سرماديا

سرماديا

الحياة والذكريات

الحياة والذكريات 
------ 

1 -  الذاكرة بين سطوع وأفول
2 - ماذا نذكر حتى ننسى؟!
3 - الألم وقوة الحياة
4 - من تجارب الحياة
5 - الحياة والذكريات
6 - رهبة الذاكرة  
------ خالد العرفي
كأنها المرة الأولى لك، لا تفعل شيئا قط، غير أن تعيش تبدلات، وتغيرات، لا تكاد تلحظ، أو يلاحظ أهمية أمرها، إلا أن تواصل الحياة بها، بينك وبين نفسك. لا أحد يستطيع مشاركتك فيها. وهكذا، نحن، وهكذا أمر الإنسان، بصفة عامة، مع الذاكرة، كحركة دوران الشمس عدة مرات فى اليوم، على نوافذ مشرعة منها ومفتوحة، فيضاء له كل شئ، من حوله.. بين سطوع وخفوت.
إلى هذا الحد، لا جديد في الحقيقة، غير أن تكتشف، أنه ما هناك ضرورة إنتظار أن يمر عمر طويل، أو أمد، دون تفكر فى طبيعة الأشياء، من جديد. فما عليك إلا أن تنطلق، دون عائق.. حلّق وحلّق، إلى أعلى، لترى الأشياء فى جوهرها. وفى حقيقتها مجردة ناصعة. 
حينما تفعل، قد يصبح من المحتم عليك، التوقف مرات قليلة، أو مرة وحيدة حقيقية، كي تلتقط أنفاسك، قبل أن تبلغ المنعطف الأخير، من حياتك، مع الذاكرة، وتشك فى نفسك، أو فى  أنك كنت موجودا، أثناء انقضاء ذكرياتك الماضية. دون أن تفهم مسوغات، أو مبررات محصول عمر، قد مضى. ولتقدم غير نفس الجواب الدائم، متسائلا ماذا هناك، أو ماذا يمكن أن تفعل...؟ 
ولا يكون هناك مهربا، من عهد على النفس، لإستكمال ما بقى من العمر، ومن الحياة بأكملها، بعيدا فى سلام، مع الروح. فلا تصرعك، أو يذيبك قهر أسئلة تقطن بداخلك، وتتوغل بأعماقك، فى يمّ، بلا ساحل. تساؤلات تجرفك بقوة غريبة، لا مرّد لها.. ليس لها إجابات، مطلقا. هكذا تظن. وتحسب الأمر، حتى لا تخدع نفسك، أو تخادعها بزيف، فتتلاشى. 
إذن، لم يكن سوى متابعة أيام، كضرورة يوجدها القدر، فى مأمن من ذكرى تباغتك، فجأة. تهاجمك باصرار.  تُلمح طالة من عينيك، كضوء الصبح.  فتهزمك، مخيلة لا تزال، تحمل تلك الصور، لملامح، مثل هذه  الذكريات، ساكنة خلدك. تتجدد دماؤها، فى عروقك. تحيط بالروح. تحوطها بكل شجن.. ورغم ذلك، منها ما يُضئ القلب، ويُلامس وجده، رغم فى بعض الأحيان، نبل ألم دفين فى جوانح النفس، وشجى حزن، في خفايا الذات. 
وبلا شك، لا يستطيع أحد أن يأخذ حيطة أو حذر، أمام ذكريات، لا يستطيع حظرها، أو أسرها خلف جدار. لمجرد طمأنة، أنه فى طريق سليم، وبداية حياة جديدة، وكل شئ وراءه...، وأن الأفق الفسيح أمامه. فيظن أنه ملكها، وملك السيطرة عليها، لكنها تصبح أحيانا، كالزئبق، تنفلت، من بين ثنايا الذاكرة. تخترق الفؤاد، فتصيبه، كأنها سهم من السهام القاتلة. مهما حاول أن يمارس الحياة بشكل طبيعى، أو صورة معتادة. كأن يبدأ بسرد جراح أيام صعبة، فتقفز فجأة إلى ذاكرته، تلك الذكريات مسترسلة، كدم ثائر متدفق، حاضرة بكل تفاصيلها، بخضم من الألم. حينئذ، تتبدل المشاعر، وتتقلب بين شوك ونار، وألم وعذاب.
حينها يتأكد، أنه لا من شئ منها إلى زوال، أمام حقيقة واحدة، ووحيدة، أنه ليس كل شئ ينتهى، أبدا، إلا بالموت. ولكن، تحكيم المنطق والعقلانية دائما يحاول الإنسان، معه وبه، أن يسدل ستارا على ذكريات أوجاع مزعجة، تطارده، أوآلام ثقيل عبئها، ويعجز عن تحملها. ليمنح نفسه شعورا بالأمان، يتردد في صدره. ليواجه الحياة وما يتغير من حوله، دون صدى  ماض، قد فارقه، بالفعل. 
ولكن بعد مرور الزمن، قد لا تكون بادية هي نفسها، على كما كانت عليه، ذى قبل. ومع الوقت، تضحى، فى العقل، أكثر  وضوحا، لا تنكسر بشئ. لاغيامة، فيها، ولا اختلاط  بينها، أو فيها. أو تبدو كمصباح شاحب، أو خافت، شيئا ما. ولا سبيل لإستردادها أبدا. تخلفك بعدها، في أسوأ حالات وهن، وضعف، أمام محاولة تذكر، ما كان يوما. 
والحقيقة هي أن أول تبدلات الذاكرة، تكون شديدة البطء، لا تكاد تلحظ، ويواصل أحدنا حياته، بينه وبين نفسه، مثلما كان على الدوام، إلا أن التبدلات، قد تكون سريعة، مع الفكر والتدبر. كأن تمحو شيئا، منها. أو تحتفظ بما قد تجد فيها لك، واحدة من أنواع الحياة، تصدح بنقاء الفطرة، أفضل مما توقعته أو أردته أنت، ذات مرة، لنفسك.. وهى نفسها، هذا الوجه الغريب، من الذكريات، الذى يتلألأ نورا، فى النفس، كلما تذكرته.  
وعليك أن تذرع تلك المسافات، فى عقلك، أو ذلك الجزء المسمى بالذاكرة، ذهابا بلا عودة، للبحث والمطابقة بين وجوه وأسماء تظهر وتتلاشى، خفية دون تعيين ملامح لها، بين حين وآخر. فتنجز مهمتك مع الذاكرة على أكمل وجه، ومع ذلك، لا كمال. وإن أخطات طريق الذهاب، أو تأخرت لسبب ما مجهول، فلا تواصل شيئا. تلك ليست بموهبة كبيرة، ألا تتمسك بالسير قدما، في اتجاه معاكس تماما، لما كنت فيه، ولم يكن متوقعا لك، يوما.
وهكذا، تنتقل من نافذة إلى أخرى، وينتهى الأمر كيفما أمكن بك، بلا مزايا بريق، يغريك أمام ذاكرة تعود بك إلى ماض. وتشعر بدونها، أنك حى، وتبقيك بمثل حيويتك، قبالة مقبرة كبيرة، لذكريات مرّة. لأنه لم يكن لك لتملك سوى أن تدعها فيها بائسة، فتشعر، آنذاك، أنه لا وجود لها. أو أنها كانت  مجرد خيال مر عليك مرورا عابرا،  لما كانت عليه، ذات يوم، حتى لا تفقد الطمأنينة، مع الذات. الأمر دائما، أسوأ مما تتخيل وسط هذه الدائرة.  أو لما كنت ترغب، فى السنوات التالية من عمرك. 
إنما هو قدر غريب، يتوقف على الظرف والأسلوب، الذى تحيا به. لتبدأ حياتك الحقيقية، دون مقدمات، أو إنذار مسبق. بالطبع هذا نصر جديد وكبير لك، فى الحياة، أن تتغلب على مثل تلك الفجوات، من الذاكرة. وما من شئ به نعبر، أو يمضي علينا، إلا وأصبح أعمق بُعدا، وأقوى معنى،.. فقط أن بقَينا بعده، نتفكر ونتدبر. وإن إتقينا من الأفكار تُقاة، فلا نتيحة لذلك أبدا، مع مرور زمن. وحتى لو تولَّينا بعيدا، وخَلَوْنا بأنفسنا، إلى ظلّ ذاكرة، نستطيع خلف أسوارها، إعادة نبض ذكرى، أكملنا بعدها الطريق، إلى مجهول، أو أجل مقدور، صامتين. وإنْ مسَّ القلم ضُرٌّ، لئلاّ يعلن شيئا، من أصداء ذكريات تُدمى النفس، بصورة أكبر، من أن تطمرها مآرب، أو ظنون. فلا تتسائل ماذا تذكر حتى تنسى؟! وماذا يوجد حتى تراه؟! وما من شئ.. وإنها لبصائر.. وهى فحسب، مكاشفة، وحديث روح، لروح، عبر الذكريات. فى النهاية، نظل نذوق بصمود، وَبَالَ ما كان، وما لم يكن. نُحيله إلى ذهب، بين ألم وذكرى، وسرّ وجهر. تخشى الروح بينهما، أن يصيبها شئ من  دائرة نسيان، تُسلم بعدها. أو يجف مداد القلم، فيجثم، لا تأخذه رجفة حياة، فلا يستطيع أن يحرر ذاكرة، من قيد، لا يمكن أن يتكرر معه، أو يكرره قدر.


الألم وقوة الحياة 
--------------
ولكل شئ ألم. للصمت ألم. للإنتظار ألم. للذكريات ألم. الحياة بدون نور. ترقب ما لا يأتي.. الوحشة.  العودة إلى ماض. المستحيل. عمق الألم تذكر رحيل ووداع. الحياة بدون روح. أن تكون ولا تكون. أن تتلاشى فى أسى. أن تغرق فى حزنك. أن تغيب عيناك وراء أفق بعيد كل لحظة. أن تصبح الثانية دهرا. إفتقادك لروحك. أن تعيش بذكرى أحد. إشتياقك لروح. هفو الروح لروح. رحيل الروح، لما ليس لها أبدا. ألا تعرف ما أصابك. أن يسألك أحد ماذا بك؟ ولا تستطيع أو تعرف كيف تجيب.. ألا أحد يعلم قدر ما بك. ألا تعرف نفسك أو تتظاهر أنك ما زلت حيا. ألا تعرف تعبيرا عن ألمك. عجزك. قهرك أمام آلامك.  يأسك أن تعود كما كنت. أن يحتل غيرك جنبات نفسك.. محاولات لا تجدي أمام ما تبقى منك.. صراع النفس مع نسيان فاشل، وجبرها على ذلك. قمة الألم بقاء ما لا يمكن نسيانه.. يظل بك، لم، ولن يغادرك أبدا. ألم أن يعاندك القلم ويعصاك. أن يعلن ما بك رغما عنك. أن يسلمك هكذا، وأنت تنظر. أن تخونك إرادتك. أن تظل تتحدث بما فى نفسك. الألم يسكننا ونسكنه.  ومع هذا كله، نحقق المستحيل بالألم،  رغمصلابة الحياة، التى تصرعنا، بقوتها دائما. وهى كذلك. فلا تنظر بغرابة، وإندهاش مذهولا، متعلقا  بأذيال واهية. أنت من تختار، إما تنهض بقوة الحياة فيك، أو تلتصق بالأرض، ضعفا ووهنا، فلا تقوم. القوة الحقيقة، داخل أعماقك، هى قوة الروح، تشق طريقك، بها. وما أحرى الإنسان بها، ليتمسك بالأمل، فيستحثّ طاقته الكامنة، وليمتلك زمام الأمور، ونصابها، بهذه القوة الخفية. وهكذا، كل يوم، يتفقد ذاته، ويكتشفت سفور الحياة، فيُماط له اللثام، كأن عيناه تتفتح، لترى النور من جديد، وينفتح، على مصراعيه، باب الحقيقة، شمسا مشرقة، للروح.. حينئذ، يستطيع الإنسان، التغلب على الألم.