سرماديا

سرماديا

مقالات أدبية وخواطر قصصية ***


مقالات أدبية وخواطر قصصية
----  خالد العرفى
الكتابة بين الإلهام والعقلانية- يوميات عابرة- آلام فارتر- من أسرار الكتابة- حالة خاصة- سّحر الكتابة- السرد الأدبى والدراما الخفية- فى الكتابة والتلقى- كيف نكتب؟- لذة القراءة.. هذا اللغز- على ضوء الحقيقة- سيمفونية السماء- صفحات متفرقة من سرد :
 - رواية غصن الزيتون
 - رواية شيزر

 


الكتابة 
بين الإلهام والعقلانية
----  خالد العرفى
قد يكون الكاتب بين أكثر من عمل يستغرقه.. وقد لا يجمع بين مشاريع الكتابة هذه  إلا خط رفيع، يحمل من روح القلم عبر الزمن. فإذا كان للكاتب أكثر من كتاب، يعمل فيها متنقلا بين حدائق الفكر، والتدبر بروية وتؤدة، فهو فى أسمى حالاته. ومن الكتابة ما يكون له خطة عمل مسبقة، يضعها الكاتب على أسس المنهج العلمى الموضوعى. وهذه الأسس هى التى تحكم عمله، فى كل مرحلة من مراحل الكتابة، حتى ينهيه كما تصوره مسبقا. والإبداع فى هذا الصنف من المؤلفات، لا يتعدى كونه تقديم الموضوع، من وجهة نظر مغايرة لما سبقه من مؤلفات، وإن كان يستند إليها فى الإلمام بشتات الأمر كله، وله بنائه ولغته الخاصة بهولاشك أن الكاتب يتطور عبر الوقت، ويتقن آليات البحث العلمى فى الموضوعات التى يجيدها، والعلوم التى تصادف فى نفسه ميلا إليها. وأعتقد أن هذا الصنف من الكتاب، يكاد ينحصر فى علوم معينة. ومن تعدى هذا يكون فى صراع دائب مستمر، بين أكثر من مجال يدرى أنه يتقنها، ويرغب فى الإسهام فى كل منها. ومن هنا يأتى تنوع إبداع هذا النوع من المؤلفين. ومن هنا أيضا، يكون الصراع مع الزمن أثناء الكتابة، حتى تثمر جهود الكاتب وسهره، عما يثلج له صدره قبل قارئه. والغريب أن هذا النوع كذلك، قد تكون له ميول أدبية دفينة، تتصارع قى قلب مكنونات أعماله البعيدة ،عن الإبداع الأدبى حتى تأتى لحظة قدرية، تنفجر فيها الرغبة المكبوتة، لتعلن عن مولد أفكار لها سمتها، وأسلوب له تميزه، يمضي معهما ما تبقى من عمره. 
ومن هذا الصنف أذكر الكاتب الإيطالى (أمبرتو إيكو) الذى قدم رائعة الأدب الإيطالى رواية (اسم الوردة) بخصوصية أسلوبه الروائى، والذى يختلف تماما، عن أسلوبه فى كتبه الأخرى، مثل كتابه الشهير (حدود التأويل). وهذا يستوجب مصارعة من نوع جديد، بين ماتعود عليه الكاتب من عقلانية، وبين مايحتاجه الأديب من إلهام. بين العمل الفكرى المنظم، وفوضى الكتابة. قضية الفائز الوحيد فيها هو القارئ، الذى يرتبط بالكاتب. وهى مفارقة غريبة، تثير سخرية الأديب، الذى تتفجر فيه ينابيع من كل نوع. جولة بعد جولة، مع قلمه مغرما ومفتونا بمعاناة، لاي درى بها قارئ، أو يعرف عنها شيئا. وهنا يصبح ما كان إستثناءا هو القاعدة، متفردا به القلم، فى مغامرة مارقة عن المعقول، تعترك رحاها فى سويداء القلب، قبل عقل الكاتب. تلتهب بها الصياغة، وتنسكب بما يُوصم به أسلوبه ويتفرد. عزف.. أو عدول اصطلاحا، ليس ورائه من نفس الكاتب الشئ الكثير، قبل الخيال الأدبى، كما قد يرى قارئ أو متلق، لنصّ. وقد تكون النصوص نفسها مرايا، تعكس وميض خلجات القلوب أو عوالم الأديب. وليس هذا مبررا أن كل الحالات تكون على هذا الشاكلة، وعلى وتيرة واحدة، وإلا كانت جناية  على القلم، وحكما بموت إبداع، يحمل شرارة حرية التحليق. وإلا كانت نيلا من فيضان الإلهام، أيا كان نوع النصوص الأدبية، حتى على مستوى خاطرة تنازع ما لا يكون بعد، ولا يلوح من بعيد. من قبيل أصداء النفس. في زمن غريب، لا يؤطره إطار، ليس فيه حين وحين آخر. لا يتأرجح بين غد وآنذاك. يتواءم مع كل لحظة، لا يحمل ذكريات أو بقايا بعد، فيها القلم. شئ يفوق قدرات الكاتب وحده. ولابد له من إلهام، يستنهض القلم، بين معاناة ألم  كنسمات فجر باردة تارة، وطيات عذبة، تارة أخرى. تناقض غريب بين وحدة واغتراب. شعور بصوت، لا يسمع إلا فى أعماق مجهول النفس وفضاء الروح. كأنه شئ من آلام الجنون. هذا ما نلمحه من عقلانية (أمبرتو إيكو) فى كتابه (حدود التأويل) وجنونه فى روايته الرائعة الصادمة (اسم الوردة).


يوميات عابرة
----  خالد العرفى
 طالما وجدت حقيقة، فثمة معنى شئ ولغة. والحقائق دائما، فى مكان ما وزمان ما. هى ما يمنح الكتابة لغزها. المدهش أن تبقى الحقيقة مجهولة، حتى نبدأ. الكتابة ليست كلمات وحسب. ليست فراغا أو صمتا. إنما هى وجود. لكن هل تجعلنا نتألم بشكل أفضل؟
أم عن الحياة بها نعبّر؟
أم تجعلنا نحتج على متناقضاتها؟
أم نستعيد بها وجود الحياة وروح كل شئ؟
هل الكتابة محض خيال أم  ترتبط بحقيقة ما، على نحو ما؟
هنا تكمن تلك اللمسة المباغتة للروح، مثل شعاع قوي مبهر، يخترقك، فيجعلك تكتب، أكثر مما تقوله الكلمات، ولا يمكن تصوره. حيث تمضي قيمة الكلمة، فتتحرك الحياة بموسيقاها، مفرحة كانت أم حزينة، بألوان غروب. هذا، ما يمنح النصّ حياة. هذا  الحسّ الغريب الذى نلاحقه. نبحثه عنه، وأحيانا كثيرا يستحيل علينا اللحاق به. ومع ذلك فإن الكاتب يظلّ يحلم، ولا يستطيع أن يفعل شيئا، إلا أن ينتظر لحظات، يحترق فيها، كطائر غريب، لا يغرّد إلا إذا تألم. وآلمته الحقيقة. ومع ذلك يظلّ يحلم، ليكتب. والفن على العموم، حضور أو معنى له أثر معنوى، ينفلت من التوقع والتصور المسبق والعقلانية. فى إطار لا يرتبط بمَ قبل أو تقليدية. سلوك حرّ، يشيّد المعنى. وبهذا يمكن إدراك الجمال والحكم عليه، مما ينعكس قيمة، فى الكتابة..
ومن الأسئلة التى تتعلق بقضايا الإبداع ما تثيره طبيعة الكتابة نفسها وأبعادها، والعلاقة بين أجناسها المختلفة. إلى ماذا يستند الكاتب فى كتابته، أنّى كان مسارها بين قوالب وأنماط الكتابة؟
وأية قيمة تلك التى تأخذها كلماته فى إنشاء المعانى، فيما تحدثه من أثر وإرساء لدلالات؟
وما هى القيم الجمالية التى تمنح نصّا ما، أصالة وفاعلية وحياة؟
إن الإفتنان يأتى من هذا الأثر اللا محدد، الذى يستمر الى ما لا نهاية، نافذا إلى النفس. يبقى ويدوم فى العقل. أن تستمع بعمق، إلى حقيقة ما، من خلال النصّ. من خلال واقع قائم، فى فضاءاته، ممّا قد لا يكون واقع حياة، بقدر ما يكون تمثلا لعالم متخيّل. وهذا ما يقصد به أن يكون العمل مشيّدا لمعنى. وفى قدرته على إيجاد قبول وأثر جوهرى ينبع من مصداقية، تتغلغل فى الروح.
والأمر لا يتعلق بمجرد فرادة وندرة أسلوب، فهناك شئ من معيارية يمكن الاحتكام اليها. تفكير حول طبيعة السرد القصصى. وكيف يستمد الإبداع قدرته على إنتاج معنى جديد، فى مواجهة الإدراك العادى. فى الوقت نفسه، كيف يمنحنا إحساسا جديدا. أو إن شئت قل يوجد الإحساس، شارعا نفوذه وأثره، وطارحا سؤال المعنى. فى البحث، عن الممكن منه..
 ودوما، حيرة تثير أسئلة متوالية، وتشغل نفسى، وذهنى، دوما. لكنها، وكم من أسئلة جالت بخاطرى، ظلت معلقة، دون أن أدرى لها جوابا. يدركنى منها اضطراب، غائبا لا أدرى بوجودى، باحثا عن خلاص، من أسرار مختفية، فى صدرى. وهكذا ألبث حائرا، لا أدرى كيف السبيل. ولا كيف تأتى نذر عاصفة، تنسف هذه الحالة، وتلك النصوص ماثلة أمامى، تأسرنى كتابتها. لا أعرف ماذا حلّ بها، وحلّ بى. أجنح مرة إلى هذا، بنظرة عاجلة وأخرى إلى ذاك، قى وقت ملائم. أتفحص نفسى لا أدرى أم ما كتبت، لعلى أظفر بنهاية، لأى منا.. دون تنبؤات مسبقة، منذ إنطلاقى معها، أو إنطلقت هى داخلى، لأمر ما.
على هذا، هناك أكثر من عمل، طالت بى فترة كتابته. لا أستطيع أن أحدد موعدا محتملا أو منتظرا، لنهاية أى منها، ومن الممكن ألا تنتهى. أصبو إليها، بين طبائع. رغبات وقناعات قلقة. ردود أفعال مختلفة. أحداث تحمل مضمونا ما، وفقا لسياقات متباينة، فى النفس. مفارقات وتضاد تام. تستطيع تقبّل مثل هذه الحقائق، لمسافة بعيدة، فى النصوص. وفى هذه الحال، يصبح الأمر شيئا مربكا حقا، يسبب ضجيجا، فى العقل. ولا تملك أن تتوقف. سنوات، محاولا أن أفعل هذا، على نحو أفضل. كل مرة،  أكتب من جديد. مسودة وراء مسودة، ولا عمل ينتهى. وتلك دراما جديدة أخرى. وقلق بشأن مثل هذه التفاصيل، لأكتب حقّا. وعلى هذا النحو، أكتشفت كيف أكتب، وأستثمر ذلك فيما أكتبه. تمضى بى أفكار. أمضى معها، فى الخيال. عاصفة، ومتعة حقيقية، فى كتابة لا تنتهى.
ومثل هذا رواية " شيزر". طال أمدها منذ سنوات، حتى ظننت أنى سوف أظل أكتبها، العمر كله. ونصوص أخرى، مثل جذور. ونصا غصن الزيتون، وعيون زهرة الربيع. وأخيرا، صوت الحياة. أترك خطا دراميا، فى هذا النص، ليأسرنى سرد ووصف، فى ذاك. حوار هنا أو هناك. أشياء وأمور مختلطة فى الذهن، ولا تمتزج، فى نفس الوقت. شلال ينهمر بشدة وقوة،.. ثم يجرى هادرا. ثم ببطء، يتهادى. هكذا الأمور دوما. وبعيدا عن البوح الأدبى، تقع فيما يُسمى، بالقصّ وأسميه لنفسي السرد المتقاطع للدراما. وهذا المفهوم يعنى أن تتداخل الأحداث، ويتعدد صوت الراوى فى النص، أو الرواية ها هنا. قد أختذل، ثم أجدها تتشعب أمامى لأروى عنها، وأستطيع أن أعدد قائمة فعلا، بأحداثها الفرعية، وأماكنها وشخصياتها. وبعيدا عن تيار اللاوعى. إستخدم الرمز بكل معنى الكلمة، والاصطلاح. فيرهقنى، بناء النص وخاصة فى هذه الحالة، علاقته بالزمن، الذى يسير إتجاهات عدة، ويتقاطع، وليس فى إتجاه واحد، سواء إلى الخلف، بالإستدعاء، أو إلى الأمام بالروى، والسرد، قدما. وفى هذا النوع، من الكتابة، أرى المضمون والبناء، وأحدد ملامح للشخصيات، من خلال الأحداث، وليس السرد، فقط، مما إعتاد عليه، القاصّ النمطى. 
وهى تجربة ذاخرة، أتحدث عنها، إستفدت منها أثناء عملى، كثيرا، فى رواية  "شيزر" فى كثير، من مواطنها. وكتابتها لم تنته بعد. يحكمنى فيها، كثير وكثير. من أول دراستى لتاريخ، هذه الفترة مفصلا، من جميع مصادره الأصلية، بيزنطية. أرمينية. سريانية. أو غربية،.. فرنسية وإنجليزية. وجميع المصادر الأصلية الإسلامية. وقد وضعت، من قبل مقالة عن بعض المؤرخين المسلمين، فى هذا الصدد. واعتمدت على الترجمة لكثير من المصادر، غير العربية. وهى مصادر نادرة، تستغرق سنوات، من عمل دؤوب. علاوة على مئات المراجع العامة، التى تتعلق بالأمر، سواء من الناحية الأدبية، أو الجغرافية. تضيف لتصورى العام عن تلك الأجواء. لا أنكر متعة العمل، فى هذا الجو التاريخى، خاصة فى جمع مادته، لبناء الأحداث التاريخية، كخطوة أولى لتخطيط الرواية، بكل أبعادها قبل أن أضعها، فى بنائها الدرامى. أهمية الأمر، أنى أضعها نصب عينى دوما، لا تفارقتى. رواية تاريخية، تحيى هذا النوع من الأدب الفريد، ولا يجيده إلا كل صبور، يتقن البحث والتنقيب، فى المصادر التاريخية، وقراءة المؤرخين، وحولياتهم وأعمالهم. وقبل ذلك، أن يكون لديه الموهبة اللازمة والتصور الضرورى. وأظن أن منذ الثلاثين سنة الأخيرة، قد إنقرض، من له باع، أو ريادة فى مجال الرواية التاريخية الإسلامية، بعد رحيل أعلامها، وروادها الكبار. أضف إلى ذلك مرحلة كتابة الرواية نفسها، وهذا شئ يسكن داخل العقل والوجدان، ولكن بمفهوم مغاير ومخالف تماما، لما إعتدت عليه. كانت هناك إشكالية كبيرة، وهى اللغة التى علي استخدامها، فى الصياغة والسرد، إلى جانب بناء الفصول. أما عن اللغة، فكان على دراسة وقراءة أدب هذه الفترة، منذ القرن الرابع الهجرى، وحتى القرن السادس الهجرى. وهى فترة تميل إلى العصر العباسي الثانى، والعصر الفاطمى. فكيف أوفق لغتى، لتعرض لإطار التاريخى، كيف أكسر حاجز اللغة، لهذه الفترة. هنا حللت الإشكالية بالصبر، على قراءة أدب هذه الفترة، كما ذكرت، لإكتساب لغتها، ثم إصباغها بروحى، ووجهة نظرى. وما وضعت، مجرد تجارب وسطور، من درافت قديم تجريبى، على هذا المنوال. حيث تأثير الكلمة وجرسها.. وكذلك الجملة داخل سياق الفقرة، والذى يضمها إرتباطا بفكرتها. وأشير فقط فى هذا الصدد، إلى خبر سقوط أنطاكية، وكيف صغته فى محاولة تجريبية لإيجاد أثر نفسي، للحدث. 
هذا عالمى، أحيا به، وأعبر جنباته، بفضل الله. وحدة وعزلة، ليست هنا بمفهوم الناس. إنما هى حياة كل الحياة، لا يعرف قيمتها، إلا من ذاقها فعلا...
ومن الإشكاليات التى تواجه الأديب، الكيفية التى يتم بها التجسيد للأشياء، لتقفز فى العقل، بعد أن تمر على العين، أو بمعنى آخر، ما يسمى بالوصف. وللوصف مهمة جمالية، قد تظهر للقارئ، فى نص طويل، كلوحات أدبية وجمالية مستقلة، لا يتعثر فيها. شئ أشبه بأشكال من السحاب، ينثره الأديب، تحت ضوء الشمس، عن وعى وإدراك، يرصّع به نصه، ويزخرفه بنجوم لامعة.. وقد تأتى المقاطع الوصفية، فى أحيان أخر، عن لا إدراك، من اللاوعى ليؤدى الوصف مهمته، فى النص، مرتبطا بعنصر، على قدر كبير من الأهمية، من عناصر بناء نص، مثل الرواية، تقوم عليه. وهو عامل المكان، الذى بدونه لا يوجد شئ. ولا يستطيع الأديب تقديم شئ قط. وبلا ريب، فإن الكلمات التى يتم إختيارها، وإنتقائها، لها أهميتها، فى قيام عملية الوصف بهذه الوظيفة الكبيرة والهامة، فى العمل الأدبى. فالوصف أن ترسم بالقلم، مساحة الحكى الكلية، متضمنا تفاصيل مساحات صغرى فيه، ليحدّ بها المبدع، أثناء السرد، الحيز والفراغ، الذى يتم إختياره. وعلى ذلك يشكل الوصف، أبعاد العالم المادى، والوجود الحسي للنص. يخلق المكان. بل، كل أمكنة النص، التى تشكل الفضاء الأدبى، فى مجموعها، ويعوّل عليها التمكن من رسم خلفية الأحداث والأفعال، التي تقع فى فضاء النص. والعبرة فى الوصف، ليس بإلتماس الدقة، فى بيان التفاصيل، بكل جزئية، أو تحري الإسهاب المطلق فيها، حد الإستغراق، إلى آخر تلك التفاصيل المسهبة، فى وصف صورة الحياة، وتسجيل مظاهرها .إنما براعة الأديب، فى قيامه بوظيفة الوصف الرئيسية في نصه، وهي خلق الإيهام المؤثر والمستمر فى ذهن القارئ. إقناعه بحقيقة أن ما يقرأه، قد حدث فعلا يوما ما، أو فى لحظة ما، فى زمن النص. ويحيله إلى زمن آخر حقيقى. والآلية هنا، أو الطريقة المثلى، التى يجب ألا تغيب عن الأديب، هى ذكر تفاصيل، تساعد على أن تُوهم، أن هذا ليس بخيال، إنما حقيقة، حقا. بكل تفاصيل وملامح يمكن أن ترد، من وصف، مما يكفل التصديق، والتسليم بأن هذا وجود حقيقي، وعالم من الواقع. ليس أبدا خيالا، من صنيعة الأديب. أن تخلق بطلك تعطيه الحياة، لتدبّ فى أوصاله، فيشعر بها، ويراها، ويلمسها القارئ، بلحمها ودمها.. ماثلة أمام عينيه. بإختصار، خلق المكان خلقا، لتضع فيه الشخصية وتنقلها، وتتحرك بها. وكلما دّقت التفاصيل المتصلة بالموقف، أو الشخص كان هناك من السرعة إلى تصديقها، كحقيقة. ويساعد الوصف الأديب على إظهار طبيعة حياة الشخصيات، والمستوى الإجتماعي. كما يشير إلى وضع كل شخصية، وما تحويه من حالة مزاجية وطباع، إذ ندرك بشكل غير مباشر، من وصف مظاهر معينة محيطة، ملامح تلك الشخصية وصفاتها. كما نلمس، كذلك، الجو المحيط، بهذه الشخصيات والذى يوحي به الوصف، سواء مباشرة، أو من خلال ظلال الكلمات.. 
والإهتمام بفهم عمليتى الوصف والسرد وتسليط الضوء على الفرق بينهما، تمييزا واضحا لكل منهما، هو أمر هام، بصورة بالغة. بوصفهما أساسان من الأسس اللازمة، فى بناء النص. وهو حقل معرفة، ضرورى، ويتعدى هذا الجانب، للنهوض بموهبة الأديب الحقيقية، وصقلها. وإلا أصبح الأمر عديم الجدوى، ودونما ضرورة. ومن هذه الخلفية، لا يمكن أن نفهم، أو نحلل النصوص التى نقرأها، أو يتاح لنا تفسيرها، وتحديد إلى أين تذهب بنا، دون هذه المعرفة. وهو جانب يغطى مدى واسعا، يعبر بنا، إلى تملك فهم الإبداع، وكيف يتم، وكيف نقيّمه. علاوة عن معرفة الكيفية، التى نجد بها لذة فى النص، وكيف نغتبط به. ولعل النظر إلى السرد، والأفكار الأساسية المتعلقة به، يعد أهم منطقة، فى النقد الأدبى، وليس فقط فى فهم عملية الإبداع. وبإيجاز، ففى الوقت الراهن، فإن من لم يحظ بمعرفة، أو قراءة ودراسة مفصلة للسرد، ومظاهره، والذى يشكل جوهر الأمر، وما يسمى بالأسلوبية، وتحليل الخطاب والنص، وغير ذلك من أمور تتعلق بهذا الجانب. لا يمكنه أن يتقدم إلى الأمام. سواء مبدعا أو قارئا. ويكفى ذكر، أن الدراسات الأدبية والنقدية، باتت تغير منظورها، من دراسة الرواية إلى السرد. بل توسع مفهوم المسرود النثرى والسرد، إلى أبعد من الرواية كنوع وشكل أدبى رئيسى، ليشمل التاريخ، والسيرة والسيرة الذاتية.. سواء أكانت البنية السردية، من حيث الموضوع والمحتوى، واقعية أو تخييلية. مع الإهتمام بوجهة نظر السارد، ومن حيث سيطرته على ما يرويه، وكيفية وضع رؤيته الخاصة، فى الإطار المكانى والزمانى. وبداية، فالأديب، يتراوح فى نصه بين أمرين. الأول يتسم بالسكون، وهو الوصف.. وهو يشكل النقاط التى يتم التوقف فيها عن سرد الأحداث. أشبه بإلتقاط لقطة "فوتوغرافية". وهنا لا يتحرك النص، داخل هذه النقطة الثابتة. وعلى ذلك، يمثل الوصف الفترات، التى يتوقف فيها الزمن، داخل النص. وهي معضلة تواجه الأديب، إن لم يحسب لها حسبانا، فى كتابة يستغرق فيها. وعليه أن يخطط بوعى، إذ يضطر لإيقاف سرده للأحداث، ليصف أمرا ما، لا يتحرك. مكانا ما، أو شخصية ما، أو موقفا ما، أو حالة نفسية محددة. وما شابه ذلك، من أمور يتناولها في نصه، واصفا صورة ساكنة، غير ذات زمن، ولا حركة فيها. وفى مقابل الوصف، يأتى السرد، الذى يمثل الحركة الفعلية، وسريان الزمن. وهو شطر على جانب كبير من الأهمية، أيضا، فالأديب هنا، هو الواصف / السارد. وهنا يقع  بين نصه، وبين القارئ. وتعتبر خطوة متقدمة، تلك، التى يُنتهج فيها، طريقة الوصف السردي، حينما يصف صورة ما، ممتزجة أو مقرونة بحركة متحركة، وحية. أى وصف صورة سردية، لها زمن. ومن هذا القبيل، وصف الأفعال والحركة ..وعلى أية حال، فإن أى إستقصاء، أو إسهاب في عملية الوصف والشرح، مع العمد إلى وصف الأشياء، بإيراد، كل تفصيل متاح ومتوفر عنها، من صفات، أو عناصر، أو كل ما يتعلق بموقف، في الزمان والمكان، لنقلها إلى العين، بالقراءة مباشرة، .. هى عملية، تميل بالأديب، إلى المذهب الواقعي، بإعتباره تقليدا أدبيا للحياة، وتمثيلا أدبيا لها..


ولا أدرى كيف أكتب، أكثر من عمل، فلا أتفرغ لنص، لعلى أنهيه. إنما هى حياة، يقع القلم ضحية دوران صاحبه، فى عجلتها. الحل، خروج من هذه الدائرة، وحينما نوشك على فعل هذا، نجد أنفسنا من جديد، فى نقطة بداية مشرقة. رغبة جديدة، فى ترحال بين عوالم خيالية. نعيش فيها ونتنفس.
وكم حاولت رؤية السرد الأدبى، وفهمه، وكيف يتم فى النفس، أولا. ثم الذهن، ثانيا. فى إطار ماهية الكتابة، نفسها. كيف ينمو النص، وهناك ما نبحث عنه. رؤية كل ما يحدث. هنا قد يبدو الأمر رائعا، خاصة فى القصّ. أن تكون فى حالة نفسية إستثنائية. حالة ضد الحياة الرتيبة، فى عالم قصصى متخيل، بصوت راو. وحينما يحدث ذلك، ندرك أمر ما كان غائبا، فيمتلأ النصّ بحياة نابضة. غموض غير مرئى، يأخذ الروح بعيدا، لسبب غير معروف.  خيال تسير فيه أحداث. وفضاءات، يقوم فيها ما ينهض عليه تصور مواقف وشخوص وأفكار، يقدمها نص ما.
ولابد أنها كانت ليلة طويلة، أعقبها عدم نومى، غير مستسلم لإرهاق، بعدما، ما مرّ فيها. وعادة، قد تمرّ ليلتان أو أكثر أواصل فيها، مسلكى، مع "رواية شيزر" ومسلكها معى. قد يكون قد مرّ أعوام، على هذا الوتيرة، ولم أنتهِ منها بعد. تأخذنى أمور وشئون أخرى، لبعض الوقت، لكن سرعان ما أعود، لعالمها وعالمى،.. عالم، بعيدا عن كل ما يشغلنى. أعرف كل شئ فيه. كدت أفرد لها غرفة، برأسى. هذه ملزمة أماكن. تلك لأبطال. وثالثة لمعارك. تلك لخط الزمن. أما الكلمات والعبارات والفقرات، التى تقتحمنى، فأوشكت أن أمشى بها، خلال نومى المتقطع. أسامرها فى يقظتى، أنتظرها وتنتظرنى. أوراق مبعثرة، بين ملازم عديدة ضخمة. تلتزمى، وألتزمها. ألقى عليها بنظرات فاحصة. أعمل فيها، بكثير من الأوقات، تذوقا للغة، حينا. أو بسبب مسلك دراما متقاطعة. علاقة بين أبطال، حينا آخر. وفى أونة أخرى، أن يكون بسبب حدث، أو واقعة بطل. يجذب كل شئ ورائه، ومعه يشدنى. فى النهاية يصبح ما كتبته، كأن لم يكن. فقرة أو صفحة. أختصر، إلى سطر، أضمه إلى سطر آخر. وقد أطلت بعقلى، فجأة كطيور شريدة. حطّت فى عقلى. أشعر أنى قد صرت ملاذها، وقد أمسكت بها فى كلمة أو جملة، فأكتب.
حسنا، هذه المرة، كان فصلا، من الرواية. خططت الصفحات أمامى، على ورقة كبيرة، رسمت الحدود، والأحداث، كما جمعتها من بطون مصادر التاريخ. معركة حربية، جرت على أسوار منطقة معرّة النعمان، إلى جنوب شرقي أنطاكية، حيث تعلو عن سطح البحر، متوزعة آثارها، فى حناياها. واحدة، من أبرز محطات التجارة وقوافلها العابرة، من جنوب الشام إلى شمالها. ومن بحرها إلى باديتها. مهد الشاعر والفيلسوف العربى أبى العلاء المعرى.
رأيت نفسى، بين حاضرى مؤتمر مجمع كليرمونت، حيث إنطلقت شرارة الحرب الأولى عام 1095م، على يد أوربان الثانى. وكان يحكم روما، في تلك الفترة. يذكر أنها إرادة الرب. ويمنّى الفرنج أنفسهم، بأرض كنعان، التى تفيض لبنا وعسلا، ليتبعهم إلى الشرق، جموع فلاحين غفيرة، وعامة سكان المدن.
أعدت كتابة هذا الجزء، مرات عديدة، دون جدوى. كنت غير مقتنع، تماما، رغم أنه لم يتركها مؤرخ، إلا وقد أشار أو ذكر ماذا حدث. إذ تعرضت لدمار شديد، خلال حملة الفرنحة الأولى عام 1098م. كانت تتنازعنى شروحاتهم. كان الفرنحة، على اتفاق أن تكون سلطة وحكم أنطاكية، التى سقطت بقبضتهم، ل "بوهميند". حددوا موعد زحفهم، صوب بيت المقدس، جنوبا. فتحوا حصون الدروب، شيئا بعد شئ، وطمعوا في البلاد. وصلوا إلى البارة، واستولوا عليها. أفنوا مواطنيها. أما منطقة معرّة النعمان، فوقعت تحت الحصار، في مائة ألف. ودخلوها، وسبوا الكثير. قتلوا فيها، ما يزيد عن عشرين ألفا..
وفى ذات الوقت، كنت أكتب وأنا أرى كل هذا. أحصى مع من أحصى، من قتل، ومن تطايرت أوصالهم، أو دّقت أعناقهم. هكذا، كان الأمر أمامى، لكننى كنت أبحث، عن شئ آخر.
 -تراه، أين كان هذا الشيخ، الذى يقبع فى صومعته. وقد داهم الفرنجة بخيلهم وركبهم، ناصبين عليها كل سلاح؟!
 -أين كانت " لارين "؟!
وبين فكرى، فى الشيخ ولارين. وأصوات جزّ رؤوس، وبقر بطون. وشق لحم حىّ. كان يتردد بأذنى، هسيس المعركة. أصوات هدّ الأسوار. تصاعد جندلة سنابك الخيل. وصيحات الأمهات الثكلى، تقتلنى..
مع هذه المشاهد، قضيت ساعات طويلة، حتى أول ضوء للفجر. رأيت الشيخ متضرعا، لله. ورأيت لارين، مع من هرب، إلى قلعة شيزر، من نساء وشيوح وأطفال. يلتحفون دجنة ليل ساترة. ولم يسلم إلاَّ قليل، ممن كان فيها. وسارعت بقايا الأسر العربية بالهرب، للإحتماء بها، بعد مذابح بشرية رهيبة، تعرض لها سكانها. ونهب ما وجد. مطالبة الناس، بما لا طاقة لهم به. وكان الرحيل إلى كفر طاب، ونواحيها. فوصلوا إليها، أوائل عام 1099م، لتتجمع عندها فرق ريموند دى سانت جيل. وروبرت النورماندى. وتنكريد. وكان سقوط المنطقة بعد أنطاكية، يعنى فتح طريق غزو أفامية. شيزر. حماة. وحمص..
كنت أستحضر متعايشا، تلك المشاهد والصور، لأبنى صورى ومشاهدى، فى هذا الفصل المثير. يشغلنى، كيف أكتب إنتقال الأخبار والأنباء، بين هذه الأماكن. ما يدور فى النفوس وصراعاتها، على الإمارة والإقطاع. كيف كان يفكر الأمراء. إستعدادات سكان معرّة النعمان، بين فزع وخوف. إبتهال المبتهلين. أحاسيس ومشاعر آباء وأمهات. شكل جثث تناثرت. وقوفى أمام رأس مقطوعة، على درج، وقد سال الدم، نحو القبلة. مشاعر لارين، وهى تحاول النجاة بنفسها، فى رتل، من أرتال كثيرة، تماوجت سارية، تحت جنح الظلام.
كدت أصافح الموت، مرات. فى كل معركة، فى الرواية. علمت نفسى، كيف أروض نفسى على الألم، مع أبطالى. حتى أستمر. وحينما ضقت ذرعا، من جريان دماء وقعقعة سيوف، أتذكرها فى "رواية شيزر".. عاتبت قلمى فى غيظ. لائما نفسى، ألما وحزنا. وأنا أترك هذا الفصل. لم أكن أقدر، لأتقى هذا القدر، أو أتجنبه. مهما كانت قدرتى وإستطاعتى، على تدارك الأمر. لكن، الحياة إدخرت لى هذه المرة، ألما، من نوع جديد، فى رواية غصن الزيتون، بملكال، فى السودان. قارنته، بكل ما مرّ علي، أو بى فى معركة منطقة معرّة النعمان، بالشام.
وبين غريب ألم فى شيزر، وسرحة فكر فى كليرمونت، مع البابا أوربان، لم يخرجنى من هذه الحالة، إلا التفكير، فى قصة حب، كانت قد بدأت، بين بطلى الرواية (غصن الزيتون).. أمجد وإبتسام. وجدتهما أمامى.. 

ألفيت نفسي، متطرقا لفصل من الرواية، فعدّلت به فقرات كاملة، تأثرا بفكرة المقال عن الجمال، فى الطبيعة، ودورها، كخلفية، فى مشاهد تدور أحداثها على ضفتى نهر النيل، بمدينة ملكال  السودانية، عاصمة ولاية أعالى النيل، الحدودية بين الجنوب والشمال. وهى نقطة إلتقاء فروع النيل، من بحر الجبل وبحر الغزال وغيرهما، لتكوين النيل الأبيض، الذى يصل إلى الخرطوم، ملتقيا بالنيل الأزرق، ليكوّنا معا شريان الحياة. ومع الإنفصال إثر الصراع العنيف الطويل فى السنوات العشر الماضية، قبل أن تصبح ملكال، حاليا تابعة لدولة الجنوب.
وملكال هذه، هى أولى النقاط التى وصلت إليها بعثات الرى المصرى بجنوب السودان، مكونة من عشرات المهندسين والعمال والإداريين، حينما أُرسلت فى عهد الملك فاروق، مدركا قيمة بلدان منابع النيل. وقد أقامت الحكومة المصرية فى عهده،  مقرا دائما لها، فى ملكال، يضم مقياسا للنيل، ومرسى نهريا، وغير ذلك. وللبعثة أراضٍ ومبان، فى ملكال، تمتد من شمالها إلى جنوبها، بمحاذاة النيل الأبيض، وأراض من شرقها إلى غربها، بأفضل المواقع الساحرة، منذ ما يزيد على ثمانين عاما، على ضفاف النيل.. حيث أجمل مكان يمكن أن تراه منه.. وهذه الأجواء، لها عبقها، وجمالها، فى الرواية. مجمل القول، أن الفن يستوعب المكنون، وتستوعب به مخيلتك الغائب، عبر ما لا يُرى قبل أن تراه، من جمال.. تلمسه. وبدون تذوق جمال الفن، لا يتكون أبدا، وجدان للأديب يدفعه للإبداع، ولا تندهش، لأفكار فى الكتابة، خالية من هذا الأساس الجمالى. 
وجدت نفسى مع قدر جمع أمجد وإبتسام- بطلى الرواية- بعد نجاتها، على يده. والمهندس إسماعيل يتابع الشواء، فى حفل، كرامة لها. قائما بنفسه، أمام نار موقد متأججة، تدور عليه أسياخ حديدية، وبها ما بها، ومن تحتها الجمر المتقد. وقد ألهبت دائرة حضور منتظرة، رائحة الشواء الطيّب.
ومضى كل، إلى مأواه ومضجعه، وخلت الساحة، رويدا رويدا، من الرجال. أما أمجد، الذى شغف بإبتسام، وشغفت به. كان، فقد إلتصق بجذع شجرى ضخم، جالسا على حافته. فهمت إبتسام من تعلله، وكانت تواجهه، فى جلستها، بين ذراعى أبيها. أنه لا يريد مرافقة أبيه، الذى كان يناديه ليلحق به، للنوم. حاول التخلّف قليلا، وهو يأبى، معتذرا أنه سوف يلحق به، ليختلس نظرة، أو كلمة، يحملّها شغفه بها. يستشنق رائحتها، مفتونا بها. يتنسم فيها، إبتسامة خصّته بها، دون بقية أبناء الحضور. جعل القدر لهما، لغة طفولية بريئة، لا يفهمها إلا هما. فأشارت إليه. ولحق بأبيه. ينتظر الصباح.
وجدتنى، أكتب جزءا رومانسيا جديدا، من قصتهما، تصاعدا فى خط فرعى، بين بطليها، وأنا أراهما. يتنامى مع كل فقرة. يتصاعد أكثر فاكثر، داخل بنائها الدرامى الأساسي. يكشف، كيف بدأ الحب القدرى. وقد جمعا طائفة، من خصال حميدة، جمعتهما معا، على درب الود والمحبة. بوشائج، علمها (متولى). كان كلامهما معا، يسعده، ويلذه منهما حسن معشرهما، وأدب جمّ. وقد أسرع أمجد، تلك الليلة، إلى لفافة دستها، فى يديه. ليخفيها، فدّسها بين طياته. تردد فى فضّها. بالغ فى سرعته، حتى لم يتبين الظلام..
 -سأكون عند الشجرة، بجوار البحيرة، فى الضحى.. إبتسام.
ما كاد يفرغ من قراءة الرسالة التى وقعتها، بشفتيها، تدعوه لمقابلتها، عند إرتفاع الشمس لضحوتها، فما مضت برهات، إلا وقد سمع صوتا، من خلفه..
- تراك ماذا تقرأ؟
كان عمار الفتى المشاكس، قد رآه موليا، نحو حافة البحيرة الصغيرة فتبعه، من ورائه..
-  ما شأنك أنت؟
- إعطنى هذه الورقة.
- لا. ليست لك.
حاول أن يغلبه عليها. فخطفها من بين يديه، فاستمسك بها أمجد بقوة عجيبة، عاضّا عليه بأسنانه كلها، وقبضة يده. لم يجد عمار سبيلا، إلا أن يمسك بيدي أمجد، وقد أطبقت عليها أسنانه. غرس نابيه، فى ظهرها. تعالى صياحه. تقلبا على الحشائش. لولا (متولى) الخادم، لفتك عمار بأمجد. خلصهما، وقد تركا نابا عمار، بيد أمجد أثرا دّام، لن يختفى. لام عليه (متولى) تصرفه. وعاتب أمجد على العراك والأرض بها، ما قد تُخفيه له، من خطر، جانب البحيرة.
شعر أنه شحذ له القول، فهشّ له من جديد، وهو يزيل أثر الدم من يده.. يحيطه بذراعيه، حانيا. كان يميل له. يحبه كثيرا، لما علم من قصته، من عمه الذى أخبره بها. أوصاه به، فى غيابه، برحلات العمل. وقد لان له، من حديثه..
- يابنى تعلم أنى أحبك. عمار هذا شيطان. لا تترك له فرصة، ليؤذيك.
تركت هذه الحادثة، فى نفس أمجد، أثرا متسائلا:
- لما كان يعترضه عمار، بهذا الشكل العجيب، دون إبتسام؟
إستعصى عليه فهم، إضطراب، ينبئ عنه، مسلك غريب. وعبثه ضده. ومن هذا القبيل، لم ينس، يوم أن وضع له بعض حشرات الخنافس، فى كيس طعامه. فأخبره بذلك هشام، صديقه، حينما رآه. ولا تلك المرة، التى أغرق فيها، ببيض فاسد فاحت رائحته، بصندوق مكتبه الصغير، فى مدرسة البعثة. سرعان ما تبين له مشاركة "فُتنة"، فى المكيدة.. تلك الفتاة صفراوية المنظر، خضراء العينين، إبنة رئيس البنائين. كانت مغرمة بأمجد، مجنونة به. لم يعرها إهتماما يُذكر، كلما حاولت التقرب إليه. يعفّ رائحتها. كم ضاق ذرعا بها، وبمسلكها. كاد يخبرها مرات:
- تذكرنى بأفاعى الأشجار الخضراء، كلون عينيها تماما. تتسلق الأغصان، فاتكة، بالطيور، وأفراخها.
كان ينظر إليها، لايفرقها عن الحيات، من شئ. شاركت، عمار الخبيث، المؤمرات ضد أمجد وإبتسام. تحبك الدسائس والمكائد.
هكذا كنت أجد لمحة حياة، فيما أكتب. ما كان مخبوءا، لم ينله بَلى. تأثير لا يقاومه وقت. ولا مهرب له، من مصير. فى مواجهة الأمر، إما قوة و عزيمة وجلدا. أو فتورا، وضعفا وإستسلاما. فى مواجهة حياة حقيقة، تنجلى عنها غمرات الأمور، قليلا فقليلا. بحكم تناقضات واقع قوية، وأحداث وخطوب عنيفة، مرّت، منذ ذاك الحين البعيد. لا تدل على شئ، إلا على أقدار نفذت. لم يبقَ منها شئ، من ماض، إلا، لأرويه. كمن، يفتح لغيره، نافذة ضوء، ليرى صباحا جديدا، ليس لى، أن أشاركه فيه. لهواء يتنفسه حرية. من دون ذلك، أغلقت الباب، دون كل شئ، تاركا، الأمر وديعة، فى يد الزمن.
لم تكن فكرة خطرت على قلبى، أو شيئا راود خيالى. كي أحكى، يوما ما كان، مختفيا، فى ركن بعيد، فى رأسى، خبأته ذات يوم، ليكون بصيص أمل، أمام غرابة الحياة. أخذت بتفقد، هذا الجزء من عقلى، الذى إقتطعت منه، حيزا، كمخزن، اتخذته لملفات قديمة، وأدوات ومتاع عتيق، من حياتى. بين كل رواية وأخرى. أشخاص، وأحداث، مرت فى زمن ما، غبر. ولّى أمده. وقد جرى مشهد آخر فى رأسى، وسمعت هديره. إنتهزت فرصة  لاحت لى، لأراجع صفحات كنت قد كتبتها، قبلا، من غصن الزيتون..
صفحات
من رواية غصن الزيتون
----  خالد العرفى
من يستطيع التنصل من اسم وطنه. من مدينة ولد فيها؟!
لم أستطع أن أخلع عليها اسما غير ذاك الإسم العريق، حاملا تاريخها.. ولدت ذات يوم، ذات سنة. لن أكلف نفسي ذكرهما. أوعناء ذلك. بينى وبين هذا اليوم، عمرى. فترة طويلة، نقشتها أحداث، ربما تستغرق صفحة واحدة، لو سجلتها مبكرا، يوما ما. أو ما لا أعرف ما سيكون اليوم، أم غدا. علىّ، إستحضار هذا اليوم البعيد، حتى أتوقف لعلى، أكمل ما حدث. كان خليقا بيوم أن ودعنى أبى، مع العمّ الوحيد لى. ترافقنا زوجته، التى لم تنجب. فكنت الإبن لهما، حتى حين.
ورغم أنى لست أميل، إلى أن الإنسان يفارق وطنه، ومكان مولده. فليس حتما، عليه أن يعود إليه، فى حادث أليم، أو سعيد، قبل مماته. لم أكن أدرك آنذاك، هذه الحقيقة. الحنين، إلى الوطن. الواقع أن مخلوق مثلى، فى سن مبكرة، كان عليه أن يدرك وجه أب، يُلوح بيد واحد.. وأخرى، قد إرتكنت إلى جنبه ساكنة، ملازمة، إثر شلل لازمه سنتين، بعد وفاة أمى. لم يكن يملك سوى أخا وحيدا، ذا زوج عاقر. وسنوات عشر من ذكريات، مع أم راحلة. ثروة لا بأس بها، حوّلها كلها باسمى، بوصاية عم، إحتضننى إبنا له. راحلا بى إلى السودان، حيث مقر عمله، كبيرا لمهندسى الرى، التابعين للبعثة المصرية.
لم يكن ليشغلنى، سبب أجبر والدى للتضحية، برفقة ابنه الوحيد، وهو الميسور ماليا. كان يمكنه إستبقائى معه. يستحضر من يعتنى بى، من غير عُسر، أو مشقة. رحمة عمى بى، أنستنى الكثير. منعتنى أن أفكر:
 -ماذا كان؟ وماذا ألّم بى؟!
لم أقلق على مستقبل. لم ترجح كفة إرتيابات. شكوك، لا يستوعبها عقلى الصغير. من غير ريب، أحاطتنى ذكرياتى، مع عم رؤوف. لم يكدر صفوى، شئ غير مألوف. لا أنسى، يوم أن طوقنى بذراعيه، كلما هممت النظر من نافذة قطار، شقّ الصعيد الأعلى، بعد مغادرتنا الإسكندرية، فالقاهرة. وصلنا إلى الحدود المصرية، لنكمل رحلتنا بالسيارة، برا، داخل الأراضى السودانية. لا أنسى رائحة السافانا البرية، ورائحة حطب الرعاة، المتناثرين على طول الأفق، مع الماشية. لفحة حرّ. وهواء ساخن، يضربنا بسياطه، كأننا نتوجه نحو النار. مرجل، نغلى به، طوال الطريق الطويل.
كانت زوجة عمى، تغطى وجهى بوشاحها. تضمّنى لصدرها، لئلا أصطدم، بجدار سيارة حديدى غليظ، كلما هبّت ريح ترابية، أو مررنا بأرض، غير مهيئة للسير. سيارة أرجوحة، كلما إرتفعت لأعلى، أو هبطت لأسفل. فجأة، نرتفع، ثم نسقط مرتطمة رؤوسنا، بسقفها المعرّش بالخوص. كم مرة، شعرت أننا بسفينة وسط أمواج. تتلوى فى حركات جانبية كأفعى، ليتفادى سائقنا العجوز، مخاطر وعورة الطريق. كنت أختلس النظر إليه، من الكوة الفاصلة بيننا وبينه. أرفع رأسى، شابّا فوق كتفى عمى قليلا، لأرى ما هنالك. فزعت صائحا، أكثر من مرة:
- عمى. عمى. السائق العجوز نائم. السيارة سائرة، دونه.
فيضحك، بصوت عال:
- لا تقلق يا أمجد. إذا نام.. السيارة تعرف طريقها السودانى، جيدا.
وترتفع ضحكات المرافقين، والسائق يفرك راحتيه، يخبط بهما عجلة القيادة. مغنيا، يطربنا بلهجة نوبية.. يدندن، بموال غريب، لم يغيره. يأسرنا صوته الأجشّ الحنون، كأنه، قادم من عمق مدى بعيد. بينما تمدّنى زوجة عمى العطوف، بالماء. أصبحت أناديها "أمى". لم تتوقف عن توصيتى، أن أناديها بذلك، حتى إنتهت رحلتنا، والكلمة، فى فمّى كالماء.. الذى شربت منه كثيرا. لم تفارقنى بعد ذلك، بعد وصولنا.
تلقّانا مُستقبلنا، بالماء البارد، وشراب الدوم. أسرع حمّال أسمر البشرة، بحمل حقائبنا، إلى السكن، واحدة تلو أخرى. أثقلت عليه إحداهن. وقبل أن يساعده آخر، تندر قائلا:
- ماذا بتلك الحقيبة الثقيلة.. أأحضرتوا فيها أحد الأهرام؟!
رد عليه زميله:
- يا أبّاىّ. هذه الأهرامات الثلاثة..
وقد تابع الآخر:
- وأبو الهول معها، يا عثمان!!
كنت مشغولا بالجدار الشجرى الضخم المحيط، كحزام كبير، لمجموعة مساكن إدارية متراصّة، من بعضها البعض، على مسافة قريبة. كان جذع كل منها، قادر على أن يبتلع عدة رجال. مال على أذنى أحدهم، باسما:
- أراك سوف تحب المكان يابنى.
وبادرنى عمى:
- أمجد. هذا عمك المهندس إسماعيل .
- إسماعيل. هذا أمجد حدثتك عنه.
وشقت أسماعنا صرخة طفلة، عن قرب، ولا نراها. إشتدت الصرخات متلاحقة، صراخ إستنجاد. ليخرج الجميع مندفعين. وتبينت مصدر الصوت. كنت أسرع منهم. وثبت تجاه الصرخات. تسمرّت أمام إحدى الأشجار الضخمة، لتلتقى عيناى بثعبان أسود ضخم، وسط أوراق شجر جافة، على الأرض، وأعلاه فتاة صغيرة، وقد إلتقت عيناها بعيني. تشاور لى مرتجفة على الثعبان، الذى أخذ يزحف، على جذع الشجرة، نحوها. بينها وبينه، تلاحقت نظراتى، لا أدرى ماذا أفعل. وقع نظرى، على غصن جاف طويل ملق، بجانب حبل أرجوحة مقطوع، طرفه على الأرض، والآخر على الشجرة. وبيديّ الصغيرتين، سحبت الغصن، لأنخز به ظهر الثعبان، غير عابئ، إلا بتلك الصغيرة المعلقة. تكاد تنزلق نحو الأسود، ويوشك أن يصعد إليها. كان مصمما على العروج، ملتصقة بطنه بجذع الشجرة. كادت تتهاوى يداى، من ثقل الغصن، لا يفصلنى عنه سوى مسافة قريبة.
لم تمر ثوان، حتى إنطلق صوت طلقة رصاص، مرقت، فوق رأسي. لتخترق رأس الأسود، ليسقط مضرخا، فى دمائه. وتنقذها الرصاصة من الموت.
كان "عثمان الحمّال" أول الواصلين للفتاة. تسلق كقرد، فوق الأغصان. تلقاها بين ذراعيه، وهبط بها، أمامى، وأنا غير مصدق، ما يحدث. أسرع نحوى، متخبطا أوراق الشجر. مناديا بأعلى صوت:
- أمجد. أمجد.
يقطع صوته، صوت المهدنس إسماعيل:
-  إبتسام. إبتسام.
تحلّق الجميع حول "المهنس إسماعيل" يهنوئنه على سلامة إبنته التى سارعت بالعدو نحوى. بسطت كفها الرقيق نحوى. ماسحة على رأسى. ثم صدرى، لتزيل أثر الغصن الذى كافحت، وهششت به، عنها. لم تنطق كلمة واحدة. طبعت قبلة دافئة، على جبينى، قبل أن يحملنى "عثمان" أنا الآخر. وأعاد زميله"متولى" حملها، بين ذراعيه.
وتوجه بنا الجميع، صوب إستراحة العاملين، خلف الأشجار. وبقى رجلان، فحفرا للثعبان الضخم، وسط حشاش وأعشاب الأرض الجافة، وأشعلا النار فيه. كنت أسترق النظر، إلى الفتاة، وأنا أُهبط "عمّة عثمان" البيضاء، لأراها، وقد خفق قلبى.. وهى تفعل مثلي، تخفى ضحكتها الصغيرة، بكفيها الرقيقبن. غاشية، وجهها كله، إبتسامة ملائكية.
لم أعرف، لما تذكرت حديث عمى، مع زوجته، قبل مغادرة الإسكندرية، وقد سكنت كلماته أذنى:
- لا تتحدثى أمام الولد عن الثعابين.. ولا الموت..
- والله، يا أخى لو رزقنى الله، من الأولاد عشرا، لما أحببتهم، كما أحب أمجد. لا تقلق أخى الحبيب.  أمجد، وديعة الله.
وما إن وصلنا باب الإستراحة، كان المساء قد همّ، غاشيا كل شئ، بستاره. وجدت أمامنا أمى، وإمرأة أخرى، واقفتين أمام الإستراحة، تحت المصابيح، التى اضاءت باحتها. ما إن نادت عليها إبتسام:
- أمى. أمى.
حتى سقطت المرأة، مغشيّا عليها ..
صفحات
من رواية شيزر
----  خالد العرفى
وباتت السماء صحارى خلاء، إلا من أعمار فنيت بين قدر، وأليم المصير، تحت إنتظار من يلبّى نداءات النجدة. دّقّت طبول الحرب على أسوار أنطاكية، مكلومة بحصارها. وأشرق فجر هذه الليلة الدامية، لا يشبه فجرا، عالقا بخيوط جهماء. أن هناك ثَمَّة خبر ونبأ يقين! أن إختباءا لن يحمى أحدا، دفنا تحت صخرة. أو فى تجويف من ضفة نهر. أو خلف حجر، فى مشارف مستحيل. نبأ موت مرِّ آتٍ، كهمس خافت. يواريه دجى.. دمار يجوس خلال رقاب غافين، راعدا.
وهبّ الناس في شَيْزر. تجمعوا من كل صوب منسلين، جانب الطاحونة، على سماع صوت راع صائح، قادما من وراء الجسر. تشّقَّ صرخته صمت فيافى الشام.  يتردد صداها، غربى الجبل:
- سقطت بقبضة الفرنجة أنطاكية. أنطاكية سقطت..
بلغ آذانهم وأخذهم من كل مكان. يسمعه، جميع من بقلعة شيزر ومدينتها، على أكمتها الصخرية، بين مصدق ومكذب:
- الفرنجة قادمة. جازت الفرنجة. ستعبر جيوشها المخاضة. الفرنجة قادمة..
اختلطت صيحات الهلعى، بأصوات كل جارح طير، متربص وهائم. لم يكن بوسع الصائح أن يجاهر، بصوته أكثر، ليبلغ ما خلف الأفق البعيد، نذيرا. صوت يحمل رائحة الموت. يقرع أجراس خطر. يهدد مُلك آل منقذ وسؤددهم بشيزر، ومن فيها تحت أيديهم، من أحرار وعبيد. فما حدث بأنطاكية، ليس ببعيد. لم يفلت من قبضته، لا رجال. لا شيوخ. لا نساء. ولا ولدان.
لم يكن هناك رأى. لا مشورة. ولا مكيدة. لا ألوية، لترفع أو تتمزق تحت السنابك. لا دروع. ما كان هناك أحد، ليحيى جهادا، أو يميط لثاما، عن غيم. لم ينشغل أحد أمراء العراق أو الشام، برفع سيف شاهرا.. فى وجه ليل دهم الشرق. لم يكن هناك نفخة بوق واحدة، تستنهض حكام ورعية.
لم يكن الزمن بزمن سرايا وغزوات. مضي بصوته القديم، الذى يأخذ القلب. كأن الموصل قد إختفت. أين دمشق. حلب. أين الخلافتان عباسية وفاطمية. أين بغداد. القاهرة أين..؟
ما كان ينبغي لأحد، ألاَّ يحمل سلاحا، وقد نادى المنادى، من كل جانب:
- أنطاكية إكتنفها المنون.
حقا، ما كان لأحد أن يضيّع وقتا. يهدره ثم يبقى ليعضّ أصابع الندم، على سقوط مدن، لم ترَ إلتماعة صفحة سلاح. لم ترهف سمعا لقعقعة، يحتضنها هلال. قبل الذبح، كانوا موتى، فى الحياة.. هؤلاء الأمراء، حول أنطاكية. من نجا كان قتيلا، لم يمت بعد. حملته منيّته، كما حملت أميرها "ياغى سيان". الكل، عرف رهبة الموت. لا يتمنونه أبدا، تعلقا بحياة غرور. قبضا، لريح. باطلا، تظهر حقيقته تحت حدّ الردى. ماذا عليهم لو كانوا قد فعلوا، جاهدوا. فلا تضيع مدن أو تسقط  حصون؟!
هيهات. هيهات.
كم، من عنق دّقّته مطرقة وطحنه سنديان.
كم، من رأس قطعت، مجتزة هناك، وأُخر معلقة، فوق أبوابها.
كم، من أُلقى به، من فوق أسوار عالية. سقط صريعا، ناظرا إلى موت، كامنا فى جرف، متطلعا إليه بين عينيه. يواجهه مرعوبا.. رعدة برودة فقدِ الحياة .
انتهت حياة، يعرفها أهل مدن مترفون. من لهم أيدِ، لا تعرف مقبضا، لحسام. دمار، لحق بكل شئ، فى طريق الغازين، طائلا أخضره ويابسه. إختلطت أشلاء اللحم. حملت ريح الشمال رائحة دّم وقد جرى، فى طرقات أنطاكية نهرا. مع حمحمات وصهيل الخيل. عرف الصبّى والجارية، أن الليل قد أقبل، حاملا لهما روح يُتم طويل. زلزالا غاشما، لم ينجُ منه حريص، على حياة قصيرة، تنتهي على أية حال..
وبعد الرّها، تحت إمرة جوسلين الأول، فى شمال العراق، يتولى إمرة أنطاكية، بوهيمند الأول غنيمة باردة. خطوة ثانية، فى طريق ذهب الشرق. ويرعى الفرنجة، فى المنطقة شهورا. يركضون هنا. ويركضون هناك. لتسمن الهزيلة. تربو، فى جوار كفّ نهر العاصي..
ويكتنف سويداء فؤاد شيزر شبح الظلمة، متمكنا، بإقتراب الخطر، من تخومها، لا تمنعه أسوار. تلمسه من أبراجها. ترصده عيونها المبثوثة. تطيّر النبأ، إلى أميرها أبى العساكر سلطان ابن منقذ. سيضيع مجد بنى منقذ وتاريخهم، إن تحرش بشيزر الفرنجة، أو جاؤوها يزفّون. شعور شاحب، بحزن عميق، ألاّ يصبح هناك إن سقطت، أبّ بعد، ولا أمّ.
وإذ يصدر الغازون، إلى الجنوب، بلا قلوب. رحلة حجّ مزعوم إلى بيت المقدس. تحمل شارات حمراء. وعيون زرق وأكباد سوداء. يتذكر ابن منقذ محاولات إنقاذ أنطاكية الفاشلة، ثلاث مرات، ذرا للرماد. وقد حطّت، على ربض أرض إمارته قوات إحداها،  قادمة من جزيرة الرافدين، قبلما وقعت مذابح بمنطقة معرّة النعمان وكفر طاب، وقتل الألوف. ويستحضر حديثا دار، مع رسل أمراء النجدة، ومنهم أمير الموصل "مودود".
آلام فارتر
----  خالد العرفى
أخذتنى خرافة أنى ولدت، فى أوج شهور الصيف، فلن أتذكر منه شيئا. دائما شتاء غائم. وبحر عاصف. وشهور البرد والريح. بالكاد نذهب لطرف خيال ما، فتختطفنا لحظة جميلة، ننقاد لها. كسحابة بيضاء، تتهادى فى سماء زرقاء. كنسيم يداعب زهرة فى فردوس النفس، فتهبنا من أريجها، الهدوء والسكينة. لكنها الحياة نفسها، ترينا ما لم نكن نتوقعه أو نرتقب حدوثه، من عواصف، فلا نرى هدوءا ولا سكينة. لماذا لا أتذكر نسمات ربيع، تهتزّ لها أوراق الشجر، على أغصانها. ألم أرى هذا..؟!

ومع ذلك، لا أدرى أنغمض أعيننا، فى غيبوبة، نفرضها على أنفسنا، لنتحرر من الوعى. نتذكر ما نشاء، أو ننسى ما نريد. ربما ونحن غائبين، عن كل منطق، يكون أجمل ما نكتبه. بشئ من مغامرة عبور هذه المسافة البعيدة، إلى الخيال. نتسائل أنصف نظرات رقيقة أم زائفة..؟!
أنصف نبضات قلب، من دهشة تتلألأ، فى الروح، أم فزعة ألم فى صدر، يتلقى ما يتلقاه..؟!
إبتسامة أم دمعة..؟!
سرور أم حيرة..؟!
حقيقة أم كذب..؟!
إنها أحاسيس، تنتاب كل كاتب، حينما يمتلكه الخيال. ولا يكون إلا ما فى نفسه، ملكا له وحده. فإذا كتب، ضاع كل شئ. وضاعت الحقيقة، إلا من نفسه. لا يعرفها أحد، إلا قلبه. حبّا كان أم ألما. ولو كان هناك عدم يقين:
هل تتضمّن الكتابة ما يدور فى أنفسنا، أم تذهب فيها..؟!
وإلا كيف يشعر كاتب، دون أن يعرف لذلك سببا، أنه طفل أو شاب أو شيخ كبير، فى ذات الوقت. كيف يحسّ بمَ يألمون به. كيف يحبّون.. كيف وكيف..؟!
كيف يدرك ما عليه أمره، فى الواقع، دون أن تميته برودة ريح شتاء، تسكن ذاكرته. تجمدها. دون أن تصهره حرارة مشاعر وأحاسيس، بقلبه، وتهرب منها روحه. كيف يتحرر من تلك القيود.. فيكون حسبما يريد. كيف يروى أو يحكى ما يحدث، أكثر عمقا فى الخيال، ويراه واقعا. أو رأه فى الواقع، فيصيّره خيالا..؟!
كنت فى حالة إستثارة إستثنائية وانفعال شديد، وأمامى صفحة البحر تومض على البعد، فى قلب الليل. وعدا بصباح، ربما لن يأتى. كحقيقة محيرة لا أعرفها.. فلم تعد الاسكندرية ولا البحر ولا الشاطئ ولا تلك البقعة حيث أخلو بنفسى، من حين لآخر،  كما عهدت. كل شئ تغير فى عينى، أم أنا الذى تغيرت. أم كل شئ صار كفكرة زائفة، أصابت رأسى. لم أكن لأحجم، عن التفكير. لما كل شئ لا كما أراه، فى الواقع، الآن. أم أنا لم أكن قد رأيت نفسى بعد، وأن كل شئ فعلا كما هو..
لم أجد صعوبة كبيرة فى التهكم على نفسى، ولن تنجح الحيل النفسية فى رؤية غير تلك. شعور كئيب صادم، كفيل بأن يضع قدميك، على الطريق الصحيح، أو إلى منفى نفسى وعزلة. انقسمت أفكارى إلى نصفين، فى رأسى، تماما. بين مدينة وبحر، وبقعة على شاطئ، وأشياء باتت تنكرنى، وأنكرها. هراء واضطرابات حياة، لا يجدى معها شئ، سوى أن أغمض عينى قليلا، لأرى ما لم أكن أراه. فالحقائق، ربما لا نراها، إلا أغمضنا أعيننا، قليلا. تبدو واضحة جلية، بينما نتلاشى فى البحث عنها، وهى داخلنا ساكنة. نولد ليكون مصيرنا الموت. وبين ميلاد وموت، حياة ربما لن يتذكرها أحد. ذكريات تضيع بذهاب روح، فى لحظة إحتضار. وما كان ممكنا قريبا، يصير بعيدا مستحيلا. كاستحالة أن تعيش حياتين. أن يكون لك روحين. فى الواقع، لا أعرف كثيرا عن تلك الفلسفة والأفكار التى تجعلنى، أعيد التفكير فيما كان مسلمات، وأصبح أقل إقناعا. أستمتع بهذا الإغراء الذى يشدنى إلى إصرار مع نفسى غريب. أنه لن يبقى غير لحظات نحاول فيها، إدراك أنفسنا، وسط عبث الحياة، وعدم معقوليتها. هذا العالم الذى نحيا به داخلنا، أكثر مما نعيشه ونحياه، فى هذا العالم الكبير. لا يهم أن لوّحه البحر، بالتحرر من قيود وأغلال، تضربها عواصف الحياة وتكسرها. ليبقى لنا مساحة إرتياح داخل النفس، وفى أعماقها. وحينما أفكر بهذه الطريقة لأفهم ما يستغلق علىّ فهمه، يصبح الأمر مثل تلك البقعة على شاطئ خال، وقد إختفت. ضاعت، كخيط قصة محكوم بفشلها. لن تكون إلا فى رأسى. فى مكان ما، وسط تفاصيل كثيرة، يبدو معها المستقبل مجهولا، وعين الحزن مسهبة رهيبة. ونتمّ المسافات بين أماكن متباعدة، برحلة ذهنية، حين نخلو بأنفسنا، نائين عن اضطراب حياة، ربما تعود إلى كل شئ. وفى اجتياز هذه المسافات، نعجز عن وصف أصداءها، حين نمضى لشأننا، ونسير بلا توقف. لا نكاد نبلغها، حتى نلقى شيئا كثيرا، من حيرة. لا تفارق أعيننا ما تثيره فينا حوادثها، فنلقي إلى الورق، ما يملأه بين متعة ومرارة، إلى أقصى درجات شدة. وأبدا، لا يستقر ما كان مضطربا، ولا يملأ القلب إلا روع. نتبع فى آخر الأمر، ما لا يصدق، كمن يدفع بردا قارسا عن يديه، فيضعها، فى النار. بكل تأكيد، يختار البعض طريق الهروب كما اختاره "جوتة" فى رائعته "آلام فارتر". وقبل وقوع مثل تلك الحوادث العارضة للتفكير، والأسئلة التى تدور بدون إجابة، فقد لا يكون هناك ما يذكر، فى حياتنا. حتى تبدأ سلاسلها تشدنا، إلى ما لا نتوقع، كبّحار لا يعرف أين يذهب، إلا بمقامرة على حظ وأمل. ومغامرة قد تنتهى إلى الوعى بالذات، أو إلى ضياع وتلاشى. مثل هذا ما جعل "جوزيف كونراد"، أديبا. مسافرا فى البحر، على متن سفن محملة بأكوام الفحم، ومحاولا أن يقدم حلولا ممكنة لحياته الصعبة، ورفقته حقيبة كتب كبيرة، فى مسافات رحلات غامضة. المعنى الحقيقى، أنه اضطر أن يحيا. يجرب كل إمكانيات نفسه، متمردا، طوال حياته كلها. أنفق سنوات عمره، يحاول أن يفهم. ليغادر مرافئ آلامه. ولا شك فى أن أعرف جيدا، فعادة مبكرة، فشلت دوما، فى الإلتزام بها. إنما أحظى فقط ببرهات باهرة نادرة، عبر مسار فوضى صعب. أتلاشى بين أفكارى المنقسمة أو أنكر نفسى، فى لحظات مثيرة، يعجز الوصف عنها، فأستطيع أن أكتب أو أحلم، إلى حد مدهش. حينما يبتسم الحظ لخيالنا، دون سبب معقول. هذا كل ما فى الأمر. وربما لم يحدث مطلقا، فى الواقع، أن أدركت شيئا، مثلما أدرك الآن. الحقيقة الأكثر إثارة، أن تكون الحياة على مدارها، حياة رديئة، دوما. هذا إن لم تكن شيئا آخرا، ننكر أنفسنا معه..
و حصادا غريبا، للحظات غريبة. فتنة، تجول معها الروح بين تفاصيل. ربما مرّ عليها زمن طويل. أو ربما ما لم يحدث أو يكون، قط. لِمَ، لم يكن قد رآه، أبدا. هذا الغموض الآسر، الذى يكتشفه الكاتب، فى مجهول نفسه أولا، ويطارد فيه الخيال، ويطارده. سرّ ما، ما زال مستغلقا، لا يعرف له، حل.  حتى يظن أنه من الممكن جدا، أن يظل أسيرا لمخيلته، وربما عليه أن يكون، على الحافة، بين العقل والجنون، حتى يكتب. ولا يعرف ما خلفها، من رؤى وهاجة، أو ما وراءها، من عالم، أبعد من هذه الحياة. وفي شدة توتر وقلق، كان كل ما أكتبه ولا أفكر إلا فيه، أسوأ حالا، من إرهاصات نفسية وتمزق شخصيات قصص، تطارد مخيّلتى. ربما كان هناك شئ خاطئ، فيما يدور فى رأسى. لكن بلا شك، وبأي حال من الأحوال، كان تمهيدا لفقدان ذاكرة إرادى. وليس  معروفا لى بالضبط، متى بدأت أعانى من هذه الحالة المثيرة، مع الموت.. لأعرف كم هو جميل. ومن الأفضل، أن أراه فى عينىّ بطل أو بطلة، أموت فى أحدهما. أن تعرف كيف تخلو، بنفسك. تطرق برأسك، مفكرا، كيف تمضى، فى خبايا نفوس وشخصيات قصة، إلى درجة بعيدة.. ولا ينغص الحياة، غير كوابيس، لا يُعلم متى تظهر، فى عناد وإصرار. لا يفزع فيها، إلا ما يصطخب، فى النفس، من هواجس غريبة. يبدو لى أن أشباحا، تطاردنى ليلا ونهارا، فى ظلمة حالكة دامسة، تترامى أطرافها، ولا تنتهى، إلا بالكتابة. ولا يخلو الأمر، من غرابة شرود وحيرة. محاولة إعتبارالمسألة كلها، مجرد حلم مروع، يجب إجتياز أثره. إعتبار الأمر كأن لم يكن، حينما ننتهى من الكتابة. نشعر فى هذه اللحظة، أننا ألقينا نظرة فاحصة، إلى السراب. كل ما أستطيع تذكره، فى النهاية، أن هناك نّصّا، حمل من النفس شيئا، من هذا الإحساس المسمّى الكتابة. ولم يكن هناك مبررا معقولا، إلا الموت، ليعطيه هذه القوة. موتا، يكشف لى شيئا، من وجه حقيقة غائبة، من اضطراب الحياة، فيحيا النصّ. حقا، أمر غريب.  للأسف، حينما تظهر هذه الحقيقة إلى حيز الوجود، فى النّصّ، نكون، قد تلاشينا. وربما ذهبنا، إلى أجل غير مسمى. لا نعرف متى نعود، من لحظة، تتجاوز بنا غرابة الحياة. وتتجاوز شعور بقلق وضيق وتوتر. تخلص من كل شئ، حتى الحياة نفسها، فى فضاء نص أدبى. ولا أعرف كم مرّ من وقت، منذ أن إنقضت ليلتى الأخيرة. بشكل مدهش، إذ حرتُ مع أسئلة، لا تنتهى أبدا. دائما، بلا إجابة. بينما البعض الآخر منها غامض، والأكثر، أسئلة غريبة الأطوار معى. تظهر لتختفى. وتختفى لتظهر. إدراكا لحقيقة، قد تدفع بى أكثر، إلى رؤى نفسية، أكثر منافاة للعقل والمنطق. هكذا حللت مشكلتى، بسهولة. ببعض جماليات الموت، فى جوهرها. برغبة شديدة، أن أكتب الموت، قبل أن أموت. بحثا عن فرصة تتاح، لتخطى تناقضات الحياة. أحاولا يائسا، تحقيق إستنتاجات ممكنة، عن وجود ملموس. أو رؤية تفاصيل واقع غريب ومؤلم،  فى تلك المسافة الرمادية، من النفس. وهكذا ألفيتنى، فى مساء قصة "صوت الحياة"، لا أعرف إلى الآن، كيف أنتهى منها. فلا أدرك لها بداية، إنما سيطرت علىّ نهاية غريبة. الموت من جديد، كفرصة للكتابة. فبعض الموت، حياة. وبعض اليأس، أمل. إحتفاظ، بهواجس النفس، فنكتب عن أشياء، كالموت. أمام حيرة مثيرة، وإجابات غائبة. غموض، لعلى أعرف له تبريرا أو سببا، عن كيف نكتب، للخروج، من هذا الظلام. كمن يروح فى إغفاءة، فيرى ما يرى. أن نعمد إلى التخلص، من أفكار غريبة بالية، تكاد تحطم الأعصاب. غموض مبهم، يحجب رؤية الحقيقة. حالة، لا ندرك معها ما يحدث أو يستغلق الأمر كلية. نحار فى إستجلاء سرّ شئ ما. أن يدركنا شئ، من جنون، لم نكن نعرفه أو  نعلم عنه كثيرا، حتى نشرع فى الكتابة..
كيف نكتب؟
----  خالد العرفى
الكتابة أجمل إنتاج إنسانى، عرفه البشر، وجوهر الحالة الإنسانية،.. وروعتها، فى هذا السّحر، الذى تحدثه، فى عقل القارئ ونفسه. ولن يكون هناك مكان للروح، في هذا الواقع والعالم خالى، من الكتابة. ولا يوجد غيرها، لنثرى حياتنا الوحيدة، التى نعيشها، من خلال الخيال، لنرضى رغبات تتملكنا، كأن نكون أشخاصً آخرين، أو نكون فيما نكتب. لكى نفهم الحياة ونستوعبها، فى ظل حقائق ضخمة متعارضة ومعقدة. وجودنا الفعلى بينها، ولا يمكننا تغييرها. لئلا ننقاد، لرتابتها. أن نحيا الحياة، بطريقة أفضل، وأقرب للكمال. فلا شيء أفضل من تلك الحقائق، التي يظهرها دائما الأدب الحقيقى، لتحمى الإنسان، من تعاسة الحياة. من مشاعر وأحاسيس، مثل الخوف والغضب وغيرها. حتى المشاعر الرومانسية، التى نكتبها، لتجاوز أزماتنا.. لنتخطى الواقع، عبر الزمان والمكان، لحياة، ما كان لها أن توجد..
فكيف يمكن أن نكتب؟! ولماذا نكتب؟!
هل الكتابة شعور بتحقيق ذات؟!
أم قلق، لتحقيق إنسجام مع النفس والحياة؟!
أم لغز يزداد غموضه كلما فكرنا فيه؟!
أم نكتب حياة لم تكن، يوما، ولم نمتلكها..؟!
هل للكاتب قدر مصيرى، لاكتشاف أعمق تجارب الإنسان.. وحقيقة النفس والحياة؟!
نكتب نقيض الواقع، والذى لم يحدث. الحياة الحقيقية، تلك التى لم تحدث.. فنختلقها إختلاقا. لذلك فالحقيقة العميقة، أن الكتابة الحقيقية، إبداع بالخيال، من صنع مخيلتنا. عالم نشيّده بالكلمات، ونبنيه بأنفسنا. فنشعر بأنفسنا، ننتمى إلى هذه العوالم، فى الأعمال التي نكتبها. أو نقرأها. تمردا، ضد الحياة نفسها، لتحقيق ما نعجز عن إشباعه. هذا هو السبب والمحرك الحقيقى للأدب، أو ما نسميه الكتابة.  يظهرها الموهبة والإستعداد والمثابرة والإلهام. مهما كانت الدوافع والمسميات. بهذا التناقض الفجّ، بين واقع نعيشه ونراه، وما نريده ونتمناه. تعارض مع الحياة، بمَ فيها. ولولا ذلك، ما كتبنا شيئا. لذلك فالكتابة ضد تعاسة وألم وضجر واقع موجود. لنصنع بخيالنا، ما لم يكن، يوما. وربما لن يكون..
وبكل تأكيد، قد يبدو الأمر مسألة مبهمة وغامضة. وفى كثير من الأحيان، فإن أى كاتب، يراوه هذا الإحساس البائس التشاؤمى، فى عدم القدرة، على الكتابة. حينما يصبح الأمر غير مؤكد له، وتراوده أحلام اليقظة، مع أمور ضبابية، بلا شكل، أو ملامح.. حالة من الاضطراب النفسى، مثل مشاهد فيلم سينمائى مبعثرة، فى الذاكرة. تلح على النفس. وتفرض نفسها عليها. إحباط شديد وعصبية، حينما تغيب عنه نقطة البداية، لفكرة ممكنة، ينطلق منها. حتى تأتى لحظة نابضة بالحياة، تثير الإهتمام، وتخلق الفضول، بانطباع يتملك المرء، فيمثل له الأولوية. فتتجمع الصورة، فى الذهن، بتأمل العقل. لا نتخلى عن الخيال. أن يشعر الكاتب، أن هذا أفضل ما يحدث. إلى الحد يجعل كل شئ يسير، إلى الأمام. يحمله الخيال، كعاصفة تشرع به، فيستطيع أن يكتب، ويؤثر فى القارئ. مع أحلام ومتعة. مع قراءة كلمات حميمية، وتركيز عقلى يأخذه، إلى عزلة روحية، يمنحها له، ما يقرأه. من خلال سياق طويل، من المعاناة وربما لسنوات، مع مثابرة وسعى. تكريسا، لصقل الموهبة. جهد شاق وبذل كل طاقة ممكنة، فى مواجهة إحباط وشعور بائس، بعدم المقدرة، على الكتابة..
 والكاتب، إن لم يكن ساحرا للعقل، فليس بكاتب. ولا يمكن للنص، أن يكون واضحا، لقارئ ما لم يكن واضحا، فى عقل صاحبه. أن يكون هناك إصرار، على القول.. التأكيد، أن الأمر هو هكذا. لذا، فأى نص، يعتمد على سلسلة متوالية، من أمور. تعتمد فى جوهرها، على رابط، من شئ آخر، وبشكل عضوى، فى الذهن. ورغم هذا، لا نعرف ماذا سوف نكتب، قبل أن نبدأ ونشرع فى الكتابة. إغراءات واضطرابات تتداعى.. تواجهنا.. فندرك أمورا لم نكن نعرفها، فى أنفسنا، قبل ذلك. وهذا يعتمد، أساسا، على وجود موضوع أو فكرة ذات هدف، يتناولها الكاتب.. أن يفتح بابا للتأويل والتفسير، بمَ لم يرد، على ذهن الكاتب، نفسه. وليس الأمر بطول جمل أو فقرات أو إختيار كلمات، تنير السبيل لعقل القارئ، بقدر ما هو متعلق، بما يريد الكاتب قوله، بقوة وببساطة، فى نفس الوقت، من روحه وذاته. وأيضا، ما يتكبدّه فى توصيل وتبليغ أفكاره.. لغة.. كلمات، تشكل عالم النص وتبنى أركانه، مما ينقلنا وبدقة من زماننا إلى أزمنة أخرى، ومن مكاننا إلى أمكنة أخرى، بصحبة ما أبدعه سفر الخيال.
ونعرف الكاتب الجيّد من مقدرته، على التغريب والتقريب. بين ما يستطيع أن يجعله غريبا، وهو فى حقيقته عادى ومألوف.  وبين جعل غريب وغامض الأشياء أبسط وأكثر وضوحا، فى عين القارئ، بمَ يعرف بالتقريب. ممّا يسحره فى النص، بهذا التأثير، فيجعله يراه بطريقة جديدة، من زاوية مختلفة، أو كأنه يراه لأول مرة. وفى كلتا الحالتين، فشكل النص، من كلمات مفردة وعبارات وجمل، ينبغى أن يتبع مضمون أفكار الكاتب، للحد الذى يمكن القارئ، من الفهم. وبهذه الطريقة، يظهر أسلوب  الكاتب الرصين، فى قدرته، على تحويل النص. بأفكاره، وبشكله ومضمونه. إلى مقطوعة موسيقية، عذبة أو صاخبة. ولا يظهر أثر الكتابة هذا، إلا حينما يستغرق الكاتب فى أمر الأفكار التى يكتبها، وبغرق فيها بإحساسه، فيفهم القارئ بطريقة جديدة ما يقرأ. وهى التفاعلات التى تحدث داخل النص. تثير المعانى المادية، واللفظية، والمجازية، فتصبح الأشياء أكثر حيوية. وهذه حقيقة، لا يمكن المجادلة فيها.. تزوّد النص بأبعاد، لا يمكن التنبؤ بها. وتمنحنا القدرة على التخيل من جديد، وباحتمالات مختلفة.. ونتعلق بأسئلة عالقة بأذهاننا. نتوه معها. فتظهر فينا، تلك المقدرة الإستثنائية. تدفعنا لنكتب، من جديد، فى منطقة مجهول. يغدو فيها كل شئ، ذا علاقة جوهرية ومتجددة باللغة. لا نعرف ماذا سوف نفعل، أو نعلم ماذا سوف ننتهى إليه.. شئ ما من السِّحر. تلك هى الكتابة. لا نعرف متى نبدأ، ولا نعرف ما هو الممكن. حيرة، مع ما لا يمكن تصوره، مسبقا.. ولا شئ محدد ندركه، كما لا ندرك كيف نمضى، للأمام فى النص. ومهما رُمنا لصدق النص وبساطته، يطاردنا دائما سؤال: ماذا يمكن قوله أو الحديث عنه. ونفاجئ أن ما لا يمكن، هو الأروع. هو الذى لا يزال ما لا يمكننا، ونشعر به داخلنا، قبل أن يتسنى لنا معرفة كيف نكتبه، حقا. لذلك، فأول ميزة يحتاج إليها الكاتب وأول الموهبة هذا الخيال الخصب الواسع. الخيال، كمصدر للإلهام، ثم تأتى حرفته، بعد ذلك فى إختيار الكلمات وإنتقاء المفردات، التى تثير الإهتمام بم تحمل، من معان. خاصة تلك التى لم يعتد رؤيتها أو يألفها القارئ. تجعله يرى الأشياء كمن يراها، لأول مرة. ولا شك أن النظر والرؤية أمور تقود الكاتب إلى لغة مفاجئة تطلق العنان لخياله. لمفرداته اللغوية. وربما تثوّر، فى نفسه، ما لم يفكر به من قبل، من كلمات ومعان. يبدأ بكلمة واحدة، ثم ما يأتى لاحقا من جمل تتدفق، مفعمة بالحياة، تعطى النص روحه ومعناه. وهذا ما يخلق تأثير النصّ، نتيجة لمخيلة الكاتب الواسعة، وحرفته فى القول، معا. وهو نظام وأصالة الكتابة والأسلوب، لا يخلو أحدها، من حياة، يشعر بها القارئ..
من أسرار الكتابة
----  خالد العرفى
ومن أسرار الكتابة، التى يدركها الكتاب والمؤلفون، فيوّجهون قارئ النّصّ إلى أمر ما، لجعله، يفكر به، كحقيقة مطلقة، أن الأمر يجب عرضه وتناوله، فى أقصر ما يمكن، من جملة، تحمل معنى. والكلمات بمفردها، لا تحقق إلا غرضا معيّنا.. لكنها تحمل معان أخرى، فى سياق الجملة أو الفقرة الواحدة بهذا الترتيب التى يأتى به الكاتب. وإختيار الكلمات ليس هاما فقط فى حد ذاته أنما تركيب الجملة بكلماتها. وطولها وقصرها. نظم الكلام. إطنابا وإيجازا. وحقا، الكلمات المبهمة غير الواضحة يجب أن يوضحها فحوى النصّ.. حتى لا تظل غامضة، بشكل ما. ونحن، لا نكتب من أجل كلمات أو عبارات. والكاتب عموما، على إنتقاء دائم لمفرداته، من عمق ما تحمله نفسه، من ثروة لغوية. وربما، هذا من الأسباب، التى تجذب القارئ لكاتب ما، وتجعله يهتم بقراءة نصوصه. ومن هنا، يختار الكاتب كلماته ليفهمها القراء، ليشكّل عالما ثريا وخصبا، من هذه المفردات. وفي الحقيقة، فالكاتب يشكّل بلغته ويبنى نّصّا ما، بنفس الطريقة التى يشعر بها، بالمعانى تدور داخل نفسه. ومن مقاييس الكتابة الجيدة، سهولة العبور من كلمة واحدة، لإثنتين. لثلاثة. وهكذا. لجملة فأخرى. فعبارة، ففقرة. ونادرا، ما تأتي الكلمات لتحمل معان وأفكارا مثل الموت والحياة والحزن والفرح، وغيرها مما يتضمن معان متناقضة مجتمعة. ولا بد من سبيل ما، للتعبير في سياق إختيار وإنتقاء المفردات عزفا باللغة. والطريقة فى ذلك إستخدام التورية وشدة نبرة اللغة، مع هذه المعانى المزدوجة، مما يملأ مساحة النص بالمعانى العظيمة. كل هذه أمور تصنع أسلوب الكاتب، وتكسبه فرادة وندرة. ليس فقط مجرد حصيلة مفردات تتراصّ. أو ثروة لغوية يختار منها كلماته، سواء بوعى أو تأثرا، بحالة معينة، تفرضها كينونة النّصّ ومضمونه، ونوعه. نثرا كان أم نظما. مما يسمى بلغة المعنى الواحد أو المعني الظاهرى و المعجمى للكلمات، الذى يكشف عنه النظر العقلى. فالكلمات المفردة، لها خاصيّة التماسك، وميزة الفكرة المفردة. وهى تنبئ، عن غياب بدائل، ما تحت تلك المعانى الدلالية المحددة، فكلمات مثل البكاء والصداع وغيرها.. مفردات لها معان دلالية ومعجمية محددة، لو جاءت بصفة مفردة.. وتختلف تماما، لو ضفّرت، بكلمات آخرى، لتعطى معان  أخرى،  فيما يعرف بلغة الكلمات الثنائية. وهى لغة، تحمل فى مضمونها، ما يجبر الكاتب قارئه، على تعديل وجهة نظر معينة، نحو العالم الذى يحيط به. لغة، تجعل للقارئ خيارات مختلفة، بسبب ما تحمله ثنائيات الكلام هذه، من حمل لصفات وأحوال متعددة، وفى الوقت ذاته، تجعل العقل فى حالة دائمة من الموازنة والمقارنة بين المعانى، بسبب هذه الإختلافات والتباينات، فيما بينهما. وبالتالى، فى تعدد مناحى تفكير القارئ، بكلمات آتية معا، بما يضعه الكاتب فى الجملة، فى سياق معين. فالمثال المشار إليه عاليه، مع كلمات مفردة مثل البكاء. الصداع. ضع معها كلمات أخرى، وأنظر إلى المعانى كيف تتعدد وتختلف وتتباين.  فبكى فرحا غير بكى حزنا. والصداع أو الشقيقة كمرض. غير أن تقول صداع الواقع. المعنى يختلف تماما، مع كل مفردة تضاف إلى مفردة أخرى. علاوة عن دلالة السياق ذاته، فى جملة ما. وهكذا، فلغة الثنائيات  تُقسِّم الفكر وتشطر العالم، وتشتتنا بينهما. ومع نمو صنعة الكاتب وإمتلاكه لناصية الجملة، يرى القارئ ويقرأ بشكل متكامل، أكثر فأكثر. فتعدد الكلمات وترتيبها على نحو ما متقن، يمنح أبعادا واسعة، للمعنى المراد. ويعطى لحسّ القارئ التكامل العقلى والحسى. يشعره بالاحساس بالكليّة، وفهم ما هو هام، حقا. وكلما كانت الكلمات، فى طريقها على نحو يقصد به أن نستخدم كلمة واحدة مثلا للقوة. وكلمتان للمقارنة والتباين. ونستخدم ثلاث كلمات للتكامل، والكلية. والأربع أو أكثر للتعدد، والتوسع، فى أبعاد المعنى. وعلى هذا، يتزايد الإحساس بالكمال ويتنامى. ويكون أكثر مما تحققه االكلمات المفردة و الثنائية، وما زاد عن ذلك. ورغم ذلك، يظل السياق هو كل شئ، فى النّصّ، الذى يبدأ من أول كلمة، لخلق هذا التأثير المتدفق.. يظهر منذ أول مفردة، كضوء مصباح خافت. يتوهج كلما تعمقنا، فى القراءة. هذا ما يقصده الكتّاب البارعون، ويتلاعبون به. متعة للقارئ، وسّحرا، لعقله..
سيمفونية السماء
----  خالد العرفى
 شيئان، لا متناهيان، ليس لهما حدود.. الكون والإنسان. ولست متأكدا لماذا ولسنوات عديدة، حيرتنى مثل تلك الأسرار. لمَ أهتم بمسائل غريبة عن الكون، وعن الحياة وعن نفسي. لا أستطيع أن أفهم، لماذا أعتقد أننى غير نفسي. لماذا شعورى أن شخص ما، هو أنا. أو أننى لا أعرف هذا أو ذاك. لست أنا. أخيرا، لا أعرف، إلا مثل حقيقة تتحول، إلى ذرة تغيب، تتلاشى، فى أعماق أكوان موازية. راهنت نفسى، على هذا الإحتمال. أن الكاتب يخبرك ما يشبه أن يكون. ما يمكن أن يكون إنسان ما. أن تبحث عن ذلك، فى  ممارسة عقيمة، فى قراءة، سؤال لا معنى له. كل ما هنالك الشيء الوحيد، الذي يثيرنى أكثر، أن نعيش بين افتراضات وخرافات. إذ يجب أن تشاهد الكثير، لتعرف معنى الحياة، وكيف تسير. حسنا، أعتقد فعلا أن هذه حقيقة، إلى حد ما. بدأت بالكاد أفهم كيف تكون. كأننى إنسان آخر، لا أكاد أعرف من أنا. أو ما أعنيه. أتمنى أن يكون لدى نوع، من الخيال، يسمح لى، أن أرحل خارج حدود الوعى. أتجه إلى ما يجب. أطلق العنان لأحلام، وتأملات ذاتية، فيما وراء العقل. بين نجوم أراها، بعينى روحى، فيما لا نهاية الكون والوجود. من ينكر أن هذه اللحظة، بكل ما فيها من غرابة وإثارة، هى لحظة حقيقة، تتجاوز بنا، حدود الزمان والمكان، فى كون لا نهائي ممتد. وأي شيء يمكن تصوره، مع حياة، قد تكون موجودة، في مكان ما. مثلما تصل للنجوم، لأبعد ما يكون، من مكان. تصل إلى عمق نفسك، فى رحلة بعيدة واسعة المدى. هذا هو الشيء، ولكن في اتجاه معاكس، من الإلهام العميق. وهذا ما نشعر به عندما نكون على اتصال روحى، مع جمال الكون الآخاذ. هذه إثارة ما نلقاه، فى رؤية النجوم، في ليلة ظلماء. تسمع معها صوت السكون، وسيمفونية سماء بديعة. ورغم ذلك، هى تأملات تثير ضجة مستمرة وكبيرة، فى النفس، لذكرى بعيدة، لم تنته بعد. ذهبت مع الزمن. لا يمكن أن نستعيدها، من قبضة النسيان. هذه هي الحقيقة، ولا أكثر من ذلك. ما أعرفه وأهتم به. وكذلك أفعل. الخروج من هذا العالم، إلى عالم آخر، ونبضى يتطابق، مع إيقاع الكون. على الأقل بعض الأفكار العظيمة، في نهاية المطاف. أن أحاول معرفة من أنا، وأن تدرك أنت.. أين تكون..
وكثيرا ما نصر على أن نكون مركزا، لهذا الواقع، ومحورا له، متجاهلين كل ما حولنا، وما فيه.. هنا الإشكالية، فالعقل ومنطقه، لا يقرران ذلك أبدا.. فأنا وأنت وكل ما حولنا، لا نعتبر إلا أجزاء، من هذا الواقع. ولا يمكن أن نكون أنا وأنت، كل ما يدور حوله.. وإلا، فهذا من شأنه تعقيد وتناقض غريبين، يقودان بدورهما، إلى قلب فوضى كبيرة سواء أكانت نفسية أم عقلية، تدفع بنا إلى نوع من الاضطراب والجنون. وإدراك الحقيقة، هو أن نرى، ما تنطوى عليه أنفسنا، من هذا النوع  أو ذاك. من خبايا النفوس وطواياها. ولا يمكن أيضا، أن يحدث هذا أبدا، بدون ما يدفعه الإنسان، من رشده وراحته وإتزانه. ورؤية الواقع، لا تكون إلا بإمتداداته، المكانية والزمانية. ألا تترك للظروف، شيئا. وهو أمر شاق وغريب. للأسف نفهمه قليلا، حتى يحين الوقت المناسب، من خلال تأمل هادئ يقظ، ونشاط عقلى خصب وحثيث، لتحقيق نتائج مفيدة مرجوة.  أن ندرك جيدا، مثل هذه الحقيقة الكبيرة. وبطبيعة الحال، مرّد ذلك أساسا، إلى إرادة قوية، نرغب بها، فى تحقيق المستحيل. وفى الوقت نفسه، تصبح هناك تلك القدرة العجيبة لدينا، على تحمل ما لا يُطاق من مشاعر وأحاسيس، خارج حدود قدرات البشر، ضد المحال وما لا يمكن تصور، أن يقع أو يكون. في نهاية المطاف، وبهذه الطريقة، نرى من سرائر أنفسنا غرائب، ما هو مذهل وفريد...
ومن السهل الحياة وسط حشد. بالطريقة التي نريدها هنا وهناك.. ومع سنوات العمر، ندرك أفكارنا، ويدركنا منها، ما يدركنا، لنكتب ما له معنى.. في عالم، حقيقة كان، أم خيالا. لكن الحقيقة جميلة بلا شك، رغم ما تواجهنا به، من ألم يعصف بشعورنا،  بالهدوء الداخلى. وربما بمَ يتعارض، مع كل شيء، تعرفه فى الحياة، أو عنها. وما أعجب الحياة وغرائبها، مما نلجأ أمامه، إلى الخيال. أن تحيا، فى نصوص. تذوب ما بين الخيال والحقيقة، وفى داخلك شئ ما، من حقيقة، تعيش به، كما يحيا النّصّ، فى روح القارئ. بما، نفكر فيه.. وبما، نستشعره، فى لحظة صادقة. فى عمق نفس بعيد. فى لحظات الكتابة الحقيقية. لذلك فأفضل الأفكار، على الإطلاق، تأتي، حينما نعرف أنفسنا. حينما نعرف أكاذيب الحياة. متناقضاتها. مفارقاتها. فى الوقت، الذى نؤمن فيه، برهاننا على السبب والنتيجة. وربما يمكن أن نفعل شيئا أفضل، مع تكّسّر المنطق. نكتب شيئا متقنا، بحثا عن ما هو جميل وأفضل، بمَ يُسمى الكتابة، التى تؤثر فينا، قبل أن تؤثر، فى قارئ، وتوهمه بتفسيراتها. حينها، ندرك أن علينا، أن ندير ظهورنا، للحياة، فمن يريد أن يوجه أوركسترا، فى نفسه، عليه أن يدير ظهره للجمهور. للسامعين. أن يتلاشى، مع تيمات معزوفة غيبية، تنبثق من الروح، ولا يسمعها إلا هو. حتى يتمتع بها غيره. لكن، كتابة بروتين معين، أم كتابة بلا طقوس، أو روتين ما. أو متى أو ماذا نكتب..؟ فلا نستطيع أن نحدد إلى أى مدى، إلى هذا النوع، أم ذاك الجانب، نكون، أو ننتمى. فقط، أكتب وأكتب وأكتب.. هذا بإختصار ما يحدث، وفى أونة قليلة. وأحيان كثيرة، لا نستطيع كتابة سطرا واحدا، أو جملة أو فقرة واحدة. وعادة الخطوة الأولى، والبداية، هى الصعبة. صعوبة أن تحركنا فكرة معينة، أو تستولى علينا، إرهاصات تفاصيلها. وعلى ما تقتضى الضرورة، فى هذه الحالات النادرة الفريدة، لا نجد أنفسنا، إلا ونحن غارقين. ندع كل شئ، مهما كان. فقط لنكتب. حالة من ديمومة إحساس مجهول وغامض. لا وقت فيه، من ساعة نهار، أو ليل. لا صباح. ولا ظهيرة. ولا منتصف ليل. لا تشعر بمرور وقت، أو زمن. لحظة حياة حاضرة، فى الروح، فحسب. لا شئ، إلا قلق نفس. تشتت. عدم إنتباه. شعور، بخوف، ألا يكون ممكنا، ما يمكن فعله وتصوره فى العقل، قبل أن يكون، على أوراقنا. بين شرود ومعاناة. لا يهم، إن كنت واعيا، أم غير واع. تبحث عمّا يدفعك دائما، إلى هذه اللحظة الغيبية. تتحين كل فرصة، لتجذبك فكرة، تحفل بها، لتكتبها. وغالبا، فإن الأمور تسير بنا، على غير ما يرام، حتى نكتب، على هذه الوتيرة والتوتر الذى تحدثه، فى النفس. ورغم ذلك فهذا هو الوقت الأفضل، لنكتب. ولا نتيجة إلا مزيد، من رغبة صادقة، قبل أن يكون هناك نص ما، يستحق أن نقرأه لأنفسنا،.. أن يكون قطعة منا. شئ  ما، من أمر العقل وجموح الإحساس. يرضى توقعنا، من أنفسنا، حينما نخلق هذه المشاعر. هذه هى أحجية الكتابة، وكيف تسير بنا.. كمن يكتب، وأمامه دُّمى وشخوص. بمَ يختلج، بين المشاعر والفكر. لا نعرف فحوى النصّ ومضمونه، ولا ندرك ما يؤدى بنا إليه، حتى نخطو قدما. قبل أن يأخذنا معه إلى تلك المسافات البعيدة. وثمة علاقة ما، بين هذه الحالة الغريبة، وما لا نتوقعه أبدا، من أنفسنا، حينما نكتب، ونتفاعل مع تفاعل النصّ، ويتفاعل فينا، فنكتب، ما لا نتوقع.. لا تعرف، بوضوح ما يمكن أن يكون، حينما تبدأ الكتابة، شيئا جديدا. أو تنقح أمرا ما، أو ترتب تفاصيل فكرة ما، فتلقى، شيئا، مثل أحلام اليقظة. لا تعرف له ملامح. يأخذك، إلى عالم ما وراء النفس. شئ، مؤكد، يفوق كل توقع. ليس ذلك فحسب، لكن عندما نكتب، ونستمر فى الكتابة، بصبر وجلد، بمهارة إعادة الكتابة نفسها مرارا. تتدفق اللغة الجميلة. وتؤصل لفكر واضح. فى نهاية الأمر، باحثين عن رؤى وأفكار فريدة، لا تنضب. لصقل النّصّ، كحجر كريم، لا يُسأم، ولا يُملّ منه، كلما نظر إليه، أو كلما أطلنا تأملنا به، مرة تلو أخرى. وبطبيعة الحال، هو أمر ليس بالسهل، لكن لا نستطيع التوقف عنه، مطلقا.. ولا تجد نفسك، إلا وأنت، فى كثير من وقت، شغوفا راغبا، وهذا الأمر الغامض، الذى يحث النفس، على الاستمرار، فى هذه العملية الدائبة، التى تتدفق فيها روحك، لتتسلل، إلى النّص، ساكنة فيه. وربما وددت، لو ظلت هذه الحالة، للأبد. وهذا ما يؤثر فى القارئ، ويشعر به. وتشعر به أنت قبل أن يدركه قارئ. ومن قبيل ذلك، يحاول الكتّاب أن يبحثوا، عن طقوسهم وعاداتهم وسلوكهم الذى يألفوه، فى الكتابة، للوصول إلى حالة  مثيرة للإهتمام، يبدعون فيها، كل مرة..
 إستيقظت هذا الصباح، على إحساس جديد، مستبشرا. كمن يحتضن ذكريات، ليقول لها وداعا. الآن علىّ ألا أرفض إحساسى بموت أيام وأفكار بعيدة، علقت بذاكرتى. تركت فيها ندوبا غائرة. كنت أعرف أنها لن تعود. كم أثارت جدلا، في نفسى. ما أصعب أن أكون رجلا بلا ذاكرة. لكننى لم أعرف ماذا أفعل إن رأيت أو أصبحت شيئا كهذا. لا أرى الوجود إلا بلون أبيض فى بؤرة ضوء باهر. بإستثناء هذا اللون الأسود الذى ينطق الظلال بجمالها لسبب غير معروف، إلا لتضاد تام بين نقيضين. وكأننى كنت أعرف ذلك الرجل الذى أراه، يعيش في مملكة من الظلال فى مدينة  بلا اسم. كان من الممكن أن ينقطع الشفاء. أن يموت الرجل، لكنه لم يمت. كأننى أنظر لشاشات أجهزة  تلاحق أنفاسه. تخبر أنه ما زال على قيد الحياة. كنت أشفق عليه:
  - لماذا لا يموت ويبتعد عن هذه الحياة الكئيبة..
الآن أستطيع تقبّل هذه الحقيقة. الآن، أستطيع أن أنسى. الآن أستطيع أن أكتب. أن أقف بخيال جامح ينبض بدلا من الاستسلام كرجل بلا ذاكرة. لم يبق حاليا في ذاكرتي سوى القليل عن هذا اليوم إذ سرعان ما رحلت ملامحه لمسافة بعيدة فى عالم الكتابة عاكسة حقائق بشأن أحوال الإنسان. فى محاولة الالمام بتلك المعرفة، وبشكل كامل، وذاك الإدراك الفعّال فى مجال القصّ،.. وفى النهاية أقول: فى الثوانى اللاحقة لم يمت أحد. أنا ما زلت أنظر بعيدا فى مخطوطة لم تتم بعد. عن هذه السراديب المظلمة الغارقة في الضباب والغبار، بلا دليل..
كان هناك شيء من عاصفة محيطة. تستكشف وجها لوجه أن فقط ما تراه فى عقلك هو الشئ الحقيقى. فلماذا لم أكتبه قبل ذلك. ولماذا لا أكتبه الآن؟
كنت كمن يتعرف على نفسي من جديد. شئ مربك حقا أن ترى نفسك فى هذه الحال، ولا تملك إلا أن تتوقف وأنت ترى نفسك. تتأمل. تضع هدفا جديدا. تنجز آخرا. يجذب انتباهك. تستوعب. تقول: مهم الآن، أن تكون. أمورا مثيرة للاهتمام. تطلق سراح أفكارك. هذا هو المهم. لكن الأكثر أهمية كيف يكون أمر الكتابة. والحقيقة أننى لم أكن أكتب قبل ذلك، في حين بت أدرك أنها كانت أكثر من أربع سنوات منذ أن قررت أن أكتب بطريقة جديدة. قطعت خلال تلك الفترة من الزمن، مسافة تخيلت أنها بعيدة، فى الوقت الذى كانت لا تزال تشكل بداية لطريق جديد. وفي وقت لاحق لفهم ما يحدث. كنت أرغب في وضع كل شيء في رأسي، على هذه الأوراق على نحو لم أفكر به من قبل. كان من المهم أن أفهم شيئا: كيف تنتمي الكلمات لنفسى التى أدركها الآن. أو أتخيل أننى صرت أفعل على نحو أفضل. ولكن الكلمات كانت مكتوبة قبل ذلك فى عقلى، وكأننى أنا الذى لم أعد أنتمي لها. لا سيما وأنى قد توقفت عن أعمال كنت قد شرعت فيها من قبل. أعانى من عدم قدرة على إكمالها على نحو ما إعتدته. ماذا غيّرنى. ماذا رأيت. ماذا أدركت. وعلى هذا النحو كنت أتسائل: ماذا هنالك من هذا الضجيج. فى هذا الشئ المسمّى عقلى. تلك الأصوات العالية، من قبل عالم آخر..
في البداية، إعترفت أن هذه عملية غير عادية جدا. أخطاء فظيعة كنت أقع فيها. حينما لم أتحرر من قيود كثيرة. ألا تعبر الأفكار عن نفسها كما أراها فى عقلى. تلك المغامرة في مثل هذه المناطق الخطرة. كان علىّ حقا التأكد من حقيقة الأمر فى نفسي، فإذا لم أقم بذلك، فلن أكتب. ليس الأمر مجرد كتابة ناعمة، من أجل لا شئ. فكما للكون الموسيقى الخاصة به. فللكتابة موسيقاها فى العقل، منذ كان الهدف الحقيقي في الحياة.. كان من المفترض أننى أعرف ما كنت أفعله، أيضا. وأتذكر هذه الليلة بالضبط. كلمتان قلتهما لنفسى. أكتب هكذا. هذا هو المهم. وكان من الواضح عندما كنت أعمل على هذه المخطوطة، أنني لم أعد أعرف كيفية الكتابة بعد. حتى أدركت أن القواعد قد تغيرت. كانت قد بدأت أمورغريبة تحدث. تترك فجوات غريبة بين أفكارى. وفي الغالب لم أكن أكتب حتى الآن،.. حتى هذه الليلة التى كان من المقرر أن أنهى فيها أمرا. إكتشفت أننى الذى كنت أنتهى بدلا من ذلك. لماذا لم كل هذه الأمور تحدث؟  ماذا يجعلها تحدث؟
الفيصل، أننى أردت أن أكتب من جديد. بدا لي أنه كان بإمكاني إعادة استخدام شخصيات كنت قد أنشئتها فى المسودة. أكثر من ذلك، بدا وكأنه مكان جيد لملء الثغرات أنه حان الوقت لإدخال دراما جديدة لأكتب حقّا. بالإضافة إلى خلق عدة شخصيات جديدة، في أدوار داعمة في هذه القصة، بجانب الشخصيات الرئيسية،.. كان ما زال أمامى الكثير للقيام بعمل جاد لإنقاذ الرواية، وإنقاذ نفسي معها. عرفت أن تغييرا قليلا أو طفيفا يمكن أن يلقي بظلاله إما فى قوة العمل أو تحطيمه. لكنني لم أقلق بشأن مثل هذه التفاصيل في ذلك الوقت. وعلى الرغم من ذلك، لا أعرف إذا كان ذلك صحيحا، لكن بالتأكيد لا معنى له، إلا على هذا النحو القدرى الذى إكتشفت فيه كيف أكتب. وكيف أستثمر ذلك فى نفسي. وفي اللحظات الأخيرة، وفي الوقت المناسب، نقول لا شيء يمكن أن نفعله حيال ذلك الآن، باستثناء الانتهاء من مخطوطة إستغرقتنى. فى النهاية لا يوجد سوى أن تمضى بنا الأفكار ونمضى معها نحو الأفضل فى عالم كتابة حّقة. كلمات تنطلق كجرس صغير يتصاعد رنينه في رأسي. عندها تجد صوتك أنت، بدلا من جواب الصمت وعدم الشعور بالكمال، وأن هناك كثير من الأمور والأشياء تريد تغييرها، بعد بعض المفاجآت المثيرة للاهتمام. تكتشف أمورا غير محددة. وعلى محمل الجد أن تفكر في ذلك. وربما في ذلك أمورا تستتبع إعادة كتابة المخطوطة بأكملها وأنت بحاجة الى مزيد من الوقت. متردد بين أن تقول لنفسك: سأفعل ذلك. أو لا يمكن أن أفعل ذلك. وهذا يعني أنه شئ من الجنون. ولا مزيد من الوقت قبل إدراك كيف أنه كان من المفترض إعادة كتابة أو إجراء تغييرات جوهرية. وإذا لم تتمكن من رؤيتها فلن يصبح هناك نصّا حقيقيا. أخيرا، كيف تتوقع الانتهاء من عمل وأنت فى هذه الحالة العاصفة. كما لو أنك يجب أن تتوقع وتعرف مسبقا ذلك. وبعد كل شيء، تقول ها قد فعلت. لم أكن أنا قد كنت بعد. هو ما قمت به فعلا. ومن تلك النقطة بالنسبة لك، لا يمكنك الانتظار أكثر. تفقد السيطرة على المخطوط،  وأنت فى حاجة لتفعل ما كان متوقعا فعله. وبكل معنى الكلمة، يهرب الأمر من بين يديك وأنت معه. وكأن الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تقوم به أن تتسائل متى تأتى هذه الأشياء العظيمة المسماة الأفكار وكيف تنبنى وتستمر. بطبيعة الحال وبعبارة أخرى، كيف يمكنك الحصول على نفسك من خلال فكرة كبيرة. وبحلول نهاية العاصفة ليس هناك طريقة لتعرف أنك فعلت، حتى ترى نصّك بين ناظريك. على الأقل تقرأه وتقول فى النهاية: أخيرا فعلت. حسنا، أيا كان ما شعرت به حقا، قبل وقت قليل، هو أننى كنت ما زلت في منتصف الطريق فقط، ولا يمكننى أبدا مواصلة الأمر أو أستطيع دون هذا الشعور الغامض. وفي وقت لاحق أقول أما زال يمكننى أن أكتب كما كنت. بالطبع لا. كانت مرحلة جديدة وأن أحاول بعناية فائقة وبشكل جدي، متحديا نفسي على ذلك بهذا الرهان. أخيرا حصلت على بداية سليمة. لذلك بدأت كتابة روايتي.. في الواقع بدأت المتعة الحقيقية، في مكان آخر. تتمة مثيرة لرحلة كتابة لا تنتهى، أكثر دهشة من أي وقت مضى..
 وفضيلة الفن تكمن دائما، فى إثارة الأسئلة، لا تقديم الأجوبة.. والأمور المعكوسة في النصوص الأدبية، دائما ما تثير الأذهان، كمرايا للشبيه الحقيقي، من النفس، على أرض الواقع.. لكن، دائما يبقى الكثير من الأسئلة معلقا بلا جواب. والحال كذلك، فى الاعتماد على كل الوسائل الممكنة لفهم النصّوص، وإن لم يكن هناك سابقة مماثلة أو مشابهة، في هذا العالم، يمكن لها أن تحدد لنا معايير التلقى والتأويل. وهو يبرر أن ما نقرأه، يمثل وضعا فريدا في العالم، من عدمه. وتتوالى الأسئلة، في ذهن يصوغها ويحللها، رغم براعته فى البحث عن إجابات محتملة، وتداع واسترسال في هذا المنحى أو ذاك، قبل لحظة لقاء منتظرة، ليجد ما يصبو إليه من طبائع ورغبات أو يتلمس، بحذر، زوايا حساسة وقلقة وقناعات وتطلعات وآلام وآمال. لكن النصّ قد يحمل نقلا ينطوي على كثير من المفاجأة. تتهكم من تنبؤاته المسبقة، منذ إنطلاقه مع بداية النصّ وبؤرة الحدث الأساسية، كسرد خاص يحمل مضمونا ما، وفقا لسياقات متباينة، تثير ردود أفعال مختلفة، فى النفس.. ولعلّ هذه البداية، تؤسس لمفهوم السرد. فمن وجهة نظر مختلفة، من الممكن رؤية السرد الأدبى، وفهمه، فى إطار معرفة ماهية عملية الكتابة نفسها. فعلى نحو قريب، لا تتوقف الكتابة عند العملية الذهنية، التى تتم بها، وكيف تكون. تنظر وكأن هناك بضع شجرات تحوزها.. تنمو بين يديك، وأنت تعلم كيف تنمّيها، فى طريق أن يكون هناك ما تبحث عنه. ما يسمّى بالنصّ المؤثر، والجميل فى ذات الوقت. هى مسألة تختصر قضايا كثيرة، لتكون قادرا، على رؤية كل ما يحدث. هنا قد يبدو الأمر رائعا، لأن تعرف كيف يكون السرد، وكيف تتم الكتابة، وبصفة خاصة فى مجال القصّ الأدبى. وهى أيضا بداية لعملية فهم كيف يكون الإبداع. أن تعرف كيف تخلق حالة إستثنائية من خلال عالم قصصى أو روائي متخيل. وحينما نعرف وندرك ذلك، يتمثل لنا الأمر في إكتشاف مذهل محيّر. الأمر لا يتعلق بمجرد حكاية عادية مألوفة، فالنصّ الجيد بصفة عامة، يبدأ من حالة أو علاقة مضطربة تربك الحياة الرتيبة.. ضد ممارستها الطبيعية. أمر ما يشكل إنعطافا في مسار أحداث، من هذه اللحظة، لا نعاني الضجر والملل.. تبدأ رحلة بحث مضنية ليأخذ السرد، شكل الحبكة المفعمة بالأسرار المتخيلة وكأنه إكتشاف غير قابل للتصديق يستعان به لإكتشاف هوية الكتابة وماهيتها. هو دليل نرى معه وأمر ندرك به مسيرة كتّاب عظام وروائيين كبار. أن نعرف كيف تؤثر فينا نصوصهم. وكيف تلقى هذه الحفاوة فى أنفسنا أهم الأعمال الروائية والقصصية. خاصة فى مجال الرواية التى تتميز كنوع وسرد أدبى، بتعدد الأصوات من صوت الكاتب أو المؤلف، وصوت الراوى وصوت الشخصية الرئيسية. وذلك، فى عملية تداخل يتراوح بين السرد ذى المستويات المتعددة، بل ويتعدّاه بطرق كثيرة من الحوار والوصف والحوار الداخلي أو المونولوج الذي يحاور فيه البطل نفسه حتى يصل إلى الحل الأمثل. وحتى الدور الذى تلعبه جماليات المكان لأماكن أحداث ومناطق الرواية، وجماليات التقاطع الزمنى والتحولات المنطقية أو المفاجئة، من زمن إلى آخر. والأمر يتجاوز هذا إلى ما يتعلق بطبقات هذه الأصوات ومستوياتها وتداخلاتها، والطريقة التى يقدمها بها الكاتب، لتملأ النصّ حيوية نابضة، فتراه كشاشة واضحة، فى أحيان، أو فى غموض غير مرئي آسر يتواجد فى النصّ ويأخذك بعيدا، فى أحيان أخرى..
وهو سرد متنوع وخاص يشكل إيقاعا في فضاء السرد نفسه ويعدد مستوياته من الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة إلى جانب القضايا الكبرى. هذا التنوع المعرفي الذي يثرى العمل. وهناك من النصوص ما يغوص فى أعماق النفس البشرية، كاشفا عن المشاعر الإنسانية البديعة، وطبائع البشر الفريدة. تستطلع المجهول من شجون وهموم وأحلام. تفسر ردود أفعال الشخصيات وحيرتها إزاء الأزمات. تتأمل محنة الوجود والعبثية فى الحياة، باتجاه الماضي أو من الماضي نحو الحاضر. كل ذلك لابد أن يتم فى منهجية فكرية، يدركها الكاتب جيدا. وللرواية عالم خاص ينقلك تماما لرؤيته. وهنا فقط يداهمك شعور تتأرجح فيه بين واقع الرواية وخيال مماثل تصنعه أنت تسير فيه أحداث تلك الرواية. وهذه الفضاءات المتخيلة التى تنهض عليها تصوراتنا وتخيّلنا للمواقف والمفارقات والأحداث والشخوص التي يقدمها العمل أو النصّ، ونحن نقرأ...
ولا شك أن النبوغ الأدبى يشتمل على عناصر كثيرة، من التجديد وروح الإبتكار. وهنا تظهر أهمية الإدراك الكبيرة للموضوعات، التى تتعلق بالنصّ والسرد الأدبى. وهى نوع من مقاربات تحدد القيم الفكرية والجمالية لمَ نقرأ.. وعلى صعيد آخر، تعتبر محاولات ترصد عناصر الظاهرة الأدبية، وخصوصيات الإبداع الأدبى،.. مما يساعد على إستخلاص الملاحظات الجوهرية، التى تكشف عن إشكاليات الكتابة الفعلية، وكيف تكون، فلا يمكن أن يكون الأمر على أية حال، مرتهنا بمسألة الإلهام فقط.. وهذا الطرح لهذه الموضوعات بوصفها، يعبر بدوره عن أهمية المعرفة العميقة، بجوهر الإبداع الأدبي وهو السرد الكتابى، مما يسهم بشكل كبير، في نضج التجربة الأدبية وبلورة سماتها، ويؤدي إلى نتائج ذات أهمية كبيرة، لبلوغ مدراك إتقان، لا تقف عند حدود،.. فيما يختص بماهية الكتابة ذاتها،.. أو فيما يصطلح على تسميته الإبداع. ومن هذا القبيل، لابد من حرص الكاتب على بلوغ هذه الإحاطة بالكتابة السردية وعناصرها، إضافة إلى إستلهام ضوابط الأنواع الأدبية الأخرى ذات الطبيعة المماثلة والمرتبطة بها، رغم أنها حقول متداخلة يصعب تحديد الحدود الفاصلة بينها، إذ تتشابك عناصر كثيرة وعوامل لا يمكن حصرها، ولا تنتمي إلى مشرب واحد، فى عالم الكتابة. وعلى هذا النهج، وعلى الصعيد الإبداعي، في مضمار الكتابة السردية، لا يمكن إغفال أن طبيعة النصّ ببنيته وعناصره ومساراته المختلفة، ليس مجرد أداة للخطاب الأدبي، إنما النصّ الحقيقى ما يلمس الروح، قبل أن يخاطب العقل.. وعلى أية حال، فإن السرد عموما يرتبط بصلات وثيقة، وبعناصر رئيسية تكوّن إختياراته الجمالية وتحدّد مسارها بين جانبي المضمون والدلالة، التى يحملها النصّ. كما أن دلالات السياق فى الكتابة السردية، تلعب دورا كبيرا، في عملية تشكيل رؤية القارئ، وإلتماسه عناصر التفسير  من مظانها المتباينة، ممّا يحيل على ملامح جوهرية يمكن أن توفر القدرة على تحليل المتن، دون أي حكم مسبق أو إستنتاجات غير حاسمة. وهذه التبعية للقواعد المعرفية المؤسسة للسرد الأدبى، قد أمست بالفعل ذات علاقة ملزمة، في جانبيها المضمونى والدلالى، فى ظلّ تعدد الأنواع الأدبية السردية. وهو أمر يسهم كثيرا، فى الكشف بوضوح، عن مرجعية السرد الأدبى وبنيته وأبعاده، مما يسمح، وبصفة خاصة، بتقييم التجارب القصصية والروائية، والتجربة الإبداعية. وبصفة عامة تقييم الإنتاج الأدبي فى مجموعه.. وغني عن القول أن القراءة الواعية تخضع هذه الملاحظات للفحص والنظر الدقيق. كما أن الكاتب الواعى، لا يتوانى عن الوعي بهذه الضرورات، وعن الإهتمام بقواعد الأداء ذاتها، التى تبلور أفكاره، بعيدا عن جمود وخضوع إلى لا شئ.. الأمر الذى يؤدى فى نهاية المطاف، لانصهاره الكامل فيما يكتب، صوب سرد فريد، يستثمر فيه الضوابط التى ترسخ، لرؤية يحملها عن النفس والحياة والعالم، والذاتية والآخر،.. مما يتجاوز تجليات الإلهام ومراحل تطوره ..
وفي الوقت المناسب، ومع حدس غريب يهبّ من حافة العقل، مثل ضوء الشمس، ومثابرة في التماس بعض الأفكار، وطرح البعض الآخر. في الواقع، يمكن للمرء أن يمتلك الخيال. أن يكون في انسجام تام، كمن يجتاز مجموعة من الأشواك تمتد جميع أطرافها مثل سور فى اتجاه واحد، يفصل عن حقيقة الحياة. تبحث في الوقت نفسه عن الكلمات. ثم تظهر فجأة كطقس غير متوقع، عاصفا بهدوء العقل، لأفكار غريبة. ولا تعرف معه كيف تستقبل الحياة، إلا أن تكتب. ومع هذا الشعور الوحيد الذي يتجلى كنوع من الأمل، تتناوب النظرات السارحة فى السماء. يمكن أن تتحمل طقسا، لا يُقاوم. أن تطرق أبواب أفكار لا تنغلق أبدا. لا يمنع العقل عنها شئ. تنتقل ثانية أسرع، من المعتاد، إلى بؤرة شعور مفعمة بالحيوية، مزدهرة.  وذلك أمر نادر جدا، لا يكاد يُعرف كيف يمكن الحصول عليه، وإلا أدرك المرء على الأقل، أنه يمكن أن يكون لديه نصف عقل. أو نوع خاص، من الفكر يستحق عزلة دائمة، قبل أن يستطيع التعبير. ألا تعرف كيف تواجه متوقعا. ألا تعلم كيف يشغللك محاولة تفكير فى عمل جاد، يمكن أن تحقق شيئا عبره، خلال نهار أو ليل. ورغم هذه الحالة، تدرك تماما،  ومن جديد، أنه ليس لديك أي رغبة في موضوع لم تعتاد مثله. أن تنكسر فجأة حلقات الفراغ، فى العقل. أن تلقى ما غاب من علامات طريق، تنبثق منها الأفكار مضيئة نيّرة..
ومن المدهش أن نشعر بمثل هذه التحولات الغريبة، فى أنفسنا. ولحسن الحظ غالبا ما تُعتبر منجما لأفكار نادرة مثيرة، وتكون موضع اهتمام بالنسبة لنا، ويمكن أن تحصل عليها العقول السليمة. شئ لا يأتى إلا بين هبوب وهدوء عواصف الفكر والتأمل، فى غرائب الحياة وصروفها. إنه أمر غريب، لا يمكن تصور كثير من تفاصيله، إلا مع وجود فترة من النشاط العقلي. تستطيع أن تقول معه أنه لم يكن هناك فرصة للتغيير، في الوقت الحاضر، أو للمعرفة لولا ما يحدث أمامنا فى الحياة. أن تستعيد نشاطك وتستعيد الحياة الغائبة، لأفكارك. وفي الواقع، كل شئ يكون متاحا بالفعل، أمام العقل، لكن عتمات داكنة، كانت تحجبه. تسبّبّت فيها سحابات قاتمة. لم يكن ليستطيع أن يبدّدّها شئ، إلا مثل تلك العواصف الفكرية، فى محاولة إدراك ما تقابلنا به الحياة نفسها، من أمور وملمات. ثم تبدأ تتصور أنه سيكون من الحماقة البقاء ساكنا، بلا حراك. تتطلع في وجهك  الأفكار، وأنت متكئ على كرسيك، لا تفكر ولا تتأمل. على أية حال، تحدق أنت فى عالم آخر، تبقى عينيك فيه. تقول فى نهاية المطاف. الآن علىّ أن أكتب أفضل، من أي وقت مضى. وفي الوقت نفسه، تبدأ تشك تقريبا، في نفسك، وفيما تكتب، وفى حواسك، وفى الحياة نفسها.. وربما ترى أنه من الأفضل أن تمتنع، وتتوقف.. رغم أن الافضل من ذلك كله، أن تكتب، ما أثارك. كمن عاد لتوه من زيارة عالم غريب نابض مفعم بالحياة. أو كمن عبر جسرا، لعالم الروح. أن تمسك بأفكارك، قبل أن تهرب، ولا تجدها أمامك، محدّقة فى عينيك، ساكنة عقلك، على نحو غريب. تثور في وجهك بحدة أن من لا يأبه للكلمات، لا تكترث به الأفكار. أو كأن الكلمات  نفسها، من أحجار ضخمة، لا تستطيع لها حملا. وتتسائل كيف تبالغ إذن، من نفسك، متجهما، أمام هذا الميل المفرط، لعدم ثقة فى النفس. ودون أي محاولة يتخللها ضوء ساطع أو دفء حرارة، لحياة.. كيف لا تُعرب عن مشاعر كهذه، تضطرب معها النفس، لتتحقق سكينتها. أنك ما زلت هناك، تحيا وتفكر. في الواقع نهاية واحدة، تسافر بالروح. تعكس وبشكل رائع هذه الحالات الفريدة، فى النفوس. الكتابة. هذا الإحساس العظيم، أن نكون. لذلك نقرأ، ونُحبّ من نقرأ..   

ونكتب لكى نحب. أم نحب كى نكتب. فتلك مفارقة غريبة. لكننى أعتقد الآن وبوعى وفهم، أن الكتابة تقينى من الألم والحزن والتعاسة.. حينما، يختارنى موضو؟ع أو فكرة تنساب، فى العقل، ما لأكون قريبا، كل القرب من التخيّل الجميل. ورغم ذلك يظل الأدب، نتاجا لتأثير خبراتنا الأساسية، ولتجاربنا الحسية، في الحياة. التى تخلق تلك الرغبة الحقيقية والحاجة الملحة للكتابة، بطريقة غامضة وبقدر ما يعنى الأمر، ليأسرنا. وهذا يعتمد على طريقة، ندرك بها، ما يقرّ فى الذاكرة، ويفرض نفسه علينا، ليتمثل أمامنا، بشكل مرئى. لا مجرد نقلا، لواقع. أن نفتش في الذاكرة. لنصوغ، من أحداث حياتية عادية جدا، ما يسمى بالأدب المبهر المتألق. وربما تكون إختياراتنا، لأفكارنا بطريقة لا عقلانية، لمَ تفرضه علينا الحياة نفسها، فتتوالد أفكار أخرى، نجد معها روح حميمية، مع تجاربنا الذاتية، حينما نكتب. فتثيرنا لحظة، أن نجد ما نكتبه، وقد دّبّت فيه الحياة. كرواية تجذبنا. قصة تسحرنا. تصل إلى العقل، بمنطق يأخذنا إلى عالمها، تأويلا للواقع، وليست مرآة له، تعكس تناقضاته. وتصل إلى الوعى بالضرورة. هذا ما ننهل منه أفكارنا، عبر علاقتنا، بالحقائق، من حولنا. سواء موضوعات تطارد مخيلتنا، أم  هروب، من واقع إنسانى نحياه. تمرد على عالم، لتصبح الكتابة حقيقية وأصيلة، بهذا الخيال والإختلاق، الذى يعطى قوة الإقناع والإيهام..

---------------


فى
الكتابة والتلقى
----- خالد العرفى
تفكر فى مثل تلك الأمور التى تستفز الكاتب، تناديه ليكتب، وهى بالفعل تجعله كذلك.. وتتسائل.. فيما يجعلك تستغرق فى نصّ ما، تقرأه.. أهو حرفية الكاتب، أم التعلق به، فيما قرأت له من قبل.. أم أفكار تناسب ما تحب القراءة فيه.. أم اللغة.. أم الأسلوب ؟!
ومن هنا تجد معاناة الكاتب وأفكاره.. أنت تقرأ مثلا لجوزيف كونراد، أو صمويل بيكيت، أو ألبرتو مورافيا، أو هيرمان هسّه، أو فرانز كافكا..، وغيرهم، على إختلاف مدارسهم الأدبية، والزمن الذى ينتمون له.. فتجد تلك الأرواح المبدعة التى إنصّهرت فى الأفكار، وبالتالى النصّوص.. وحينما تستوعب تجربة كل منهم، تشتهى الكتابة كما تذوقوها.. رحلوا وبقى ما أبدعوه.. بل تتمنى لو لم تكن قد كتبت شيئا قبل ذلك، حتى تصل إلى هذا الإحساس العظيم.. وحتى تكون أنت نفسك.. وليس الأمر مقتصرا على الأدب من رواية أو قصة قصيرة وغير ذلك.. يجذبنى إليها ما أشرت إليه من قبل، مطلقا عليه "الدراما الخفية".. وكيف نجد لذة ومتعة القراءة، عبر ما تحمله اللغة من أفكار ومعان ومضامين.. ورغم أنى كرست وقتا غير قليل، ذى قبل، بل أمضيت فترة طويلة وزمنا لا بأس به،  فى محاولة إدراك ماهية الكتابة، ووضعت عدة مقالات فى هذا الشأن من كتاب فى ماهية الكتابة والإبداع.. إلا أننى لم أستطع إلى الآن الجزم بشئ حيال فهمى لكثير من الأمور،.. تتعلق بكيف ولماذا ولمن نكتب.. حتى يصبح النصّ حقيقة قائمة أمام ناظريك.. فمنذ البداية تظل هناك نقطة وحيدة لا تستطيع لها تفسيرا، إلى أن تقودك الصدفة وحدها لتعرف مصدر السّرور أو مبعث الألم ومنبعه، فيما تقرأ من نصّوص.. الكتابة عموما دائرة واسعة، لا تخلو من أن نرى فيها نصّا قد بدأ سريعا وإنتهى سريعا، لكنه بلا أثر.. وآخر قد يستغرق وقتا طويلا، لكنه يترك أثرا عميقا.. غائرا وكبيرا.. يكاد لا ينتهى ويستمر حتى بعد حياة كاتبه، وأنت وراءه ساعيا بكل جهدك لتكتبه.. تواصل خطوة إثر خطوة لتكوين رؤية معينة.. ترى نفسك متعثرا هنا وهناك، قبل أن تصل إلى هذا العمق.. وهكذا، لا يفرغ الأمر من إنطفاء جذوة للفكر، حتى تتقد أخرى من جديد، حول فكرة ما غامضة، لا تراها إلا فى فكرك وحدك.. وتتجاوز مسألة غموضها وتكتشف بصورة أساسية، أن الأمر ما عاد يتعلق بأسلوب أو بلغة، يمكنك الإختيار من بين طرقهما المختلفة، بقدر ما يتصل الموضوع بفكرة ما تستولى عليك وتأسرك تحت رحاها، فيما يعرف بالكتابة الذهنية المحضّة.. وهى تلك التى يضع فيها المبدع روحه وإحساسه، قبلما تطبق عليه بين تفاصيلها، تودى بك حتما إلى مداد القلم.. أمر لا يتم فقط فى شعاب العقل، بين الوعى واللاوعى، ولكنه يتصل بتلك الموهبة الحقيقية التى تنطلق بك لتكتب وتكتب.. ثم تلقى نفسك وأنت تكتب رغما عنك،.. لينطلق ما كتبته بالقارئ فهما وتأويلا وإحساسا كبيرا.. لكنها لحظات نادرة فعلا، وحالة فريدة للكاتب، ولطالما يبحث عنها، قبل أن تجده ويجدها.. على هذا النحو أصبحت ميّالا لهذا النوع من التأمل.. وأتوقف كثيرا فى تقليب الأمور، فى ذهنى.. ومع الوقت تعيد النظر فى كثير مما كنت قد شرعت فيه، قبل ذلك.. وحتى فى صيرورة القراءة الدائمة، تمسي وأنت تحاول الإنتقاء أكثر، لتقرأ بهذا العمق التحليلى وتغوص لتلتقط أفكار النصّ المحورية.. تصل إلى دلالاتها ومعانيها.. وتتحقق من المضمر، وما توارى خلف المعانى، التى تتوارد إلى الذهن، مع الإنطباع الأوّلى، وفى الوهلة الأولى.. بعيدا، عن دائرة الفهم الضيقة أو السطحية فى إدراك لغة الكاتب أو الأديب، ومستوى أسلوبه.. الأمر يجعلك تعيد قراءة كثير من النصّوص كنت قد قرأتها من قبل، وتنخرط بنوع من الحماسة الجديدة، لتكوين وجهة نظر معينة، حول ما لم يصرح به الكاتب، وبعيدا عن أى تخمين أو توقع لك.. لهذا أعتبر نفسي، من هذا النوع الذى يحبّ قراءة أعمال كل أديب أو مبدع كاملة.. أتقصى نضجه الفكرى.. ولنفس السبب، يدهشنى أدب السيرة الذاتية.. وهذا من روعة الأدب ومتعة تلقى النصّوص بهذا الإحساس والتأمل.. وعلى هذا فإيجاد ما يمكن أن يشكل معرفة وفهما نحو الكيفية التى تتم بها الكتابة أمر هام وضروى لتحقيق النماء والنضج أكثر.. فى النهاية معرفة ماذا يقول النصّ، ومحاولة لتقييم الأدب والأديب.. بل وإعتبار الأمر مفتاحا لفهم جوهر الأدب نفسه، ربما نقف على فهم وعلى نحو شامل، لكن ليس بالضرورة يكون جوهريا بما يرضي بسعادة غامرة تبدد كل توتر وقلق.... وعامة فمثل هذه التطورات تشكل جزءا من تاريخ وتطور أى كاتب.. تقدم صورة أكثر وضوحا عنه، وتجربته التى ينقلها للغير.. ولا أحد يصبح راضيا عن نفسه لطالما وقع فى هذه الدائرة، ولم يعرف كيف يخرج من حلقاتها المتتابعة إلا بإبداع جديد،.. ونصّ، له تأويل بعد تأويل.. وهى متعة ولذة الكتابة، وبالتأكيد القراءة أيضا..
وفى مجال القصّ والسرد.. فإن الفكرة كائن حىّ تعطيه أنت من روحك تلك الكينونة، بل وإستمرارية الحياة بعد أن تكتب النصّ.. والسؤال: كيف تبدأ القصة.. أبواقع مجتمع.. أبمكان.. أبزمان.. أبشخصية.. أبحدث أو واقعة معينة...؟!
وليس المقصود بداية النصّ وكيف يشرع الكاتب فيه.. لكن كيف تأتى الفكرة الأساسية.. كيف يبدأ مضمونه فى التبلور والتشكل.. كيف تتسلسل التفاصيل، على نحو ما فى الذهن، قبل أن تتشكل فى النصّ؟!
فأحيانا تشاهد أمرا ما، فتنعكس آثاره على مخيلتك وعقلك.. وأحيانا، تقرأ خبرا ما.. وأحيانا، يكون الأمر إلى خبرتك فى الحياة وما صادفت من أمور.. وأحيانا، تقابل شخصا ما ويترك إنطباعا.. فتأتيك الفكرة ،.. وهكذا، فمصادر الأفكار متشعبة وروافدها كثيرة.. ولكن ما يقرّ فى الذهن فقط منها، ليس فقط مايؤثر على عاطفتك ويلهمك، لكن ما يقول فى النهاية أمرا ما، وشيئا ما.. ومن النادر تحقيق أي شئ، قبل أن تتأمله وتفكر به، وليس الأمر عملية آلية نمطية.. فقد تصبح الفكرة رد فعل ضد الواقع، ورمزا.. تشكل أنت من خلالها واقعا موازيا، موطنه الأساسى فى الخيال.. ورغم تعدد روافد الأفكار وكثرتها، على هذا النحو، قد تجد نفسك فى غالب الأمر، عاجزا عن كتابة نصّ واحد.. وهذه إشكالية تتجدد، إذن الأمر لا يتعلق بالفكرة فقط، إنما يتعلق بشخص وجوهر الأديب وعملية الإبداع.. كينونة الكتابة نفسها، وإلا كان كل يوم قصة وإثنتين وثلاث، أو عدة نصّوص، وعشرات الكتّاب والأدباء.. إن تعلق الإبداع بنفسية الكاتب أمر لا شك فيه.. ورضاه عن نفسه فيما يكتب أمر لا يحدث كثيرا.. ومن يقف على هذه الكيفية والطريقة التى تتم بها عملية الكتابة الذهنية، أولا فى العقل قبل أن تعرف طريقها إلى القلم، يصل إلى سرّ كبير، ويستطيع أن يحل لغزا مستغلقا.. وربما هذا هو الدافع الأول فيمن كتبوا عن عملية الإبداع.. بل والسبب الرئيسى لقلة من الأدباء والكتاب، كتبوا عن إبداعهم من خلال سيرهم الذاتية،.. كيف كتبوا ولماذا كتبوا.. بإختصار ما هى الكتابة وكيف تتم.. وبهذه النتيجة، ليس كل من يكتب كاتبا، وليس كل من وضع نصّا أديبا.. نتيجة حتمية قائمة على التفكر والتأمل.. النصّ الذى يترك الأثر العميق والقوى على نفس القارئ وروحه فقط، هو المؤشر والمعيار.. ولا تصبح اللغة مجرد وسيلة ووعاء حامل، أو ما يؤدى إلى تحقيق ذلك، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالقصّ سردا ووصفا (راجع مقال النصّ بين الوصف والسرد).. كما عليك أن تواجه إشكالية أخرى تتعلق بالأسلوب والمستويات اللغوية المختلفة، مما يجرى فى سياقات النصّ المختلفة.. إضافة إلى سياقات تركيب الجمل، وظاهرة العدول اللفظى، ومناحى الروى ومن يروى، وغير ذلك.. مما يصدمك بالدهشة، وبما لا تظن وجوده فى النصّ من معنى ومضمون، وهو موجود فعلا متوار.. تلك المفارقات الغريبة التى تتراكب كلها، لتؤدى الى تشكيل نصّ مؤثر وقوى، يحكى ماحدث.. فى النهاية، ما يؤدى إلى تشكيل أعماق الكاتب وبنيته، فى جوهره الصافى..
---------------
السرد الأدبى والدراما الخفية
------ خالد العرفى
من أنواع السرد الأدبية أدب السيرة الذاتية وحتى الكتب التى يتم فيها جمع إنتاج كاتب من مقالات وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى مثل الشعر والرواية والقصة القصيرة وغير ذلك.. يأخذك الكاتب حتما إلى عالمه هو. وربما وجدت نفسك وربما لم تجد. ومهما كان ما تقرأ حسب ميولك وحالتك النفسية فلكل كتاب رونق ولذة مختلفة. وتجد نفسك مشدودا لكتاب ما ولا تملك إلا أن تكمل قراءته غير صابر عن التوقف عند مرحلة معينة. والسؤال هنا لم يجعلنا كتاب ما فى هذه الدائرة التى نعدو فيها لنعرف ماذا يقول أو يقدم. الأمر لا يتعلق بمجرد المعرفة التى يمنحها لنا أو يضيفها لمداركنا، إنما يتعدّى هذا. ومن يتأمل الأسباب الكامنة وراء هذا الدوافع الخفية التى تستثيرنا بل وتشدّنا بكل قوة، وتجعلنا مرتهنين حتى تنتهى قرائتنا، يجد فى المقام الأول هذه الدراما الخفية أو الحبكة التى بنى عليها العمل الأدبى فى تفاصيله ومجموعه. تجعلنا نتسائل وماذا بعد؟ ماذ سنجد؟ ماذا سوف نعرف. وتحديدا ماذا حدث..؟! وكيف كان؟!
ولا شك أن اللغة تحمل كثيرا من أساليب الحكي التى تتداخل مستوياتها بين ما هو واقعى وما هو متخيل ذهنى، داخل عملية السرد نفسها. ومن هنا دلائل قدرة المبدع على حبك ما يسرده وسبك ما يتضمنه النصّ من أفكار. إضافة إلى صنع الجمال الذى لابد أن يظهر فى عناصر النصّ الأدبى، وبصفة خاصة النصوص الروائية. وهى الأمور التى تأتى كمؤشرات وإضاءات تنير العمل الروائى. وفى محاولات الإقتراب من فهم النصّ المسرود وفي تحديد الجماليات التى تعطينا لذة القراءة، لا يمكن التخلى عن هذه الرؤية. وعلى هذا لا يخلو هذا التحليل من تماس مع إمكانية تبيّن الكثير من الحدود التى تفصل بين أنواع السرد الأدبية المختلفة. بداية يمكن القول أن السرد ذاته، لا يخلو بصفة عامة من روى وحكي للراوى، الأمر الذى يعتمد فيه أساسا على اللغة ورحابتها الواسعة حينما يستخدمها الراوى أو السارد فى عملية الحكى. ونحن حين نقرأ ليس أمامنا إلا اللغة التى تعتبر فعلا الأداة التى نكتشف بها مسارات السرد وإتجاهاتها وإلى أين تؤدى فى النصّ. فيكشف النصّ عن نفسه شيئا فشيئا،.. وعلى سبيل المثال حينما نقرأ رواية ما حيث يكون هدفنا الكشف عن مسار السرد بمتابعة الشخوص التى تتحرك ومشاهد الرواية وبنيتها القائمة على عنصرى الزمان والمكان.. فإن كل هذه الأمور تحملها اللغة فقط. تلك التى يستخدمها الرواى أو السارد. كما نرى تحولات وتغيرات الراوى نفسه متمثلة فى هذه الشخوص التى يحكى عنها فى سرديته سواء رواية أو قصة. وأنت حينما تقرأ على هذا النحو، تجد أن مآل شخصيات الرواية وما سوف تستقر إليه فى النصّ عبر دراما تتطور، لا يكون إلا فى يدّ السارد أو الراوى الذى يتحكم فى مواقفها المختلفة فى الرواية، وإنعكاسات وردود أفعالها، وفقا لما يراه ووجه نظره التى وضعها فى كل شخصية. تتحرك من خلالها حبكة النصّ المسرود. ليس تبعا لتوقعات القارئ التى ربما تتوافق أو تتضاد مع ما يقرأ. وهذه لذة أخرى للقارئ الذى يتابع القراءة وله رؤية تتشكل ويبحث عمّا إذا كانت ستتوافق مع ما سيعثر عليه فى النصّ أم سيفاجئه الراوى بمناحى أخرى ربما لم تخطر على باله.. وفى كثير من الأحيان فإن النصّوص تعيد تشكيل نفسها كلما توغل الكاتب فى عملية الكتابة فربما يعيد كثيرا ويعدّل كثيرا قبل أن يستقر على شئ حتى وإن كان ما كتب قد تم التخطيط له فى مسودات العمل المبدئية.. فهناك هذا التيّار من التأمل الذى لا ينقطع، طالما  توغل الكاتب وكلما إستمر فى عملية الكتابة فى إطار من مقتضيات الجمال الإبداعى الذى ليس له حدود مع المبدع الحقيقى. ويخطئ القارئ لو أحال كل ما يقرأ على ما يعرفه عن الكاتب، وليس صوت الراوى فى النصّ، وهو أمر يرّد إلى إنفصال ذات الراوى أو إن شئت قل إنصهاره فى الذى يروى عنه وما يسرده فى حقيقة الأمر. بإستثناء ما يكون فى روايات السيرة الذاتية التى يرويها أصحابها. مما يجعلها نوعا أدبيا يقف على خط الإبداع الروائي فى كثير من الجوانب.
سّحر الكتابة
--- خالد العرفى
 إلا بقدر ضئيل من رغبة، وأمام جموح الحياة، وسيطرة غرورها، وبشكل غير عادى. أحيانا، لا يكون أمامك إلا مطاردة أفكار أو آراء غامضة، ضد زيف مشاعر وخيالات من أحاسيس، تصدمك بها الحياة. ولا يبقى فى النهاية، إلا حقيقة وحيدة. لا ترى سواها، ولا تهفو إلا إليها دائما، بينك وبين نفسك. وهكذا، فهناك دائما أمر ما. وهكذا يكون الشأن، من حين إلى آخر، وتلك الأفكار الغريبة، التى تظل ماثلة، وعلى نحو غريب. تتردد هنا وهناك، فى العقل. ويظل الفكر والتأمل، بصورة حية صادقة، بحثا عن الحقيقة. سواء أكتبت أو لم تكتب. وغالبا، ما تكون تلك الفترة المشرقة، التى تسطع فيها الحقيقة، فيما نكتب والعقل والذات، فى حالة إنفصال تام، عن الواقع.. تسمع صوتا، لا تعرف مصدره. لا يكاد يتلاشى حتى يظهر. يرتفع من جديد. تطارد معه الفكرة وتطاردك. لا تشعر بمرور وقت، ولا صيرورة زمن. لحظة آنية ممتدة، فى النفس. تنهل منها، فى عالم خيال. هذا هو الإحساس العظيم المسمى بالكتابة. ربما فيما لم ولن يقرأه أحد، إلا بعد أن يستقر فى نفسك. أما ما يكون، بين دفتى اليوم والنهار، وأنت فى هذه الحالة، فغالب الأمر تحتفظ به، لحاجة فى نفسك. وما يهرب ليقرأ، ما هو إلا شذرات، وربما وضعت صورته الكاملة يوما ما، كما هى بين يدى العقل، وعلى الأوراق. تلك فقط، هى الأوقات المحفوفة، بصداع يموج فى الرأس. فى حين تتسائل:
- ماذا فى الأمر؟..
أشبه برنين أجراس تدق فى الرأس، تغيب فيها الروح. وفى دقائق قليلة، ما إن تصل إلى تلك الحالة، تجد هذا التوحد والتلاشى، وفى نفس الوقت بين عالمى الخيال والواقع، ويدب الدفء في الأفكار، ممتدا إلى الروح والعقل. عندئذ، ندرك هذا الجانب من سحر الكتابة. ذلك هو الشئ المضئ فى النفس، الذى يتسلل إلى مداد القلم، وإن إختفيت فيه أنت، لتبقى هى. تظهر ملامح وتخفى تعبيرات، لا يمكن رؤيتها. وتشعر أنك بحاجة إلى مزيد ومزيد، من غياب الذات، فى الفكرة بقسط وافر من الجمال، لتقوى وتشتد. لتملأ أماكن شاغرة، فى الروح.. وتقول بعدها: الأمر الآن على ما يرام.
 وليس هناك حاجة، على الإطلاق فى توصيف هذه المسألة، إلا لأنفسنا.. نفهم ونعى وندرك ماذا هناك، على تلك الحافة، بين العقل والجنون.. هل هو الإبداع. هل هى راحة نفسية. هل هى المعانى. هل الأمر فى نهايته، مسألة أن نكون. أم أننا فعلا لا نكون إلا بهذا..؟ ومن هنا، تأتى المعاناة والألم.. حتى نصل إلى طبيعة الكتابة وسحرها فى الروح.. بالطبع، هذا سبب خفى لقراءة بعينها، من أجل الإحساس بهذا الدفء الغريب، الذى تبثه فى النفس نصوص فريدة من نوعها.. وليس لغيرها هذا الأثر. معرفة وضياء وإحساس بمعنى، يصل إلى أعماقنا. ومرة أخرى، يترامى إلى سمعك، من جديد هذا الصوت الغامض، وتذهب بك نظرة، تتجه إلى عنان السماء. شئ كبشارة الصبح، بهذا اللون الوردى الغريب. تشعر أنك على وشك العثور على نفسك، فتعتريك دلائل الدهشة. تنظر فيما حولك، ولا ترى شيئا. وفى وقت، ترى فيه بعينى عقلك كل شئ، بما فيه الكفاية. وأحيان أخرى ورغما عنك، لا تشعر إلا برغبة مواصلة، تلك النظرة الخالية من أى حياة، أو إهتمام بها، كمن فقد الوعى. بما يشبه إحساسا ببرودة شديدة، تسرى فى الأوصال، فينعدم الإحساس، وتموت موتا بطيئا، الأفكار. لا تدرك كم من الوقت مضى، وكم يبقى لتقضيه. بل الأكثر دهشة من ذلك، أنك نفسك، لازلت على قيد الحياة، ولا طالما تحسب عليها. وفى أحيان أخرى، لولا حدوث أمر ما فجأة، ما حدث شئ فى النهاية، وما كتبت ما لا يخطر على بال، أو خاطر. فقد ترى بالمصادفة أمورا غريبة، تدور من حولك، فتحس بشعور الإكتشاف، وتدرك معناه فى متعة شديدة.. وإن لم تكتب للناس، أو ليقرأ أحد. ومن المحتمل، أنك لم تكن كذلك، على الإطلاق، ولم تكن تفكر فى شئ، من هذا القبيل، فى يوم ما. ولكن بت تفعل، محاولا أن تعرف ذاتك..
حالة خاصة
------  خالد العرفى
 لبعض البشر حالة خاصة. نوع من الجاذبية غير معروف سببها. ربما لم تكن تعرف شخصا ما من قبل، وما إن يقع ناظراك عليه تجد نفسك أسيرا مشدوها. تندهش أكثر من نفسك أنت، وأنت تحاول فاشلا أن تعرف سببا لهذه الحالة الغريبة، التى تصيبك. حالة نادرة، تتوقف معها الحواس ولا نشعر بها إلا حياة فى طيف. فى نهاية الأمر لا نجد أنفسنا، إلا ونحن مقيدون بالتفكير الدائم به. ولا سبب إلا أن نقول فى النهاية، إنها الروح ولا غيرها. شفافية ورٍّقة ونور. ما ينفذ إلى روح أخرى، بل ويخترقها. تكاد ترى ما بداخلنا وإن لم ننطق.. ويقول الصمت كل شئ. ينعدم إحساسنا بمرور الزمن، وتتمنّى أن تظل اللحظة أبدا. ونحلم أن تستمر إلى ما بقى من عمر. غريب أمر أرواح تتآلف، وإن لم تتقابل من قبل. وربما يكون هذا السبب الأعظم فى الحبّ. وأغرب أن تتألم به وتتعذّب. تتلاشى به الأرواح فى كل همسة، وكل ذكرى.. ربما فى كلمة. ربما فى تنهيدة. ربما فى نظرة شاردة.. فى أرق. فى قلق فكرة. وربما فى لمسة، لم تكن يوما. لذلك أن تعيش قدرا غريبا، فتكتب. فهذا بإختصار ما يحدث.. ولا تعرف تماما أين تلك الضفة الأخرى من الحياة، إلي حيث تغادر الروح.. حينها فقط تشعر أنك تريد أن تكتب، ولا تريد غير ذلك. وربما تحيا من بعدك معان، تحمل شيئا من ذاتك، لمن لا تعرف أنه قارئ لك ذات يوم. وتنازعك الرغبة بين ضفتين تمتدان بين واقع وخيال. بين ممكن ومستحيل. وهنا نكتب من قلب هذا الشئ المسمّى الألم. بين ما نريد وما لا نستطيع. بين ما يصفك ولا تستطيع وصفه. فى هذه الدائرة الموصدة، وفى حلم وراء حلم. وربما ما يمكن أن يكون النوع الوحيد من الوهم الجميل فى الحياة. ضد الواقع وضد كل شئ، لا يعطينا جوهر الحياة.. وكم من وحيد بين الناس يحيطون به ويأنسون. وكم من غريب، فى فيافى الحياة، آنس بكل شئ، وبالوجود يأنس. غريبة حقا هذه الحياة، وأغرب أن تدرك ما فيها من مآس. تخفيها ملامح الحياة، وتواريها أنفس غريبة، إلتقت قدرا. وربما إفترقت بين ضفتىّ الممكن والمستحيل،.. بين الواقع والخيال. فى دائرة إنتظار، لما لا يأتى أبدا. لمَ لن تراه،  إلاّ فى أحلام يقظة، أو أضغاث أحلام. وربما فى حالة واحدة. حينما تغادرنا الروح ولن تعود، من تلك الضفة الأخرى البعيدة. ولن يكون هناك من يجيب عنّا حينئذ أين ذواتنا. كيف كان مصيرنا. ما ضاع منا ضاع. غير تلك الأسفار. وما يبقى من بعدنا غير كلمات، تاهت بين ضفتىّ ما نعرف وما لا نعرف. وفى لحظة يدركنا ما يدرك من أنفسنا هذا المصير العجيب، حتى نظلّ نكتب لمن لا نعرف. بقدر غريب. وهكذا يصبح الكتّاب والأدباء فى قبضة الخيال. يحيون هذا الإحساس العظيم الذى طالما بحثوا عنه.. الكتابة. ومن معاني الحياة نفسها، وبشكل ما، أن تختفي الإجابات، نهائيا. وبدون المعرفة، ودون تحديد يستحيل اليقين، حتى تقف أمامها، قائلا. لا أعرف. لا أعرف. ينقلب كل شئ من جديد، إلى سؤال عن مبتدأ هذا الشعور ومنتهاه ومآله. ومن نسيج الحياة وصيرورتها، توالى الأسئلة المحيرة. أن نكتشف أنها لم تعد نفس الحياة كما عهدناها، أو فيما كنا نحسب. شيء لا يحتاج إلى تبرير، وأمر لابد أن يمضى دون سؤال.. مصائر إلى فراق وعدم، أم إلى بقاء في ألوان وجد وفقد. وتطوي تلك السرائر محترقة، في ومضات خاطفة. وهو ما يغلب على فعلنا فى الحياة الغريبة. ولا يبقى إلا الذكريات، بعد أن تكون قد مضت بنا خطواتنا، إلى مقام سراب. بأي معنى، نتجاوز الوصال مع المعرفة، إلى علاقة وجد وألم، وفقدان لليقين. منفي للذات فى آخر.. ولا يروم علاقة كهذه سوى يقين، من نوع آخر. أنه القدر ولا شئ غيره. نفقد الشئ، فنعرف أننا لن نعوّضه. ومن هنا يأتى الإحساس بالفقد. وأشدّ فقد أن تفقد ذاتك، فلا تعود. من رحلة شاقة، لعبور الروح، إلى سر الوجود. رغبة في البقاء. رغبة في لحظة تجلي للحقيقة. وأن تكون .وأصعب صداقة أن تصادق كاتبا أو أديبا. لذلك، فإن من الأدباء والكتّاب من يعزف عن الناس. فإذا سألت أحدهم لمَ؟! أجابك خوفا عليهم..! فإن تأملت الإجابة وجدتها صادقة، إلى حد كبير.. 
وهذا يذكرنى بمقالين كتبتهما بعنوان (صوت المكان وظلاله - وظلال الكلمات).. فالكاتب طائر يحلق هنا وهناك، بأفكاره. وليس مسئولا عن أثر ما يكتبه، على من يعرفهم أو يعرفونه شخصيا، ويقرأون له. كلُ يرى ما يحلو له. يؤول ما يهوى. أن يكون من تفسير ورؤية، يسقطها على نفسه. فرحا وحزنا. سعادة وإحباطا. وغير ذلك من أحاسيس ومشاعر وهواجس نفسية، قد تصيب لسبب ما، مثل هؤلاء وأولئك، وهو يكتب قبل أن يعرفوه، وبعد معرفته. وهناك من بطبعه ليس إجتماعيا. والوقت بعيدا عن الناس، أفضل كثيرا، من القرب منهم. فما بالك من يحتاج وقته، لعمل أو تفكر أو قراءة. وغير ذلك من شأن. أكاد أجزم أن غالبية ندرة البشر هذه، من الكتّاب والأدباء، تكاد تنحصر فى نوعية من الصداقات النادرة جدا، مما يطلق عليه بصديق العمر. صداقة خالصة عن كل غرض ومصلحة، وبعيدة عن كل تأويل وتفسير. ليس فيها تملق أو رياء أو نفاق أو مجاملة. يكون فيها الكاتب أو الأديب بمنأى عمّا يعكر عليه صفو حياته. طائرا حرا، وأفكاره وخياله. لكن ليس هذا أن يكون المرء بعيدا، عن الناس أو فى جزيرة منعزلة. إنما المقصد أن يكون وشخصيته وإبداعه، وسط الناس وليس منهم فى شئ. ينتمى إليهم مكانا، وبعيدا عنهم فكرا وتأملا. فالأفكار عادة منبعها الواقع والناس والمواقف التى نقابلها، فى الحياة.. قدرا من حقيقة، ينبنى عليه الخيال ويتسع، ويكون الإبداع، وتكون الكتابة. كما أن هذا لا يعنى بالمرة أن المسألة تعتبر لغزا مستغلقا، الأمر ببساطة، حرية القلم وصاحبه، كيفما وأينما ومتى كتب. دون أن تقيده قيود، أو تعيقه أفكار عقيمة، عن أن يكون. وهذا جزء ضرورى من حرية القلم وحرية الكاتب وأفكاره، وإلا لن يكتب شيئا حاسبا لكل كلمة أثرها على هذا أو ذاك، ممن يقابلهم فى حياته العادية، مثله مثل كل البشر. الكاتب فى النهاية إنسان، وسط الناس، إنما قلمه، طائر محلق، فى رحابة السماء، متى وكيفما شاء، ضد متناقضات الحياة نفسها، حتى نكون.
----------------
ومن أجمل ما يمكن أن يقابل الكاتب والأديب قارئ يقرأ أعماله بالقراءة متعلقا به، ويقدره.. الأجمل أن يقتنع هذا القارئ بما يقرأ، حتى يظن أن الكاتب هو كل الأبطال الذين يكتب عنهم فى أعمال قصّا ورواية. إن خيال القارئ فى هذه الحالة أكبر من خيال الأديب. فهو يلبسه كل سمات تلك الشخصيات التى أبدع فيها. فبلا ريب أن عدد الشخصيات الخيالية فى القصص والرويات يفوق ذهن القارئ ومن هنا يتصور أن كاتبه هو من يقرأه. وليس بشرط أن تكون هذه الشخصيات حقيقية من الواقع. فالمبدع عامة، خياله خصب وهو يبنى العمل كله من السرد القائم على عنصر الخيال. وإلا كان كل روائى وقصاص هو كل تلك الشخصيات التى نقرأها له. وهناك أعمال أدبية عظيمة لأدباء تعدت شخصيات العمل العشرات فى العمل الواحد بين نساء ورجال. أنظر مثلا لأعمال تولستوى وبلزاك وغيرهم عالميا. وعريبا محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان والسباعى وغيرهم. بالكاد تستطيع حصر عدد شخصيات كل عمل، مستغرقا معهم. إن نجاح الأديب فى أن يصل بالقارئ إلى مرحلة من التلقى يتصور فيها أن ما يقرأه واقعا هو فعلا نجاح له. وقد ذكرت فى مقال سابق أهميه دور الخيال الموصل إلى الإيهام بهذه الدرجة الفعلية فى ذهن القارئ. ومن قبيل التذكر العجيب تذكرى أنى كتبت مقالا آخر منذ فترة عن مشاهدات حفرت فى ذاكرتى من الطفولة. ومنها ما أسميته بالرجل القطار، وجاء ذكره فى المقال أشبه بقصة قصيرة ولكنها من الواقع الفعلى، وتخيلت فعلا باسما لو أننى فعلا هذا الرجل البخارى هائما والها، كالرجل وأبيت بين القطارات وأقطع طول وعرض المحروسة من الشمال إلى الجنوب، بدلا من طريق بمدينتى الساحلية. إن قوة الكاتب فى قوة خياله بالدرجة الأولى والتى لا تأتى فى لحظة إنما ورائها سيل من القراءة والتدبر والنظر فى الحياة. فربما إستفاد الأديب من خبر يقرأه هنا أو هناك، وربما مشاهدة عابرة فى طريق، وربما من شخصيات فعلية قابلها فى حياته. وربما من ذكريات تستدعيها الذاكرة. إن أدب ديكنز تقريبا كله مبنى على إستدعاء ذكريات من الماضى ومشاهدات فعلية فى لندن الفيكتورية. وعظمته فى توظيف هذه المخزون الهائل الذى نقرأه فى أعماله العظيمة. ولدينا محفوظ الذى صرح بأنه كان يسقط على شخصياته التى كتبها مما قابله فى الحياة. فى الواقع على الأديب أنا ينصت لكل شخصية يقابلها ليستفيد من وجه الحياة هذا. فأنت لن تكتب عن محام أو مهندس أو عامل أو طبيب وغيره، دون أن تعلم لغته وطبيعة عمله. هذا تماما كمعرفتك بتفاصيل المكان والزمان الذى تكتب عنه. وبدون هذا لن تكون هناك جماليات أو قيم فنية فى العمل يشعر بها القارئ ولن تكون هناك قوة إيهام وليس هذا معناه الإستغراق فى التفاصيل إنما للغة كذلك لها دورها فأنت عندما تكتب عن الريف غير ما تكتب عن البحر أو المدينة. وإذا لم تنعكس اللغة وتلك القيم الجمالية مع عناصر العمل فلا أشعر أن هذا العمل يستحثنى لأكتبه. وعادة يكون دور الخيال فى الربط بين هذه العناصر أعمق. فأوقات اليوم لكل منها سمته وتأثيره فالفجر غير الشروق غير الضحى غير الظهر غير الأصيل غير المغرب. وهذا ينعكس على طبيعة النشاط الإنسانى والحالة النفسية. فما بالك فى موقف أن تصفه فى قصة أو رواية يدور فى ساعة من هذه الساعات. مع ربط الوقت بالمكان فيختلف الأمر تماما. فالغروب تراه من قطار بخلاف ما تراه على أفق صحراء أو ارضا زراعية أو بحر، فإن ربطت بين الزمن والمكان والحالة النفسية للشخصية أو البطل مع تأثير القصّ بصوت الراوى أو حتى الحوار فأنت فى طريقك لإيهام القارى بصهر هذه العناصر مجتمعة، فى بوتقة واحدة.. أنا قد يستغرقنى مثلا النظر فى واجهة مبنى متنقلا ببصرى تلك الزخرفات والجماليات وربما أتخيله وهو يبنى.. وربما أبحث عن تاريخ المنطقة التى أكتب عنها وبدون هذا لا أقدر أن أكتب عن المكان وهذا يذكرنى برواية الرحيل شرقا والتى اهتممت بعنصر المكان وتدور أحداثها فى الاسكندرية. فأحداث الرواية تتراوح بين الحى الراقى كفر عبده فى منطقة مصطفى كامل باشا ولوران وسيزينيا وبين مناطق شعبية قديمة، وأماكن أخرى عديدة. إضافة لطبيعة المبانى التى تسكنها الشخصيات فتؤثر عليها وعلى سلوكها وبالتالى فى العمل. هذا أسميه صوت المكان وظلاله التى تلعب قدرا كبيرا من الأهمية فى العمل مستفيدا كثيرا من المراجع والمصادر التى تتحدث عن ذلك.  من هنا لا أندهش لقارئ يتوقع أن يكون ما يقرأ حقيقة، فأنا أحاول بقدر المستطاع، إيجاد هذا فى العمل مع الحبكة التى تطاردها فى نفسك وخيالك فقط . عامة، هى ملاحظة عابرة، تولد منها هذا المقال المختصر ربما أجد فى يوم من الأيام أديبا كان كل هذه الشخصيات فى الحياة التى يكتب عنها، وهذا مستحيل، إنما القراءة ومعايشة وملاحظة الحياة بالوجدان ودور الخيال، وتذوق القيم الجمالية، هى ما يجب أن يتوافر عند كل مبدع.. وإن إفتقد قلم الكاتب تلك الروح، الوهاجة، فلا تنتظر أمرا، فى مضمار الإبداع الأدبى. إنه وهج القلب، وإشعاع الروح. تماما، كما لو فقد الفنان إلهام ريشته، على لوحته، فلن يبدع أو يرسم، فلا روح للألوان ولا شئ نابض بحياة، بدون هذا، قط. 
---------------
لذة القراءة.. هذا اللغز..
--------- خالد العرفى
لم تفارقنى هذه الصورة فى ذاكرتى منذ رأيت هذا الحلم الذى رافقنى لسنوات. حتى إنطبع ما كان خيالا على الواقع تماما. إنطبقت نفس الملامح فى عمق ما كنت أراه يتماهى أمامى. أفق نورانى غريب لا يراه أحد غيرى مهما ذهبت وأينما ذهبت. لم يذهلنى شئ قدر ما أدهشنى وحيّرنى هذا التطابق القدرى العجيب. أكاد أقول لنفسي لنا نفس الملامح. نفس المسير. أتبعها وتتبعنى تلك الأحجية العظيمة فى حياتى. اللغة وأثرها فى النفس. جمالها الهادئ ونورها الصافى بم يدخلنى فيما لا أعرف من حالة شعورية ولا أستطيع لها تحديدا أبدا..
هذا اللغز الذى لم يشغلنى شئ بقدر ماشغلنى محاولة فكّ أسراره فى نفسي.. فكان منه الرفقة والزاد. ودائرة الإلهام. وما كان الشعر فى ذلك رغما عنى، إلا قدر، وبقدر أغرب. وما تمنيت أن أكون شاعرا أبدا كما ذكرت من قبل مرارا. حتى فى تلك الكلمات التى زعمت أنها قصائد إنما هى من هذا الطيف الذى أستلهم منه كل معنى ووجود للكلمات، يصدح بمكنون النفس بين هدأة ولوعة وغضب وإشتياق وفقد ورقة. وغير ذلك من مشاعر وأحاسيس وجدانية، تحمل معها الذات ووجودها، راحلة إلى جنبات هذا العالم الذى يصطدم بالواقع بل ويغايره تماما. كل معنى تأصل فى النفس نداءا للروح فى هذا العالم الغريب الذى لا يشعر به إلا نفس واحدة فقط،.. يقينا لا وهما. بعيدا عمّا يمكن أن يقوم به الإبداع أو الكتابة فى مجال القصة القصيرة أو الرواية وغير ذلك.
ولا أعلم شاعرا قط شرح أشعاره. ولست فى هذا الصدد بمنأى، ولست أزعم الشعر، إنما أشير فقط إلى ما ينتاب المرء من حالة نفسية أشبه بديمومة رحيل فى المعانى، ليس لها من إتصال بما يأتى به الخاطر أو يشرع فى كتابته الكاتب من ألوان الإبداع الأخرى. ربما هذا السبب الرئيسى فى ركون بعض الروائيين إلى الرمز الشعرى واللغة الشعرية فى كتابتهم للرواية لما تلقيه هذه اللغة وظلالها فى النفس وتأخذ بالقارئ إلى تأويلات كثيرة موازية يكاد لا ينحصر مدلولها أو تفسيرها فى أمر محدد، لما يرجع إلى إقتران الشعر من مقومات الذاتية. وهذا من أثر اللغة فى المقام الأول فضلا لو تأطرت معانى هذه اللغة إلى مستوى الكلمة والمفردة الواحدة فى إطار مضمون درامى ومعنى كلى شامل لإحساس الشاعر وتجربته النفسية. وهى دفقات شعورية وشلالات من الأحاسيس المتنوعة فى إطار أمر واحد تتعدد صوره تؤدى فى النهاية لهذا المضمون الكلى. وأجدنى فى هذا أنساق فى قراءاتى إلى الموهبة الحقة والفذة التى تترك فى نفسي هذا الأثر الفريد وليس لغيرها ذلك. أتواصل مع المعانى البديعة والأفكار الصاخبة التى تثوّر هدأة النفس وتودى بها إلى دروب تأمل بعيدة كل البعد عن كل ما هو معتاد مما نجده هنا وهناك. ومن حذقَ من كتّاب القصة والرواية يعلمون هذا الأثر الكبير الذى تتركه اللغة وأسرارها فى النفس والروح. علاوة بالطبع عن المعنى الكلى.. تلك الدروب المتشاعبة – حديثا عن اللغة- التى تلتقى كلها فى ذات التأثير، مهما كان اللون الأدبى رغم تغاير مبادئ وكيفية كل لون منها.
والأمر هنا أشبه بمن يفتقد بوصلة ما للتفسير ولا يجد غير الكلمات واللغة تحمل المعانى. فإن كان الأمر شعرا، فهو لون أدبى له قرائته وإحساسه الذى يغوص القارئ والمتلقى فيه بحثا عن المعنى والتجربة الذاتية والوجدانية للشاعر أيا كان نوع هذا الشعر، من شعر كلاسيكى إلى شعر قصيدة النثر وحتى مستوى قصيدة البيت الواحد والومضات الشعرية.. وإن كان قصة قصيرة فلها مقوماتها ورؤاها. وأيضا الأمر كذلك بالنسبة للرواية. وهكذا أيضا بالنسبة لجميع الألوان والأنواع الأدبية والتى تقدمها كتب النظريات الأدبية والنقد الأدبى الموضوعى والتى لا غنى للمبدع عن قرائتها مثلما تماما يقرأ إبداع الأدباء فى هذه الأنواع. حتى أننا نجد من نقاد الرواية على سبيل المثال من يؤسس لكيفية تلقى النصوص والقراءة الواعية للرواية فنجد من يفرد فصولا فى مصنفاتهم للغة فى الرواية وأثرها وكذلك القصة القصيرة.. ومن هؤلاء " روجر ب. هينكل- Roger B. Henkle"  فى كتابه الرائع القيم (قراءة الرواية- مدخل إلى تقنيات التفسير). وهو من الكتب القليلة بل النادرة فى هذا المجال لإدراك مغزى الكتب ومراميها وكيف تحدث تأثيرها فى القارئ وما تصنعه من صور التشخيص والتصوير والتشكيل اللغوى وتحديدا الرواية، بإعتبارها عمدة الأدب الموضوعى، بحيث تكون أساسا صالحا لفهم أية رواية خلال عملية قرائتها ليست النقدية فقط بل عملية التذوق الشعورى للنص. وهو ما يفوق عملية النظر العقلى والجدال للتمتع بلذة النص- وتبين ما يجب إستكشافه. الأمر الذى يحقق التفسير الضرورى لما يظهر أو ما يقدم فى النص من أفكار عبر القراءة، ومع ممارسة القراءة خلال كل مراحلها لتفسير عملية القصّ ذاتها. حيث تتشكل الأسس العامة والملامح الجوهرية لنظرية القصّ إرتباطا بجمالية الفن حيث تظل القيمة الجمالية هى الغاية المنشودة فى كل عمل فنى وأدبى مهما كان مستوى أو درجة موضوعيته. وهى القيمة ذاتها التى تسبق كل قيمة يمكن توقعها من القارئ والأغرب من المبدع نفسه. وفى النهاية إدراك تلك العملية المعقدة الخصبة فى الذهن والوجدان وكيف تتم وكيف ينهض بها الكاتب فى نفسه قبل نفس قارئه. وتناول فيه كيفية قراءة الرواية من مناحيها المختلفة وكيف تتم الإستجابة الخاصة فى عملية القراءة وكيف يتم الربط بين العناصر التى يقدمها النص السردى الروائى قياما على عناصر الرواية من تشخيص وبناء ومشهد. ولعل من أقيم ما تطرق إليه محاولة تصنيف أنواع الرواية فى فئات محددة والمقومات التى يستند كل نوع منها بغرض توجه القارئ بروحه وعقله إلى تلقى النص على أساس واع من الإدراك وكيف تتحقق هذه المتعة الوجدانية والذهنية.. الكتاب يدهشك فعلا بعمق ما يتطرق إليه ولا يقف على مجرد تصنيف الأعمال الروائية إلى أنواعها الإجتماعية والنفسية والرمزية وغير ذلك بل يتجاوز ما يقدمه الكتاب من محاولة كيفية تفسير النص الروائى إلى ما يلقاه القارئ الواعى الذى يجد الكثير والكثير من الإفادات. ومن ذلك التحليل لعملية الكتابة نفسها لدى الكتاب وتلك الحالة النفسية من اللاوعى التى تصل إلى حد يتحكم فيها المبدع وهو يدرك ماذا يفعل لخلق الأثر على القارئ. وهذه التحليلات التى مال إليها روجر هينكل فى فصول كتابه جديرة بكل مبدع فى مجال القصّ أن يقرأها لتضيف إلى تجاربه. ويتحراها لتزيد خبراته من أمور قد تكون غامضة قبل ذلك فهى تنير له الطريق. وتفتح له آفاقا.. 
---------------


على ضوء الحقيقة*
------- خالد العرفى

مستثارا ببراح الفضاء، وهدير أمواج، تتكّسر على الصخور. وأمامى ذراعا البحر، يُحوّط بهما خميلة زرقاء فيروزية. مجدافان، يمضى بهما، كما كان دوما، بحرا، لا ساحل له. كنت أبصر إلتحام السماء الممتدة، وإنبساط الفكر، سابحا على صفحة بعيدة، فى ضوء الشمس. كان كل شئ يسير بشراع الهدوء التام. نحو مرساة ومسافات تنأى بى، ولا أراها إلا بعقلى. أحدق فى أقاصى الأفق، فى سكون بداية ساحرة، لا نهاية لها. أبدية، أرى معها العالم على جناح طائر، وفى حبة رمل، وشمس ساكنة كبد السماء. إطلاقا، ما إقتبس البحر روعته، فى مخيلتى، إلا من فكرة واتتنى. بدت لى غريبة أول الأمر. على أية حال، وبدون خيال، لم يكن لدى، إلا واقع، لا أقصر عنه. كما هذا البحر أمام ناظرى. وأفق، بشراع الروح،   أبحر فيه. هكذا الذكريات. وبين خيال ليس له حدود، نصنعه نحن، وواقع رأيناه. نحن بين واقع متشظ، من حولنا، مثل زجاج مكسور، على شاطئ مجهول، وقد إتسعت دائرة صوره، محطمة بين الرمال، فى شكل ذكريات حادة. تطاردنا، موجة وراء موجة. وسواء كنا نحن فى مركزها، أو أحاطت هى بنا، نمضى. ونتغلب على صعوبات الحياة، وأطلال لا تذيبها أمواج. نتفكر ونتأمل، بين ذكريات مضت، وأحلام هى ذكرياتنا، التى لم تأت بعد. الأحلام، هى السفر إلى المستقبل، الذى نحاول أن ننسى به ماض. شئ من ضوء أمل، يغير مصير كان لنا، يوما. مسيرة نصف طريق إلى الأمام. من منا، لا يحلم. قليل من يعثر على هذا الأمل، بشراع سفر. يبحر، ويحيا به، حلما وراء حلم. يحقق ما كان مستحيلا. وهكذا الذكريات. ذكريات وذكريات. وبدون إستحضار روح البحر، ونواته العاصفة، فى مواجهة تفاصيل غريبة للحياة، لم يكن يمكننا أن نستوعب حقا، أو نحيا، فى هذا الواقع. وبما أننى مرتبط إلى حد ما، فى هذه الأفكار بروح البحر. فستبدو فى بقعة ما، ذكرياتى، ومن وقائعها، كلّفات خيط غزل ناعم، من أفكار، أو كومات من طحالب بحر، ملتصقة بصخور الشاطئ.، علىّ أن أمضى بينها. ذكريات، خضعت لحكم محاولاتى الفاشلة، كيلا أتذكرها، إلا كما وقعت أحداثها، طوال سنين بعيدة. من المؤكد، أن ما حدث فى هذا الآن البعيد، وما رأيته فى حياتى، قد أصبح جزءا منى، هناك حتما ما يذكرنى به، فلا أنساه. ولكن يتحتم على أن أضعه أحيانا، خلف ظهرى، لتسير الحياة، وأسير معها. أن يصير كل ما مضى، عابر سبيل علينا. لانستكين له، ولانستسلم. قطعا، هناك دوما، ما تكون أنت منه. وأيضا ما يكون منك. لكن، هناك فرق كبير، أن يصبح شئ أو ذكرى ما، جزءا منك، وما أصعب أن تكون أنت نفسك، شطرا لشئ، أو جزءا من ذكرى، تبقى لغيرك. تشعر كنبتة صغيرة، تتعرض لعاصفة رعدية في صحراء، كما لو كانت، حاضرة عليك فقط. واجهت مصيرا، دون كل هذا البراح. يُودى بها، إلى أسفل هاوية التفكير. أواجه هذا وأنا فى أكثر من عمل فى ذات الآن. مفكرا فى هذه الأفكار. وعلى الرغم من روعة المكان، والبحر أمامى، إلا أننى كنت أشعر، أنى لست أبدا على ما يرام. كان هناك شعور غريب، أنه يوجد شئ ما، أولد منه. أتعرض لإرتباك كبير، لا حصر له، كلما انتقلت خطوة، قبل أن أتمكن من متابعتى، لخطوة أخرى، فى أفكارى. كانت رائحة الطحالب المتراكمة، مشبعة برائحة اليود الحية. تذكرنى برائحة بواقى أوراق الشجر، والنباتات الجافة، بجوار سياج حديقة قديم، ضرب له مكانا، في ظلال الأشجار الكثيفة، فى الذاكرة. لم أشأ أن أفرط فى إحساسى هذا، أو أترك نفسى لإنطباعات أصابتنى، عن الماضى. حريق. دخان. وضوء أحمر يتلاشئ ببطء. أشعر بهذا ولا أراه. ومع كل موجة من البحر، أسمع صوتا غريبا، بصوت عال، فى رأسى، ينادينى، لأكتب. قبل أن أجد بابا لم أفتحه، من قبل. بدأت أتذكر، وبدا الباب منفتحا، سفرا إلى ماض بعيد، مع دوران ساعة، تذكرنى أن هذا شئ جديد. فكرة حملنى معها صوت أمواج البحر، لضجيج ذكريات، إنصبّت مثل عيون طوفان، ورأيت كل شئ يمرّ أمامى. أتسائل، لعلها تكون رواية لم أكتبها بعد. لكننى أعرف نفسي حقا، وربما لا أكتب، الآن شيئا. ويصبح كل شئ مجرد فكرة عبرت، على شراع سفر فى الخيال. وبين الأدب شعرا وقصة ورواية، وبحور العلم والكون وجمال الفن، أقضى حياتى، مسافرا فى الوجود. وأتعود من نفسي، مثل هذا، فقد يمرّ عام أو آخر، ولا يصدر لى شئ. وسرعان ما أجد نفسي، وقد إنتهيت ربما من عملين، فى نفس الوقت، كما هو أمرى، من قبل، حينما أجد الزمن يمرّ، ثم يصدر لى كتابان أو أكثر فى نفس العام. وربما يمرّ وقت آخر عقيم، وربما يكون الامر مرده، لإنشغالى بأكثر من كتاب، أعمل عليه، وأتنقل بين أفكارى، من كتاب إلى آخر. ليس المهم صدور كتاب، بقدر ما تجد نفسك حقا، وأنت تكتب. لا أكتب، لأكتب، إنما متعة الكتابة فى حد ذاتها، وأن يحيا ما تكتبه من بعدك. هكذا، عالم الكتابة معى، عالم فريد حقا. عالم قلم غريب الأطوار. تتنقل بين أفكار، وتفعل فيه أشياء عير نمطية. مؤخرا مثلا ضممت مجموعتين من القصص القصيرة معا، فى مجموعة واحدة، بعنوان إنتماءات غير موسمية، ولم أكن أفكر فى ذلك، حتى فعلت. ووجدت الأمر أشمل لرؤى ومعانى. فإنتمائى فقط، لما أعتقد فيه، وأحب أن أقوم به، عاثرا على معنى لما أكتب. هذه متعة فكرية كبيرة. وأنا بين هذا، وذاك أحدّق فى أفق المعانى، واجدا المسألة أعمق، وأجمل. ومن هنا، لا أستغرب من نفسي شيئا، حينما أشرع فى الكتابة. قبل أن تعانقنى أفكار جديدة، وإن لم أكتبها فعلا. لكننى، تعودت هذا، وأكسره فى أحيان كثيرة، بالتأمل، مكتشفا ماخفى عنى، من أفكار ورؤى. فلا عادة ولا منوال، بالمرة فى الكتابة..