سرماديا

سرماديا

عالم صاف

عالم صاف
الخيال والحقيقة
(مقال مجمع)
------ خالد العرفي
الحياة فى جوهرها، ودون تشذيب، وزخرف من قول، هى الحقيقة المفقودة، التى تظهر شيئا فشيئا، للعقل، دون ألوان، إلا لون الحقيقة المجردة. فى عالم صاف، بلا زخرفة، أو إنتقاء. تفسح المجال لتُظهر، ما نسميه بالتجارب، تفاصيل خافية عن العقل، فتعبّر حينئذ، الحياة ذاتها، عن نفسها، بكل مافيها، بصورة واضحة، غثا وسمينا، فلا يشطح الفكر، ولا يندفع، إلا سعيا وراء حقيقة، بلا رتوش. هى الحقيقة المفقودة، دوما. غائبة فى معين عميق، ودرب طويل. ومنذ ذلك الحين، الذى يقف الإنسان على هذا، وتظهر له تلك الحقيقة، يشعر فعلا أنه على قيد الحياة، متلألئا كالجوهر، متفجرا وهج فكره، متدفقا ذهنه. يعبر العواصف والدوامات. لا يجمح به جامح، إلى مخمل حريرى، فيستكين، ولا إلى لا معقول شائك، فيتوه، فى خضمّ كينونته. وبكل معنى الكلمة، يبدأ الإنسان، وسط تأثير فراغ الحياة من هذا الجوهر، ليعى ويدرك لب الحقيقة. الأمر أشبه برؤيا كشفية له، ليس لها علاقة أو صلة، بمكان أو زمان، ولا حدود، إلا أن عين العقل، وبصيرة تمسك بها، تأويلا وتفسيرا. دون شك، إن الأفق العقلى الذى يحدّ الأمر، لا يكون فى متناول كل إنسان، فهى قدرات خاصة، الأصل فيها هبة إلهية، وعطاء ربانى. وغريب الأمر، إن ثورة العقل هذه على نفسه، هى الأخرى أشبه بمعجزة مؤقتة بقدرها، وثيقة الصلة بتلك الرؤية الغيبية، التى تجعل الإنسان، ربما يسخر من كل شئ مرّ عليه من قبل، لإنه لم يعٍ الحكمة، آنذاك، وهو فى حقيقته كان أمرا، يفسح له طريقا، إلى الحقيقة. ولكل شئ حقيقة، وشيئا فشيئا، يمدّ العقل به ومعه، بخطوة إلى الأمام. يجاهد كل شئ، دون أن يدرك، أن هذا فعلا ما يحدث فى زمان محدد، أومكان معين. ولا يحدّه العقل، فى حينه. ولولا هذا، ما إجتاز العقل آفاقا، ولضاعت أفكار، إلى آخر الأبد.
قليل من البشر، من يحيا هذه التجارب العميقة. تختارهم لها الأقدار، ويختارهم القدر، لها. مثل الوقوع على قطعة أثرية مطلسمة، لا تكتشف سرها أبدا، إلا إذا انفصلت عن الواقع لتغوص فى تاريخ غير مرئى، وتتمعن أبعادا غير منظورة، وكل شئ لازال، فى مكانه، أمام ناظريك. حينئذ، فقط، يُضاف سطر جديد لتاريخ البشرية، عبر الروح، يُعلى من قيمته المسطورة، فى بطن الزمن، كيفية إكتشافه، وإستعادة ما فقد منه، جوهرا نفيسا، فى مسيرة الإنسان، خلال حياته. وحتى لو لعبت الصدفة القدرية، دورها فى الوقوف على فكرة أو إبداع، أو إكتشاف، فلو لم يكن هناك مثل هذه النظرة الكاشفة، بعين العقل وراء الأفق، ما تقدمت البشرية، ولما قرأ إنسان شيئا، يحمل من إبداع، من قبل. والواقع المتراكم من تجارب الحياة، ليس وحده كافيا، دون هذه النظرة الثاقبة، تعزوها روح خيال خلاق مبدع. لذا، وقطعا لهذا السبب، فإن العلماء والمفكرين والأدباء الحقيقيين، ندرة وأشد من الندرة، نفسها. فالألوان وحدها فى يد الفنان أو الرسام، ليست كافية أبدا، دون روح محلقة بعينى العقل،  والخيال. وهنا فقط، لا ينفصل كلاهما، لا العقل، ولا الروح، عن بعضهما. وفلسفة الجمال لها دور كبير، فى هذا التذوق. وفى الأدب، هذا الأمر قلما نصادفه، وهو فقط، الذى يؤثر، فى النفس، كما تؤثر تماما الحقيقة التاريخية، التى لاشك فيها أبدا، مغادرة بنا، إلى جهة أوسع من العالم نفسه، سالخين جلد الزمن، فيحيا الإنسان الجمال، لا أن يتذوقه فقط.. يترك نقطة زمنية، إلى بقاع أخرى رحبة، فيصل إلى جوهر ما يحمله الزمن، نفسه، من حقيقة وحيدة، بعين العقل، ولكنه يعيشها جمالا بعد جمال. تنظر بها الروح، وتقرأها غاصّة فى كل فريد وفذّ، تحررا من الجسد. هى خطوات، بعد خطوات. صفاء من بعد نشاز. بشكل أفضل كثيرا جدا، مما نتخيل أى شئ يحوى حقيقة، فى غير ذلك. والأدب، وإن حمل أسئلة من قبيل، كيف نكتب، ولمن نكتب، وماذا نكتب، وكينونة الكتابة ذاتها، إلا أنه يحمل من ذلك كثيرا. وربما هذا هو السبب الأساسي الذى جعل "جان بول سارتر" يؤلف كتابا كاملا عنوانه (ما الأدب). هى دائرة عملاقة، من الجمال والفكر والإحساس، وكلما تقدمت خطوة وتوغلت داخلها، لم ترغب فى الخروج منها، بعيدا عن كل شئ، بحثا وراء حقيقة لكل شئ، بعينى العقل والخيال.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
جمال الماضى
لا يعرف كثيرون كيف هو جمال الماضى وروعته، عندما تنقله أنامل الفنان. عصور مضت وتفاصيل فنت من الواقع. سجلت لحظاتها ألوان وظلال.. وإستخدام للضوء لا يمكن أن تراه، إلا فى مثل اللوحات الزيتية.. لانعرف، إن كان هو الضوء الذى يظهر الألوان، أم الألوان هى التى تظهر الضوء. وتسمع فيها موسيقى من نوع خاص، لتحيي النفس، وتسافر فى الزمن.. كثيرا ما قضيت وقتا، على فترات متباعدة، فى تأمل مثل تلك اللوحات المدهشة. مدن، ومناظر طبيعية، ومشاهد إنسانية، وبورتريهات بشرية،.. وقائع وأحداث. أحتفظ بها.. وكم أهدأ كثيرا، عندما أعيش فى تفاصيلها، وألوانها. ترينى أماكن لم أرها، وتحيينى فى أزمنة لم أعشها. كم هى دهشة أن أرى الشرق قديما. كل شئ أعيش تفاصيله. أنظر للوحة كأنى فيها.. الألوان. الأشياء. الخلفية. السجاد. الستائر. الملابس. الأثاث. ملامح الوجوه. الحركة.. كل شئ يتناغم فيما بينه بألوانه ومكانه وأتناغم فيه، متنقلا بين تفاصيله المدهشة، وأنا جزء منه.. هدأة وسكينة وإحساس، لا يشبهه إحساس.. وحتى اللوحات، التى سجلت مشاهد لأوربا، فى العصور الوسطى.. بصرف النظر عن الدين والعقيدة.. رأيت ما سجلته أنامل الفنان، لمعابد وكنائس وشواهد قبور، إستوقفتنى كثيرا. من لم يرَ فلورنسا وبيزة وجنوة وغيرها من مدن إيطاليا، فى هذه الفترة، لم يرَ جمالا لعمارة ولا شعر بجمال الفن، وروعته.. هذا موضوع كبير، لا يكتب فيه أسطر.. يحتاج لسِفر بمفرده.. أما عن البورتريهات وحكايات الفنانين الكبار، معها، فمشكلة فكل كان له ملهمة.. ويكفى أن يقع بصرى على لوحة، تسرقنى من نفسي، وأتمعن، وأضع نفسي فى نفس اللحظة، التى رسمتها فيها يد الفنان، بروحه ودمه.. لا يمكن أن تشغلنى تفاصيل الوجه فقط، ولكنها تصبح تعبيرا فى مجمله، ترى من خلاله روح الفنان، وروح العصر .. جمال وروعة .. وربما ألهم الفنان مكان، أو لحظة تاريخية .. ومن ذلك اللوحات، التى سجلت الحروب الصليبية. وقد جمعت منها كثيرا، من باطن المراجع والمصادر القديمة، حتى كدت أسمع رحى الحرب، وهى دائرة، وأسمع هسيسها.. لوحات قبل أن تعطيك الروعة، فى تفاصيلها، فهى تأسرك برهبة، تتسلل إلى كل كيانك.. كم أتمنى أن أرى كل ما أبدعته يد الإنسان، الذى سجل روح الإنسان الحقة.. وأحيانا لا أصدق نفسي وأنا أحيا فى مثل تلك اللوحات، التى تأسر الروح. تصبح أعظم من الرواية والشعر، وكل فن أدبى .. فهى تطلق عقال العقل، وتفك أسر الروح.. لا أنسى أبدا اللوحات، التى سجلت القدس قديما، أو كما يسمونها أورشليم، وكما نسميها نحن بيت المقدس.. حتى سيناء بطورها وجبالها وشعابها وأوديتها.. رأيت تفاصيل قديمة مذهلة، لها لم يرها كثير من المصريين، ولا توجد إلا بين دفتى الكتب القديمة، بروعتها وجمالها وروح عصرها. وعلى رغم، أن للوحات الزيتية سحرها، وللصور الفوتوغرافية القديمة جمالها، إلا أن هناك فرق كبير ببين جمال كل منهما وسحره..  بين الظلال والنور، والأبيض والأسود، بكل التباين والتفاوت والإختلاف، فى الدرجات.. فهذه شئ، وتلك شئ آخر، ولكل جماله وعبقه .. أما عن مصر بقاهرتها ومدنها خاصة أقليم الصعيد، فقد وقفت على شئ من ذلك كثير، فى الكتب القديمة، خاصة كتب الرحالة.. يذهل له من يراه، ويتمنى لو عاش فى هذه الفترة، من الزمن، ورأى تلك التفاصيل.
أما عن الثغر.. الإسكندرية بتاريخها، فلا حديث يجدى عنها إلا مع رؤية تلك اللوحات فعلا، التى سجلت ما فيها.. ثم مع بدايات التصوير الفوتوغرافى، ومع وجود الجاليات الأجنبية فيها، سكنا وعملا ورحلة. التى سجلت سحر وجمال الإسكندرية، آنذاك. فقد رأيت الإسكندرية منذ ما مضى.. ورأيتها منذ قرون غبرت.. ولا يمكن وصف إحساس الإنسان وشعوره، وهو يرى مدينته، منذ مائتى عام مثلا.. كل ركن فيها .. كيف كان.
الجمال كما هو موجود فى الطبيعة، بقدرة وإبداع البارئ البديع.. فقد منح الإنسان من جنسه، ما يعطيه جمالا تسخيرا له من الله، وفتحا للعقل البشرى، الذى أبدع بقدرة الخالق، لما تراه الروح، لا العقل فقط.. شئ لا يمكن إلا أن يشبع جميع الحواس والجوارح، فتستكين معه الروح، وتهدأ .من لم يتذوق الفن، ويرى مافيه، ويلمس ما له، من جمال وروعة، فليس يحيا بشئ.