدى الوصف مهمته، فى النص، مرتبطا بعنصر، على قدر كبير من الأهمية، من عناصر بناء نص، مثل الرواية، تقوم عليه، .. وهو عامل المكان، الذى بدونه لا يوجد شئ. ولا يستطيع الأديب تقديم شئ قط. وبلا ريب، فإن الكلمات التى يتم إختيارها، وإنتقائها، لها أهميتها، فى قيام عملية الوصف بهذه الوظيفة الكبيرة والهامة، فى العمل الأدبى. فالوصف أن ترسم بالقلم، مساحة الحكى الكلية، متضمنا تفاصيل مساحات صغرى فيه، ليحدّ بها المبدع، أثناء السرد، الحيز والفراغ، الذى يتم إختياره. وعلى ذلك يشكل الوصف، أبعاد العالم المادى، والوجود الحسي للنص. يخلق المكان.. بل، كل أمكنة النص، التى تشكل الفضاء الأدبى، فى مجموعها، ويعوّل عليها التمكن من رسم خلفية الأحداث والأفعال، التي تقع فى فضاء النص. والعبرة فى الوصف، ليس بإلتماس الدقة، فى بيان التفاصيل، بكل جزئية، أو تحري الإسهاب المطلق فيها، حد الإستغراق، إلى آخر تلك التفاصيل المسهبة، فى وصف صورة الحياة، وتسجيل مظاهرها ..إنما براعة الأديب، فى قيامه بوظيفة الوصف الرئيسية في نصه، وهي خلق الإيهام المؤثر والمستمر فى ذهن القارئ.. إقناعه بحقيقة أن ما يقرأه، قد حدث فعلا يوما ما، أو فى لحظة ما، فى زمن النص. ويحيله إلى زمن آخر حقيقى. والآلية هنا، أو الطريقة المثلى، التى يجب ألا تغيب عن الأديب، هى ذكر تفاصيل، تساعد على أن تُوهم، أن هذا ليس بخيال، إنما حقيقة، حقا.. بكل تفاصيل وملامح يمكن أن ترد، من وصف، مما يكفل التصديق، والتسليم بأن هذا وجود حقيقي، وعالم من الواقع. ليس أبدا خيالا، من صنيعة الأديب. أن تخلق بطلك تعطيه الحياة، لتدبّ فى أوصاله، فيشعر بها، ويراها، ويلمسها القارئ، بلحمها ودمها.. ماثلة أمام عينيه.. بإختصار، خلق المكان خلقا، لتضع فيه الشخصية وتنقلها، وتتحرك بها. وكلما دّقت التفاصيل المتصلة بالموقف، أو الشخص كان هناك من السرعة إلى تصديقها، كحقيقة. ويساعد الوصف الأديب على إظهار طبيعة حياة الشخصيات، والمستوى الإجتماعي. كما يشير إلى وضع كل شخصية، وما تحويه من حالة مزاجية وطباع، إذ ندرك بشكل غير مباشر، من وصف مظاهر معينة محيطة، ملامح تلك الشخصية وصفاتها. كما نلمس، كذلك، الجو المحيط، بهذه الشخصيات والذى يوحي به الوصف، سواء مباشرة، أو من خلال ظلال الكلمات..

بين الوصف والسرد
----------------- إن الإهتمام بفهم عمليتى الوصف والسرد وتسليط الضوء على الفرق بينهما، تمييزا واضحا لكل منهما، هو أمر هام، بصورة بالغة. بوصفهما أساسان من الأسس اللازمة، فى بناء النص. وهو حقل معرفة، ضرورى، ويتعدى هذا الجانب، للنهوض بموهبة الأديب الحقيقية، وصقلها.. وإلا أصبح الأمر عديم الجدوى، ودونما ضرورة. ومن هذه الخلفية، لا يمكن أن نفهم، أو نحلل النصوص التى نقرأها، أو يتاح لنا تفسيرها، وتحديد إلى أين تذهب بنا، دون هذه المعرفة. وهو جانب يغطى مدى واسعا، يعبر بنا، إلى تملك فهم الإبداع، وكيف يتم، وكيف نقيّمه. علاوة عن معرفة الكيفية، التى نجد بها لذة فى النص، وكيف نغتبط به. ولعل النظر إلى السرد، والأفكار الأساسية المتعلقة به، يعد أهم منطقة، فى النقد الأدبى، وليس فقط فى فهم عملية الإبداع. وبإيجاز، ففى الوقت الراهن، فإن من لم يحظ بمعرفة، أو قراءة ودراسة مفصلة للسرد، ومظاهره، والذى يشكل جوهر الأمر، وما يسمى بالأسلوبية، وتحليل الخطاب والنص، وغير ذلك من أمور تتعلق بهذا الجانب..، لا يمكنه أن يتقدم إلى الأمام. سواء مبدعا أو قارئا.. ويكفى ذكر، أن الدراسات الأدبية والنقدية، باتت تغير منظورها، من دراسة الرواية إلى السرد. بل توسع مفهوم المسرود النثرى والسرد، إلى أبعد من الرواية كنوع وشكل أدبى رئيسى، ليشمل التاريخ، والسيرة والسيرة الذاتية.. سواء أكانت البنية السردية، من حيث الموضوع والمحتوى، واقعية أو تخييلية.. مع الإهتمام بوجهة نظر السارد، ومن حيث سيطرته على ما يرويه، وكيفية وضع رؤيته الخاصة، فى الإطار المكانى والزمانى. وبداية، فالأديب، يتراوح فى نصه بين أمرين. الأول يتسم بالسكون، وهو الوصف.. وهو يشكل النقاط التى يتم التوقف فيها عن سرد الأحداث. أشبه بإلتقاط لقطة "فوتوغرافية" .. وهنا لا يتحرك النص، داخل هذه النقطة الثابتة. وعلى ذلك، يمثل الوصف الفترات، التى يتوقف فيها الزمن، داخل النص. وهي معضلة تواجه الأديب، إن لم يحسب لها حسبانا، فى كتابة يستغرق فيها. وعليه أن يخطط بوعى، إذ يضطر لإيقاف سرده للأحداث، ليصف أمرا ما، لا يتحرك.. مكانا ما، أو شخصية ما، أو موقفا ما، أو حالة نفسية محددة..، وما شابه ذلك، من أمور يتناولها في نصه، واصفا صورة ساكنة، غير ذات زمن، ولا حركة فيها. وفى مقابل الوصف، يأتى السرد، الذى يمثل الحركة الفعلية، وسريان الزمن. وهو شطر على جانب كبير من الأهمية، أيضا، فالأديب هنا، هو الواصف / السارد. وهنا يقع  بين نصه، وبين القارئ. وتعتبر خطوة متقدمة، تلك، التى يُنتهج فيها، طريقة الوصف السردي، حينما يصف صورة ما، ممتزجة أو مقرونة بحركة متحركة، وحية. أى وصف صورة سردية، لها زمن. ومن هذا القبيل، وصف الأفعال والحركة ..وعلى أية حال، فإن أى إستقصاء، أو إسهاب في عملية الوصف والشرح، مع العمد إلى وصف الأشياء، بإيراد، كل تفصيل متاح ومتوفر عنها، من صفات، أو عناصر، أو كل ما يتعلق بموقف، في الزمان والمكان، لنقلها إلى العين، بالقراءة مباشرة، .. هى عملية، تميل بالأديب، إلى المذهب الواقعي، بإعتباره تقليدا أدبيا للحياة، وتمثيلا أدبيا لها..

الرواية التاريخية من شجون كتابة رواية شيزر
--------------- ما ليس بعادة هذه الليلة أنها ليلة حمى وطيس المعركة فيها على أسوار شيزر الحصينة وأعمل على تغيير نتيجة ماليس لى فى نهايته حيلة قد سجله التاريخ من نصر دوما للحق. الطرفان من المسلمين والفرنجة يتناوشان على ماء نهر العاصى وأنا أنظر قبل أن يأتى تنكريد الخائن ابن أخى بوهيمند أمير أنطاكية الأول، بكل صليبيى المشرق من أنطاكية وطرابلس وبيت المقدس والرها.. إماراتهم الصليبية الواهية على أرض الإسلام. ومازلت فى شيزر وصفحاتها وفصولها. مع خيل الغازين لكنى أمتطى صهوة كل جواد، ناجيا مستقبلا الريح تحملنى.أشعر كلما بدأت أتحدث عنها، وما تفعله بى كتابتها كأنى أحادث جنود الحق. أمامى آل منقذ بشيزر وضواحيها من كفر طاب وأفامية وحتى قلعة مصياف.. اصطفوا أمامى يريدون القصاص معى من الفرنجة. فاتخذ عدتى وسيوفى القاطعة لأحاربهم مدافعا . أو أموت تحت جرفها شهيدا. هكذا أنا أكتب فى شيزر، عالما بخيابا نفوس من فيها، وحولها أعرف كل تفصيلاتهم، من المسلمين والفرنجة. وهكذا أنا راوي شيزر، لا يظهر لى صوت فيها. ولكن عينا الأميرة وصوتها معى، وصوت الرواى بطلى.. هكذا تكون الكتابة كما أقول لنفسي دائما. لذلك كل شئ يستغرق وقتا وفكرا. والفشل دائما أكثر من النجاح، قبل أن يرضى ابن منقذ وآله وغيرهم من أبطال وشخوص روايتى شيزر. أعرف حتما كيف أدير معركة بين فصول الرواية، لينتصر الحق. أشعر بالفخر، وأنا أكتب عن فرسان الإسلام فى هذه الرواية وصدق الكاتب أن يربط بين نفوس أبطاله والأحداث التى يقعون فى محورها دائرة بهم رحاها، مقطعة أواصرها.. هذا هو الخط الفاصل دائما. الذى أحدده لنفسي، بين أشواك الرواية التى تستعرض حوالى ستين عاما، من القرن الخامس الهجرى.. ستة عقود دامية ،ربطا بأواخر القرن الرابع ، إذ انفصام عُرى إمارات الشرق الإسلامى .وكتابتى لشيزر، هى رواية موازية دائما  للرواية التاريخية الأصلية. وذلك فيما أكتب مذكراتى عنها وفيها ، وستصدر يوما ما لتنافس رواية شيزر نفسها. درسى فيها دائما، أن الفكر والكتابة دائما تستغرق وقت. تحتاج وحدة للكاتب مع نفسه، ومع ما يعيش فيه من هدف، يود تحقيقه. ولذلك يصبح العمل أصيلا خالدا، بعد رحيل صاحبه ومن كتبه.  ومن هنا صدق الأدب وأثره، وكيف يحيا فى النفوس الأبيّة الكريمة. وفى غضب الفكرة، تأتى الحقيقة مشرقة أبيّة كريمة. كما آية النهار مبصرة نيّرة،  كما يمحو النور الظلام. كما يجلو النهار الليل. كما يخاف الليل شمسا تحرقه. فان الأفكار العظيمة لا تصبح أبدا أسرارا. فوهجها ينطلق فى الآفاق. ليست فى حاجة لأن يسقط عنها قناع الزمن، معتقة. إنما تجد طريقها ..تصل إلى الروح.. عابرة العقول لا الحناجر..على الجثث .. من تلقاء نفسها، دون إعتراف بعتمة، تسيطر على الحياة طويلا، دون نهاية.. كما هو تاريخ شيزر، فى عمق التاريخ.

الرواية التاريخية..
------------ أن تتواكب نهضة هذا المجتمع مع روح الحضارة الإسلامية، التى أضاءت للعالم الغربى سبيل التقدم، فهذا ما يحب أن يؤخذ فى الإعتبار. ويجب على كل صاحب قلم، أن يبين هوية حضارتنا الإسلامية، على كافة أصعدتها. ولاشك أن جوانب هذه الحضارة العظيمة، تمتد إلى كل ما يمس حياة الإنسان، وتحقيق خلافته على الأرض. ومن أمس الأمور لهذا المجتمع، هو نهوضه على قيم روحية أصيلة، طغت عليها العولمة، محاولة أن تذيب فيه هوية المجتمع الإسلامى. ومن هنا، فإن من الجوانب الهامة، التى أحاول من خلالها إبراز تلك الهوية، التى تعطينا السمو الروحى والإرادة، نحو سبيل النهضة المرتقبة لمجتمعاتنا. هو هدفى من رواية شيزر والتى وضعت أمامى عديدا من الأهداف لعل من أهمها : لفت النظر إلى جانب هام من من فروع الأدب الخصب، الذى لا ينضب، وهو الرواية التاريخية، التى تكاد تنقرض الآن بعد أجيال، من حملوا رايتها أمثال باكثير والكيلانى والعقاد، وغيرهم من الأدباء العظام، الذين كان لهم رسالة. ولعل القارئ الكريم يعجب من تكرار ذكرى لرواية شيزر وشجونى معها. ومن هنا، كان هذا المقال الذى يبين كيف أن الكاتب مهموم بتحقيق هدف كبير إستغرق منه سنوات من العمل الدؤوب. ولا يسعى من ورائه إلا تنوير الأجيال الحالية بالتاريخ الاسلامى، وأمجادة فى العصور الوسطى، تحديدا، لأنها تشكل من نراه الآن. فالرواية تتناول فترة اتسمت بانقسام المشرق الاسلامى، بين خلافتين، وتصارع الأمراء على الدويلات. مما كان سببا مباشرا فى دخول الفرنجة أرض الإسلام، لمدة قاربت مائتى عام مؤسسة لها أربعة إمارات صليبية، هى الرها وأنطاكية ومملكة بيت المقدس وطرابلس، على الترتيب. ولابد من أتناول هذين القرنين بالدراسة المتأنية الواعية، المدركة لأسباب إنقسام وتفكك المشرق آنذاك، قبل أن تهب روح الوحدة التى تجابه هذا الوضع. بداية من دور الآراتقة فى شمال الرافدين.. إلى عماد الدين زنكى، فنور الدين محمود، فصلاح الدين الأيوبى وغيرهم، من فرسان الإسلام. ومن الأدباء الذين تناولوا هذه الفترة كان باكثير فى رائعته (وإسلاماه). ولكننى اخترت الفترة من قبل حروب الفرنجة، كما اصطلح عليها مؤرخو الإسلام.. وحتى أحداث الحملة الأولى .. مستعرضا فى روايتى تاريخ إمارة عربية إسلامية، لم تسقط فى أيدى الفرنجة. وهى إمارة بنى منقذ فى شيزر، التى ينتمى إليها الشاعر والفارس الكبير أسامة ابن منقذ. ومن خلال أحداث الرواية التى لأول مرة تقدم أحداث الحملة الصليبية، فى إطار درامى والصراع الحضارى بين المشرق الإسلامى والغرب، مما يعكس جانبا كبيرا من تاريخ تلك الأمة. وأحسب ما قضيته من وقت لم يضع هباءا مع المؤرخين المسلمين  الذيت تناولوا فى مصنفاتهم تلك الفترة العصيبة. ولا شك أن من أصعب الأعمال التى تواجه الأديب هى الرواية التاريخية، التى تتطلب صبرا وعملا دؤوبا يستهلك الفكر والوقت.. عيشا فى بطون المراجع والمصادر، سعيا وراء الحقيقة التاريخية الموضوعية، من كافة جوانبها.. والرواية هنا ليست بتاريخ، وهذه هى إشكالية علاقة الرواية بالتاريخ. فأنت لا تضع تاريخا أو حوليات.. إنما هو عمل أدبى، يرسخ فى الوجدان. وفن الرواية، له إعتبارات من مكان وزمان وأبطال، فى إطار درامى، يتنامى مع الرواية. وعلى هذا، تتضح صعوبة كتابة الرواية التاريخية. ولهذا تستغرق وقتا، فالرواية التاريخية ليست براوية عابرة، أو كغيرها من أنواع الرواية.  ناهيك عن المصادر غير العربية، حوالى ست سنوات من العمل فى رواية شيزر، لعلى أفلح فى تقديم عمل أدبى متميز، فى وقت يغيب فيه هذا النوع من الأدب، على الساحة العربية. والهدف الآخر، من الرواية هو لا أزعم أنه محاولة تحيى اللغة العربية، التى كادت تغيب الكتابة بها. وهو نوع من الروايات يحاولى أن يرقى لما تبوأته أقلام أدباء عظام أمثال العقاد فى العبقريات وباكثير والكيلانى، كما ذكرت آنفا. وهى روايات حافظت على هوية الادب الإسلامى، وأسست له وعلقت أجيال من خلالها باللغة العربية، لغة القرآن المجيد. وإن سما الهدف على هذا النحو، كان من جهد مواز لإكتساب اللغة من معينها الصافى، وهو القرآن الكريم. ومن تراثنا العربى الزاخر. وهو بحر عباب لا يخوض فيه إلا الصبور، ربما يوصل معه الليل بالنهار، ليتعلم من جداول اللغة الرائقة، ومعينها العذب وهو الأمر الذى لا نراه هذه الأيام، فى القصة والرواية التى تسعى لمجرد إثارة الغرائز والشهوات. والعجب كل العجب، أن يربط البعض بين شتات إبداعات الأديب وما يقدمه، فيقيمه من خلال نوع واحد من الإبداع .. فالأديب بشر يحتاح لينفس عن نفسه، من خلال الكتابة شعرا ونثرا.. قصة قصيرة ورواية ومقال.. خواطر.. وإلى ما شابه ذلك. إنما المحك الاصيل، هو إبداع الأديب الذى يشكل وجدان أمة حاملا رسالة لا يحيد عنها. ويبقى له عمله من بعده شاهدا على هذا الجهد الكبير والعمل الدؤوب. وشيزر عندى، من هذا النوع الكبير.. الذى سعيت من خلاله عملا فى المصادر التاريخية، والتراث العربى الإسلامى. ولا أدرى كيف أشرح هذه المعاناة ليل نهار، وأنت تسكنك رواية بأحداثها التاريخية، ولغة تسعى من خلالها إلى التميز وسط الغث، وأهداف عظيمة ورسالة كبيرة. وذلك من خلال عمل واحد، قارب مع على ست سنوات من الجهد الشاق. وقد وضعت درافت لبعض الفقرات، فيما مضى، لبعض الصفحات منها. وهى بالطبع ليست الصورة التى تظهر الرواية. والأمر الآخر، هو أننى أستخدم لأول مرة فى كتابتى للرواية أسلوبا، أسميه لنفسي الدراما المتقاطعة.. فالرواية هنا ليست عملا تقليديا يقارن بغيره من الروايات التاريخية، وإن لم تتعرض الروايات التاريخية من قبل لهذه الفترة، التى تتناولها روايتى شيزر. وهذه هى الغربة والوحدة، التى أضع نفسي فيها مستغرقا فى عملى، وطامحا إلى إحياء الرواية التاريخية الإسلامية، بلغة راقية وأدب جديد سام، ينمو ويسمو بالروح، ويؤصل لمحاولة على الأدباء أن يقوموا بها. ولكننى أظن أن كثيرين لا يستطيعون ذلك، لإنعدام روح الباحث لديهم. وخاصة فى المجال التاريخى الذى يتطلب نوعية خاصة من الدرس والقراءة والتمعن، قبل كتابة الرواية. مع عدم إغفال دور الموهبة، التى يحبو بها الله من يشاء. ومن وجهة نظرى المتواضعة، أن نهضة هذه الأمة لا تأتى من فراغ. فهى تأتى من ترسيخ الوجدان بتاريخ وقيم ما أحوجنا إليها. وأقول هذا ربما ندرك رسالة الادب الحقيقية ورسالته. ولا ازعم لنفسي  دورا ولكنها محاولات ضعيفة، تنامت مع الوقت وأحاول بذل قصارى جهدى. إضافة إلى ما أحاوله فى كتبى الأخرى والتى تمثل مراحل تطور للكاتب، كما هى أعمال كل كاتب و أديب، ففى غضب ونور الفكرة، تأتى الحقيقة مشرقة أبيّة كريمة. كما آية النهار مبصرة نيّرة،  كما يمحو النور الظلام. كما يجلو النهار الليل. كما يخاف الليل شمسا تحرقه. فان الأفكار العظيمة لا تصبح أبدا أسرارا. فوهجها ينطلق فى الآفاق. ليست فى حاجة لأن يسقط عنها قناع الزمن، معتقة. إنما تجد طريقها ..تصل إلى الروح.. عابرة العقول، من تلقاء نفسها.  كما هو تاريخ شيزر، فى عمق التاريخ.

من مذكراتى  مع المصادر والمراجع
----------------- ويبقى هذا الكم الكبير، من المصادر الذى حفظته عن ظهر قلب، مع المؤرخين والجغرافيين . .فقد فرضت طبيعة الرواية من كونها رواية تاريخية، أن أرجع إلى عديد من المصادر الأصلية، من لاتينية وبيزنطية وسريانية وعربية. بالإضافة إلى عدد من المصادر العربية، المتأخرة نسبيا عن الفترة التاريخية، سعيا وراء الحقيقة التاريخية الصرفة. ولجأت إلى عدد من المصادر الجغرافية والأدبية. ومنهجى الذى اتبعته فى ذلك هو الموازنة والمقارنة والتحليل، بين تلك الآراء والحقائق، التى تضمنتها المصادر التى تتعلق بموضوع الرواية سواء شرقية أو غربية، حتى يتسنى الوصول إلى الحقيقة التاريخية الموضوعية (عامود الرواية الأساسى ). ولا شك أن الهدف الأول للمؤرخين الغربيين القدامى مما حوته المصادر اللاتينية الأصلية، التى حوت تاريخ الحروب الصليبية كان عرض الحملات الصليبية، التى عاصروها وأسهموا فيها بنصيب، وهؤلاء يمثلون مؤرخى الحملة الصليبية أنفسهم، ممن سجلوا تاريخها وأعمال الصليبيين، فى الشرق الأدنى الإسلامي منذ قدومهم إليه، وحتى تأسيس الكيانات الصليبية به، وتثبيت أقدام الفرنجة، بالشرق. ورغم ما يؤخذ عليهم، من الإهتمام الزائد بتمجيد الذين قادوا تلك الحملات، أكثر من الإهتمام بتفاصيل الحملات نفسها، إلا أنهم شهود عيان لأحداث الحملة الصليبية، وتلك الحروب التى شاركوا فيها. من هنا، تأخذ تلك المصادر أهميتها، مما يجعلها تأخذ فى طياتها، صفة الوثائق الرسمية. وعلى ذلك، تعتبر تلك المصادر أهم مصادر المعلومات التاريخية، من حيث أصالتها رغم وفرة وغزارة المعلومات بها، مما يفرض على الباحث التاريخي والأديب، ضرورة تمحيص ومقارنة النصوص التى تضمنتها، نظرا لتعدد أطراف الصراع، فى هذه الحروب والأحداث. وتناول هؤلاء المؤرخين لها فى ظل تشابك وقائعها وتداخل أطرافها، مع تعدد وإختلاف رؤى وأهواء وميول من دوّنوا تلك الأحداث، بسبب تباين مشاربهم وإنتماءاتهم وجنسياتهم، التى تعكسها طبيعة المشاركين فى الحملة الصليبية، وبالتالى من أرّخ لها من معاصريها. وأما عن تلك المصادر اللاتينية، التى حوت تاريخ الحروب الصليبية، وتناولت فيما روته مواقف بعض الإمارات العربية والإسلامية، أو أتت على شئ منها، خاصة موقف بني منقذ فى شيزر. ويمكن الوقوف على ذلك، من خلال سردها لعلاقات السياسية والعسكرية، بين المسلمين والصليبيين مما يشكل صعوبة بالغة، فى الوقوف على الحقيقة التارخية الكاملة. لذلك فان تناول أعمال مؤرخى الحروب الصليبية، بصفة عامة بالنقد والتحليل، يعد فى حد ذاته، دراسة للكتابة التاريخية، فى زمن الحروب الصليبية. ولم يقتصر تأثير دعوة البابا أوربان الثاني للمجتمع الأوربي الغربي، للإشتراك فى الحملة الصليبية الأولى،  على الحكام والعامة، من طوائف هذا المجتمع، بل تعدى هؤلاء إلى طائفة أخرى، لا يقل دورها فى حقيقته، عن دور المقاتلين الصليبيين أنفسهم، إن لم يفقه أهمية بالنسبة لدارس موقف الامارات العربية فى بلاد الشام، من الحملة الصليبية الأولى، فى تاريخ الحروب الصليبية. فقد شارك بعضهم سائر الطوائف التى هبّت وتحمست لتلبية دعوة البابا للقتال ضد المسلمين ، وساهموا فى تحقيق هدف الحملة الصليبية الأولى ونجاحها، الذى لم تصادفه فى حملة صليبية أخرى. وهؤلاء هم مؤرخو الحملة أنفسهم الذين سجلوا تاريخها، وأعمال الفرنج فى الشرق الأدنى الإسلامي، منذ قدومهم إليه، وحتى تثبيت أقدامهم فيه. وهكذا أمدتنا الحملة الصليبية الأولى بوفرة من المؤرخين اللاتين الذين سجلوا لنا تاريخ الشرق الفرنجي منذ خروج الصليبيين من بلادهم فى عام 1096 م / 490 هـ. وينقسم مؤرخو هذه الفترة من اللاتين إلى ثلاثة اقسام، الأول منها. ويضم من صاحبوا جيوش الحملة إلى الأراضي المقدسة. والثانى يضم المؤرخين اللاتين، الذين عالجوا تاريخ هذه الفترة، ولم يشاركوا فى أعمال الحملة الأولى، وجاءوا إلى الشرق بعد إنتهاء أحداثها. ونقلوا من المؤرخين شهود العيان، أو سجلوا ما رواه لهم من بقى فى الشرق، من فرنج الحملة الاولى . أما القسم الثالث، فيضم من لم يأتوا الى الشرق أبدا، وكتبوا عن الحملة دون أن يشاركوا فيها، آخذين معلوماتهم، ممن عادوا إلى أوربا، بالإضافة إلى المؤرخين الآخرين.
أنا والشعر 
-------- لا أحب طريقا سلكه غيرى. أعافه. أميّزه، فلا أحفل به. فقط، أنتكِب ما أراه قويا، وغير مألوف،.. رصينا آخاذا. يستهوينى، ويلائم، ما طبعت عليه نفسي ، فأطرقه، قاصدا، وألوذ به. مكرم عليّ، ومؤثر عندى. يصارح نفسي، ويأخذ ماهيته فيها. يمتّع عقلى، ويشبع وجدانى. لذة للقلب، وعظيم الخطر، فى الروح. ينسكب فى الحياة، ويسبكنى فيها. أخلص منه لشئ ما، له معنى، وقيمة خاصة. حظى منه، أن يكون مرآة لى، صادقة. أدب رفيع خالص، وينتهى بى إلى غايته. يروق لى لفظه ومعناه، فيعظم شأنه، فى نفسي. هذا ما أراه، فقط... وهذا ما أحاوله، وأقصد إليه كل سبيل. ألتمس منه الأثر، بشئ من البصيرة.. تتزاحم فيه أنفاسي.. وعلى هذا المنوال، دعانى الشعر يوما، وكأننى اضطرت إليه إضطرارا. أحاطنى، برغبة خفية جامحة، كدت أغرق فى دائرتها، لا يكبحنى شئ، أوغلت خطايا فيه مبتعدا عن مبتذل المعنى، وفاحش اللفظ.. مما أجد فيه، من رأى، وعاطفة، وشعور. وحتى لا أتحرر، ممّا يوجبه ويفرضه، الطبع السليم، والذوق النقىّ الكريم، .. نأيا عن القبيح والسيئ، من القول.. وكم حاولت، أن أحلل ما كتبته، كأنى ألقى أحمالا ثقالا، عن عاتقى، ممّا أثار فى نفسي شوقا، إلى معرفة تجربة شعورية، تمخضت عنها، مسارات لتيارات، ودلالات، نبعت من إحساسى وانصهرت، فى تلك القصائد.. وما إن قرأتها، كقارئ، لذاتى، رأيت مرآة كبيرة، لم أعرف نفسي  فيها، إلا وأنا مستغرق، فى تجليات نفسية وشعورية، تصدح بمكنون النفس، فى عالم آخر، هو عالم لغتى، بين قدرة العقل، على الإختزال والتكثيف، وإرهاصات الروح. فى سباق زمنى، فى غير الزمن، أشرف منه، على النفس، مفضيا بى، إلى حنايا، هذا الفضاء النفسي.. يتملكنى وأتملكه. ومتسائلا، بين أمواج موجة بعد أخرى، هل هذا، ما صنعه العقل وحده.. أم هى آثار، لمعان، بين القلب، والعقل، والروح.. أم ما فاض به طبع جُبلت عليه، وأنا لا أريده فى نفسي، لعدم رغبتى فى أن أكون شاعرا، فى يوم من الأيام، ولن يكون.. فإن كان تصويرا لمعان، لم أستطعها، إلا بالشعر كوعاء ولون أدبي مغاير، وحوى مالم يأت إلا على هذه الصورة، فأنا أولى بالرجوع عنه، إلى ما أحبه حقا، وهو فن الرواية والقصة، حتى لا أنحصر فى الشعر، أو أسجن نفسي، بين أسواره.. وكم عدّلت من كلمات، و حروف، لا أدرى، درى بها، أم لم يدرِ القارئ، وأدركها.. هو شوك.. نعم الشعر شوك ممضِ، ونار تُريع، وتُردى.. كما شبهته، تماما كالسير على إبر، أو أنصال حادة.. تٌدمى، كلماته وإيقاعاته .. بل، وسكتاته.. لا أقل حريرا.. يكفينى، أننى استجبت، لهذه التجربة، بين روية وتأمل وتفكر.. بفيض من الخاطر،.. وبسنا إلهام. لا أدرى، حقا، كيف انسكب، هكذا، فى القلب والروح، قبل العقل والقريحة.. غمر كل شئ، فجَرت فى تلك القصائد منى، حرارة النفس، وقوة الروح. ولا أدرى كيف أصوّر، شعورى إزاء هذا الجانب، وحياله. وأنا طائف، خفيفا سريعا، كالبرق، أكاد لا أشعر أو أحس بنفسي، حينا. و محاولا إلتقاط أنفاسي، بمشقة بالغة، وجهد عنيف، حينا آخرا..  ربوع معان، عكستها عشرات القصائد، فى فترة، تجاوزت شهورا عديدة.. وكأنها معان إختزنتها النفس، وادخرتها للحظة، نادرة غائبة.. فتفجّرت ينابيعا، وجداولا.. وأحيانا سيولا، جرفتنى معها.. سخطت حينا، على نفسي، أورضيت حينا.. وإن إستيأست، وأعرضت.. أتانى الخاطر، دون أن أدرى. غير ما لم أضعه من قصائد، صادمة لى، ولم يقرأها أحد، إلى الآن... ومتجاوزا، هذا وذاك، بما أشرت إليه، أقول لنفسي زاعما، قد إنقضى معى هذا اللون الأدبى، بعد ديوان أمواج على وجه الشمس، وذهب معه عهد الشعر معى. وليس فى ذلك، من بأس رغم، عشقى له.. أخذت منه طرفا، وأخذ منى أطرافا، ولست أريد إلا حبّ العربية، وآدابها، لا أكثر ولا أقل، ممّا وصفت، فى صدر هذه المقالة.. ولله درّه، من قائل، وأظنه أبا العلاء 
ما مرّ فى هذه الدنيا بنو زمن  ....  إلا وعندى من أنبائهم طرف 
وأخيرا، الشعر شعور، وإحساس يتجلى فى الروح.. الشعر، عين الروح، ومرآتها.. أخذنى، من أعمالى الأخرى. ولإن أخسره، خير لى، من أن أخسر مشروعى فى الرواية والقصة القصيرة، اللذين أجد فيهما نفسي أكثر،.. ومن أن أكون شاعرا، ولن أكون أبدا.. وتفرغا منى، لأنواع كتاباتى الأخرى، من مقال وتأليف أدبى وعلمى .. وأظن أن هذه المقالة، إن أتح لى الأمر، سوف تكون مقدمة طبعة تلك الدوواوين وهى (أغانى الشتاء الحزين، سنا الخاطر،  لغة الفجر، أطوار إغتراب، أناشيد الحياة والموت، أمواج على وجه الشمس) فى طبعة واحدة مجمعة، بعد تنقيحها، وترتيبها، لتكون ديوانا واحدا، ووحيدا لى..، إن قدر الرّحمن لى شأن ذلك، بفضله، وكرمه جلّ شأنه، وتبارك اسمه. وعلى هذا النحو، أمضى، فى طريقى..
--------------------------------------------------------------------------------------------------
القلم والإبداع
(بين القلم والكتابة)
 ------ خالد العرفي
تُحمّل الحرية الأحرار أعباءً ثقيلة، وعناءً طويلا. ولا ينتهى مقرّ القلم، أبدا، إلى مستقر أخير. ومن آثر الرّق، والركون، بفكره وأدبه، قراءة وكتابة، حيث يأمن لعقله، راحة من دخائل الفكر ودقائقه.. فهى عبودية للجمود، ولقتامة فاحمة. وعظم الأديب بقدر أفكاره، وبقدر ما ينتهى به قلمه، حيث يجاور..يصعد وعر الطريق، ويسلك الدرب الطويل، فيرتقى، ليصبح، شيئا مذكورا. وشتان بين العقل الحر، يغمره ضوء الشمس، وبين فكر ضامر هزيل، ينتهى يسير أمره، بصاحبه إلى إنقطاع. وما عليك إلا أن تفهم شيئا، ويغيب عنك آخر، فلتنظر وتعرض إلى الأفكار، حتى يُكشف لك النقاب، عمّا إستتر عنك، مستخفيا فى عمق النفس، تحت رداء.. من هنا طريق العمل الأبعد أثرا، والأقوى عمقا. ورياضة للعقل، فإن العلماء أنفسهم، لهم دربُ، فى ذلك من بنات ألافكار، وشذرات الوهم، حتى ترد الأفكار راقية نقية. تنشق من جوف الظلمة، مُنبأة عن نور للعقل، جديد. وهى صلة قوية، ووشيجة صلبة، بين العلم والأدب، فى إعمال العقل. وهى شجرة عملاقة أوثر أن أحيا فى ظلالها، ما دُمت حيا. أوادّ فروعها وأنادم أغصانها. لا أحادّ لها ثمارا، طيبة. ملتمسا، الأناة مع ذاتى، أسعى طلبا لغائب ثمرة عقلى، ووجدانى.. فأراها، رافلة فى حلّتها عنها أرضى، وأرضى بها عن نفسي.. أقول لنفسي هذا شئ لا يُتاح، ولا يكاد أن يحصيه، ولا يقدر عليه، إلا ذو عزم، وجلد وبصيرة، من الله. وهو حلم كبير، وأمنية ضخمة، لا تُنال بسهولة.. إن لوحات الأدب الناصعة، التى إنطبعت وتنطبع فى الوجدان  البشرى، تنصهر فيها تلك الأمور التى إنصهرت فى عقول مبدعيها، ونزيف أقلامهم، فكانت صفوة خالصة. طبقة زهرية، وزينة للحياة، لا يُستغنى عنها، للإنسانية جمعاء، دون تفرقة. وليس أخطر من هذا ليفهمه المبدع، فلا يشقُّ عليه شئ. إنه نصاع الروح، وزكاؤها، المجبولة على النور. تلامس النفس والوجدان، فتنقلك، محلقا، بضميرك وقلبك، لا توّد أبدا، مفارقة القراءة. نجد فيه الإنسان، المنفوح بروح من الله. ولم يكن غريبا، مرة تلو أخرى، أن أحاول، مع نفسي، أن أعرف بدقة كيف أكتب.. أو متى تأتيتى، هذه اللحظة المتوهجة، فأصل فيها، لأن أكون.. لحظة وحيدة، يتوجب عليّ عندها، مواجهة تفاصيل، ونسيج كل فكرة. لا أستنكر غرابتها، وندرتها الفريدة... بدقائق المعانى وخفايا الأفكار، تطرق رأسي، دون سابق نذير، من عقل أو منطق. إنه تناقض كبير ومؤثر، أحيانا يفيدني في معرفة، أي من هذين العالمين، هو عالمي الحقيقي،.. ما أكتبه، أم ما لم أكتبه، منها. في هدوء وسلام، حينا. وحينا آخر، أضجر، لكننى أروّد صخبها، فى عقلى.. أحيانا كثيرة، أرى كل عالم منهما، محددا. أرى كلا منهما، على السواء.. أنظر لنفسي بينهما، بعيدا.. بين هذين العالمين.. لأبدأ أشعر، بوطأة حلم كبير، مترع بالحياة، ولا يخطر على بال. يعترضك.. لا يحول بينكما شئ... تصادف خياله، في طريقك.. تعيشه، دفعة واحدة،.. دقيقة فدقيقة، تتفقده، ثانية فثانية.. آلت بك إليه، لحظة، بقدرة طاغية تمتلكها.. بغواية، لا تستطيع قط إخماد نارها، فى روحك.. تمارسها عليك، تجدها، فى كل ركن، من عقلك.. تجلوك، مرة بعد مرة.. وهنا، تتباعد بى، أفكارى، في عرض بحر، لا ساحل له، ولا أفق.. أتورط فيه، غارقا، في عمق أمر، لا خلاص منه.. لا أستطيع تحديده، إلا بإنتهائى من الفكرة، لتمضي، في طريقها، شفافة، إلى القلم. لحظات، أأمل، دائما، العودة إلى تذكرها، مع كل عمل، بعد آخر، أكون فيه، بروحى.. لذلك، فدوما أتسائل عن الطريقة، التي تتطور بها الكتابة معى، من خلال تصور دقيق، يميل إلى فهم الأشياء، في تسلسلها.. هل هى مساحة شعورية،  فى النفس، يقابلها مساحة نصيّة، فى العقل البشري، ثم تمثل للوجود.. أم أنساق متداخلة ومتعددة، تأخذ فى التنامي، مع الجانب النفسي والشعوري، مع وجود خيط ورابط، فيما بينها. فقد تسير الكتابة بى، على نحو رتيب، لا أشعر معه، أننى أؤدى شيئا له قيمة، أو ينبئ عن وجود تبدل جذرى قادم، أو حركة جوهرية آتية، تؤثر بقوة، في مجرى ما أفكر به. وفي مقابل هذه الأمور العادية، ورتابتها ، نجد أن أيدى القدر، تنسج لنا، في الخفاء، خيوطا لانعلم أو ندرى عنها، شيئا.  تظهر فجأة، لك، وحينما تأتي اللحظة المباغتة، لكل توقع، تأخذ بك هذه الخيوط، إلى عالم آخر، تتغير فيه، بل يتغير مجرى الحياة كلها، تغييرا كبيرا. تغيير، لم يكن ليظهر، لولا دور قد لعبه القدر. أنا أجد الأمر معى، ليس له قانون يحكمه،.. إنها قوى خفية، متضاربة. متعارضة.  متنازعة. ألاحقها وتلاحقنى. تؤدى، إلى حدث مؤثر، معظم الأحيان، لا أتوقعه. كأنى، كنت تائها، بين وقائع متناثرة، غير مرتبطة أو منظمة، كان على الربط بينها، وأجد بينها تلاحما وتتابعا عقليا وبصريا.. وغالبا أجمع بينهما، بعنصري زمان ومكان، لا أتبين أبعاد كل منهما، ولا أدركهما..، متجاوزا بمشهدى إلى  عمق الروح. وكلما ازددت إقترابا، إزداد الأمر تعقيدا وتوترا، داخل نفسي، على نحو خاص. محاولا، الأخذ بخيط حياة النص من طرفيه، عابرا ما تعقد، داخل أجوائه النفسية، وملامحه الإنفعالية، فى صراع مثير ونزاع، مع الحقيقة. وتدريجيا، فى حبكة تتعدد جوانبها، وتترابط، أقترب من المرور، بلحظة كشف، تنير الطريق فى النهاية.. لا أظن، أن كاتبا أو أديبا ما، يستطيع، أو يقدر على مواصلة إبداعه، دون أن يشغله، أمر هذه اللحظة النادرة.. لا أحصر نفسي فى شئ، إلا فى مثل تلك اللحظات، التى قدمت فيها شيئا، لنفسي. لا أنفر منه، فيما بعد، ويدفعنى إلى طرق أبواب عوالم، لا أطرقها، إلا فى تلك اللحظات النفيسة.. بل، لا يطرقها غيرى، من أحد. شئ ما، يدفعنى إلى وجود، أكثر قدرة على إستيعابى. أحلم، فى كل مرة، وأشعر كأننى أواجهه، ويواجهنى لأول مرة. شئ يكون هناك،.. حتما أعرف ذلك، إلى أن أتأكد، أننى له فى لحظة ما، يقيّدنى بها، وهج الكتابة. أسعى، فعلا إليه..، فيحتوينى وأحتويه، ليبقى لى، من بعدى، وأبقى له.. أنتهي إلى تقبله، من نفسي، كما بدا لى، فى عقلى، وخيالى. عانيت منه، وتجاهه، فى كتابته. لذا، أصبح الأمر، مؤخرا، يستغرق ما يستغرقه منى،.. يطول معى، شأنه. حتى كدت، أيضا، أبرأ من كل ما كتبته، ذى قبل، غير مقتنعا به. أعلم أن لدى، فى عمقى أكثر منه، علىّ، الوصول إليه... وهذا ما يجعلنى دائما، أقرأ فى أدب السيرة الذاتية، الذى يعطينى أطُرا، لما أبحث عنه.. أحاور أرواح أصحاب هذه العقول، ويحاورونى.. بحثا عن حقيقة اللحظة، التى أبدعوا فيها.. نقيسها بالسنين والأعمار.. والزمن، وهى لحظات قدرية، لا تتكرر، لا شأن لنا فيها. إختارها القدر لنا،.. أو إختارنا نحن، لها.. لا فرق فى ذلك، إن فكّرت فى لُبّ الأمر، فهما سيان... ومرارا، كم أبحرت متمنيّا، أن أفهم هذا الأمر، ولو مرة واحدة.. هو أمر، كجمرة ملتهبة في العقل، يزداد تأثيرها، مع الوقت، وتشتد ضراوتها، طالما لم تفهمه. يتغلغل عميقا. يستثيرك. يُشوشك. الحقيقة، أنني أشعر بها، لحظة، طالما وددت أن تحرقني، دوما، من داخلى. تصهرنى، لأفهم مدلولها، الذى يجعلنى أرضى عن نفسي، فى شئ كتبته، أو عن شئ، ولو لم أكتبه، بعد. شئ لا يمكن أن أتصوره، بصورة كاملة أوشاملة. وكلما، قرأت، فى التحليل النفسي، للأدب والفن، وفى أدب السيرة الذاتية، كلما إقتربت فهما، خطوة أبعد، وأكثر عمقا. الغريب، أن قراءة أمهات الكتب في ذلك، يزيد الأمر عمقا، لفهم حقيقة إبداع كل أديب. إن تفسير الأمر كله، أشبه، بسلسلة طويلة، وضخمة، كلما أمسكت حلقة منها، قادتك إلى أخرى، فى فهم سيكولوجية الإبداع. هكذا، أواصل، مع نفسى، مرة بعد مرة، دون أن أتوقف، سعيا وراء غامض، لا أعرفه. فإن ظفرت به، بنفحة إلهام، نادرة، طفر قلبى من مكانه، وذبت.. أقول فى نفسى، بلى الآن، عرفت.. أنظر هي ذي.. هنا البداية، فحسب. أمر لا يتعلق بى، وبمَ أكتب، لأكتشف معه، بعد قليل، أننى لا زلت فى أول طريق طويل، لا ينتهى معى. وبمذاق مثل هذه اللحظات، دوما، أواصل معرفة نفسي، والكتابة. وربما أنهي عملا، في نفس واحد، دفقة رقراقة صافية. وربما أظل أمام آخر، فلا أكمله، متعثرا. كأننى، لا أتذكر شيئا. أحسّ بضيق في الصدر، متوترا.. لا ألوي عنق أفكارى، خاضعا لشهوة مجرد أن أكتب، لأخرج ما تاه منى، فى أحشاء مجهول مشوش، بوميض غامض. بات الأمر فعلا يأحذ زمنا معى، كما لم أعهد، من قبل. إلى أن تحين لحظة إلهام، بعد أن كنت أرى، أنقاض أفكارى باردة، في كل مكان، من عقلى، الذى كان على وشك أن ينهار.  لحظة باتت، تبدو لى في أحسن صورة، فى نفسي، مع مرور الزمن.. من دونها، لا أستجيب، ولا يلين لى القلم. فى النهاية، ربما كنت لأتحطم، إن لم تأت هذه اللحظة النادرة، بالغة الإثارة.. هكذا، لا ألو جهدا، في الحفاظ على نفسي، محاولا التفكير، والإمساك بخيط فهم. ناشدا الأفضل، وإن لم أكتب. فقط لأفهم.. فإن لم أفعل ذلك جاهدا، ربما، كنت لم ألتق مع أفكارى، من قبل.. أو لم أكتب مطلقا في حياتي، وإلى الأبد.. وفي قليل أو كثيرمتبق، لى من أفكارى،.. يتسبب في فقداني، للذة الحياة بين جنبات الجنون والعقل.. لا يكفيني، أمر مثل تلك اللحظات النادرة.. أحتاج لأعمار، بأكملها، لأحياها، حتى نفسى الأخير، بعد أن أفهم، .. ماهى.. وكيف تأتى، نادرة هكذا.. أدور على عقبي، بينها،.. إحساس مبهم، يسير بي في عمق النور، ناهضا بكيانى.. لحظات تحفزنى بقوة، توشك أن يتفجّر، معها، فكر، لا أنفصل، عنه، إلا إستغراقا فيه. إنها اللحظات النادرة...
ومن هذا القبيل، وعلى نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من مجهول إلى مجهول، تلك الليلة الغائمة، التى لم تتركنى بسلام منذ أمد.. لكنى تذكرت المثل الصينى " فى الكارثة، دائما، هناك فرصة لائحة". كان هذا التنافر الكارثىّ فى التفاصيل المعلفة دونما مخرج. تخدع العقل، لا أكثر. لم يرهقنى كتاب قدر هذا الكتاب الذى انهيت فصله الأخير، البارحة. كان على أن أكبّر التفاصيل. أربط بينها، لأقبض على العمق الغائب عنى. كان أحد التفاصيل مريبا، راوغنى كمهرج، يتقافز فى الحلبة كبهلوان، يلعق الألوان مهووسا، فيضحكنى كطفل. نحّيّته جانبا، ووضعت حوله سياجا، حتى لا يختلط ببقية التفاصيل، فأراها صافية.. جمعت ما تبقى، من أفكارى فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عنه. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الداومة الثابتة، المنعزلة. إنفتحت الدائرة المغلقة قليلا. وسرعان ما تتابعت حلقات، وراء حلقات. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صورة درامية، للأجزاء المبتورة. فغاب صريف الصمت الباهت، فى الغبار. وظلّ كل شئ كما هو. الأفكار هى هى. المنضدة كما هى دوما منضدة. السقف هو السقف. حتى أننى شككت فى أنه فوق رأسى، فرفعت عيناى.. فكان كما هو مثبت على الجدران. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ كئيب، بعد ما حدث أول هذه الليلة لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه منذ أن رأيته.. كما كان دوما، فى أول الفصل. لماذا لم يعصف بالصمت جديد، لمَ لم ينطق سكون الليل، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذ الرتابة، خاطر غريب. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان من وجه المهرج، فى العنوان. كانت ألوانا كثيرة تملأ المسافة بين أذنيه وجبينه الضيق، الذى إنسدل على حاجبيه.. أخرجته من منئاه، ورسمته على ورقة.. وضعت على أنفه علامة كبيرة باللون الأحمر، دما متخثرا، لمقاومة الروتين. ليس على البشر أن يفكروا، دائما. كان على الأرجح أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى، شيئا ضائعا بين التفاصيل الباهتة، بالدم المتخثر، لأعيد الحياة لفكرة هذا الفصل، الذى خيّم عليه ليل طويل. لم يكن علىّ منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بالقلم لأنهى هذا الكتاب العالق فصله الأخير، بين ضواحى العقل، كأن لا نهاية له. إكتشفت إلى أى مدى كانت فكرة التفاصيل عالية فى السماء. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا عير متناهية، بدرجات هاربة، بعير صواب، فى كل الإتجاهات. إلى أن جاءت الومضة البارقة، لتطوق لى الأمر كله برمته، على جثة مهرج مرسوم، فى لحظة من الزمن، داخل سياج ورقى. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، بين حشود الألوان. فى النهاية إنفجرت شلالا ضخما، فأنهيت منه الفصل. وبقى لها منها، كتاب آخر.. فى عمق ثنايا الذاكرة.
 وللقلم لغات. منها، لغة الفجر.. الروح.. لغة الأحلام.. ومنها، لغة اللحظة. ومن هذه اللحظات، تلك التى تحيا فى القلب.. والصدر. لحظات، هى كل ما يبقي، كعلامات فارقة. تتحدث، عمّا كان يوما، من جميل حلم، ومكنون نغم شجيّ، لسرّ مصون، صامت. ممّا أخفاه الزمن، بين شفتيّ الحياة. لم يبح به حفيف ظلال كلمات، ولا رفيف أجنحة ماض. لم يبق، منه، سوى ذكريات. ترفرف حول ما بقى، من أماني توارت، وآمال إنزوت. لغة، تنصرف بها، الروح، إلى عالم آلام خفية، وابتسامات تأبى أن تُولد. تطوف كل لحظة، مستأنسة بذكرى، طاوية ما انقضى، وقد قطن القلب، خفيا، حين من الدهر.
عند الرحيل،.. وفى الوداع، مؤكد أن هناك لغة، لشئ ما، دائما، يستحق الذكر، عندما نكتب، أو نصف مثلها. أشياء ومشاعر، لا تختفي من مخيلتك أبدا، مهما حاولت طردها من رأسك. تظل، كأنها ظل لك. مصير لا يفارقك، طوال حياتك. لغز لا يكتشف سره، ولايُدرك كنهه، فهما، إلا أنت وحدك. مهما تباعدت، أوتناءت بك المسافات.. شعورا وإحساسا عميقا، تفهمه قربا، منك، كأنفاسك، تتردد بين جنبيك. وتدرك بُعده، عنك، كخيال طيف، حائم، من حولك. وكلما مرّ وقت، إزداد غموضا، وإبهاما.  تذوب معه، وتختفي كل فوارق المكان والزمان. يتمكن منك، كأنك فى عالم غير هذا العالم، ووجود غير الوجود. شئ يفتح لك أبوابا سحرية، للغة فكر وشعور، بعيدا، عن كل ما هو أرضى. لتلمس نفسك، فى السماء، ما يُوقظ الروح. حيث تمر الأيام، كأحلام خضراء، وتنقضي الليالي، كأنهار نور جارية، بعذوبتها، في ربيع حياة، لا ينمحى قدره، مع ذكريات مضت، وأيام ولّت. هنا، فقط تستطيع أن تضع الروح، والنفس، فى هذه اللغة.
ولحظات أخرى، وعلى حين غفلة، سرعان ما تنتبه فجأة، فتري خفايا، ينقلب معها كل هذا، ويتحول. ينعطف بك الأمر، ليقظة، من نوع آخر. أعماق تتسع وجعا، وإنفعالات تنبسط يأسا. يكتنفها حيرة، وشوق غريب. سهاد، يثير أسى، في الصدر. تتوهم، أنك كنت فى خيال مذهل، غير الخيال. كأنها، كانت حياة خالية، باردة. حياة لم يبق من آثارها، إلا غصة حزن أليمة، في الفؤاد. وتتبدل من حولك سكينة الأيام، بوحشة مقفرة، ومُرّة. وهنا، تولد لك وحدك، من جديد، لغة لأحلام أخرى،  فى عالم آخر، لا تختاره لنفسك. ولا يعلم عنه أحد شيئا. لا توّد أبدا، أن يشاركك فيه غيرك.. مع ذلك، تستظهر عجائبه، كصفحة بيضاء خالية. دون عواصف، تثور في جوانبه، أو عتمة ظلمة حالكة، تغمر بصيرة، تحيط، وترى.  وأتذكر، من أمثال تلك اللحظات التى يتمخض عنها، من قبيل تلك الغات النابضة،  أننى إنهيت، خمسة دوواين شعرية، خلال فترة، لم أكن أتصورها. وإمتدت بى لرحابات بعيدة جدا. بل، وفتحت لى آفاقا واسعة، فيما كنت أعمل عليه، من أعمال أخرى، متباينة المجال والمشرب، بعيدا عن الشعر، الذى أنأى عنه. ومنها كتابى التاريخى، الذى أوشكت أن أنتهى منه (إمارات عربية طواها التاريخ: إمارتا "بنو منقذ" فى "شيزر"- و"بنو عمار" فى "طرابلس") الذى طاله شئ،  من روح تلك اللغة، التى تتجدد حياتها. إنها آفاق، تلمس نفس، وروح الكاتب، وتحلّق به، قبل أن تقع عليها، عينا القارئ.
عالم من الأفكار يتنامى، ويتعاظم في كيانك. يتكاثر، فى الوجدان، وينتشر ضياؤه. يجد لها كل منفذ، لمحيط القلم، الذى يتسع، في مهد صيرورة دائبة. لينفتح على مداه، أمامك ما انغلق، لأشعة الفجر، فى العقل، والروح. يزيل كل نقاب وغيم، عمّا غاب، يوم ما، لشئ ما.. لفكرة..، أمام وجه الشمس.  شئ ما، يستحق الذكر، أن نكتب عنه، ونكتبه.  لغة لأحلام خضراء، فى نبض الحياة. تسكن الأسفار، من جديد، فتجدّد الحياة نفسها..
وهنا، نقطة هامة أخرى، لابد من بيانها. وهى أن النص السردى المسبوك، كرسالة أو حدثا تواصليا، بنية وشكلا نثريا، بتتابع الكلمات والمعانى، يكون على إستواء كامل، نحويا ومعجميا، ودلاليا. وفيه نجد التتابع الصحيح والسياق والتسلسل القوي، من كل وجهة. مما يتحرى فيه المبدع الصواب والتأثير. وعلى هذا يصبح النص شيئا واحدا، صلبا وشديدا، وبترابط تام، متلاحم ومتماسك الأجزاء دائما،.. لا انفصال بينها أبدا. فالنص المتماسك، لا تجده، وإلا وأجزاؤه وحدة واحدة، مترابطة، ترابطا رصفيا. مع المناسبة والتناسب، مشاكلة ومقاربة بين أجزائه، فى حبك ولحمة نجدهما، تزيدان الأمر قوة، وإظهارا ووضوحا. وذلك، عن طريق علاقة ضمنية قوية، وبأدوات صريحة، تتعلق بعلاقات دلالية، غير منظورة. ومن هنا يكون هذا النص، قادرا على تضمين الهدف والقصد، وحمل معنى يسعى إلى تحقيقه، ويريد منشئ النص نقله، للقارئ أو المتلق، عنه، لتصديق ما أورده، في النص. والأديب الحاذق بصنعته، لا يتكلف، بما لا يقدر عليه، حتى لا يختل المعنى، فيكون النص رديئا وركيكا، .. ضعيفا، غير رصين... إنما يعمل على جعل النص متماسكا، كوحدة واحدة، جيدا سبكه، فى رونق وجوهر، من الكلام، في بيان رائع مدهش، ومؤثر فى النفس والروح. أى، جعل أجزاء الكلام، يأخذ بعضها بأعناق بعض، سواء فى ترتيب الألفاظ، والمعانى، والربط فيما بينها، بعضها البعض. وذاك، عن طريق رباط قوى في النص،  كالمناسبة.. أو رابط عام أو خاص، سواء كان عقليا، أو ماديا حسيا، أو خياليا،.. أو غير ذلك من أنواع الروابط والعلاقات، مما يكشف عنه التلازم الذهني كالسببية، وغيرها. بأن يلى القلم منك، وجها، يأخذ طريقه إلى الكلمات. والكلمات والمبانى فى اللغة، لم توضع إلا لمعان. والمعانى لاتنهض إلا بالنفس. فلا تكفر كلاهما: الكلمات والمعانى.. ذاك أبلغ أثرا فى النفس، ويملأها روعة، لم تكن ترتقبها.. ولا تجد سبيلا إلى مزيد موفور، لتروى ظمأك، إلا تأويلا بعد تأويل. ولست بنائل، من هذا شئ، حتى تصبر على ما تكره. فالأعمال العظيمة، أعمال تملأ العقول والقلوب قبل الأسفار.. ليست تلك التى يدركها الفناء، ولا شيئا من هذه الآثار، التى تبلى. وفى النهاية، يستطيع أن يرى المتلق أو القارئ، فى النص، وفى بنائه المتكامل، كل ما فيه من جمال.. وكلام ربّ العالمين، جل شأنه وتبارك اسمه،.. ، القرآن المجيد، خير معلم فى هذا.
----------------------------------------
فى كتابة الرواية 
-----

هل من الممكن أن يشارك الروائى أو القاصّ قارئه فى إبداعه؟ سؤال حاولت أن أجيب عليه، فى سلسلة مقالات،  تحدثت فيها، عن عالم الكتابة والأدب، عموما.. وتحديدا، فى ماهية الكتابة، وهمومها لدى الأديب، والكاتب.. إلا أن، فى فنون الأدب، هناك بعض الأمور، قد تتباين، من لون، إلى آخر.. وعلى سبيل المثال، الرواية.. فالزاوية، التى يكتب منها الروائى، تختلف تماما عن الزوايا، التى تتعدد، من قارئ إلى آخر، يتلقى بها النصّ.. وهو ما يُعرف، بالتأويل، أوالتلقى. وفى رواية "غصن الحياة " التى وضعت مسودة، بعض الصفحات منها.. أنتهج أمورا تختلف تماما، عن كتابتى روايتى التاريختين"شيزر والقديس" فالأولى تعطى فترة الحروب الصليبية الأولى، بينما الثانية تتناول الغزو التترى المغولى، لأرض الإسلام. وقد أسلفت القول، فى شأن الرواية التاريخية، كجنس أدبى راق، عند حديثى عن كتابة رواية شيزر والتى وضعت منها مقتطفات.. كما ذكرت من آليات كتابتها، وما يلزم الروائى، من صفات، أقل ما يُوصف منها، الرؤية والموضوعية، وروح البحث التاريخى، فى هذا النوع من الروايات، الذى له أقطابه ورواده، مثل جورحى زيدان.. وغيره كالعقاد وباكثير، والكيلانى..،.. وهو صنف الادباء الذى ندر ، بل وتقريبا كاد ينقرض، من يكتب فيه.. فهو عمل شاق ومضنى. وفى روايتى (غصن الحياة) أحاول أن أشرك القارئ، فى لذة كتابة الرواية، وفى الإحساس بعملية الإبداع، نفسها.. فقد يلجأ الكاتب، إلى آليات قد تغيب، عن المتلقى، فى قرائته، للنص الأدبى.. ومن الإشكاليات، التى تقابل الروائى، بلا شك، موضوع الرواية نفسها، وما يتطرق إليه، من زمان، ومكان الرواية.. وهذان العنصران،  فى هذه الرواية، يتراوحان فى فترة زمنية، تستغرق قريبا، من خمسين عاما.. بين مصر والسودان، وغيرهما.. مرورا بأحداث كبرى، تصل إلى إنقسام السودان، بين شماله وجنوبه.. وأحداث تاريخية مصرية.. وهى أمور وتفاصيل، بلا ريب، تضطرنى بالرجوع، إلى موسوعات، ومصادر ومراجع تاريخية.. علاوة عن أن الرواية، تستلزم الكثير من الجهد، فى بناء الحوار..، والأحداث داخل بناء الرواية الدرامى. إضافة إلى، تشكيل ملامح شخصيات تقارب العشرات، بين شخصيات رئيسية، وثانوية، فى الرواية. الأمر الأشبه، بدوامة كبيرة، وعشرات الدوامات الأخرى، وحده الروائى، هو الذى يعرف، كيف يبحر خلالها، آخذا بقلب وعقل القارئ، معه.. ولى عودة مفصلة، لشجون كتابتى لرواية (غصن الحياة).. بإذن الله تعالى.. مع سلسلة مقالات، عامة، عن البناء الروائي.. من حيث الراوى،.. المكان.. والزمن.. والحوار، واللغة، والشخصيات، فى فن الرواية.. وأخيرا، أشكال الرواية المعاصرة.. مع الإشارة، لمراجع وكتب هامة، فى هذا المضمار، يمكن للقارئ الرجوع إليها للإستزادة، والإضافة إلى خبراته..
-----------------------------------------------------
من عالمى
رواية شيزر
--------------------
شلال ينهمر بشدة وقوة،.. ثم يجرى هادرا... ثم ببطء، يتهادى.. هكذا الأمور دوما.. وبعيدا عن البوح الأدبى، تقع فيما يُسمى، بالقصّ وأسميه لنفسي السرد المتقاطع للدراما.. وهذا المفهوم يعنى أن تتداخل الأحداث، ويتعدد صوت الراوى فى النص، أو الرواية ها هنا.  قد أختذل، ثم أجدها تتشعب أمامى لأروى عنها، وأستطيع أن أعدد قائمة فعلا، بأحداثها الفرعية، وأماكنها وشخصياتها. وبعيدا عن تيار اللاوعى.. إستخدم الرمز بكل معنى الكلمة، والاصطلاح.. فيرهقنى، بناء النص وخاصة فى هذه الحالة، علاقته بالزمن، الذى يسير إتجاهات عدة، ويتقاطع، وليس فى إتجاه واحد، سواء إلى الخلف، بالإستدعاء، أو إلى الأمام بالروى، والسرد، قدما. وفى هذا النوع، من الكتابة، أرى المضمون والبناء، وأحدد ملامح للشخصيات، من خلال الأحداث، وليس السرد، فقط، مما إعتاد عليه، القاصّ النمطى. هى تجربة ذاخرة، أتحدث عنها، إستفدت منها أثناء عملى، كثيرا، فى رواية  "شيزر" فى كثير، من مواطنها.
وكتابتها لم تنته بعد.. يحكمنى فيها، كثير وكثير.. من أول دراستى لتاريخ، هذه الفترة مفصلا، من جميع مصادره الأصلية، سواء بيزنطية أو أرمينية أو سريانية أو غربية، من فرنسية وإنجليزية، وجميع المصادر الأصلية الإسلامية، ووضعت، من قبل مقالة عن بعض المؤرخين المسلمين، فى هذا الصدد.. واعتمدت على الترجمة لكثير من المصادر، غير العربية.. وهى مصادر نادرة، استغرقت منى سنوات، من عمل دؤوب. علاوة على مئات المراجع العامة، تتعلق بالأمر، من الناحية الأدبية، بل والجغرافية، وتضيف لى ولتصورى العام عن تلك الأجواء.. لا أنكر متعة العمل، فى هذا الجو التاريخي، وجمع مادته، لبناء الأحداث التاريخية، كخطوة أولى لتخطيط الرواية، بكل أبعادها قبل أن أضعها، فى بنائها الدرامى. خطورة الأمر، أنى أضعها نصب عيني دوما، لا تفارقتى... فهذه رواية تاريخية، تحيى هذا النوع من الأدب الفريد، ولا يجيده إلا كل موهوب صبور، يتقن البحث والتنقيب، فى المصادر التاريخية، وقراءة المؤرخين، وحولياتهم وأعمالهم. وقبل ذلك، أن يكون لديه الموهبة اللازمة والتصور الضرورى. وأظن أن منذ الثلاثين سنة الأخيرة، قد إنقرض، من له باع، أو ريادة فى مجال الرواية التاريخية الإسلامية، بعد رحيل أعلامها، وروادها الكبار.. أضيف إلى ذلك مرحلة كتابة الرواية نفسها، وهذا شئ يسكن داخل العقل والوجدان، ولكن بمفهوم مغاير ومخالف تماما، لما إعتدت عليه.. كانت هناك إشكالية كبيرة تواجهنى، وهى اللغة التى علي استخدامها، فى الصياغة والسرد، إلى جانب بناء الفصول.. أما عن اللغة، فكان على دراسة وقراءة أدب هذه الفترة، منذ القرن الرابع الهجرى، وحتى القرن السادس الهجرى... وهى فترة تميل إلى العصر العباسي الثانى، والعصر الفاطمى.. فكيف أوفق لغتى، لتعرض لإطار التاريخي، وأكسر حاجز اللغة، لهذه الفترة.. هنا حللت الإشكالية بالصبر، على قراءة أدب هذه الفترة، كما ذكرت، لإكتساب لغتها، ثم إصباغها بروحى، ووجهة نظرى.. وما وضعت فى المدونة، مجرد تجارب وسطور، من درافت قديم تجريبى، على هذا المنوال.. نجد فيه تأثير الكلمة وجرسها، وكذلك الجملة داخل سياق الفقرة، والذى يضمها إرتباطا بفكرتها. وأشير فقط فى هذا الصدد، إلى خبر سقوط أنطاكية، وكيف صغته فى محاولة تجريبية لإيجاد أثر نفسي، للحدث.. هذا عالمى، أحيا به، وأعبر جنباته، بفضل الله .. وحدة وعزلة، ليست هنا بمفهوم الناس.. إنما هى حياة كل الحياة، لا يعرف قيمتها، إلا من ذاقها فعلا...
-----------------------------------------------------------

دور الخيال
------ 
داخلك عملاق،
 إن أردت أن تكون ذلك،
 وعليك أن تكون،
---------
حينما، أدرك أينشتين النسبية، لم يحركه، إلا شيئا واحدا، لم يفكر فيه إلا هو وحده. حينما، ذكر إذا لم تبد الفكرة، من البداية عبثية، فلا أمل، فى تحقيقها. وهكذا، إكتشف بخياله أولا، نظرية النسبية. والأديب، أولى بذلك الخيال، صنوا للعالم، لتظهر أفكاره، من حيز لآخر، وليؤثر فى قارئه. أحيانا، عليك أن تتحرر من المنطق، ومن تصوراتك المسبقة، لتكون، فى كل نص، بروحك، وكيانك. تنطلق، بسرعة أسرع، من الضوء.. فلا تضيع فكرتك، وأنت ساكن، ثابت على منوال واحد. حرك كل شئ، فى عقلك. إنها حقول قوة، كامنة فى عمقك، أنت. أكتشف بها السفر، فى الزمان، والمكان. إستوعب المكنون، فتستوعب مخيلتك، كل شئ. إنشد ما لا يُرى. هذا هو المقصد، وهذا هو السؤال. أعبر التضاريس الغريبة، خطّ أثرك. احفره، خطوة، إثر أخرى. لتكتشف الحلم، وما لا تعرف. حقق ذاتك. أنا أتعلم كيف أصنعه فى عقلى إلى الآن، وما زلت.. بصوت منحفض، يزداد قوة، شيئا فشيئا، فى أذنى، قبل أن أراه.  وأحاول أن اضعه فى كل نص أكتبه.عبثية الفكرة، أنت، الذى يضع منطقها المستحيل، بسؤال وراء سؤال، وتصورات تضع نفسك، فى داخلها. من غير الممكن، أن تحقق شيئا، وأن تظل هكذا، لو لم يستغرق ذلك الأمر، وإبداعك، من خلجات نفسك، وحنايا روحك. تراه بعينى عقلك، أولا. ثم تدرك حقول القوة هذه، داخلك، بعد ذلك، فتنطلق بك، وتنطلق بها، متحرر فكرك، وممتلكا أنت أفكارك،  ونصك، لغة ومعنى، ومضمونا. فى النهاية التأثير، الذى تلمسه على نفسك، قبل قارئك. حتى العلم، يقرر أنه بدون الخيال، وبدون الإرادة، لا يمكن للإنسان، إلا أن يقع فريسة للواقع، ويستمر فيه، راكنا إلى لا شئ، لا يتحرك. أعجب، لمن تدور أفكارهم، حول نقطة ما دائما، لا يتخطونها أبدا، ولا يحاولون طرق كل ماهو غريب. يدورون، فى فلك واحد ونفس المسار،.. يسلكون ذات المدار. يدورون، ويدورون. كأن، لا هناك أمكنة، ولا أزمنة أخرى، فى الكون. ببساطة، لا مستحيل. هكذا الأمر. وأنا لا أندهش، فى نفسي، لمستحيل فكرة أبدا، طالما يمكننى تخيلها، ثم كتابتها. أضعها أمامى، فى الأفق البعيد، فأرى كل تفاصيلها. تنبئنى أن هذا فى إمكانى. فقط أبدا حلقة الخيال، تحيط بى. وأقيّدها بالعقل، الذى يقوم بدوره، باذلا قصارى جهدى. وتتوالى الحلقات. أقحم نفسي فيها إقحاما، يلتهب بها خيالى، قبل مدادى، فأشحذ فى نفسي، روح مغامرة إكتشاف المجهول، ليكون ممكنا بين يدي، لتنطلق الفكرة فى المداد، هادرة، بصوت أكاد أسمعه، حتى أراها نصا. إن تقدير العلماء لمبادئ العلم، لا تقدم جديدا، دون تلك الروح الوهاجة، للمستحيل، وكسره فى الخيال. فما بالك بالكاتب، أو الأديب دون خياله، أو إلهام له. إن المفارقة، تكمن دائما، فى هذا السبب، والمحرّك الجوهرى والأساسى، الذى يدفع القلم للإبداع، من حلقة، إلى أخرى. فيظن القارئ، أو المتلق، أنه داخل النص فعلا. ويأسره النص تماما. يقع بين براثنه، فريسة للجمال، لا يود أن تنتهى قراءته. وهذا ما يهزّنى، حينما أقرأ. وهذا ما يعلقنى بكاتب أو أديب، ما. من هنا، إقنع نفسى دائما، أن كل شئ ممكنا. لا أعطى تنبؤات مسبقة، لدائرة الخيال الواسعة فى الكتابة، وبيدي أن أتأمل، بين الفكرة والمعنى واللفظ. إنطلق فحسب. ثق أن قدراتك أعلى مما تتوقعه، فى نفسك. لا مستحيلات دوما. وإن ندرت. وما أكثر الممكن حولك، وهو متوفر، ولكن بلا معنى. الفكر الخلاق دائما، يكون على حافة المستحيل، وما لا تظنه أبدا. وكذلك الإبداع الرائع ينقلك، من عالم إلى آخر. من زمن إلى زمن.. ومن معنى إلى معان، لا يمكن تصورها. وإن إفتقدت روح الخيال، وعبثية الأفكار، فلا تنتظر شئ، من نفسك. هذا شئ، أشبه بالسفر عبر فضاء فائق متعدد، أو ما يسمى فى الخيال العلمى، عبر الثقوب. أن تخترق الماضى، والمستقبل، فى لحظة الحاضر. هنا أتذكر مرة ثانية، حلم أينشتين الكبير "نظرية لكل شئ" أو ما يُصطلح عليه "النظرية النهائية". التى تفسر كل شئ. لكنها ها هنا، فى مضمار الكتابة والأدب، أنت صاحبها، تضعها لنفسك، لتكون، أو لا تكون. بدون الخيال، حول ماهو ممكن، وما هو مستحيل، والحدود بينهما، التى ننتقل فيها وعبرها، فإننا لا نصنع شيئا. لا تظن أن الموهبة بعيدة عن العلم، يمكنك أن تنال مثلا، وتستفيد من قوانين آرثر كلارك الثلاثة. هذا شئ، قد يجعل البعض، يبتسم، ولها، لو كان يعلمها من قبل. يتسائل ما العلاقة بين العلم والأدب. ببساطة إنه الخيال. يقرر كلارك أن إذا كان شئ ما ممكن، فهذا بالتأكيد حق، وأن الطريقة الوحيدة لإكتشاف حدود الممكن، هى المغامرة فى الذهاب، أبعد منها إلى المستحيل. وأخيرا، إن أى تقانة متطورة جدا، لا يمكن تمييزها، عن السحر. ألا تتفق معى، أن الأدب البديع كذلك. أنت تقرأ نصا ما، أيا كان نوعه، قد يٌسحرك. يشدهك. يسلمك لتأويلات وتفسيرات، لا تستطيع، أن تضع له حدا، واحدا. هذا هو السحر بعينه. وهو البيان. وصنعة الأديب، الحاذق بها. وكما قيل، إن من البيان لسحرا. فكم هو رائع، أن تصادف معضلة، الآن، فتحقق بعض الأمل، فى تحقيق تقدم، إلى الأمام، من تفكيرك بها. فقط أولئك الذين يفكرون، ويجربون، يحصلون على المستحيل. شئ كالتخاطر تماما، لكن مع الأفكار، وحدها. تتمثلها أمامك، وتُجسدها. أو إن شئت، قل النقل الفورى، لذاتك، من مكان الى آخر، فى زمن آخر، لا يحدّه شئ. أو الإستبصار، للمجهول. يقول جون ويلر إذا لم أرّ شيئا غريبا، خلال اليوم فانه ليس يوما جيدا. وشكسبير نفسه له رأى أن من مميزات الإنسان غير العادى، أنه يتفوه بحقائق، لا يتفوه بها، أى شخص آخر. أنت ترى، أى إنسان، له ميزة تفرد عن الآخرين. فقط، عليه أن يكتشفها ويستنهضها فى ذاته. وهذا ما يجعلنا نشمئز من حماقات، عدم العبثية فى تفكيرنا، التى إن لم تخالج أنفسنا.. مما قد يمنح الخيال، فلن نبدع. أنت غير مطالب، أن تكون شكسبير أو غيره. لكن لا تركن إلى دعة الفكر. فقط إنتقل فى حقول قوة خيالك، لترى ملحمة العجب، وترى نفسك والكون، وكل شئ، بعين عقلك. لا تخف الفكرة. لا تخشَ التجريب. حاول، مرة بعد مرة. هذا فقط، إن لم ترَ الأمر مستحيلا، فى نفسك، من الأساس. فإن لم تره، فكيف يراه القارئ لنصك. وهى الثقة، فى أنك لن تفنى، فى الخيال، أو فى أكوان متوازية مجاورة، إلى الأبد، فلا تعثر على ذاتك، مرة ثانية. أمور غريبة أليست كذلك. لا ليس الأمر، كما يبدو، عليه. أنظر لمقولة إتش ويلز الشهيرة (قال أحدهم: السفر عير الزمان ضد المنطق. قال المسافر عبر الزمان: أى منطق؟) وإرجع لأول المقالة، لتتبين الأمر. قبل أن أختمها بقول كاتب من رواد الخيال العلمى أحب إبداعه، وهو الأديب الروسي "إسحق أسيموف" (أكثر العبارات إثارة، والتى تشير إلى إكتشافات علمية جديدة عظيمة، ليست "وجدتها". ولكن " هذا غريب". كذلك فى الأدب، ومع عظام الأدباء، حين يشدنا غريبهم، ونتأثر به، دوما، ولكل نكهته، وسمته. وهو أكثر إثارة، بالطبع مع الخيال، ومرده إليه، فى الحقيقة..
-------------------------------------------------------------

قصتى ورحلتي مع كتاب 
 توت عنخ آمون
--------
وضعت بالأمس القريب، مقالا بعنوان ظلال الماضى - بين مشهدين، وهو مأخوذ من نصّ مقدمة كتابى (توت عنه آمون ظلال من الماضى) المنشور والصادر عام 2010. ويمكن الرجوع له فى مكتبة الإسكندرية، للمطالعة والقراءة، مع بقية كتبى، التى تقتنيها المكتبة. ونظرا لعدد قراءات هذا المقال، وددت أن أشير بنبذة، عن تأليفى هذا الكتاب فى التاريخ الفرعونى. وكان قد صدر كتاب آخر، لى، سابق عنه بعنوان (الفراعنة أسرار وخفايا) عام 1997، وهو بصغة عامة عن هذا التاريخ العظيم، وذلك ضمن كتبى التى أتناول فيها التاريخ. إلا أن كتاب ( توت غنح أمون ) له ذكريات معى، مثل بقية كتاباتى. وفى هذا المقال، نبذة عامة عن رحلتى فى تأليفه، دون الإستطراد إلى المراجع والمصادر التاريخية التى رجعت له فى مادة الكتاب. والواقع أنى فى مقدمة هذا الكتاب إنتهجت أسلوب أقرب إلى السيناريو والحوار( مشاهد زمنية ومكانية)، فى تقريب الصورة إلى القارئ، الذى يُأخذ بقصة هذا الإكتشاف الكبير، والإرادة والتحدى خلفه، ثم الروعة والدهشة فى آن واحد أمام تلك الكنوز المذهلة. وكان نهجى فى هذا الكتاب، بخلاف كتبى الأخرى، فلكل مجال علمى أسلوبه، ولكل فكرته، ما يجعل الكاتب، يلتمس طريقه، لينهى كتابه على أكمل وجه، يرضى عنه. إذ تظل حياة هذا الفرعون  لغزاً يؤرق المؤرخين، إضافة إلى أنه لم يعرف عنه أو عن حياته الكثير.. فلم يكن توت عنخ آمون قد تجاوز التاسعة من عمره عندما تولى عرش مصر، ولم تمر عليه ثمانية أعوام في ارتقاء عرش مصر حتى انتقل من صفحة الوجود إلى صفحة التاريخ بعد سنوات قلائل من حكمه، فمات وعمره لم يتجاوز التاسعة عشرة.. في ظروف تؤكد أن شمس الأسرة الثامنة عشرةقد مالت، وأوشكت على المغيب، بعد أن شهدت أحداثاً جساماً كان لها تأثيراً كبيراً على مجريات التاريخ المصري القديم .. خاصة أن سبب الوفاة ما زال غامضاً هو الآخر، لكن الجديد الذي تم التوصل إليه أن الفرعون لم يُقتل.. مما يعتبر فصل جديد في علم المصريات..!! وقد توفي الملك الشاب توت عنخ آمون، في الثامنة أو التاسعة عشرة من عمره ، حوالي سنة  1352 قبل الميلاد، دون ولي عهد، في ظروف وفاة بقيت دائما غامضة، ولكن المنشور بناء على تقرير المسح لمومياء الملك والذى هدف إلى التحقق من أنه تعرض للقتل، نظراً لأن الصور السابقة بأشعة إكس كشفت عن وجود ثقب في جمجمته.. يسمح بفصل من فرضية القتل، على الأقل عن طريق أداة حادة كما قيل !!
وتولى الملك بعد وفاة توت عنخ آمون رجل الدولة المخضرم والمستشار العجوز والناصح الأمين لتوت عنخ آمون، الكاهن الأكبر "آي" الذي لم يكن من سلالة ملوك الأسرة الثامنة عشرة . وقام مباشرة تقاليد "فتح الفم" لمومياء توت عنخ آمون – وهي التي يقصد بها بعث الحياة في الملك المتوفى من جديد في العالم الآخر !!
ومن القصص المثيرة الطريفة التي سجلها التاريخ، حول وفاة توت عنخ آمون، وما حدث بعدها، هو ما فعلته أرملته الملكة "عنخسن آمون" التي كانت قد حزمت أمرها لأن تمارس السلطة الملكية بنفسها إلى جانب أمير زوج تختار بنفسها، ولكيّ تحقق  هذا الغرض، اتجهت إلى ملك الحيثيين بطلب لم يُسمع بمثله من قبل، ليرسل إليها بأسرع ما يستطيع أميراً حيثياً من أبنائه تتزوجه وتجعله يرتقي عرش مصر، فأرسلت خطاباً سرياً إلى "شومبليون" – ملك الحيثين – طالبة منه إرسال أحد الأمراء لتتزوجه ويجلسان معاً على عرش مصر. وقد عمل سفير مصر في الفترة التي مات فيها توت عنخ آمون – وسيطاً بين الملكة الأرملة وملك الحيثيين لتدبير زواج الأمير الحيثي "زانانزا" منها..، فبعث أكثر من رسالة للتأكيد على أهمية وحقيقة الأمر وتبديد الشكوك والمخاوف لدى ملك الحيثيين، والذي أرسل بالفعل أميراً حيثياً "زانانزا" والذي قُتل في كمين في الطريق حينما كان مسافراً إلى مصر ليلحق بعنخسن آمون. وكان الاغتيال لهذا الأمير الأجنبي يأمر "حور محب"، الذي ارتقى أعلى المناصب والوظائف أثناء حكمي إخناتون وتوت عنخ آمون ، وكان قائداً للجيش في ذلك الوقت – وانكشف الأمر على يده، فأحبط خطة الأرملة السرية التي دبرتها لإعطاء الحق لأمير حيثي أجنبي في ارتقاء عرش البلاد..، فقام حور محب بتدبير قتله قبل أن تطأ قدماه الحدود المصرية !!
والظاهر، أن حور محب كان طامعاً في أن يصبح فرعوناً..! وبالفعل اعتلى عرش مصر بسهولة بعد موت الملك الكاهن "آي" الذي تولى الملك بعد توت عنخ آمون الذي كُتبت له الشهرة بعد آلاف السنين بفضل اكتشاف مقبرته العجيبة التي احتوت على مئات من الأشياء والآثار الثمينة التي ضمّتها كنوز هذا الملك الشاب.. بالمعنى الكامل لكلمة كنوز.. تحف فنية من أعلى طراز فني مصري، تشهد برقى في الصناعة وجمال في الفنون المصرية، إضافة لأنها تمثل وثائق دينية وتاريخية بالغة الأهمية حول حياة فرعون من فراعنة مصر من الأسرة الثامنة عشرة.. وغير ذلك، ممّا يدل على الأهمية الكبيرة لاكتشاف هذه المقبرة سواء من الناحية التاريخية أو العلمية. وقد حكم آي لفترة قصيرة لا تزيد عن ثلاث سنوات بالنظر إلى كبر سنه. وكان قد ارتقى العرش بعد ترأسه جنازة توت عنخ آمون ودفنه في الجبانة الملكية بوادي الملوك، في عظمة وأبهة ما كان من الممكن لأحد أن يصدقها لو لم تكتشف كنوز مقبرته للعالم. وكان "مايا" مدير أعمال البناء في مكان الخلود، كما كان يُطلق قدماء المصريين على المقبرة، كما كان (مدير الخزانة) في عهد توت عنخ آمون – قد كرَّس باسم مليكه صورة جنازية تُعتبر من أندر التحف التي تشهد في مقبرة الملك على مقدار وفائه وحبه لمليكه. ويبدو أنه قد بذل كل ما في وسعه في القيام بوظيفة مدير الجبانة، فسهر على تشييدها في جوف الصخر، وعمل على أمن وسلامة مقبرة مليكه المحبوب بإخفاء مدخلها وموضعها عن الأنظار. وعندما توصل لصوص المقابر إليها، وقاموا بمحاولة سرقتها، مرتين متتاليتين، مما ظهر من الدلائل التي تبيّنت واضحة عند اكتشاف المقبرة على يدّ هوارد كارتر في عام 1920 ، فمن المرجح أن اللصوص قد تم القبض عليهم، وأن "مايا" قام بإصدار أوامره بإصلاح ما أفسده اللصوص في غرف المقبرة، وإرجاع قطع الأثاث الجنازي إلى مكانها الذي كانت عليه عند دفن توت عنخ آمون، ومن الواضح أن الكهنة أو مفتشي الجبانة قد قاموا بهذا الإصلاح على وجه السرعة، لأنه لم يمكنهم سوى ذلك، ثم قاموا بعد ذلك، بفتح الفتحات التي نقبها اللصوص في باب المقبرة وداخلها، للانسلال إليها للقيام بعملهم غير المشروع، ضمن سلسلة نهب المقابر الملكية في وادي الملوك.
ورحلتي مع هذا الكتاب كانت قد بدأت ، عندما كُتب لي زيارة أكثر من موقع أثري مصري قديم، وكنت أستعد دائماً بالقراءة المسبقة عمّا سأراه . ولكنني دائماً قد أرجع بغير الذي ذهبت به. وكغيري ممن شاهدوا تلك الآثار الفذّة ، فلابد في أول الأمر أن تستولي عليّ الدهشة والإعجاب. ولا أنسى في أول مرة رأيت فيها الهرم الأكبر، منذ زمن مضت، فعلى أي حال، لم يكن من الممكن أن أنجو من سيل الأسئلة، والتساؤلات التي هاجمت رأسي، أو من الأفكار التي دارت في خلدي.. متى بُني هذا الأثر العملاق ؟! وكيف تم هذا البناء؟! وبأي وسيلة تم رفع تلك الأحجار الضخمة وكيف وضع تصميمه وكيف..؟! وكيف..؟!  وكنت في هذا ، كغيري ممن أُخذوا بالدهشة والحيرة. وارتدت زمنياً إلى تلك العصور التي زاد فيها الرحالة العرب والأجانب هذه الآثار، منذ المؤرخ الإغريقي هيرودوت حينما كانت مصر، وما زالت جاذبة، فأتاها الزوار من كل مكان، وتوافد إليها الكثيرون . وقد سجل التاريخ، الرحلات التي تمت إليها، خلال العصر اليوناني الروماني، حينما أتى اليونان والرومان القدماء، وخلدوا تلك الزيارات، في مئات من القصائد الشعرية، والكتابات الوصفية النثرية. ولم يقتصر الأمر على الشغوفين بالرحلات والارتحال من هؤلاء، بل شعوب وحكام وأباطرة ذاك الزمان. وبعد ذلك، وقرب نهاية النصف الأول من القرن السابع الميلادي، كانت مصر قد بدأت عصورها الإسلامية، وبدأت حقبة تاريخية جديدة ذات ثقافة واسعة متميّزة، ظهر فيها العديد من العلماء المسلمين الذين استهوتهم دراسة التاريخ ووصف البلدان.. فرأينا من هؤلاء الرحالة والعلماء العرب المسلمين من سجَّل في كتاباته آثار ممن وصفها ..، منذ بداية الفتح الإسلامي العربي لمصر، وطوال القرون التالية . ولم يقتصر الأمر على الرحالة العرب كابن إياس، وابن بطوطة، والبغدادي..، وغيرهم من الرحالة والمؤرخين – بل تعدّى إلى الرحالة والمؤرخين والعلماء الأجانب ممن زاروا مصر طوال تلك العصور، وحتى الآن. كان كل هذا يدور في رأسي، وأنا أقف أمام تلك الآثار العجيبة، التي دَّلت على ريادة مصر الحضارية، التي أرست خلالها دعائم وأسس الحضارة البشرية..، تلك الحضارة التي بلغت أعلى ذراها وأوج قمتها، في عصر الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام، فتركت لنا أثاراً شاهداً على حضاراتها وريادتها بكل جوانبها الثقافية والعلمية، ممّا كان سبباً مباشراً في النهضة والتقدم العلمي والحضاري في جميع المجالات. وبعد سنوات، كنت في زيارة لمدينتي الأقصر – طيبة – وأسوان، فتجولت بين آثارهما، بين معابد الكرنك والأقصر..، ذاك بهو أعمدة ، وتلك مسلات وتماثيل ضخمة...، وغير ذلك من آثار جنائزية وتعبدية. وأذكر أن دار حوار بيني وبين مرشد سياحي كان يصاحبنا واحتدم النقاش والجدل فيما بيننا حول التاريخ الفرعوني وآثار مصر القديمة، وكان محور الحديث آنذاك يدور حول شخصية فرعون موسى !! ثم انتقلنا إلى البر الغربي لطيبة، حيث وادي الملوك بمقابره العجيبة المنحوتة في الصخر، ولم أشعر بنفسي إلاَّ وأنا أنسل من الصحبة التي كانت تنتقل من مقبرة إلى أخرى. وصحبني رفقاء وأصدقاء لطالما جمعتنا الرحلات، وكان هدفنا مقبرة فرعون شهير، هو توت عنخ آمون. وكنت في ذلك الوقت قد شرعت في كتاب جديد هو (حضارات قديمة عجيبة) وكان من بين ما تطرقت إليه، مسألة الاكتشافات الأثرية الشهيرة، وبلا شك كان اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون من أعظمها وأكبرها أثراً، وأكثرها دوياً وصيتاً في الآفاق. وتساءلت : أليس من الجدير والأحرى، أن يحتل هذا الحدث أكثر ممّا فرضت له في هذا المصنف؟! فليس هناك جدال أن هناك قصة مثيرة ومغامرة كبيرة وراء هذا الحدث العظيم الذي يمثل ثمرة كبيرة لعلم الآثار (العاديات) عامة، وعلم المصريات خاصة. ومن هنا كانت البذرة الأولى لهذا الكتاب. فقد أصبح من المسّلم به الآن في علم الآثار، أن قيام هوارد كارتر باكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك بطيبة في الربع الأول من هذا القرن، يُعتبر أهم وأعظم الاكتشافات الأثرية التي تمت في القرن العشرين. كما تُعتبر المقبرة بما فيها من محتويات كنزية نفيسة، وبما ضمَّته من أكداس ضخمة من الذهب والقطع الأثرية الفنية البديعة التي أذهلت العالم – أعظم كنز علمي أثري حقيقي، عثر عليه الإنسان في هذا القرن، وحتى الآن .
-----------
ويرجع تاريخ الإنسان المتحضّر المكتوب إلى نحو 3200 سنة قبل الميلاد، أو منذ خمسة آلاف سنة فقط على وجه التحديد ، وليست هذه الفترة رغم ضخامتها وامتدادها ، إلاَّ شريحة زمنية صغيرة في تاريخ الإنسان على الأرض. وبرغم ذلك فقد حفظت ذاكرة التاريخ أهم المدارك والمعارف والآثار التي تركها الإنسان خلفه، خلال مراحل تحضّره عبر هذه الآلاف الخمسة من الزمن، وخاصة من الحضارة المصرية القديمة، فمن بين جميع هذه الحضارات الإنسانية التي ظهرت واندثرت عبر آلاف السنين من التاريخ الإنساني المكتوب أو المعروف، تبوأت الحضارة المصرية القديمة مكان الصدارة والأولوية واعتبرت بكل المقاييس العلمية الحضارة الأم الرائدة التي احتلت مكانة عظيمة لا تنافسها فيها حضارة أخرى. وأنارت الطريق بما قدَّمته من إنجازات حضارية، أمام الإنسان ليبلغ أقصى درجات الرقي. وليس من قبيل المبالغة أن نجد بعض المؤرخين الغربيين يطلقون على الحضارة المصرية القديمة اسماً شهيراً هو "أم الحضارات" بما وصلت إليه وقدَّمته من مستوى حضاري عظيم. وقد ظلَّت مصر محور التاريخ العالمي ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة من تاريخ العالم الحضاري البالغ خمسة آلاف سنة.. أي أنها قد قامت بالدور الرئيسي على مسرح الحضارة العالمية بنسبة سبعين في المائة من تلك الفترة الطويلة، ولم ينقطع دورها الحضاري بعد ذلك من قيادة العالم صوب المدنيّة والتقدم الحضاري. ولا يجب إغفال ذكر صلات مصر بالحضارات الأخرى بمعظم العالم القديم، طوال تاريخها الذي يبدأ من عام 3200 ق.م وحتى عام 332 ق.م حين فتح الاسكندر الأكبر مصر. فقد رحل المصريون القدماء إلى أقاصي الأرض المعروفة لتحقيق أغراضهم الحربية و السياسية و التجارية والثقافية. وهى عوامل احتكاك بالمناطق الحضارية المختلفة في العالم القديم . وتّسلم جمهرة المؤرخين بأن مصر هي أول بلد في العالم انبثقت منه الثورة الحضارية بمنحزاتها الرائعة التي مهدت للحضارة الإنسانية سّبل الرقي والتمدن. ونكاد تجمع آراء المؤرخين على أنها أول حضارة، قد قامت على ضفاف النيل، إذ ازدهرت الحضارة المصرية في هذه البقعة من العالم، منذ سبعة آلاف سنة، ولا تزال الأهرام شاهداً صادقاً ودليلاً ناطقاً على تلك العبقرية الفذّة التي تمتع بها بناة الأهرام، وهذه الآثار، التي تشهد بنهضة معمارية – علمياً وعملياً – شملت الديار المصرية بطول البلاد وعرضها، وامتدت أيضاً إلى الأقاليم التابعة للنفوذ المصري، وحيث كان لمصر أثر بعيد في الحضارات الأخرى، ممّا ذهب إلى أفاق عميقة وحدود بعيدة ، عندما اتصلت مصر بهذه الحضارات . يقول المؤرخ "أدولف أرمان" : (إن دراسة المنجزات الحضارية المصرية تؤكد أن المصريين عنصر فنان فذّ سبق العالم بأثره بابتكاراته الحضارية الرائعة) . وتشمل مصر القديمة وتعني عصوراً متطاولة، كما تتضمن ديانة فلسفية وآداباً وعلوماً تضمّ في مخبأها علماً بعيد الغور ومكتنفاً بالرموز والألغاز. كما تعني فنّاً سامياً متنوع الفروع، ونظماً راقية للحكومة والإدارة . ومع أن الكنوز الأثرية قد جُدَّ في اكتشافها منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان، وبذل العلماء المختصون ما في وسعهم في إزاحة ما عليها من الأستار والحجب، إلاَّ أننا ما زلنا لا نعلم كل شيء عن المصريين القدماء، وما زالت هناك مسائل من أهم ما يتوق العلماء إلى معرفته عن تلك الحضارة التليدة، وما زالت كامنة في عالم المجهول تنتظر الكشف عنها...، فكيف عرف المصريون القدماء التخصص بفروعه المختلفة في العلوم ؟! وكيف أحرزوا فيه التقدم والنجاح إلى حد بعيد ؟! كيف تتبعوا مدارات النجوم في أفلاكها، فحسبوا الأيام والسنين؟! كيف شيدوا الأهرام الهائلة؟!..، كيف حققوا تلك المعجزات في هذا العهد السحيق الغابر؟! كيف..، وكيف ..؟!
----
منذ ما يزيد عن مائتي عام، وهب الكثيرون من العلماء والمؤرخين الأجانب على مختلف جنسياتهم، حياتهم العلمية للبحث في الحضارة المصرية القديمة، والكشف عن عظمتها ورقيّها البالغ. بل، ولقد ظهر علم تخصصي حقيقي مستقل بعناصره وأركانه وقواعده ومنهجه، وهو علم "المصريات" أو "الايجيتولوجي" علم الآثار المصرية القديمة، الذي يقوم علماء، بدراسة الآثار وتاريخ مصر على أسس علمية واقعية واضحة ، منها الآثار المصرية من تلك العصور البعيدة، لدراسة فترات موغلة في القدم ، فتمدّهم بالكثير من المعلومات. وقد أصبحت لهذا العلم مصادر يستقي منها معارفه ومداركه وصلبه، ومن هذه  المصادر العديدة تبلورت صور بعينها تُعطى المعرفة التي ينشدها هذا العلم..، ومنها، الأشياء والآثار والعاديات واللقيات الظاهرة أو التي استخلصت مع المجموعات الأثرية التي كانت ثمرة لجهود وتنقيبات علماء كثيرين مختلفي الجنسية كذلك، من دراسة المعابد والمقابر المتناثرة وأطلال المدائن الماثلة، أو التي اندفنت تحت الرمال والأنقاض مع مرور آلاف السنين من الزمن، وانبثق منها ألمع الشواهد وأقواها على المنجزات البديعة لتلك الحضارة. وقد وُلد علم المصريات من عشرات السنين، وما إن وُلد حتى استثار حوافز علمية صادقة وجهود علماء صادقين، وبدأ في الظهور والتبلور شيئاً فشيئاً.. يدرس آلاف السنين من التجربة البشرية على ضفاف النيل بدءاً من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة ومعتقدات وتقاليد هؤلاء القدماء، وحتى فكر الكتاب والحكماء والعلماء، والإصلاحات الاجتماعية والدينية. ويتسم علم المصريات بمكانة خاصة، وينتمي إلى العلوم الإنسانية مثله مثل علوم أخرى كتاريخ القرون الوسطى والتاريخ الحديث والتاريخ المعاصر. وينتمي علم المصريات الذى ولد فى القرن التاسع عشر إلى العلوم الإجتماعية كذلك، فهو يعالج مادة هائلة تغطي آلاف السنين، تدور حول فروع كثيرة على مجرى مرحلة زمنية تمتد منذ فجر الإنسانية. ومكانة الحضارة المصرية القديمة، ليست وهي قائمة فقط، ولكنها ظلَّت كذلك بعد ما زالت، فعندما اندثرت تلك الحضارة الفذّة، وحلّت محلها حضارات أخرى، بقيت الآثار المبهرة التي خلّفتها تلك الحضارة الزائلة، دفينة في الرمال وبطون الجبال وبين طبقات الطمي المتراكمة، وما زالت تكتشف يوماً بعد يوم.. فى مدنهم، ومعابدهم، وقصورهم،.. المطمورة والمفقودة في الرمال وطبقات الطمي..!! وأغلبها أطلال، ولكن ما زالت حتى الآن ذات قدرة سحرية فائقة على إبهار الإنسان الذي يعيش في عالم اليوم، بما تشهد عليه من دقة وروعة ومهارة في إنجازها العظيم الذي لفت الأنظارإليها..، بقيت ليكشف عنها علماء الآثار، وليحل طلاسمها المختصون والمؤرخون، ولتغمر الدهشة والإعجاب كل من يراها زائراً كان أم سائحاً. ولحدوث ظاهرة عالمية تسمى "الايجيبتومانيا" وهو مصطلح علمي معناه الجنون بمصر أو الولع الشديد بمعرفة المعلومات عن تاريخ مصر والآثار المصرية. وأكثر من ذلك، وهو ظهور علم المصريات نفسه !!
ولا شك أن اكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية، كان له الساعد الكبير في مساعدة العلماء والأثريين في الكشف عن أسرار التاريخ الحقيقي لمصر القديمة الذي أصبح في متناول القادرين على قراءة الهيروغليفية، وعلماء المصريات.. وفي ظهور ملامح عظمة الحضارة المصرية القديمة التي أدهشت العالم وأذهلته. أما الحدث الثاني.. وهو موضوع هذا الكتاب – وهو حدث عظيم في تاريخ علم المصريات، ويمكن أن ينافس في الأهمية والجاذبية والقوة،  وإلى الآن، حدث فكّ رموز اللغة الهيروغليفية، فهو هذا الكشف العجيب لكنوز مقبرة توت عنخ آمون، وذلك الذي تم على يدّ الانجليزين هوارد كارتر واللورد كانر فون، ممَّا وضع في أيدي العلماء صورة للحياة الدنيوية وكيفيتها لفرعون شاب من فراعنة مصر ، كان على وجه التقريب مجهولاً لا يدري به أحد أو يعرف عنه شيئاً حتى ذلك الأوان، فصار بين لحظة وأخرى صاحب أكبر عناوين رئيسية على صدر صحف العالم الأولى وأخبار وكالات أنبائه، بعد حوالي ثلاثة آلاف عام، أو ما يزيد، عن وفاته !!
ولا جدال في أن كشف مقبرة توت عنخ آمون يدين في المقام الأول إلى النجاح الذي أحرزه علم الآثار عامة، وعلم المصريات خاصة، والذي تطور من مجرد حفائر وتنقيبات أثرية للبحث عن الكنوز، إلى علم من العلوم له وسائله وقواعده ومنهجه وطبيعته الخاصة. والكشف عن كنز ثمين في مقبرة ملكية ، حادث مثير في حدّ ذاته، فلكلمة كنز دوّي كبير ورنين خاص، يجذب الأسماع والأنظار إليه، وخاصة إذا لم تمتد إليه أيدّي اللصوص وناهبي القبور طوال تلك الأجيال الطويلة. وتفاصيل هذا الحدث والكشف العلمي ،  تفاصيل مثيرة جداً، نظراً لتطرقها لنواح عديدة لها أهميتها، وهي قصة جهاد وكفاح وعناية سنوات طوال..،...، وعند الولوج إلى غرفها، وعند فتح التابوت الجميل الموضوع داخل المقاصير الذهبية...،ممّا يُثير المشاعر والانفعالات والأراجيف، ورغم ما قد يمرّ من فترات يأس وقنوط ومشاعر الخوف من المجهول، والرهبة ممّا هو قادم، والقلق من الإخفاق والفشل، والحيرة فيما يستعصي فهمه.. وفي ظلّ رغبة أكيدة جامحة في الوصول لشيء جديد، والأمل في العثور على ما يُعوّض جهد السنين، وحب الاستطلاع، والفرحة العارمة لما قد يُكشف عنه سواء كان مادياً ملموساً أو معنى قد يُضيف شيئاً لمعرفة الإنسان عن تاريخه الطويل. وبلا جدال فإن قصص اكتشاف مجموعة الملك توت عنخ آمون من الأسرة الثامنة عشرة التي عثر عليها عالم الآثار هوارد كارتر سنة 1922 م في جبانة الملوك بوادي الملوك بطيبة ، هي قصة أثارت إعجاب العالم ودهشته، مرَّ فيها ما يُثير تلك المشاعر الإنسانية العظيمة – التي أشرنا إليها – ممّا سنلمحه في رحلتنا مع هذا الحدث العلمي الكبير، عبر فصول هذا الكتاب، مع قصة مغامرة مثيرة عاشها علماء من أولئك الذين يصطدم في أعماقهم طموح عارم ورغبة قويّة كيّ يكونوا ممن يُسجل لهم التاريخ كلمة تخلد ذكراهم وتشيد بأعمالهم العظيمة التي تصبح مثار دهشة العالم وإعجابه ، ويقف أمامهم مأخوذاً مذهولاّ!!
لذلك، فإن علماء التاريخ والآثار المصرية يقررون أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، في عام 1922م، يعتبر بكل معيار تاريخي وعلمي، أعظم كشف أثري في القرن العشرين بأكمله ومن المؤكد أن طبقات الطمي والرمال في المواقع الأثرية – معروفة أو غير معروفة – ما زالت تُخفي الكثير من الآثار الفذّة الرائعة التي خلفّتها تلك الحضارة العظيمة المبهرة وراءها، والتي تُعتبر من جميع الوجوه أعلى وأرقى الحضارات التي ظهرت واندثرت في تاريخ الإنسان القديم، ممّا أكدته الدراسات العلمية التي ضمّتها بين دفتيها كتب وموسوعات مؤلفات ضخمة وعديدة، تكتظ بها مكتبات العالم. وليس فيما ذكرناه أي مبالغة، فالحياد العلمي والموضوعية والدقة والدراسات التي أُجريت طوال عمر تاريخ المصريات – كلها معايير صادقة تؤكد نلك الآراء. وقد اعترف بهذا وأقرَّ به غالبية علماء الآثار والمؤرخين على اختلاف جنسياتهم. وإن كانت هناك بعض الجوانب التي تتعلق بهذه الحضارة العريقة. وليس هناك أمراً مقنعاً، أكثر من تلك النتائج التي توصل إليها علماء التاريخ والآثار، من خلال الدراسات التي قاموا بها على نحو أكثر تخصصية مما نراه في مصنفاتهم ومؤلفاتهم عن الحضارة المصرية القديمة، والتي شملت مختلف جوانبها منذ عصور ما قبل الأسرات ومروراً بتاريخ الأسرات الفرعونية، وحتى زوال هذه الحضارات واضمحلالها. ومن ناحية أخرى، ما تشير إليه الآثار المصرية القديمة التي بقيت رغم اندثار تلك الحضارة، ويكفينا مثال واحد، وهو الهرم الأكبر، تلك الأعجوبة الهندسية، الذي يقف على وجه الخصوص، من بين جميع آثار مصر القديمة، مثيراً للتساؤلات التي لا تنتهي ، كيف؟! ومتى ؟! بل ومن بنوه ؟!!
--------
ولا ترجع شهرته لأسباب تتعلق بإنجازات حققها أو حروب انتصر فيها، وإنما لأسباب أخرى لا تعتبر مهمة من الناحية التاريخية ومن أبرزها إكتشاف مقبرته، وكنوزه الملكية بالكامل دون أي تلف.. وتعتبر المقبرة الملكية الوحيدة التي اكتشفت شبة سليمة، في وادي الملوك من قبل عالم الآثار البريطاني هوارد كارت ، إذ لم تكن هناك مقابر سليمة يمكن إكتشافها. وأحدث هذا الاكتشاف ضجة إعلامية واسعة النطاق في العالم وشد انتباهه، رغم أن  تلك المقبرة صغيرة الحجم نسبياً بالمقارنة بالمقابر الأخرى لفراعنة مصر، والتي  تقع في شرق الوادي، بالقرب من أمنحتب الثالث ومن المؤكد أن هذا ليس من قبيل الصدفة!! فحجمها مثير للدهشة، إنها صغيرة جدا بالمقارنة مع غيرها من مقابر الفراعنة، وفى الواقع أصغر من المقابر الملكية في وادي الملوك، والتي لا تتبع خطة عامة!! وزينت في عجلة من الامر في وقت الوفاة المفاجئة للملك فلم تكن الزخارف الملونة واسعة النطاق، لإعدادها على عجل، فى مقبرة كانت قد جُهزت لنبيل أو قائد كبير. ومع ذلك فإن التقديرات تشير إلى أنها تجمع ما يكفي من المعايير الجنائزية للسماح لطقوس الدفن ولتشكل قبرا للملك فريدا من نوعه منحوتا، ... ويمكن القول أن أهمية المقبرة تكاد تنحصر فى أهمية ما احتوت عليه من كنوز ذات قيمة عالية من كل الوجوه وغاية فى كمال الصنعة وأبهاها ، فكنز توت عنخ آمون هو أكمل كنز ملكي عثر عليه، ولا نظير له، إذ يتألف من ثلاثمائة وثمان وخمسين قطعة تمثل قائمة من المعدات الجنائزية التي كانت مفيدة جدا لعلماء المصريات، لتعطيهم فكرة عما قد أزيل من المقابر الملكية الأخرى . وترجع أهمية كنوز الملك توت عنخ آمون إلى العديد من الأسباب، وأولها أن تلك الأمتعة الحياتية والجنائزية التي ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، ومنها يمكن معرفة كيف كان القبر الملكي يجهز ويعد. إضافة إلى أنه يمكن معرفة من كان وثيق الصلة بحياة الملك وما يحبه، من خلال هذا الكنز، مثل حبه للصيد وعلاقته السعيدة بزوجته عنخ اسن آمون وحاشيته الذين زودوه بما يلزم لإنجاز الأعمال بالنيابة عن المتوفى فى العالم الآخر.. إذ وجد أمتعة الحياة اليومية، وأدوات ومعدات حربية ، فضلا عن رموز أخرى وتماثيل، تتعلق بدفن الملك وما يؤدى له من شعائر....
وعلى هذا كانت هذه الدراسة متضمنة قصة اكتشاف هذا الأثر الكنزي، وتبلورت الفكرة على الصورة التي هي عليها. وكان لابد من التطرق إلى عديد من النقاط تُمثّل محاور الموضوع، بالإشارة إلى علم الآثار ودوره الهام في الكشف عن ماضي الإنسان، وإبرازه بصورة ماثلة للعيان يُستقي منها الصورة التي كان عليها ماضية على الأرض وتاريخها المتلاحق المتطور في بناء حضارته وأسس مدنيته... وآليت على نفسى أن أقَلِبُّ صفحاتَ المّاضي القريبِ نسبياً، حِينَمَا تمَّ هَذَا الكشفُ الآثريّ، لِنعودَ مِنه إلى المّاضي البعيدِ، فِي عمقِ التاريخِ لِنرَى كنوزاً لاَ يّقِلُّ عَنْها روعةُ العملِ المستمرِ، والرغبةُ فِي الكشفِ عَنْ المجهولِ، والعملُ يوماً بَعْد يومٍ فِي حفائرٍ بَعْدها حفائرُ، بإزاحةِ أكوامٍ مِن الرمالِ والأتربةِ فِي أشغالٍ شاقةٍ تَحْتَ أشعةِ الشمسِ وحرارةِ الصحراءِ المُحرقةِ ، لإختراقِ حاجزَ الزمِن، للوصولِ إلى أعظمِ كشفٍ أثريٍّ هامٍ ،عَلَى يَدِ "هِوَارد كَارْتَر" الذي لمْ يَهْدَأْ حتى كَشَفَََ الغطاءَ عَنْ مقبرةِ  تُوت عَنْخ آمُون، لِيُحققَ حُلْمَ كلِّ عالمِ آثارٍ، فِي أَنْ يجدَ يوماً مَا مقبرةً سليمةً، لمْ تمسْسْهَا أيدي اللصوصِ، مِنذَ أَنْ تَرَكَها الكهنةُ، بَعْد عمليةِ دَفْنِ الفرعون، راقَدْاً فِيها، فِي تَابُوتِه، عَلَيْهِ مَسُوحُ الدَفْنِ المُزركشةِ، كمَا غَادَرَتْهَا أيدي الكهنةِ، فِي صُحْبَةِ أثاثِه الجَنَائزيّ، ومُتطلباتِ الرِحلةِ الأُخْرَويَّةِ الطَّويلةِ.... ويعتبر العثور على مقبرة توت عنخ آمون أعظم كشف فى تاريخ علم الآثار الحديث ونقطة فارقة في تاريخ علم المصريات والمكانة الخاصة التى إكتسبتها في حقل الاكتشافات الاثرية الفرعونية لكون الملك توت عنخ آمون، هو الفرعون الوحيد بين الملوك الذي اكتشفت مقبرته كاملة حيث نجت من عبث اللصوص وعاديات الزمن  ..!!
ومنذ بداية القرن التاسع عشر توالت عمليات الكشف والتنقيب عن آثار مصر القديمة، بالتنقيب في الجبانات المصرية القديمة، وتلال المدن الأثرية، وأطلال المعابد والتي لا تزال مستمرة إلى زمننا الحاضر، وأنشئت المتاحف المصرية كيّ تحفظ ما يعثر عليه من الآثار، وأخذت المجموعات الأثرية تزداد تباعاً من مختلف مجموعات المواد العلمية، ممّا أتاح مجالاً للبحث يزداد باستمرار.
من المعلوم أن من دون سائر الملوك الأقوياء لمصر القديمة، الذين دفنوا فى وادي الملوك، لم ينج من عبث اللصوص وأيدى المارقين، خلال تلك القرون الطويلة، سوى " توت عنخ آمون" الذى نظَّمَ له  خليفته مراسم جنائزية، في وادي الملوك، مع إتخاذ كل الاحتياطات الواجب اتخاذها، لتأمين عملية الدفن، ورغم ذلك فلم تتوقف الزيارات، لمقبرة توت عنخ آمون، بما لا يقل، عن اثنتين من المحاولات، التى قام بها المغتصبون للمقابر، في وقت قصير جدا بعد الجنازة، رغم أن جبانة طيبة كانت محروسة جيداً، في هذا الوقت، لمنع أعمال النهب والسلب الكبيرة. ووفقا للتقاليد، ورد اسمه في القبر، من خلفه، ولكنه لقى موتا سريعا، بعد أربعة سنوات فقط في وقت لاحق، وهى سمة أخرى، للذين لم يكن لديهم الحق الشرعي، فى العرش. ونقشت على الجدران، كتابات وتعاويذ، لتحفظه، راقدا فى سلام....
----------------------------------------------------------------------------------------------


صوت المكان وظلاله **
----------
من أجمل ما يمكن أن يقابل الكاتب والأديب قارئ يقرأ أعماله بالقراءة متعلقا به، ويقدره.. الأجمل أن يقتنع هذا القارئ بما يقرأ، حتى يظن أن الكاتب هو كل الأبطال الذين يكتب عنهم فى أعمال قصّا ورواية. إن خيال القارئ فى هذه الحالة أكبر من خيال الأديب. فهو يلبسه كل سمات تلك الشخصيات التى أبدع فيها. فبلا ريب أن عدد الشخصيات الخيالية فى القصص والرويات يفوق ذهن القارئ ومن هنا يتصور أن كاتبه هو من يقرأه. وليس بشرط أن تكون هذه الشخصيات حقيقية من الواقع. فالمبدع عامة، خياله خصب وهو يبنى العمل كله من السرد القائم على عنصر الخيال. وإلا كان كل روائى وقصاص هو كل تلك الشخصيات التى نقرأها له. وهناك أعمال أدبية عظيمة لأدباء تعدت شخصيات العمل العشرات فى العمل الواحد بين نساء ورجال. أنظر مثلا لأعمال تولستوى وبلزاك وغيرهم عالميا. وعريبا محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان والسباعى وغيرهم. بالكاد تستطيع حصر عدد شخصيات كل عمل، مستغرقا معهم. إن نجاح الأديب فى أن يصل بالقارئ إلى مرحلة من التلقى يتصور فيها أن ما يقرأه واقعا هو فعلا نجاح له. وقد ذكرت فى مقال سابق أهميه دور الخيال الموصل إلى الإيهام بهذه الدرجة الفعلية فى ذهن القارئ. ومن قبيل التذكر العجيب تذكرى أنى كتبت مقالا آخر منذ فترة عن مشاهدات حفرت فى ذاكرتى من الطفولة. ومنها ما أسميته بالرجل القطار، وجاء ذكره فى المقال أشبه بقصة قصيرة ولكنها من الواقع الفعلى، وتخيلت فعلا باسما لو أننى فعلا هذا الرجل البخارى هائما والها، كالرجل وأبيت بين القطارات وأقطع طول وعرض المحروسة من الشمال إلى الجنوب، بدلا من طريق بمدينتى الساحلية. إن قوة الكاتب فى قوة خياله بالدرجة الأولى والتى لا تأتى فى لحظة إنما ورائها سيل من القراءة والتدبر والنظر فى الحياة. فربما إستفاد الأديب من خبر يقرأه هنا أو هناك، وربما مشاهدة عابرة فى طريق، وربما من شخصيات فعلية قابلها فى حياته. وربما من ذكريات تستدعيها الذاكرة. إن أدب ديكنز تقريبا كله مبنى على إستدعاء ذكريات من الماضى ومشاهدات فعلية فى لندن الفيكتورية. وعظمته فى توظيف هذه المخزون الهائل الذى نقرأه فى أعماله العظيمة. ولدينا محفوظ الذى صرح بأنه كان يسقط على شخصياته التى كتبها مما قابله فى الحياة. فى الواقع على الأديب أنا ينصت لكل شخصية يقابلها ليستفيد من وجه الحياة هذا. فأنت لن تكتب عن محام أو مهندس أو عامل أو طبيب وغيره، دون أن تعلم لغته وطبيعة عمله. هذا تماما كمعرفتك بتفاصيل المكان والزمان الذى تكتب عنه. وبدون هذا لن تكون هناك جماليات أو قيم فنية فى العمل يشعر بها القارئ ولن تكون هناك قوة إيهام وليس هذا معناه الإستغراق فى التفاصيل إنما للغة كذلك لها دورها فأنت عندما تكتب عن الريف غير ما تكتب عن البحر أو المدينة. وإذا لم تنعكس اللغة وتلك القيم الجمالية مع عناصر العمل فلا أشعر أن هذا العمل يستحثنى لأكتبه. وعادة يكون دور الخيال فى الربط بين هذه العناصر أعمق. فأوقات اليوم لكل منها سمته وتأثيره فالفجر غير الشروق غير الضحى غير الظهر غير الأصيل غير المغرب. وهذا ينعكس على طبيعة النشاط الإنسانى والحالة النفسية. فما بالك فى موقف أن تصفه فى قصة أو رواية يدور فى ساعة من هذه الساعات. مع ربط الوقت بالمكان فيختلف الأمر تماما. فالغروب تراه من قطار بخلاف ما تراه على أفق صحراء أو ارضا زراعية أو بحر، فإن ربطت بين الزمن والمكان والحالة النفسية للشخصية أو البطل مع تأثير القصّ بصوت الراوى أو حتى الحوار فأنت فى طريقك لإيهام القارى بصهر هذه العناصر مجتمعة، فى بوتقة واحدة.. أنا قد يستغرقنى مثلا النظر فى واجهة مبنى متنقلا ببصرى تلك الزخرفات والجماليات وربما أتخيله وهو يبنى.. وربما أبحث عن تاريخ المنطقة التى أكتب عنها وبدون هذا لا أقدر أن أكتب عن المكان وهذا يذكرنى برواية الرحيل شرقا والتى اهتممت بعنصر المكان وتدور أحداثها فى الاسكندرية. فأحداث الرواية تتراوح بين الحى الراقى كفر عبده فى منطقة مصطفى كامل باشا ولوران وسيزينيا وبين مناطق شعبية قديمة، وأماكن أخرى عديدة. إضافة لطبيعة المبانى التى تسكنها الشخصيات فتؤثر عليها وعلى سلوكها وبالتالى فى العمل. هذا أسميه صوت المكان وظلاله التى تلعب قدرا كبيرا من الأهمية فى العمل مستفيدا كثيرا من المراجع والمصادر التى تتحدث عن ذلك.  من هنا لا أندهش لقارئ يتوقع أن يكون ما يقرأ حقيقة، فأنا أحاول بقدر المستطاع، إيجاد هذا فى العمل مع الحبكة التى تطاردها فى نفسك وخيالك فقط . عامة، هى ملاحظة عابرة، تولد منها هذا المقال المختصر ربما أجد فى يوم من الأيام أديبا كان كل هذه الشخصيات فى الحياة التى يكتب عنها، وهذا مستحيل، إنما القراءة ومعايشة وملاحظة الحياة بالوجدان ودور الخيال، هى ما يجب أن يتوافر عند كل مبدع.
------------------------------------


دور الخيال
------ 
حينما، أدرك أينشتين النسبية، لم يحركه، إلا شيئا واحدا، لم يفكر فيه إلا هو وحده. حينما، ذكر إذا لم تبد الفكرة، من البداية عبثية، فلا أمل، فى تحقيقها. وهكذا، إكتشف بخياله أولا، نظرية النسبية. والأديب، أولى بذلك الخيال، صنوا للعالم، لتظهر أفكاره، من حيز لآخر، وليؤثر فى قارئه. أحيانا، عليك أن تتحرر من المنطق، ومن تصوراتك المسبقة، لتكون، فى كل نص، بروحك، وكيانك. تنطلق، بسرعة أسرع، من الضوء.. فلا تضيع فكرتك، وأنت ساكن، ثابت على منوال واحد. حرك كل شئ، فى عقلك. إنها حقول قوة، كامنة فى عمقك، أنت. أكتشف بها السفر، فى الزمان، والمكان. إستوعب المكنون، فتستوعب مخيلتك، كل شئ. إنشد ما لا يُرى. هذا هو المقصد، وهذا هو السؤال. أعبر التضاريس الغريبة، خطّ أثرك. احفره، خطوة، إثر أخرى. لتكتشف الحلم، وما لا تعرف. حقق ذاتك. أنا أتعلم كيف أصنعه فى عقلى إلى الآن، وما زلت.. بصوت منحفض، يزداد قوة، شيئا فشيئا، فى أذنى، قبل أن أراه.  وأحاول أن اضعه فى كل نص أكتبه.عبثية الفكرة، أنت، الذى يضع منطقها المستحيل، بسؤال وراء سؤال، وتصورات تضع نفسك، فى داخلها. من غير الممكن، أن تحقق شيئا، وأن تظل هكذا، لو لم يستغرق ذلك الأمر، وإبداعك، من خلجات نفسك، وحنايا روحك. تراه بعينى عقلك، أولا. ثم تدرك حقول القوة هذه، داخلك، بعد ذلك، فتنطلق بك، وتنطلق بها، متحرر فكرك، وممتلكا أنت أفكارك،  ونصك، لغة ومعنى، ومضمونا. فى النهاية التأثير، الذى تلمسه على نفسك، قبل قارئك. حتى العلم، يقرر أنه بدون الخيال، وبدون الإرادة، لا يمكن للإنسان، إلا أن يقع فريسة للواقع، ويستمر فيه، راكنا إلى لا شئ، لا يتحرك. أعجب، لمن تدور أفكارهم، حول نقطة ما دائما، لا يتخطونها أبدا، ولا يحاولون طرق كل ماهو غريب. يدورون، فى فلك واحد ونفس المسار،.. يسلكون ذات المدار. يدورون، ويدورون. كأن، لا هناك أمكنة، ولا أزمنة أخرى، فى الكون. ببساطة، لا مستحيل. هكذا الأمر. وأنا لا أندهش، فى نفسي، لمستحيل فكرة أبدا، طالما يمكننى تخيلها، ثم كتابتها. أضعها أمامى، فى الأفق البعيد، فأرى كل تفاصيلها. تنبئنى أن هذا فى إمكانى. فقط أبدا حلقة الخيال، تحيط بى. وأقيّدها بالعقل، الذى يقوم بدوره، باذلا قصارى جهدى. وتتوالى الحلقات. أقحم نفسي فيها إقحاما، يلتهب بها خيالى، قبل مدادى، فأشحذ فى نفسي، روح مغامرة إكتشاف المجهول، ليكون ممكنا بين يدي، لتنطلق الفكرة فى المداد، هادرة، بصوت أكاد أسمعه، حتى أراها نصا. إن تقدير العلماء لمبادئ العلم، لا تقدم جديدا، دون تلك الروح الوهاجة، للمستحيل، وكسره فى الخيال. فما بالك بالكاتب، أو الأديب دون خياله، أو إلهام له. إن المفارقة، تكمن دائما، فى هذا السبب، والمحرّك الجوهرى والأساسى، الذى يدفع القلم للإبداع، من حلقة، إلى أخرى. فيظن القارئ، أو المتلق، أنه داخل النص فعلا. ويأسره النص تماما. يقع بين براثنه، فريسة للجمال، لا يود أن تنتهى قراءته. وهذا ما يهزّنى، حينما أقرأ. وهذا ما يعلقنى بكاتب أو أديب، ما. من هنا، إقنع نفسى دائما، أن كل شئ ممكنا. لا أعطى تنبؤات مسبقة، لدائرة الخيال الواسعة فى الكتابة، وبيدي أن أتأمل، بين الفكرة والمعنى واللفظ. إنطلق فحسب. ثق أن قدراتك أعلى مما تتوقعه، فى نفسك. لا مستحيلات دوما. وإن ندرت. وما أكثر الممكن حولك، وهو متوفر، ولكن بلا معنى. الفكر الخلاق دائما، يكون على حافة المستحيل، وما لا تظنه أبدا. وكذلك الإبداع الرائع ينقلك، من عالم إلى آخر. من زمن إلى زمن.. ومن معنى إلى معان، لا يمكن تصورها. وإن إفتقدت روح الخيال، وعبثية الأفكار، فلا تنتظر شئ، من نفسك. هذا شئ، أشبه بالسفر عبر فضاء فائق متعدد، أو ما يسمى فى الخيال العلمى، عبر الثقوب. أن تخترق الماضى، والمستقبل، فى لحظة الحاضر. هنا أتذكر مرة ثانية، حلم أينشتين الكبير "نظرية لكل شئ" أو ما يُصطلح عليه "النظرية النهائية". التى تفسر كل شئ. لكنها ها هنا، فى مضمار الكتابة والأدب، أنت صاحبها، تضعها لنفسك، لتكون، أو لا تكون. بدون الخيال، حول ماهو ممكن، وما هو مستحيل، والحدود بينهما، التى ننتقل فيها وعبرها، فإننا لا نصنع شيئا. لا تظن أن الموهبة بعيدة عن العلم، يمكنك أن تنال مثلا، وتستفيد من قوانين آرثر كلارك الثلاثة. هذا شئ، قد يجعل البعض، يبتسم، ولها، لو كان يعلمها من قبل. يتسائل ما العلاقة بين العلم والأدب. ببساطة إنه الخيال. يقرر كلارك أن إذا كان شئ ما ممكن، فهذا بالتأكيد حق، وأن الطريقة الوحيدة لإكتشاف حدود الممكن، هى المغامرة فى الذهاب، أبعد منها إلى المستحيل. وأخيرا، إن أى تقانة متطورة جدا، لا يمكن تمييزها، عن السحر. ألا تتفق معى، أن الأدب البديع كذلك. أنت تقرأ نصا ما، أيا كان نوعه، قد يٌسحرك. يشدهك. يسلمك لتأويلات وتفسيرات، لا تستطيع، أن تضع له حدا، واحدا. هذا هو السحر بعينه. وهو البيان. وصنعة الأديب، الحاذق بها. وكما قيل، إن من البيان لسحرا. فكم هو رائع، أن تصادف معضلة، الآن، فتحقق بعض الأمل، فى تحقيق تقدم، إلى الأمام، من تفكيرك بها. فقط أولئك الذين يفكرون، ويجربون، يحصلون على المستحيل. شئ كالتخاطر تماما، لكن مع الأفكار، وحدها. تتمثلها أمامك، وتُجسدها. أو إن شئت، قل النقل الفورى، لذاتك، من مكان الى آخر، فى زمن آخر، لا يحدّه شئ. أو الإستبصار، للمجهول. يقول جون ويلر إذا لم أرّ شيئا غريبا، خلال اليوم فانه ليس يوما جيدا. وشكسبير نفسه له رأى أن من مميزات الإنسان غير العادى، أنه يتفوه بحقائق، لا يتفوه بها، أى شخص آخر. أنت ترى، أى إنسان، له ميزة تفرد عن الآخرين. فقط، عليه أن يكتشفها ويستنهضها فى ذاته. وهذا ما يجعلنا نشمئز من حماقات، عدم العبثية فى تفكيرنا، التى إن لم تخالج أنفسنا.. مما قد يمنح الخيال، فلن نبدع. أنت غير مطالب، أن تكون شكسبير أو غيره. لكن لا تركن إلى دعة الفكر. فقط إنتقل فى حقول قوة خيالك، لترى ملحمة العجب، وترى نفسك والكون، وكل شئ، بعين عقلك. لا تخف الفكرة. لا تخشَ التجريب. حاول، مرة بعد مرة. هذا فقط، إن لم ترَ الأمر مستحيلا، فى نفسك، من الأساس. فإن لم تره، فكيف يراه القارئ لنصك. وهى الثقة، فى أنك لن تفنى، فى الخيال، أو فى أكوان متوازية مجاورة، إلى الأبد، فلا تعثر على ذاتك، مرة ثانية. أمور غريبة أليست كذلك. لا ليس الأمر، كما يبدو، عليه. أنظر لمقولة إتش ويلز الشهيرة (قال أحدهم: السفر عير الزمان ضد المنطق. قال المسافر عبر الزمان: أى منطق؟) وإرجع لأول المقالة، لتتبين الأمر. قبل أن أختمها بقول كاتب من رواد الخيال العلمى أحب إبداعه، وهو الأديب الروسي "إسحق أسيموف" (أكثر العبارات إثارة، والتى تشير إلى إكتشافات علمية جديدة عظيمة، ليست "وجدتها". ولكن " هذا غريب". كذلك فى الأدب، ومع عظام الأدباء، حين يشدنا غريبهم، ونتأثر به، دوما، ولكل نكهته، وسمته. وهو أكثر إثارة، بالطبع مع الخيال، ومرده إليه، فى الحقيقة..
ومن أجمل ما يمكن أن يقابل الكاتب والأديب قارئ يقرأ أعماله بالقراءة متعلقا به، ويقدره.. الأجمل أن يقتنع هذا القارئ بما يقرأ، حتى يظن أن الكاتب هو كل الأبطال الذين يكتب عنهم فى أعمال قصّا ورواية. إن خيال القارئ فى هذه الحالة أكبر من خيال الأديب. فهو يلبسه كل سمات تلك الشخصيات التى أبدع فيها. فبلا ريب أن عدد الشخصيات الخيالية فى القصص والرويات يفوق ذهن القارئ ومن هنا يتصور أن كاتبه هو من يقرأه. وليس بشرط أن تكون هذه الشخصيات حقيقية من الواقع. فالمبدع عامة، خياله خصب وهو يبنى العمل كله من السرد القائم على عنصر الخيال. وإلا كان كل روائى وقصاص هو كل تلك الشخصيات التى نقرأها له. وهناك أعمال أدبية عظيمة لأدباء تعدت شخصيات العمل العشرات فى العمل الواحد بين نساء ورجال. أنظر مثلا لأعمال تولستوى وبلزاك وغيرهم عالميا. وعريبا محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان والسباعى وغيرهم. بالكاد تستطيع حصر عدد شخصيات كل عمل، مستغرقا معهم. إن نجاح الأديب فى أن يصل بالقارئ إلى مرحلة من التلقى يتصور فيها أن ما يقرأه واقعا هو فعلا نجاح له. وقد ذكرت فى مقال سابق أهميه دور الخيال الموصل إلى الإيهام بهذه الدرجة الفعلية فى ذهن القارئ. ومن قبيل التذكر العجيب تذكرى أنى كتبت مقالا آخر منذ فترة عن مشاهدات حفرت فى ذاكرتى من الطفولة. ومنها ما أسميته بالرجل القطار، وجاء ذكره فى المقال أشبه بقصة قصيرة ولكنها من الواقع الفعلى، وتخيلت فعلا باسما لو أننى فعلا هذا الرجل البخارى هائما والها، كالرجل وأبيت بين القطارات وأقطع طول وعرض المحروسة من الشمال إلى الجنوب، بدلا من طريق بمدينتى الساحلية. إن قوة الكاتب فى قوة خياله بالدرجة الأولى والتى لا تأتى فى لحظة إنما ورائها سيل من القراءة والتدبر والنظر فى الحياة. فربما إستفاد الأديب من خبر يقرأه هنا أو هناك، وربما مشاهدة عابرة فى طريق، وربما من شخصيات فعلية قابلها فى حياته. وربما من ذكريات تستدعيها الذاكرة. إن أدب ديكنز تقريبا كله مبنى على إستدعاء ذكريات من الماضى ومشاهدات فعلية فى لندن الفيكتورية. وعظمته فى توظيف هذه المخزون الهائل الذى نقرأه فى أعماله العظيمة. ولدينا محفوظ الذى صرح بأنه كان يسقط على شخصياته التى كتبها مما قابله فى الحياة. فى الواقع على الأديب أنا ينصت لكل شخصية يقابلها ليستفيد من وجه الحياة هذا. فأنت لن تكتب عن محام أو مهندس أو عامل أو طبيب وغيره، دون أن تعلم لغته وطبيعة عمله. هذا تماما كمعرفتك بتفاصيل المكان والزمان الذى تكتب عنه. وبدون هذا لن تكون هناك جماليات أو قيم فنية فى العمل يشعر بها القارئ ولن تكون هناك قوة إيهام وليس هذا معناه الإستغراق فى التفاصيل إنما للغة كذلك لها دورها فأنت عندما تكتب عن الريف غير ما تكتب عن البحر أو المدينة. وإذا لم تنعكس اللغة وتلك القيم الجمالية مع عناصر العمل فلا أشعر أن هذا العمل يستحثنى لأكتبه. وعادة يكون دور الخيال فى الربط بين هذه العناصر أعمق. فأوقات اليوم لكل منها سمته وتأثيره فالفجر غير الشروق غير الضحى غير الظهر غير الأصيل غير المغرب. وهذا ينعكس على طبيعة النشاط الإنسانى والحالة النفسية. فما بالك فى موقف أن تصفه فى قصة أو رواية يدور فى ساعة من هذه الساعات. مع ربط الوقت بالمكان فيختلف الأمر تماما. فالغروب تراه من قطار بخلاف ما تراه على أفق صحراء أو ارضا زراعية أو بحر، فإن ربطت بين الزمن والمكان والحالة النفسية للشخصية أو البطل مع تأثير القصّ بصوت الراوى أو حتى الحوار فأنت فى طريقك لإيهام القارى بصهر هذه العناصر مجتمعة، فى بوتقة واحدة.. أنا قد يستغرقنى مثلا النظر فى واجهة مبنى متنقلا ببصرى تلك الزخرفات والجماليات وربما أتخيله وهو يبنى.. وربما أبحث عن تاريخ المنطقة التى أكتب عنها وبدون هذا لا أقدر أن أكتب عن المكان وهذا يذكرنى برواية الرحيل شرقا والتى اهتممت بعنصر المكان وتدور أحداثها فى الاسكندرية. فأحداث الرواية تتراوح بين الحى الراقى كفر عبده فى منطقة مصطفى كامل باشا ولوران وسيزينيا وبين مناطق شعبية قديمة، وأماكن أخرى عديدة. إضافة لطبيعة المبانى التى تسكنها الشخصيات فتؤثر عليها وعلى سلوكها وبالتالى فى العمل. هذا أسميه صوت المكان وظلاله التى تلعب قدرا كبيرا من الأهمية فى العمل مستفيدا كثيرا من المراجع والمصادر التى تتحدث عن ذلك.  من هنا لا أندهش لقارئ يتوقع أن يكون ما يقرأ حقيقة، فأنا أحاول بقدر المستطاع، إيجاد هذا فى العمل مع الحبكة التى تطاردها فى نفسك وخيالك فقط . عامة، هى ملاحظة عابرة، تولد منها هذا المقال المختصر ربما أجد فى يوم من الأيام أديبا كان كل هذه الشخصيات فى الحياة التى يكتب عنها، وهذا مستحيل، إنما القراءة ومعايشة وملاحظة الحياة بالوجدان ودور الخيال، هى ما يجب أن يتوافر عند كل مبدع.
-------------------------------------------


فى القراءة
النص وجمال التعبير والقراءة، كشجرة نجلس في ظلها‏.. وهناك موانئ للنفس تستقر فيها سفينتنا،  وتطرب‏ فيها الروح. والكتب، أمر أشبه بحب بلا زواج، فتظل تحب إلى الأبد‏. بين هدوء وصخب. ومنها، بالطبع الكتب.. ولا يذهب ذهنك بعيدا، منها ما مجرد أن تقرأ فيه صفحة لا تكمل، ملقيا عليه يمين الطلاق البائن..  ومنها ما أشبه بالعانس لا طعم له.. ومنها ما هو كإمرأة خلاب جمالها،... تحف، تجد فيها المتعة مع الكلمات، والمعنى‏ تراه ولا تلمسه‏..‏ وأنت وشأنك إن وجدت نفسك..صدي راقص مع الظلال، بلا مواجهة..  شئ في القلب،‏ تسمعه ولا تسمعه.. ينظر في وجهك، ويحدق فى عينيك، ولا تراه.. لا يخطئ‏ من روحك موضعا، كنوم هادئ‏ مرة، أو سير على الماء، أنت غارق بينهما.. ولا تفقد شيئا، إلا نفسك. القراءة هى القانون الذهبى، من يمتلكها، ‏يتملك ذهب اللغة، بشقيها، من مبنى ومعنى.. تقضى على الهموم، وتهرب بها إلى الحياة. هى كنوز الدنيا، تجعل للحياة  معنى، وقيمة، بأن تجد من تشاركه فيها.. وجاءك إبداع فتقرأه، بهذا المفهوم، الذى لا يعطيه لك، إلا القراءة.. وإمتلاكك لقلم من ذهب، لن يجعلك أديبا، أو كاتبا، دون أن تقرأ.. كمن يمتلك إمرأة، ولا بد أن يكون أبا، فربما لا تنجب، وتظل أنت منتظرا للبنين والبنات، للأبد.. وهو الإحساس العميق.. و‏تحديد الهدف الفكرى، من الكتابة، هو نصف، أو شطر طريقك، إلى بلوغه، وما تواجهه. فلا تقف في منتصف الطريق‏، كمن ينتظر من لن يأتى، كأرملة طروب.. حتى تجد نصرا، فى نهايه حربك، مع فكرة تراودك، ويشتعل فكرك، بها‏. إقرأ، فتكتب، ولا تشعر أنك ولدت بلا ضرورة‏،  ويظل كذلك، من لا يقرأ، وتختفي الدنيا كلها من أمام ناظريه، من يجد نفسه وحيدا، بدون القراءة‏.. أنا أشعر بأنها كارثة تلاحقنى، إن لم أقرأ فى يوم، يمضي علىّ، فأشعر أننى فيه، لا زلت حيّا. فلا أشعر أبدا، أن الحياة لاحكمة لها، أو أن لاسعادة فيها.. فقط القراءة، هى ما تجعلها كذلك، وما يجعلنى، بحكمتها وسرورها.. أخشى ألا يفعل أحد ذلك، فلا يقرأ..‏ ولو عاد بي الزمن، لظللت أقرأ، كل ثانية، من عمرى.. فكل يوم‏‏ علىّ، ينقص من عمرى يوم، لكن يضاف إليه، ما أقرأ..‏  
ومن مشرق ما أكتب إلى مغربه، وفي سفر معاكس فى النص، هكذا أنبه نفسي، دائما. ولا أنتظر طويلا،‏ حتى أعيد النظر فيما كتبت، ببحث وتنقيب، عن ضائع أشعر به،.. عما تفرّق من جسم الفكرة.  كعمل شاق، للوصول إلى ريعان النص، الذى أكتبه، مما يعضّد عزيمة نفسى  ونشاطها،.. يبعث إلى حركتها، ودليل علي أننى أسير قدما.. وتأتي رحلتى الدائمة، هكذا، مع نفسي. ولسان حالى أن الزمان والمكان، لهما ظلالهما معى أثناء الكتابة، قبل أن يشعر بهما القارئ. ولا يكفى الجمال فى اللغة، إن لم أكتب الكلمة، كضربة ريشة، فى لوحة، يستوعب منها القارئ حدود المكان والزمان، حيث يدور الحدث.. تحيل الذهن إلى شكل هذا المكان ودفئه.. ولحظة زمنه. وحينما اكتب يكون شاغلى هذا. ونحن حينما نقرأ، لا نلتفت فقط إلي جمال اللغة، بقدر ما يكون، لما له مؤثرات على النفس. وأتذكر فى الفصل الأول من رواية غصن الحياة، أنى شعرت بنقص ما فى كتابتى، وأن هناك شئ ضائع منى، بعدما أعدت القراءة.  وبدأت أضع يدى على قصورى الذى شاب النص، بنظرة لم تخلُ من نقد لنفسي، إذا وجدت أن اللغة كانت مسيطرة على الفقرات عبر الفصل كله، قبل إعتنائى بالتعديل مرتين، وعليه قررت إعادة الفصل من جديد، للمرة الثالثة، وأضعه قريبا بعد التعديل. والغريب، أنى لم أعرف بالضبط سبب شعورى، بما ضاع من معنى، قبل أن أستمع إلى هذا الصوت، الذى أحادث به نفسي دوما، ويخطفنى إلى التعديل مرة بعد أخرى. فأنا أعتبر النص كمرأة جميلة، علىّ أن أنظر إلى عينيها حينما تحدثنى.. إنه عمق لا يدرك.. أفشل دائما فى فهم النص، دون هذه النظرة لعينيه، بعينى عقلى وشعورى.. فالنص مثل المرأة الجميلة، دائما تكون مرأة أخرى.. ومن هنا فالنص الجميل دائما، ما لم نكتبه بعد، ونبحث عنه،.. غالبا الأمر يكون كذلك. من هنا، شعورى الدائم، أن هناك ما ينقصنى، ساعيا وراءه. حتى تأتى لحظة ميلاد معينة، وأتوافق مع فكرة معينة، فى نفسي، هى الفيصل فى الكتابة. ولا أصدق نفسي‏ حتى أكتب، كمن قابل صديقا قديما‏، ثم رآه فجأة، فاندهش، يحكي لى ما حدث، ومالم يحدث‏. وينمو النص معى، من هذه النقطة، وشئ غريب، إن لم أشعر بذلك، ولذلك أرى نفسى متنقلا، فى كتابة أكثر من عمل. من النادر، ألا يكون ذلك، مثل عدة  نساء جميلات، على النظر إلى أعينهن، فى نفس الوقت، لأكتب نصّا فاتنا، يغوينى كمرأة جذابة، لم تُرَ، من قبل.. 
-----------------------------