سرماديا

سرماديا

خواطر أدبية 11 - 12

خواطر أدبية (11)

---- خالد العرفي
فضيلة الفن تكمن دائما، فى إثارة الأسئلة، لا تقديم الأجوبة.. والأمور المعكوسة في النصوص الأدبية، دائما ما تثير الأذهان، كمرايا للشبيه الحقيقي، من النفس، على أرض الواقع.. لكن، دائما يبقى الكثير من الأسئلة معلقا بلا جواب،.. والحال كذلك، فى الاعتماد على كل الوسائل الممكنة لفهم النصّوص، وإن لم يكن هناك سابقة مماثلة أو مشابهة، في هذا العالم، يمكن لها أن تحدد لنا معايير التلقى والتأويل.. وهو يبرر أن ما نقرأه، يمثل وضعا فريدا في العالم، من عدمه.. وتتوالى الأسئلة، في ذهن يصوغها ويحللها، رغم براعته فى البحث عن إجابات محتملة، وتداع واسترسال في هذا المنحى أو ذاك، قبل لحظة لقاء منتظرة، ليجد ما يصبو إليه من طبائع ورغبات أو يتلمس، بحذر، زوايا حساسة وقلقة وقناعات وتطلعات وآلام وآمال.. لكن النصّ قد يحمل نقلا ينطوي على كثير من المفاجأة.. تتهكم من تنبؤاته المسبقة، منذ إنطلاقه مع بداية النصّ وبؤرة الحدث الأساسية، كسرد خاص يحمل مضمونا ما، وفقا لسياقات متباينة، تثير ردود أفعال مختلفة، فى النفس.. ولعلّ هذه البداية، تؤسس لمفهوم السرد،.. فمن وجهة نظر مختلفة، من الممكن رؤية السرد الأدبى، وفهمه، فى إطار معرفة ماهية عملية الكتابة نفسها.. فعلى نحو قريب، لا تتوقف الكتابة عند العملية الذهنية، التى تتم بها، وكيف تكون.. تنظر وكأن هناك بضع شجرات تحوزها.. تنمو بين يديك، وأنت تعلم كيف تنمّيها، فى طريق أن يكون هناك ما تبحث عنه.. ما يسمّى بالنصّ المؤثر، والجميل فى ذات الوقت،.. هى مسألة تختصر قضايا كثيرة، لتكون قادرا، على رؤية كل ما يحدث.. هنا قد يبدو الأمر رائعا، لأن تعرف كيف يكون السرد، وكيف تتم الكتابة، وبصفة خاصة فى مجال القصّ الأدبى.. وهى أيضا بداية لعملية فهم كيف يكون الإبداع.. أن تعرف كيف تخلق حالة إستثنائية من خلال عالم قصصى أو روائي متخيل.. وحينما نعرف وندرك ذلك، يتمثل لنا الأمر في إكتشاف مذهل محيّر.. الأمر لا يتعلق بمجرد حكاية عادية مألوفة، فالنصّ الجيد بصفة عامة، يبدأ من حالة أو علاقة مضطربة تربك الحياة الرتيبة.. ضد ممارستها الطبيعية.. أمر ما يشكل إنعطافا في مسار أحداث،.. من هذه اللحظة، لا نعاني الضجر والملل.. تبدأ رحلة بحث مضنية ليأخذ السرد، شكل الحبكة المفعمة بالأسرار المتخيلة وكأنه إكتشاف غير قابل للتصديق يستعان به لإكتشاف هوية الكتابة وماهيتها.. هو دليل نرى معه وأمر ندرك به مسيرة كتّاب عظام وروائيين كبار،.. أن نعرف كيف تؤثر فينا نصوصهم.. وكيف تلقى هذه الحفاوة فى أنفسنا أهم الأعمال الروائية والقصصية.. خاصة فى مجال الرواية التى تتميز كنوع وسرد أدبى، بتعدد الأصوات من صوت الكاتب أو المؤلف، وصوت الراوى وصوت الشخصية الرئيسية.. وذلك، فى عملية تداخل يتراوح بين السرد ذى المستويات المتعددة، بل ويتعدّاه بطرق كثيرة من الحوار والوصف والحوار الداخلي أو المونولوج الذي يحاور فيه البطل نفسه حتى يصل إلى الحل الأمثل.. وحتى الدور الذى تلعبه جماليات المكان لأماكن أحداث ومناطق الرواية، وجماليات التقاطع الزمنى والتحولات المنطقية أو المفاجئة، من زمن إلى آخر،.. والأمر يتجاوز هذا إلى ما يتعلق بطبقات هذه الأصوات ومستوياتها وتداخلاتها، والطريقة التى يقدمها بها الكاتب، لتملأ النصّ حيوية نابضة، فتراه كشاشة واضحة، فى أحيان، أو فى غموض غير مرئي آسر يتواجد فى النصّ ويأخذك بعيدا، فى أحيان أخرى.. 
وهو سرد متنوع وخاص يشكل إيقاعا في فضاء السرد نفسه ويعدد مستوياته من الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة إلى جانب القضايا الكبرى.. هذا التنوع المعرفي الذي يثرى العمل.. وهناك من النصوص ما يغوص فى أعماق النفس البشرية، كاشفا عن المشاعر الإنسانية البديعة، وطبائع البشر الفريدة،.. تستطلع المجهول من شجون وهموم وأحلام،.. تفسر ردود أفعال الشخصيات وحيرتها إزاء الأزمات،.. تتأمل محنة الوجود والعبثية فى الحياة، باتجاه الماضي أو من الماضي نحو الحاضر.. كل ذلك لابد أن يتم فى منهجية فكرية، يدركها الكاتب جيدا..  وللرواية عالم خاص ينقلك تماما لرؤيته.. وهنا فقط يداهمك شعور تتأرجح فيه بين واقع الرواية وخيال مماثل تصنعه أنت تسير فيه أحداث تلك الرواية.. وهذه الفضاءات المتخيلة التى تنهض عليها تصوراتنا وتخيّلنا للمواقف والمفارقات والأحداث والشخوص التي يقدمها العمل أو النصّ، ونحن نقرأ...
خواطر أدبية (12)
---- خالد العرفي
إستيقظت هذا الصباح على إحساس جديد، مستبشرا.. كمن يحتضن ذكريات، ليقول لها وداعا،.. الآن علىّ ألا أرفض إحساسى بموت أيام وأفكار بعيدة، علقت بذاكرتى.. تركت فيها ندوبا غائرة.. كنت أعرف أنها لن تعود.. كم أثارت جدلا، في نفسي.. ما أصعب أن أكون رجلا بلا ذاكرة.. لكننى لم أعرف ماذا أفعل إن رأيت أو أصبحت شيئا كهذا.. لا أرى الوجود إلا بلون أبيض فى بؤرة ضوء باهر.. بإستثناء هذا اللون الأسود الذى ينطق الظلال بجمالها لسبب غير معروف، إلا لتضاد تام بين نقيضين.. وكأننى كنت ذلك الرجل الذى أراه، يعيش في مملكة من الظلال فى مدينة  بلا اسم،.. كان من الممكن أن ينقطع الشفاء.. أن يموت الرجل، لكنه لم يمت.. كأننى أنظر لشاشات الأجهزة التى تلاحق أنفاسه.. تخبر أنه ما زال على قيد الحياة.. كنت أشفق عليه:
- لماذا لا يموت ويبتعد عن هذه الحياة الكئيبة..

الآن أستطيع تقبّل هذه الحقيقة.. الآن، أستطيع أن أنسى.. الآن أستطيع أن أكتب.. أن أقف بخيال جامح ينبض بدلا من الاستسلام كرجل بلا ذاكرة.. لم يبق حاليا في ذاكرتي سوى القليل عن هذا اليوم إذ سرعان ما رحلت ملامحه لمسافة بعيدة فى عالم الكتابة عاكسة حقائق بشأن أحوال الإنسان.. فى محاولة الالمام تلك المعرفة بشكل كامل وذاك الإدراك الفعّال فى مجال القصّ،.. وفى النهاية اقول: فى الثوانى اللاحقة لم يمت أحد.. أنا ما زلت أنظر بعيدا فى مخطوطة لم تتم بعد.. عن هذه السراديب المظلمة الغارقة في الضباب والغبار، بلا دليل..
كان هناك شيء من عاصفة محيطة.. تستكشف وجها لوجه أن فقط ما تراه فى عقلك هو الشئ الحقيقي.. فلماذا لم أكتبه قبل ذلك.. ولماذ لا أكتبه الآن؟

كنت كمن يتعرف على نفسي من جديد.. شئ مربك حقا أن ترى نفسك فى هذه الحال، ولا تملك إلا أن تتوقف وأنت ترى نفسك.. تتأمل،.. تضع هدفا جديدا.. تنجز آخرا.. يجذب انتباهك.. تستوعب.. تقول: مهم الآن، أن تكون.. أمورا مثيرة للاهتمام.. تطلق سراح أفكارك.. هذا هو المهم.. لكن الأكثر أهمية كيف يكون أمر الكتابة.. والحقيقة أننى لم أكن أكتب قبل ذلك، في حين بت أدرك أنها كانت أكثر من أربع سنوات منذ أن قررت أن أكتب بطريقة جديدة.. قطعت خلال تلك الفترة من الزمن، مسافة تخيلت أنها بعيدة، فى الوقت الذى كانت لا تزال تشكل بداية لطريق جديد.. وفي وقت لاحق لفهم ما يحدث.. كنت أرغب في وضع كل شيء في رأسي، على هذه الأوراق على نحو لم أفكر به من قبل.. كان من المهم أن أفهم شيئا: كيف تنتمي الكلمات لنفسى التى أدركها الآن.. أو أتخيل أننى صرت أفعل على نحو أفضل.. ولكن الكلمات كانت مكتوبة قبل ذلك فى عقلى، وكأننى أنا الذى لم أعد أنتمي لها.. لا سيما وأنى قد توقفت عن أعمال كنت قد شرعت فيها من قبل.. أعانى من عدم قدرة على إكمالها على نحو ما إعتدته.. ماذا غيّرنى.. ماذا رأيت.. ماذا أدركت.. وعلى هذا النحو كنت أتسائل: ماذا هنالك من هذا الضجيج.. فى هذا الشئ المسمّى عقلى.. تلك الأصوات العالية، من قبل عالم آخر..
في البداية، كان علىّ أن أعترف لنفسي أن هذه عملية غير عادية جدا.. أخطاء فظيعة كنت أقع فيها.. حينما لم أتحرر من قيود كثيرة.. ألا تعبر الأفكار عن نفسها كما أراها فى عقلى.. تلك المغامرة في مثل هذه المناطق الخطرة.. كان علىّ حقا التأكد من حقيقة الأمر فى نفسي، فإذا لم أقم بذلك، فلن أكتب.. ليس الأمر مجرد كتابة ناعمة، من أجل لا شيء.. فكما للكون الموسيقى الخاصة به.. فللكتابة موسيقاها فى العقل، منذ كان الهدف الحقيقي في الحياة.. كان من المفترض أننى أعرف ما كنت أفعله، أيضا.. وأتذكر هذه الليلة بالضبط.. كلمتان قلتهما لنفسي.. أكتب هكذا،.. هذا هو المهم.. وكان من الواضح عندما كنت أعمل على هذه المخطوطة، أنني لم أعد أعرف كيفية الكتابة بعد.. حتى أدركت أن القواعد قد تغيرت.. كانت قد بدأت أمورغريبة تحدث.. تترك فجوات غريبة بين أفكارى.. وفي الغالب لم أكن أكتب حتى الآن،.. حتى هذه الليلة التى كان من المقرر أن أنهى فيها أمرا.. إكتشفت أننى الذى كنت أنتهى بدلا من ذلك.. لماذا لم كل هذه الأمور تحدث؟  ماذا يجعلها تحدث..

الفيصل، أننى أردت أن أكتب من جديد.. بدا لي أنه كان بإمكاني إعادة استخدام شخصيات كنت قد أنشئتها فى المسودة.. أكثر من ذلك، بدا وكأنه مكان جيد لملء الثغرات أنه حان الوقت لإدخال دراما جديدة لأكتب حقّا.. بالإضافة إلى خلق عدة شخصيات جديدة، في أدوار داعمة في هذه القصة، بجانب الشخصيات الرئيسية،.. كان ما زال أمامى الكثير للقيام بعمل جاد لإنقاذ الرواية، وإنقاذ نفسي معها.. عرفت أن تغييرا قليلا أو طفيفا يمكن أن يلقي بظلاله إما فى قوة العمل أو تحطيمه.. لكنني لم أقلق بشأن مثل هذه التفاصيل في ذلك الوقت.. وعلى الرغم من ذلك، لا أعرف إذا كان ذلك صحيحا، لكن بالتأكيد لا معنى له، إلا على هذا النحو القدرى الذى إكتشفت فيه كيف أكتب.. وكيف أستثمر ذلك فى نفسي. وفي اللحظات الأخيرة، وفي الوقت المناسب، نقول لا شيء يمكن أن نفعله حيال ذلك الآن، باستثناء الانتهاء من مخطوطة إستغرقتنى.. فى النهاية لا يوجد سوى أن تمضى بنا الأفكار ونمضى معها نحو الأفضل فى عالم كتابة حّقة.. كلمات تنطلق كجرس صغير يتصاعد رنينه في رأسي.. عندها تجد صوتك أنت، بدلا من جواب الصمت وعدم الشعور بالكمال، وأن هناك كثير من الأمور والأشياء تريد تغييرها، بعد بعض المفاجآت المثيرة للاهتمام.. تكتشف أمورا غير محددة.. وعلى محمل الجد أن تفكر في ذلك.. وربما في ذلك أمورا تستتبع إعادة كتابة المخطوطة بأكملها وأنت بحاجة الى مزيد من الوقت.. متردد بين أن تقول لنفسك: سأفعل ذلك.. أو لا يمكن أن أفعل ذلك،.. وهذا يعني أنه شئ من الجنون.. ولا مزيد من الوقت قبل إدراك كيف أنه كان من المفترض إعادة كتابة أو إجراء تغييرات جوهرية.. وإذا لم تتمكن من رؤيتها فلن يصبح هناك نصّا حقيقيا.. أخيرا، كيف تتوقع الانتهاء من عمل وأنت فى هذه الحالة العاصفة.. كما لو أنك يجب أن تتوقع وتعرف مسبقا ذلك.. وبعد كل شيء، تقول ها قد فعلت،.. لم أكن أنا قد كنت بعد.. هو ما قمت به فعلا،.. ومن تلك النقطة بالنسبة لك، لا يمكنك الانتظار أكثر.. تفقد السيطرة على المخطوط،  وأنت فى حاجة لتفعل ما كان متوقعا فعله.. وبكل معنى الكلمة، يهرب الأمر من بين يديك وأنت معه.. وكأن الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تقوم به أن تتسائل متى تأتى هذه الأشياء العظيمة المسماة الأفكار وكيف تنبنى وتستمر.. 
بطبيعة الحال وبعبارة أخرى، كيف يمكنك الحصول على نفسك من خلال فكرة كبيرة.. وبحلول نهاية العاصفة ليس هناك طريقة لتعرف أنك فعلت، حتى ترى نصّك بين ناظريك.. على الأقل تقراه وتقول فى النهاية: أخيرا فعلت.. حسنا، أيا كان ما شعرت به حقا، قبل وقت قليل، هو أننى كنت ما زلت في منتصف الطريق فقط، ولا يمكننى أبدا مواصلة الأمر أو أستطيع دون هذا الشعور الغامض،.. وفي وقت لاحق أقول أما زال يمكننى أن أكتب كما كنت.. بالطبع لا.. كانت مرحلة جديدة وأن أحاول بعناية فائقة وبشكل جدي، متحديا نفسي على ذلك بهذا الرهان.. أخيرا حصلت على بداية سليمة.. لذلك بدأت كتابة روايتي.. في الواقع بدأت المتعة الحقيقية، في مكان آخر،.. تتمة مثيرة لرحلة كتابة لا تنتهى، أكثر دهشة من أي وقت مضى..

-------------