سرماديا

سرماديا

من أسرار الضوء والظلّ **

من
أسرار الضوء والظلّ
 الفن والجمال (2)
--- خالد العرفي


منذ فترة بعيدة، تعترينى دهشة كبيرة، لم أستطع إلا الإستسلام لجمالها، حيال تأثير التصوير الزيتى والضوئى.. من الصعب ترك فرص مثل تلك التى يمنحها لنا هذا النوع، من الفن.. فلا تكن أبدا مصادفة، وأنت ترى زاوية إلتقاط تتكلم.. أو عدسة ناطقة بلغة، لا تندثر.. بحروف تتسلل لعقلك، لتكون أنت كلماتك،.. تصوغ منها جنبات عالم خاص، آسر.. منذ هذا الحين، كنت على يقين أنه الجمال، ولا غيره.. عبقرية الرسم، والتصوير.. أقول لنفسي الآن: فقط أستطيع رؤية عيون رأت ما لم أراه، فترينى.. تنقل لى، من أسرار أزمنة  ماضية، وأمكنة كائنة أو مندثرة، ونفوس غريبة.. من أسرار الضوء والظلّ.. والألوان.. تتعلم معها لغات لا ينطق بها، إلا الإحساس والشعور.. ولا تفهمها إلا الأرواح.. تميّزها وتعيها.. للجبال لغة.. للصحارى لغة.. للأنهار لغة.. للغابات لغة.. البرارى.. الطيور.. البحار.. الشطآن.. الورود.. الظلام.. النور،... الليل.. النهار.. لغات، ولغات،.. لها عبقريتها وتفردها وخصوصيتها. لغات للوجود والحياة.. تلك روعة الفن، وروعة ما ينقله لك، من إحساس.. ولا شك أن قيمة كل عمل فنى، ترجع إلى ما يُشيّد به من معنى،.. له من النتائج ما يخرج عن كل ما هو مألوف، من تصورات تقليدية.. الأمر الذى يجعل للحياة دلالات جديدة بتقليد الواقع إنشادا للكمال.. ومن هذا القبيل فليس التصوير الفنى مجرد موادا للمتلقى، بقدر ما هو أفق ينتقل إليه.. تتفتت عليه أثقال الحياة نفسها وإخفاقاتها.. وتذوب على صخرته قتامة الواقع.. وتجري فيه دماء حقيقة ما، تسرى عبر هذا المتخيل.. وفي الوقت نفسه، يأتيك صوت الجمال هامسا، بتلك اللغة الساحرة غير المرئية، إلا للشعور.. فتتفاعل معه النفس البشرية، بإعمال العقل، لمعرفة مدلوله وجوهره، جمعا بين الرؤية الحسية والفكرية.. وبدون القيم الجمالية، وبكل تأكيد سيكون العالم أكثر وحشة،.. تحتله حالة تشبه الشلل،.. وهذا أحد أهم أسرار الإهتمام والتلقي، مما يعطي للحياة قيمة مضافة. وعلى هذا فإن التعبير الفنى ووجهة نظره، يعتبران قرينان للموهبة، ولغة تنبئ عنها..

ومن هذا القبيل، التصوير الزيتى فى اللوحات الملونة والبورتريهات المرسومة، حتى إنتشار التصوير الفوتوغرافى، حيث تحولت الذات إلى موضوع، للكاميرا.. علاوة عن أنواع الفنون التشكيلية الأخرى، على وجه العموم.. ومنذ أن تقع عيناك على عناصرها، تنقلك إلى ما لا نهاية، من تأثيراتها.. لحظات لا تحدث إلا مرة واحدة.. تهبك مشاعر تحدث لمرات عديدة،.. تخترقك.. من العام إلى الخاص.. ومن الذاتية إلى المطلق.. ومن الواقع إلى الخيال.. نصوص من نوع خاص، تستغرقك دوائرها.. وتترائى لك بأسرارها،.. وقد تتركك بلا معنى.. وقد يستحيل عليك إدراك دلائلها وإشاراتها إلا بشئ من التأمل، ما يحيل اللحظة إلى ديمومة من ثنائيات التفسير، وتأويلات حائرة، بين هذا التأويل وذاك، منفصلة بهويتك.. ولا يمكن إدراك جوهرها، إلا بحّسّ مرهف، وشفافية نفس.. وقد تتطابق مع ما يدور فى النفس من إنفعالات ثقيلة كانت أم ساكنة.. تبعا للمواقف والحالات النفسية ..  
وما أشد غرابة أسرار الألوان وما تحدثه فى النفوس والأرواح، من تأثيرات لا مرئية.. تحيل الكآبة إلى سرور.. والإنشراح إلى إنقباض.. عديد من مشاعر متنوعة تنتاب الإنسان، وهو يعاين عمق أسرار الفن، عابرة به إلى سكون وهدوء، أو إلى حركة وإنفعال.. لذا تستخدم ألوان معينة دون غيرها، فى علاج المرضى النفسانيين.. ولذا أيضا، تُطبق أنواع معينة، وبدرجات محددة سلفا، فى طلاء جدر المصّحّات العقلية والمستشفيات النفسية.. هذا الإلتحام الفريد فيما يحدثه التزواج بين ألوان معينة، ودرجاتها.. كما بين الضوء وما يحدثه، من عمق التأثير، لظلال متفاوتة الدرجة.. بل ويتوقف أمر التأثير وشدّته، على مصدر الضوء نفسه.. من شمس نهار ساطعة، إلى قمر منير، فى ليلة دهماء،.. إلى ضوء غير طبيعى، فى بيت أو قاعة أو طريق.. بل ووقت هذا الضوء وشدّته وزوايته، رأسية كانت أم أفقية.. وأيضا من أين يأتى الظلّ ومنبعه.. على ماذا يقع، على أرض، أم على جدار.. ونوعية كل منهما.. الظلّ على الأحجار، غير الظلّ  على الأشجار.. أشكال الظلال نفسها،.. هباءاتها.. نثراتها.. وهى تتجمع، أو تتجابه، أو تتشوه.. تركزها.. أو تلاشيها.. كل ما يثير الإهتمام.. تماما، ما تنشده ممّا لم تراه، إلا حينما ترى الأمر كما تراه، فتأخذك غرابته، وتختزل لك العالم والحياة، فى لحظة حاضرة شديدة الغموض، ..كما فى مواجهة بعض اللوحات الزيتية المرسومة، حيث لا يمكن أن ترى ألوان لوحة إلا كما تراه فقط، فتقول أين مثل هذا الأخضر عمقا ودرجة.. أو أين لون هذا الجذع، فى هذه الشجرة.. أو كما فى درجات بنّى، فى مفردات عمارة، بناية وتشييدا.. أو كما فى الصور فوتوغرافية، باللونين، الأبيض والأسود.. فيصبح الضوء هو العنصر الرئيسى، مع موضوع اللقطة، وزاوية التصوير الماثلة أمامك.. بإختصار، لا يفيدك تجرد من تصوراتك المسبقة  فى حالات آسرة، مثل هذه.. تجد نفسك أسيرا للحظة، تتسلل إلى نفسك خفية، كتسلل الأطياف الخافتة، والظلال الباهتة.. تثير إنفعالات، لا توّد مغادرتها نفسك، أبدا.. وربما تقهرك بجمالها.. كيف تتوالى هذه الرغبات الجامحة، ولا تستطيع حيالها مقاومة.. وكيف يشعر بالرضى، من لا يتذوق جمال الفن.. والمعضلة والمأزق فيمن لا يفهم كيف يفهم ما يراه، من لوحة أو صورة مثلا.. والناس فى فهمها متباينة، تباين نفوسها وأرواحها.. وبدون الإحساس، لن يكون هناك فهما.. 
ومن أروع المؤلفات فى هذا الصدد كتاب (الغرفة المضيئة) للكاتب والناقد والفيلسوف الفرنسي الراحل "رولان بارت" وهو من أهم أعلام النقد، التى شغلت الساحة الثقافية، والذى اتسعت أعماله لتشمل حقولا فكرية عديدة وله تأثيره في تطور علم الدلالة.. والكتاب مقاربة ومقياسا للمعرفة الفوتوغرافية.. إذ يرى أن صورة ما، يمكن أن تكون موضوعا لثلاث ممارسات، أو ثلاث إنفعالات أو مقاصد: أن تفعل.. أن تتحمّل.. أن تتطلع.. وهذا أو ذاك ممّا تمَّ تصويره هو الهدف أو المرجع.. ودون إستطراق، يرى فى نهاية الأمر، أنه لا يتعامل مع الصورة، إلا من واقع خبرتين: خبرة الذات المشاهدة وخبرة الموضوع المشاهد.. وإنه قرر أن يسترشد بوجدانه كما يعيه.. وله مقولته فى ذلك (كما أن الفوتوغرافيا غامضة الدلالة قليلا، سوى عند كبار رسامى البورتريهات، لا أعرف كيف أجسد ما يجيش فى نفسي..).. فى حقيقة الأمر، قد تدرك وبصعوبة أكثر، مثل تلك اللحظات الحادة الصاخبة، كمغامرة،.. يأتى بها التصوير الضوئى فى موضوعاته المصوّرة، مثل الأحلام التى تلفت إنتباهك، وتثير إبتهاجك.. تنجذب إليها،.. تتقصى جوهرها، فتستنطق مشاعرك.. تتحقق من أمرها، فتريحك.. تلاحظها.. تفكر.. تستوقفك، بحضورها المتزامن، فى النفس.. وعلى الفور تتضمنك داخلها.. وكما قال الشاعر صلاح عبد الصبور (الفن هو امتلاك ناصية الأحلام).. ومنها، ما قد لا تعرفه بعد، رغم أنها فى كل مكان، بفوضويتها.. وعلى النقيض، منها ما قد يكون كتأثير أحلام مزعجة، تنفر منها، كما الشعور بالموت.. وقد يردّك جمال الفن، إلى نفسك.. ينطق، بسريرتك الدفينة.. يكشف، عن مكنون ذاتك.. وتلك أيضا من عبقرية الفن، وأسرار علم الجمال، وعلاقتهما بالنفس البشرية.. مما يسمّي فى حينه، وحقيقة، الإبداع.. وحتما لا يكون شئ أكثر دهشة وعمقا فى الوجدان، مثل تلك اللحظات الباهرة، مثلما تماما، ما يحدثه الأدب، من تأثير، سواء نثرا أو نظما..، كما أن هذه الأسرار المتجانسة، من علاقة الفن والأدب الوطيدة، وتأثير كل منهما العميق، على النفس، وفى الروح.. ممّا يثير الإهتمام الإنسانى بكليهما..
---------
(يتبع..)