سرماديا

سرماديا

من سرد رواية جذور**


 
من

 رواية جذور
(سرديات مختارة)
------ خالد العرفي
من الفصل الثالث
----
ما مضى يوم، طيلة هذه السنوات الماضية، إلا وأنا منغمس، فى عالم شغفى بالكتب، خاصة القديم منها.. أعشق رائحته. ملمسه. أمُرّرّ أناملى، على أوراقها وصفحاتها، كما أمرر بصرى، على الحروف.. أشعر بملمس الحبر، فى الحفر الغائر.. أستنطق كل نقطة فيها.. تحمل أجواء القدم العطر. أعشقها، وأذوب فيها، بهدوء وطمأنينة. وكلما قدم الكتاب وسنة الطبع، تعتق شعورى بهذه الأمور، بقدر ما يشع منها، ويفوح شذاها.. بل أكاد أشعر بلمسة كل يد، أمسكت بالكتاب. وقد أذهب للإستبصار مسافرا، فى عقول أولئك الماضين. أرى مسكن هذا الكتاب، على رفّ، بمكتبة عتيقة.. قطنت بيتا أو قصرا، أو إستقرت بركن، بين جدران تكية أو قاعة. أو جاورت قنديلا، بمسجد أو زاوية. أسفل أريكة مخملية، بألوانها النادرة الصافية، لرسوم ونقوش وتكوينات، متجاورة. تتداخل صلاتها وتتبادل. نمارق. أرى معانقته، لتحفة، أو أثر فضى أو نحاسي أو قطعة آنية. فى تناغم رائع. أوغل عينيَ، فى صندوق بنى، حافظ لها، بمقبض وزوايا نحاسية. أو بين ثقوب أشكال أرابيسك مخروطية، مضفرة توريقاته، بدقة متناهية، جاورتها. بارزة كانت، أو مجوفة ومحفورة.. تلك النفوش المعشقة، بالصدف والآس والباغ. وفى أحيان أخرى، مطعمة بالعاج والأبنوس. متوائمة، بجماليات زخرفة. تتماهى فى تموجاتها الطبيعية المرئية، وإيقاعاتها البصرية المحسوسة، بأشكال الكائنات الحية والجماد. ترتسم فى الذهن، وتنحفر فى الوجدان، وقد أصبحت جزءا منه. أتلمس ما لكعوبها العظمية الملساء المصقولة، من حيوية ماض. وأشم في الخشبي منها، رائحة طراز معتق، وراء العالم المادى. وقد صبغت تلك الكتب القديمة، برائحتها، منسجمة مع روح عصرها. منغمسة، في غلافها وورقها وخطوطها وأحبارها وأصباغها،.. ذكية الأريج. آخذة بالروح وخاطفة بالبصر، بتأثيرها. يمرّ إليّ صوت خرخشة الصفحات وقَسِيب الورق. أسمعه. أصغى إلي ركزة الحرف، وصرير القلم وحفيف ريشة، كتبت ودونت... وليس لغيرها، من ذلك شئ.. وفى أحيان كثيرة، أسير وراء تاريخ وسنة طباعة الكتاب. وقد أجده مطبوعا فى حاضرة، من الحواضر أو المدائن العتيدة. القاهرة. بغداد. دمشق. أسطنبول. لاهور. ودلهى. وليدن، وغيرها من مدن. رحلات، بين أيدى وعقول، إلى أن وفد إلى يديّ. أراه بين عينيّ، كقطعة من جسدي. كأنى أوقظها، من سبات عميق. لذة لا تنتهى، ونهم لا يزول أثره، بشموخ الماضى ولمسته السحرية. يفرضها على النفس، ويفتح لها بابا للروح... أتبرم، حينما أجد عشرات النسخ، من نفس الكتاب، ولا يقرأها أحد، فى الوقت، الذى يبحث كثيرون، عن كتاب واحد محدد، فلا يجدونه... هذا سبب جوهرى، يحفزنى دائما..
----------------
من الفصل الثالث
اللقاء الرابع
ليوسف مع جنى:
---------------
(1)
أواخر مايو 2000
كان موعدى، هذه المرة مع جنى، لأول مرة خارج المكتبة. لم تؤكد موعدها معى، إلا بعد أن إستأذنت والدها، هاتفيا أمام باب المكتبة، فالهاتف ممنوع إستخدامه، بداخلها.. حرصتُ، أن يكون موعدنا مساء يوم الجمعة، فى السابعة والنصف. فى مكان قريب، من بيتها، فى سابا باشا، لئلا تتأخر.. إخترت الكافتريا الملحقة، بفندق سان ستيفانو، على الكورنيش، الذي يمتد في موقع رائع، مطلا على البحر، مباشرة.
وصلت الساعة السابعة مساءا، قبل الموعد.. كانت أمسية، ببداية الصيف، والجو رائع. حيث رؤية واضحة. هواء نقي. وسماء تناثرت فيها بقايا شمس. غربت منذ قليل، وراء الأفق.. والمكان قد إكتظ، بالناس، بين جلوس ووقوف، ومشاة.. إخترت منضدة، بمقعدين ذى مسندين، بركن جانبي، فى الباحة الخارجية، على الرصيف الرخامى، الذى يلامس الطريق.. حيث أستطيع أن أرى تلك البانوراما.. دار فى خلدى، أن المكان، لم يعد كما هو، فى الماضى. الفندق، لم يعد هو نفسه، الفندق الضخم ذى الطراز المعماري الجميل، بمبناه الرائع، الذى رأيته فى طفولتى، وإلى وقت قريب. كان يجاورنا، يرقد ممددا، على الكورنيش، ليس بمسافة بعيدة، من بيتنا. أتذكر شرفاته ذات المشربيات الخشبية، التى كان يتميز بها. كشك الموسيقى. منشآته الشاطئية. وحدائق خلفية، بنخيل، وأشجار نادرة.. الكل كان يعلم أن تاريخه، يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر.. تحديدا فى عام 1854، حينما إستقر "الكونت زيزينيا"، أحد أصدقاء محمد على باشا، والى مصر، وهو مقاول ثرى، كأول ساكن أجنبي، يقطن منطقة رمل الإسكندرية.. كان يتجمع هنا، نخبة المدينة. وأثريائها، فى أوائل القرن العشرين. ومن زواره، الشخصيات العامة، ومنهم أفراد الأسرة المالكة، وقتها.. مرّ كل هذا، بخاطرى، حينما كنت أختلف قريبا، إلى الفندق لأتصفح، بعينى الكتب والمجلات الأجنبية، خلف زجاج محل قريب، من الفندق.. كل ما ما مرّ بخلدى، إختفى، كشريط سينمائى. إختفى كل شئ الآن. حلّ محله، هذه المنشآت الفندقية الحديثة. ومتاجر ملابس، ومحال عطور لماركات عالمية، وغيرها.. حتى رواد المكان، لم يصبحوا هم، كما عهدت المنطقة، من رؤية أجانب.. فى الوقت، الذى توقف هذا الشريط فى ذاكرتى، كان النادل، قد جاءنى.. طلبت منه:
- "فنجانا من القهوة.. زيادة من فضلك.."
- " حالا يا فندم.."
---------------
(2)
ولم يمر وقت قليل، حتى جاءنى بها ساخنة، فى الوقت، الذى كدت أقف لأرى جنى، من خلفه، وقد لمحتها قادمة، نحوى.. كان هناك شرطى فارع الطول بزي أزرق، بيده كلب بوليسى ضخم. وقد قبض، على مقوده الحديدىّ، ولفّ باقى سلسلته، حول معصمه.. كان يمرّ به، فى هذا الزحام.. متفقدا الحالة الأمنية، والكلب يشمم هنا وهناك.. مرّ من جانبنا، وقد وقفت لأستقبلها.. مادّا يمينى، إليها.. صافحتنى برقة.. وقد إبتدرتها:
- " أهلا أهلا، أستاذة جنى.."
- " أهلا بك، أستاذ يوسف.. تأخرت قليلا .. أنت ترى زحام الطريق.."
- " لا لا، أنا الذى جئت مبكرا، قبلك.. موعدك مضبوط تماما، فالساعة ما زالت السابعة والنصف.. تفضلى. تفضلى إجلسي.."
- " أعتقد أن كلانا يسكن قريبا من هنا،.."
- " نعم، فأنا جئت سيرا على قدمى، من البيت.. فى ثروت باشا.."
- " أسكن فى سابا باشا.. مجرد محطتين بالترام، فقط.."
كانت الأضواء فى كل مكان، والضجة كبيرة حولنا. بالكاد أسمعها وتسمعنى، بعد أن أجلستها من الداخل، فى مقعدى.. وخلفها زاوية الركن، من السور الجانبى، والجدار الخلفى.. بينما جلست، فى جهة المنضدة الأخرى، الملامسة، للحركة، بين بقية المناضد.. أشرت للنادل، الذى كان قريبا منا، يلبى طلبات منضدة، تلينا، فى الجوار.. طلبت هى عصير مانجو، وطلبت فنجان قهوة آخر، بدلا من الآخر الذى برد، فى هذه الأثناء.."
أشعلت سيجارة، فقالت لى:
- " لم أكن أعرف أنك تدخن.. "
فى الوقت الذى كان فيه الدخان قد تبدد.. قلت:
- " للأسف.. القهوة والتدخين.. شيئان فى حياتى.. ربما سهرى المتواصل هو السبب.."
ضحكت وقالت لى:
- " لست وحدك مدمنا.. فأنا مدمنة " شيكولاتة ".. للآن والدى، لا يترك يوما، إلا وأحضرها لى، وهو عائد، من عمله.."
هززت رأسي مبتسما، قلت:
- " كلنا نظل أطفالا، فى نظر آبائنا، مهما كبرنا.."
ومدّت يديها، إلى حقيبتها الجلدية الصغيرة، وكان لونها أزرقا غامقا، بلون يقارب لون ردائها.. أخرجت منها، قطعة شيكولاتة كبيرة، بغلاف بني، من الخارج، وفضي لامع، من الداخل.. قسّمَّتها بيننا، وهى مازالت، فى غلافها الجميل.. قائلة:
- "تفضل تذوقها. إنها بالبندق التركى.. يأتى بها والدى خصيصا لى.. "
- "قلت لها والقهوة؟"
ضحكت قائلة:
- " طالما أنت معى، تذوق هذه الشيكولاتة.. إلى أن تأتى قهوتك.."
قلت لها:
- " بل دعينى أحتفظ بها، فى جيبى،.. سأتناولها هذه الليلة، وأنا أعمل.."
تناولتها منها، ووضعتها، فى جيب البالطو الأيمن.. بينما، كنت أسمع قرمشتها، لنصفها الآخر، وقد قضمت منها، قضمة.. بأسنان، بدت بيضاء جميلة، بثناياها الرائعة، بين شفتين ورديتين، طبيعيتين. وعدت إلى محادثتها، بينما أدخن:
- " هل تسمحى لى، أن أناديك "جنى" بدون لقب..؟"
ولم أنتظر إجابتها، فقلت لها:
- "جنى، هلا حدثتينى، عن نفسك قليلا.."
قالت لى :
- " لما، لا تفعل أنت، أولا.."
قلت لها، وقد إرتحت بظهرى، إلى ظهر مقعدى:
- " إسألى ما شئت.."
قالت:
- " يوسف، منذ رأيتك، وأنا فى حيرة، من أمرك.. أقول لا أمرى أنا.. ماذا تريد؟
صمت قليلا.. قبل أن أجيبها، ولم تسألنى غير: ماذا تريد؟"
- " حسنا، أأحدثك عن نفسي.. أن أجاوبك عمّا أريد.. كلاهما، أصعب من الآخر.. !"
قالت:
- " كما شئت.. !"
أردفت قائلا:
- " عادة، لا أتحدث عن نفسي، وحياتى الشخصية.. أما الثانى، فسؤال الحياة نفسها.. ماذا نريد منها، وماذا تريد هى منا.. لى أحلامى جنى.."
أجابتنى، بتركيز:
- " أنت وأحلامك شئ واحد.. إبدأ بما شئت.. قل ما تريد أن تقوله.."
فى ذات الوقت، جاءنا النادل، بعصيرها وقهوتى.. وبدأنا نتكلم، فى الوقت، الذى تزايد فيه الضجيج، من حولنا.. إرتشفت رشفة.. وقلت لها:
- " ليس الآن.."
عجبت من قولى.. وقد باعدت بحاجبيها، إلى أعلى، مندهشة من قولى.. قبل أن أكمل :
- " تسمعين هذا الجلبة.. دعينا نكمل مشروبينا، ولنننهض، لنتجول قليلا، بعيدا عن هنا.. هل يمكننا ذلك..؟!"
أجابتنى، بأن أغلقت جفنيها لبرهة.. موافقة، قبل أن تقول:
- "على شرط ..!"
وقبل أن تكمل، قلت لها:
- " أعلمه..!"
ضحكت.. وقد أضفت:
- "أخبرك بكل ما تريدي، أن تعرفيه جنى.."
---------------
(3)
بعد قليل كنا قد نهضنا، وعبرنا طريق الكورنيش، سائرين، بإتجاه الشرق.. بينما كنا نتحدث.. عن كل شئ، إلا رسالتها العلمية، وروايتى التاريخية.. علمت منى عن والدىّ، وأمى، وكيف أعيش.. وعلمت منها، أنها وحيدة والدين، مثلى.. والد، لواء شرطة، فى أمن الموانئ .. عبد الحافظ سليم. ووالدة، أستاذة عمارة فى كلية الفنون الجميلة.. دكتورة دريّة عطا.. وتذكرت حرف الدال، فى سلسلتها، الذى لم أسأل عنه، فى أول مرة رأيت فيه سلسلتها الذهبية.. بينما إتصل بها والدها، ليطمئن عليها، فى هذه اللحظة، فقالت له:
- " أنا مع أستاذ يوسف الذى حدثتك عنه يا أبى أنت، وأمى.. "
وفجأة أعطتنى هاتفها، وهى تقول لى:
- " والدى يريد السلام عليك يا يوسف.."
كانت نبرة صوته حنونة رخيمة، وهو يقول لى:
- "أهلا يا بُنى.. كيف حالك يا أستاذ يوسف.. جنى حدثتنا عنك، كثيرا.. "
بدورى سلمت عليه مرحبا به كثيرا.. وشكرته على هذه الثقة.. وسألنى أين نحن الآن.. ثم قال لى:
- " إحرص، على أن تقوم بتوصيل جنى، حتى البيت.. لن نتعشى بدونها..!"
---------------
(4)
وكنا قد وصلنا فى هذه اللحظة، سيرا على رصيف الكورنيش، إلى قبالة شاطئ السراى الصخرى. وخلفنا، على بعد تلك الأبراج الشاهقة، بطابية "سيدي بشر"، التى أقيمت منذ سنوات، مكان الثكنات القديمة، لمعسكر البحرية. وكان قد مرّ، على لقائنا، منذ تركنا سان ستيفانو، قرابة ساعة ونصف.. فى الوقت، الذى جاوزت الساعة فيه، التاسعة بقليل.. فإستوقفت "تاكسيا"، لأقوم بتوصيلها، إلى منزلها.. قلت لها، ونحن فى السيارة:
- "جنى، سلسلتك ينقصها حرف رابع.."
قالت لى، وهى تبتسم:
- "أرانى سأضعه قريبا.. يا يوسف.."
مرقت السيارة عبر طريق الكورنيش، ثم دلفت إلى شارع جانبى، وقد تركنا طريق البحر، ثم محطة الترام.. عبرنا مزلقان الشريط، إلى الجهة المقابلة، لشارع جانبى آخر. وأمام المنزل، الذى طلبت منى إيقاف السائق أمامه، هبطت من السيارة، حتى رأيتها تدخل باب منزل من ثلاثة طوابق، محاط بحديقة جميلة تطل أشجارها إلى خارج سورها.. طلبت منها، أن تطمأننى هاتفيا، وكنا قد تبادلنا فى المكتبة، رقمىّ هاتفينا، منذ لقائنا السابق فقط. قفلت بنفس السيارة الأجرة، عائدا إلى بيتى.. ولم أنسَ، قطعة الشيكولاتة بالبندق التركى، فى جيبى الأيمن..
---------------------------
فقرات أخرى من الفصل الخامس
---
كان كل شئ من حولى نابضا، بالحيوية. يدل على ذوق فني راق.. أناقة متكاملة، وتناسق، وتناغم تام، فى الألوان، ودون مبالغة.. كان هناك أنتريه كبير، من الطراز، المريح.. أربعة مقاعد، بمساند عريضة، وأريكة كبيرة واسعة.. مكسيّ، بنسيج سميك، ذى لون بني فاتح، يسود، مع الأزرق الملكى، ودرجات الأبيض الجذابة، مما منح المكان أجواء دفء، وأناقة كلاسيكية، لا تقاوم.. كان هناك أكثر، من لوحة أبيسونية، لمناظر طبيعية خلابة، بأطر خشبية بارزة ومذهبة. إحداها، وهى اللوحة الكبيرة، معلقة على الحائط خلف الأريكة، فقد كانت مشغولة، بلون أزرق فاتح، بلون زغب البحر، وقد إمتزج فيها، درجات البني والبيج، بهدوء رصين. بينما الثانية، ، فتقارب الأولى، فى حجمها، وفى الجهة المقابلة، على نفس مستوى الإرتفاع.. بلون ذهبي ممتلكا مكانه، بين البرتقالي والبيج الكريمي.. أما الثالثة، فكانت لوحة متوسطة الحجم، معلقة على الحائط الأيسر، تحت مصباحين، مثبتين، بالحائط. كل منهما على شكل شمعدان فضى، لجينى غامق.. بينما اللوحة ذاتها، فكانت، فى مزيج لوني أنيق، يبدأ من الأزرق الفيروزي، ثم البنفسجي الفاتح، مع الأبيض والأخضر بدرجاتهما، بينما يزهو بينها، الأصفر اللايم، مع الرماديات.. كانت، لوحات يدوية رومانسية وهادئة.. ينّمّ إختيارها، على ذكاء، لا تخطئه العين.. فى إختيار أماكنها، التى وضعت بها، وفى تواكبها مع ألوان بساط الأرضية اليدوى، أيضا. وفى تناسب كل منها، مع الإضاءة، وقطع الأثاث، الموزعة، بوعى، من حولها،.. ولم تقل غرفة السفرة، بأثاثها الخشبى الكلاسيكى، وإضائتها الدافئة والمريحة للعين، عن روعة هذا الركن الكبير، الذى جلست فيه، ورأيت بشغف تفاصيله الأنيقة، من قبل.
أتعرف يا يوسف لو لم تكن أديبا لكنت فنانا..!
كان إختيارها لكلماتها يصيبنى بربكة وحيرة،..
-------------
الأسئلة الحائرة
----
كانت الساعة الخامسة صباحا، بعد هذا الفجر الشتوى. وقد غادرت البيت، منذ قليل، للتمشية، على طريق الكورنيش. جنبا إلى جنب، مع حركة أمواج البحر الخفيفة. يتنامى صوتها جميلا، متهاديا مع هبات هواء بارد منعش.. كنت مازلت أسمع تلك الأصوات، فى رأسي، كما صوت محطة سكك حديدية. كنت فى حاجة، إلى تجديد طاقتى، وتصفية ذهنى، لأستجمع أفكارى. كما كنت، هنا دائما، في مثل هذه الحالات. شجعنى فى ذلك تحسن الجو، بشكل رائع، عن ليلة البارحة. وقد بقيت حتى وقت متأخر، فى المنزل، لم أبارحه. غارقا، فى هذه الأوراق، وبين تلك الأفكار والصور.. بينما كان المطر لازال مستمرا، منذ أن حلّ مساؤها. ولم يتوقف إلا قبيل السحر، وقد سرقت نصف ساعة للنوم. سرت قليلا وكان أمامى شاب، يعدو متريضا. كان قبالتى وحيدا. على ما يبدو، يمارس رياضته، فى هذا الوقت. لم يكن البرد كفيلا، بمنع خروجه، أو من رؤية مثله. يصيدون، من فوق حواجز الموج، أو يعدون هنا وهناك..  وبين ما كنت أراه، من صيد وعدو، على طول الطريق، بدأت بترتيب الأحداث منذ معرفتى بالدكتور مصطفى صالح.. آملا، أن يكون هذا، خطوة مؤدية بى، إلى شئ، من الحقيقة الغائبة..
----------------------