سرماديا

سرماديا

خواطر قصصية عابرة






خواطر
 قصصية عابرة
---- خالد العرفى
الأخطبوط-  الكبش-  صورة - مدد مدد - إمرأة على الجسر - الرجل "الديزل"..- ولد صغير وطريق لا ينساه..
--------------------------------------------------------


  الأخطبوط
----
أحيانا كانت تهدى منها الجيران، الذين باتوا ينتظرونى، بعد كل رحلة صيد، على بُعد ثلاث دقائق، من بيتنا بقرب الشاطئ. كم أنضجت أمى، طواجن من صيدى، وصيد أبى .. وكم من تلك العقود الصدفية، التى جمعت أصدافها.. يذكرنى بها، ما هو معلق،.. وأمى دائما تذكرنى، بذلك اليوم، الذى لا أنساه، في طفولتي،.. دعانى أبى، ليعلمنى السباحة، والغوص. لم يبعد الشاطئ عن بيتنا، إلا مسيرة قصيرة. ونحن نهم بالسير، عبر دربنا، المؤدي إلى الشاطئ، فاجأنى، وأخذنى لأبعد نقطة، عن الساحل، بعد أن نأينا:
-      " هنا ستتعلم السباحة يا يوسف"
-      " لكن هنا صخور صلبة، والعمق كبير"
-      " لذلك ستتعلم، ما لا يتعلمه غيرك. أليس ذلك أفضل. هنا ستتعلم الخطر. سأعلمك كل شئ. لن أبخل عليك.. لن أضن بم علمنى، جدّك رحمه الله"
رأيت الأمواج تتهادى مرة، وتسرع مرة، باتجاهنا. لم يكن غريبا، أن تتخطى الحاجز الصخرى، فى الشتاء. كانسة معها ماضى الصيف، والمصطافين. كانت تجرف معها، حتى الرمال. تُعمل بقوتها، فى تعرية حواف الشاطئ، فتتآكل مع الزمن، من عام إلى آخر.. كنت أرى الأمواج تروسا جبارة، لا تتوقف أبدا.. تأخذ كل شئ معها. لكننى عشقت الأمواج، وصادقتها، وباتت تعرفنى،.. علمنى أبى كيف أتعامل معها، كما علمه جدّى.. أكسرها وأتخطاها. مع الوقت صرت صخرة حية.. تعرفنى الأمواج.. ويعرفنى البحر. حتى الأصداف التى كنت أجمعها، عرفت أنواعها.. أحيانا، كنا نصطاد، وسرعان ماعلمنى أبى، كيف أُحكم الشصّ. مرارا أمسكنا معا، بالأخطبوط. أحتفظ إلى الآن، بالذراع الحديدى ذى النصل الحاد، الذى أهدانى إياه أبى. تركه لى، فقد صنع لنفسه آخرا.. كنا نتبادل صيد الأخطبوط، بالنصلين، بين الصخور، بعد أن نغوص معا. مع الوقت، صرت أكثر حنكة.. يفرح كثيرا حينما كنت أسبقه، غوصا، ولا يدرى بى، إلا ونصل رمحى الطويل الحاد، مغروس فى قلب أخطبوط، وقد إهترأت أذرعه،.. وأقوم بتقطيع الباقى منها، على الشاطئ، بسكين حاد..

يضحك أبى وأضحك، مختلطة أصوات ضحكاتنا، برائحة اليود النقى يملأ صدرينا. وتمتزج، كلماتنا بأصوات الأمواج، على بُعد ثلاث دقائق..
--------------------------------------------------------
 الكبش
-----

وسطّته جرن المزرعة، آخر أرض إشتريتها حديثا، من صديق لى، بالساحل الشمالى. حرصت على ألا تكون جوانبه ليست مرتفعة، بعيدا عن حظيرة الماشية. بدا مسطحا ليس عميقاً، لكل دجاجة تود أن تشرب. إلا أن الدجاج عانى، من حظيرة الأغنام المجاورة، لحوضها.. ظانا أنه دجاحة مثلها، كان هناك كبش أسود، يختلف عن بقية القطيع. يتسلل للشرب مع الدجاج.. يخيفها بقرنين مكسورين. ويزعجها بثغائه... بصوت متقطع مرة، وأخرى يفزعها، بثغاء مستمر، كأن به مسّ شيطان.. حتى ظننت أنه سوف (ينقنق ويقوقق) بدلا من أن يثغو.. إستدعيت بيطرى، لعلاجه ولم يفلح. قال لى ضاحكا (أتخشى أن ينزو، على إحداهن، ف"تفطس"..) قلت له : لا، فأنا أرى الدجاجات الماكرات، تحتال عليه، لتنقذ نفسها.. تقسّم نفسها قسمين، لتنجو بريشها. يراوده القسم الأول، فيذهب وراءه. فيشرب القسم الثانى. وهكذا يتبادل القسمان، شرب الماء من الحوض البعيد، والضحك على الكبش، ساخرة منه.. وهو ينطح جدار الحوض. مسكين الكبش، لم يعرف أن هناك حوض آخر كبير، وراء المزرعة. تعرفه الدجاجات فقط..يسهل لها، الشرب والحياة، مصطحبة أفراخها وصيصاناتها، بمنأى عن إزعاج ثغاء الكبش، ورفسات أظلافه، حينما يندس وسطها. كنت أستمتع برؤية هذه الحرب المضحكة، بين الكبش والدجاج. إلا أن أعرابى من المجاورين أشار علىّ، ليضحكنى أكثر :
- "إخصيه" يابك.. أو أبيعك نعجة، تؤنس وحشته، المسكين.. اخلص ياباشا من مشكلة هوس الكبش بالدجاج.. حتما، ستلهيه النعجة حتى الأضحى..."
رددت عليه باسما :
- "لا لا.. أنا أحب أن أرى هذا الكبش، دائما بين الدجاج.. يُسلينى،.. لعلى يوما أصبح، وأجد له (عُرف ديك) بدلا من قرنيه، اللذيْن فقدهما، نطحا فى الجدار.. أو نحصل منه، على ريش ملون، نضعه فى وسادة، لضيوف المزرعة.. بدلا من جزّ صوف ظهره، ورقبته.."
وتبادلنا الضحك مع عامل المزرعة، الذى كان يربط الكبش أمامنا فى حلقته أمام العليق.. وحبل طويل فى رقبته، يُعقل به، أينما ذهب، متوكلين على الله...
-----------------------------------------------------

صورة*
-------
أعطانى صورته، قائلا: "صفنى".. قلت: "أعوذ بالله. أخشى إن وصفتك، أدخلتك التاريخ.. تصبح وصمة عار، فى عالم الأدب. سلام قولا من ربّ رّحيم" قال: "حاول" فقلت:" ليس لك ملامح. مسخ. مجرد وجه مكتنز، لا أرى فيه إلا نقطة سوداء، تسكن شئ  أرخبيلى هلامى  رخو..".. يستجدينى مرة، بعد أخرى:"حاول مجرد سطر، فى ورقة، من أجلى.. وجهى فحسب" إنتبهت، وإذا على طرف الملعقة، قوقع صغير مفتوح.. ألفيته، ساقطا فى "الفنجان".. ناديت النادل، فغيره.. وأنا أكمل قراءتى (أحدب نوتردام)..
--------------------------------------------------


مدد مدد*
-------
قبيل الفجر، بقليل. يترائى لى مجمع البحرين.. فركت عينيَّ، على صوت الآذان "خير من .. خير من" .. قلبّته يمينا ويسارا. ولأعلى ولأسفل. لم يعيينى شكله العجيب.. فقط، عجبت من قدرة عقلى الخارقة، التى وهبنيها الله. عرفت تلك النعمة، بقدر ما أدركت، ما يستغرقه هذا الأمر. مضيت، ومضيت.. فى ثوان خاطفة، إخترقت عتبات وعتبات، .. بسرعة البرق.. حللت الأحجية، كلها... بقدر، أعطانى مفتاح الحل.. نفحة ربانيّة، أهدانيها القدر. المخ البشرى جبار.. شئ إلهى، عجيب. كشف، ظننت معه واهما، أنى ولىّ، من أولياء الصالحين.. لأطوى الزمن، وأعبر أبعادا، ربما أكثر من عشر، أو يزيد،.. لم يكونوا أربعا. خسأ، من قال بذلك. زاعم واهم.. تربت يداه. أعماق الكون، لا متناهية، علمها عند ربّى.. أحاط بها، عالم الغيب والشهادة. لولا قدر تلك النفحة الربّانيّة، لأدعيت الولاية.. هيهيات، هيهيات،.. هيهات، أنّى يكون لى مقام،.. وعمّة، ومولد،.. وعباءة .. فما أنا إلا مريد، وأحب الصوفيّة. بالأسحار، هم يستغفرون.. مدد، مدد..مدد.. لا أنكر، أنهم علمونى السفر فى الزمن،.. حقيقة الأمر، أهل الطريق، ومريدوه، علمونى.. وتعلمت من سالكي الدرب، كثيرا جدا.. يختلفون عن أهل الشريعة، تماما. قال لى أحدهم: "لنا الباطن، أضوأ من ظاهر الحواشٍ، والمتون.." أوراد، وأحزاب كثيرة، أهدونى، إياها. قال لى آخر:"أصبحت، تعرف كثيرين منا،.. بخ بخ".. بالطبع، حفظّونى،  وصاياهم، وصُنتها، كالوصايا العشر. عند "الصخرة"، عبرت.. لم تكن نزغة وسواس خناس، فى صدرى، لإستعذ بالله. على كل حال، سميّت اسم الله العظيم" بسم الله الرحمن الرحيم".. سافرت إلى أبعد.. ولجت أكثر، وعرجت أكثر.. مدد مدد.. لم أنوِ، أن أكون شيخ طريقة، فأنا مريد من المريدين، .. مدد، مدد..مدد.. نفحة الحزب، تفتح كل شئ. وِرد عظيم، حقا... مدد، مدد..مدد.. دوّى صوت راعد.. (حَيّ) رأيت التفاحة، وهى تسقط، فى عقلى.. سلك حوت طريقه، فى بحر مفتوح. هوت، فى قبضتى، الحقيقة.. لم يكن لى، المشى على الماء.. وربما، لو كانت هناك قارة أخرى، لإكتشفتها.. واهم. واهم. مدد، مدد..مدد.. ما زلت أسمع (حَيّ.. حَيّ).. سبّحت القدوس، سبحان الظاهر الباطن. قرأت الفاتحة، لآل البيت، وساداتنا، ومشايخنا، وآبائى وأجدادى.. مدد. مدد.. أمسكت بوِردى، .. حمدت الله كثيرا، وشكرت المريدين، فى الحضرة. يالها، من معيّة، وصُحبة، لا تنتهى. يدعو كل منا، للآخر، حضورا، وبظهر الغيب. مدد، مدد..مدد.. تيقنت، أنى كنت مستيقظا، ناظرا تجاه القبلة.. وضريح كبير أمامى.. مسحت وجهى، ببركة الفاتحة.. آخذين بأيدينا، بعضنا البعض. مدد. مدد.. حتما، سنزور معهم، الأزهر الشريف، والحُسين، ومقامات أهل الله الصالحين، كما دعونى، بحثا عن كتب صفراء أخرى، للصوفيّة، إستزادة من بركاتهم.. مدد، مدد..مدد..مدد، مدد..مدد.. سنقرأ الفاتحة، معا، صُحبة مريدى الطريق. مدد مدد.. إفترقنا، على موعد.. جزى الله أسيادنا، ومشايخنا، وأولياءنا، والمريدين، والسالكين، من أهل الطريق، عنا خيرا عميما.. يترائى لهم، ما لايُرى"مدد، مدد..مدد..حَيّ.. حَيّ"
----------------------------------------------
" تعويضة " إمرأة على الجسر"
---------

الراحلة أو المختفية " تعويضة " تلك المرأة التى كنت أراها فى طفولتى البعيدة على الجسر. وهو منطقة تمتد بين محطتى قطار النقراشى باشا، وسيدى بشر. هذا الولىّ، من أولياء الله الصالحين، وله مقامه إلى الآن. 
والجسر مرتفع من الأرض رملى. يحيط به من الجانبين تكسية من الحجر الكلسي، أشبه بتلك التى تُكسى بها جوانب الأنهار و"الترع"، فى مصر المحروسة.. جسر يسير عليه القطار. وما علاقة "تعويضة"  بالجسر؟
طالما إرتعب الأطفال من منطقة الجسر، الفاصلة بين عالمين:  قبلى وبحرى، كعوالم نجيب محفوظ.  " فبحرى السكة" حيث المنطقة السكنية الراقية المنارة، بأعمدة إنارة، وتمتد إلى شاطئّ "أبى هيف " وشاطئ " سيدى بشر " الشهيرين، ويقطنها السكان الجدد. أما " قبلى السكة " فقد كانت المنطقة الشعبية، ويطلقون عليها  "دربالة".
عالم أشبه بعوالم الحرافيش. وخلفها عن بعد، منطقة سكنها الأجانب قديما خاصة "الأرمن" أو الخواجات، مثل الخواجة الشهير "تشاكوس" الذى سميت المنطقة على اسمه، وموجودة حتى الآن.
وبين هذين العالمين المتناقضين "قبلى وبحرى" يقبع الجسر، كسد منيع، يحجز مانعا عبور الحرافيش، بمعاركهم الطاحنة، التى يُسمع بها كل حين، وتطيش فيها رقاب وأعنقة بلطجية.
أما مرأتنا تلك "تعويضة" كم أحبت أن تأتى دائما، من صوب الجسر المرعب ليلا، حيث خط السكة الحديدية المفرد، يعلو الجسر، يشق بطن المدينة، قبل إزدواجه الآن.
أشبه بجنيّة هاربة بشعرها " المنكوش " وجوال من القماش تمسك به دائما، لا يعلم أحد ما به، تجرّه أحيانا، وتحمله أحيانا أخرى.. وأشهد أنى لم أرً إلى الآن إمرأة فى حُسن هذه المرأة، وجمالها البارع، رغم أن الكل كان يخشاها، لأنها تأتى  دوما، من صوب الجسر. ولكن هذا الكل، كان يجتمع على الصنبور العمومى، أو كما كان يسميه الناس فى هذا العهد البعيد "بحنفية الصدقة" التى كانت موجودة فى كل منطقة آنذاك، كما فى مصر كلها. إذا أرادت أن تستحم، فلا تخشى أحدا، ولا تستحى من مارة، أو وقوف ينظرون إليها، مشدوهين أمام حسنها الآخاذ.
أنظر إليها بعينين طفولية، مشدوها مثلهم، ولكن من منظر هذا التجمع البشرى الذكورى والنسوى حولها. تتحّمم أو تغتسل، لا تستتر بشئ ، وكأنها على حافة نهر أو جدول جار، و ليس أسفل صنبور عمومى، أمام برية الله. 
تغار من جمالها الفاتن النساء. أما هؤلاء الرجال الماكرون، لا بد أنهم رأوا فيها، ما لم يروا فى زوجاتهم. أما الأطفال، وكنت منهم لا أفقه شيئا بعد، عما أراه فى نفسي، كجسد طفل صغير. ولا أذكر ربما كنت فى السابعة من عمرى، فكنا نتحلق حولها، خلف الكبار.  والكل يغنى لتعويضة، ذات الشعر المنساب جاريا، بفعل الماء إلى أسفل، فلم أرَ شعرا بهذا الطول إلى الآن، وأظن أننى لن أرى.   منذ هذا الحين البعيد، تمنيت أن يمسّ كل النسوة شئ من الجنون، ليطول شعر كل إمرأة منهن، فلا تقصّه أبدا.  وبات فى ذهنى أن كل إمرأة مجنونة جميلة شعرها طويل جدا.  ما أحلاه من جنون، وما أطوله من شعر
ولم أحسن الإندماج مع الأطفال، ربما لإندهاشى البرئ ودهشتى الطفولية البريئة، بهذا الوجه الحسن، الخلاب جماله. كم كانت دهشتى من هذا الجسم البضّ، الذى تفترسه أعين الرجال. لم أفكر فى الغناء لتعويضة الرائعة، مع كورال الأطفال حولها : "تعويضة أهى.. تعويضة أهى " فقد كنت مشغولا، بملاحظة أعين القوم تتركز بؤرة رؤيتها، فى وسط المرأة، الذى يظهر ويختفى، مع تموج شعرها الطويل المبلل. 
وكأننى أرجم غيبا، بأنى سأكتب عنها يوما ما، فى المستقبل البعيد بعد أكثر من ثلاثة عقود. وأنا منْ كانت أمى تحمّمّنى فتغلق أبوابا ونوافذا، كطفل فى السابعة، فأقارن بطفولتى. أتعجب، وليس لتعويضة أبواب تغلقها على نفسها، فى وجه هؤلاء الناس الأشرار.
رأيتها دائما كجنيّة جميلة، هاربة من ألف ليلة وليلة، وليست بإمراة مكلومة، فى أطفالها، كما قال الناس عنها آنذاك..أن زوجها العربى الغاشم، إنتزع منها أطفالها، فى إحدى الدول العربية، ورحلّها إلى مصر، و لم تستطع رؤيتهم بعد ذلك مطلقا، فذهب عقلها، ومسّها الجنون.
لم يذكر أحد هل علم أطفالها، بما حدث لها بسبب فقدهن؟ هل بحثوا عنها فى مصر أم لا ؟
ولم يعد هناك تعويضة، ولا صنبورا عموميّا. وحتى الجسر أصبحت تغطيه من الجانبين حوانيت تجارية ،من كل صنف، ومن كل نوع، فأخفت حجارة الجسر البيضاء العتيقة، على خط قطار الرمل الشهير. وأصبحت منطقة دربالة، فى الناحية القبلية من الجسر، تٌرى منطقة شبه صناعية، لتصنيع الملابس. وذهب حرافيشها، ومنهم من يذكره الناس فى أسمارهم باسمه  "البلطجىالسيد كلوظة".
وذهبت تعويضة بذكراها غائبة، فى عينى كطفل فى السابعة، ولم أرَ عاقلة بشعر طويل غريب، فأطول شعر رأيته يوما ما، كان لإمرأة مجنونة، فائقة الجمال.
وما زلت أذكر أعين الرجال محدّقة، وأتساءل عما كانوا ينظرون إليه، آنذاك
. وأمر بالجسر على فترات بعيدة، وكلما مررت أتذكر تعويضة الجميلة، وشعرها المفرود الطويل جدا.
-------------------------------------------------
الرجل " الديزل " ..
------------
فى الثالثة فجرا كل يوم، من هذه الأيام البعيدة، لم يكن النيام يستيقظوا فزعين، أن القطار قد يدهمهم ومنازلهم فجأة. باتوا يعلمون قصة الرجل، الذى حلّ مشكلة إنضباط مواعيد القطار رحيلا، وقدوما ، بمعرفته وبطريقته الخاصة، أن أصبح الرجل الديزل أو الرجل القطار. تقمص شخصية القطار، بشحمه وعرباته، وحتى صافرته المزعجة فى جوف الليل. يرى نفسه كذلك. صوته. حركته. الغريب أنه يرى نفسه قطارا بخاريا قديما، وليس أحد القطارات الحديثة. ربما خشى أن يستقله أحد، لو رآه كذلك. يقلد فى مشيته حركة العجلات القديمة، ذات الذراع البخارى الدافع .. يتنقل بين شوارع المنطقة، شارعا شارعا. وحينما يأتى لأول الطريق الذى يسبق منزلى، أستطيع أن اضبط ساعتى على موعده أدق من ساعة إذاعة القاهرة أو البرنامج العام. ربما زعق زعقة مدويّة فجأة لنكتشف أن أحد الماكرين قد دسَّ فى يديه  شيئا ما، راشيا إياه، ليزعج جارا له، فى جوف الليل. أوتلهيه الزعقة عمّا كان يفعل، لو كان مستيقظاً. إنها ألاعيب الجيران الخبثاء.
قالوا أنه صُرع من صوت القطار، وهو صغير.. و قالوا أنه كان عاقلا، وزهق من مشكلة المواصلات فى مصر، ففقد عقله. لكن لم يعرفوا لماذا بالذات راق له أن يكون قطارا بخاريا وليس حديثا أو " مترو " يسير بالكهرباء، رغم أن الأسكندرية بها مثله.. وهو "المترو " الشهير ذو الطابقين يسير من فيكتوريا إلى ميدان محطة الرمل. ربما لم يحب وهو مراهق، فلم يستقله أبدا مع حبيبة..
كنت أخشى فيما مضى، أن أفقد الرجل الديزل فجأة، فلا أستطيع أن أعرف أن الساعة الثالثة صباحا.
-------------------------------------------
ولد صغير وطريق لا ينساه..
--------------
 شارع عزبة السيوف اسمه هكذا .ليس عزبة بمعنى مكان ريفى، إنما هو طريق بينه وبين شاطئ البحر الشهير بالثغر"أبى هيف" دقيقة واحدة. أطلقوا عليه هذا الاسم لكثرة فيلات اليونان والأرمن وغيرهم، وربما منهم الخواجه سيوف نفسه.
يمشى الصبى متلكعا. ينظر فيما خلف أسوار الفيلات العتيقة يخال أشجارها تحدثه. تلفت نظره الأبنية الحجرية المغطاة بالقرميد النبيتى أو الأحمر، ورائحة الورد البلدى وأريج الفل والياسمين، مما يعبق الطريق، الذى تتخلله دروب ضيقة بين الفيلات، أشبه بجيوب سحرية. 
يدلف من درب إلى آخر، حتى يصل إلى بائع الكتب والمجلات القديمة. يدسّ فى يده مصروفا وفّره طوال الأسبوع لشراء بضعة مجلات قديمة ل( تان تان وميكى وسوبرمان.. (  أو كتاب قديم من سلسلة الكتاب الذهبى. 
كم أحبّ أن يغوص بنفسه بين أكوام الكتب. يشم رائحتها ويقلب فيها. يقع فى يديه أحد الكتب الأجنبية، لا يعرف لغة لها. لم يكن يعرف حروف الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها.
يلفت نظره شكل الكتاب من الداخل، بصفحاته المقسومة رأسيا، وشكل الورق مع الرسوم اليدوية القديمة. استطاع أن يرى أرقام سنة الطباعة القديمة.
أخذ الكتاب ليضعه فى حقيبته ذات الجلد السميك. وعد الرجل العجوز باعادة الكتاب الأسبوع القادم، مقابل قرش صاغ كامل، مع مجلات سوف يستبدلها ليستزيد قراءة. قلّد الحروف بقلمه الرصاص على ظهر ورقة خشنة من أوراقه.. لم يكن يستطيع شراء الورق الأبيض.
كتب الحروف الغريبة. عرف فيما بعد أنها حروف الإنجليزية ولم يعرف الكلمات. تأمل الصور، لعلها تعطيه شكل الكلمات. هذه مبان قديمة. وهذا جبل وراءه غابة. لوحة يدوية، وليست صورة فوتغرافية. أخذ الكتاب فى حقيبته اليوم التالى. لمدرسته  التى تجاور طريق ممشاه.
"  أبلة " أمينة " لا أعرف كيف أقرأ هذه الحروف. ايه هى يا أبلة أمينة"
- "اسمع يا حبيبى بكرة تكبر وتعرف إنجليزى. ده حروف إنجليزية والكتاب ده قصة لكاتب إنجليزى شهير اسمه "تشارلز ديكنز "..
- " ممكن تعلمينى يا  "ابلة "؟ "
احتفظ الولد بالكتاب. يحب رائحته يشمها. تسكره.. يأخذه معه إلى فراشه.. يحب تصفحه وهو مستدفء.. قبل أن ينتهى الأسبوع، تعلم الحروف الغريبة. حفظها دون أن يعرف نطقها ولا معناها.. يرسمها رسما بأنامله الصغيرة على الورقة الكرتون السميكة. على كفّه الصغير. يعود ليقلب صفحات الكتاب، ويقف عند الرسوم. يود أن يستنطقها لتروى له القصة المكتوبة، ويعود لشارع عزبة السيوف مرة ثانية.  يستبدل المجلات بأخرى. وعد البائع العجوز بقرش زيادة الأسبوع المقبل. مقابل أن يدع الكتاب له .
وتمرّ السنون تحمل أحلام الطفل الصغير. وتختفى الفيلات. ويختفى حانوت الكتب القديمة. وتختفى المدرسة. ويكبر الولد الصغير. ويتذكر حروفا تعلمها، قبل أن يعرف نطقها، ولا ينسى "أبلة أمينة ". ولا ينسى الرسوم.
فى ذاكرته ، يعاوده الحنين فيحب أن يمر بنفس الطريق العريق القديم. يتذكر أريج حدائق الغرباء ويتذكر المحل القديم والبائع العجوز. ولا ينسى رائحة قدم الكتب، بورقها الأصفر. ولا لمسة معلمته " أبلة أمينة " على كتفيه حانية تشق له طريق القراءة.
لم يعد الطفل يمر بالطريق،  إلا فى ذاكرته، حنينا لطفولة قرائته.
--------------------------------------------------------