سرماديا

سرماديا

التل الأرجواني





 التل الأرجوانى
----- خالد العرفي
 كالسحاب، كل يوم فى سماء، فكيف يعرف أين مستقره السابح، ساكن البعاد.. كنت أحادث نفسى. أصارعها. أريد أن أخرج من عقلى أبطال قصصى. هذا التاجر اليهودي (الصولدى) فى روايتى، يؤرقنى..
" -كيف يلبس. كيف يمشي. كيف يتاجر فى الرقيق. كيف يرابى. وكيف.."؟ كيف كان معه دوما خادماه، يلازمانه على طريق الحرير، من فارس إلى الشام، مرورا بشيزر. أحدهما، فكان أسودا طويلا ذا بسطة، فى الجسم والقوة. لا تخطئه العين، من مسافة بعيدة. أما الآخر، فكان ضامر القوام، قصير، أشبه بغلام يكاد يلاصق الأرض. مختفيا، بين التاجر وخادمه الأسود الضخم. كثيرا ما تسائلت:
" - لماذا لا يشترى عبدا، يستبدل به هذا ضئيل بنية الجسم؟ وذلك فى قدرته ووسعه، بل أكثر.. "
كم من مرة دار بذهنى، وهممت فيها لأسأله:
" -ما بال ذلك؟ "
وكأنه قرأ ما يدور فى رأسى، فيداعبنى ويذهب ضاحكا بجملته، يلقيها على مسمعى:
" -ويكأنك تتعحب من أمرى، مع "ميمون". إنه عبد أسود مخلص وخادم أمين. يتبعنى دائما، فى كل فجّ.. يأتى بما لا يستطيعه المملوك الزنجى الأسود "سِيفان" .."
" -أخرج أيها التاجر اليهودي، من رأسي. أخرج.. تعالى، مكانك هنا فى هذه الفقرة. لا تحادثنى أنا.. بل، حاور هذا الأمير، الذى تأتيه بما يريد، عبر طريق الحرير. هيا تحدث. أنطق. أخرج لا تقبع، فى مخيلتى أنا.
وأنت أيتها الفتاة الأنطاكية:
" -لا تتوارى خلف التل الصغير. سوف يأتيك فارسك، فى موعده. أنا سأكتب هذا فلا تقلقى. هيا أرينى هذا الرداء، الذى جعلتك ترتدينه.. لا. لا. فليكن لونه أسودا، فأنا أحب الأسود. لا. لا. فأنا ليس البطل، فلترتدِ ما ترتديه نساء أنطاكية. لا بل أرمن الشام أو الروم.. لا . لا. بل ما بحثت عنه، من ثياب هذا القرن.. كوني عربية.."
كانت الأفكار تصدعنى كل ليلة،.. ألقى بالأوراق والقلم. أمزق ما كتبت وأعيد كتابته. أترك نفسى، فأجد نفسى، على درج القلعة الحصينة، بعدما أعبر مخاضة النهر. ولا دليل له. أرتقى. أصعد. أنظر فى الأفق منتظرا، مرتقبا غائبا بعيدا. يرتد طرفى إلى ربض القرية، مع عودة رعاة القرية.. أتمثل :
" -من أنتم ؟ " ..
أخرجوا من رأسي: أنت أيها التاجر. أنت أيتها الفتاة. أنت أيها الأمير. أنا البحر.. أنا النار. أنا الدم.. أنا بركان.. هذا هو الجنون. هذا هو الجنون ..لا أريد أن أسمعك أيها الشيخ الكبير. لا أريد حكمتك.. اجعلها،  لمن يقصدك، من الرعاة. أنا لست جزءا من هذه الرواية. كونوا هناك على الورق، كونوا فى هذا المقطع، مع صوت طبول الحرب. لا بل مع ترنيم الراعي. يحدو. يرفق بالقوارير. هو عاشق. لا بل أنا العاشق. بل الفارس. بل نحن جميعا. أنتم لستم أبطالى. لا تعذبوني. لو كنتم كذلك لخرجتم، من رأسي. لا تسكنونى هكذا. لا تعبثوا بي.. أطلقوا سراحي. لا تأسرونى أنا. فكّو قيدي. عليكم بالفرنج الملاعين  جاهدوهم. هذه تروسكم فخذوها. هذه سيوفكم فحدوها. هذه راياتكم فارفعوها.
إرتفع صوتى محادثا نفسى. ألقيت بجسدى المنهك، على الفراش وحيدا. يوما ما، أيها الوحيد الغريب، سوف أكتب قصتك.. لن يعصانى القلم فيك. لن تخذلنى المعانى أو الكلمات.. صرخت بها :
" -أين أنت الآن؟ .. أين أنت؟ "
يوما ما، سوف تستقبلك أشجارا وارفة الظلال. وضعت بيديك بذورها، فى أرض، أعلم أنها لك أرض، وسماؤها لك سماء. ألم يخبرك بهذا أولياء ؟ لم أشعر، بأنك بعيد عني. سرتُ تحت المطر. كلمتُ قطراتها. أخبرتُ البحر عنك. أعلنتُ سرى. أيها البعيد القريب. غالبت النوم فلم أنم. إستدرت على جانبى الأيمن، لم أستطع أن أقرّ. إستدرت على الجانب الآخر.. رقدت على ظهرى، ناظرا إلى سقف الحجرة فرأيتها. ارتد طرفى فرأيتها. لا أستطيع أن أهرب منها. أينما وليت نظرى، وجدت عيناها تطاردنى. قمت لأكتب، فكتبت عنها. سكت عن الكتابة، ففكرت فيها. قلم لا يخرص أبدا..
" -لا لست أنا. لست أنت. لم أكن هكذا أبدا.. "
لا أريد ورقة.  لا أريد قلما.. قلمى يروى للنهار، فيرى ما كان، وما أنا فيه،.. ما كان بالليل الطويل، بحثا عن الروح، أمام ما طوته الكتب..
" -أهذا ما بك ؟ "
" -نعم"
ولكن لأسباب خفية، هذا المعنى شارد هناك، لا أستطيع أن أكبله، كمن يحمل رسائل فلا تصل إلى عنوانها الصحيح.. فتطيش.. ولا تضل الريح أبدا عما تعصف به. تعصف بي أنا، وحدى،.. تنتزعنى من جذوري. تدعني قاعا صفصفا.. ولا يضل الغيث، عما يحييه من أرض فتهتز و تربو.. لا أستطيع أن أأوب من رحلتي، إلا متشحطا فى دماء معان. تتساقط مني، دون أن أقبض على قلوبها .. فلا الليل ليل. ولا النهار نهار.. كل ليلة، شاهدة المعركة هى الأوراق، بخوف بين عينيها تخشى بوحه. فهو يريد. ويريد. ولا يعرف كيف؟ ساترة عليه تلك الغربة الجامحة. ولا أحد يعرف، ما تشهده تلك الأوراق، كل ليلة.  نهضت من فراشى، وقد تذكرت حديثى مع الطبيب:
" -لا . لا.. لم أذهب لطبيب.. "
عبرت الصمت هاربا، إلى الأساطير:
" -لست مجنونا. ليس مجنونا.. الموت للكلمات. للكلمات الموت. أنا لن أموت. الصمت طبيبي. هو لن يموت.. الموت للكلمات. للكلمات الموت.. الموت الموت.."
أثار فضولى ما أكتب. هذه خواطر. لا بل قصة. بل شيزر. بل أنا. بل رواية. بل هو.. افترستنى معان أسطورية. افترستنى.. لم تنته المعركة، إلا على أشلاء أفكار، لا أعرف ماذا سأجمع منها، أو كيف أختار.. توزعت دماء أبطالى، وأهريقت بين الفرنج، على مشارف الشام. على ضفاف النهر. حاولت مرة أخرى أن أنام. إكتشفت خلو فراشى، كأنها أول مرة أراه خاليا. هكذا كان، دائما. نهضت. أغلقت الباب خلفى. هرعت إلى هناك :
" -عليّ بالبرد. عليّ بالبحر. بجوه البارد "
ركضت على الشاطئ الخالى. ركضت. وظللت أركض. وأركض. اصطدم  بوجهى رذاذ البحر. رائحة اليود. علا هدير البحر. هربت موجة عالية. عبرت السور. استوعبتنى. تحممت بها. بلعنى البحر الكبير. عدت، ولم أشعر بالبرد القارس. حاولت أن أستغرق فى النوم، ولكنها فاكهة الدوحة النائية عند التل. تلك نكهتها. هذا أريجها. نعم أريجها.  لم يكونوا أبطالى أبدا من فعلوا بى هذا. لم يعبثوا بى. إنما هى هناك بعيدة فى رأسى. فى عقلى مجتنة فى قلعة حصينة، مستترة.. فى عقلى.. فى التل البعيد. كنت أدرك ذلك. أعرفه جيدا. أهرب منه بحكمة الشيخ الكبير. بفطنة وجسارة الفارس. حتى، برقة الفتاة. إلتحفت بكنزتى الصوفية، فى فراشى الخالى مرة أخرى، أتلمس قطيفتها. مخمليتها. وترتفع حرارتى، تطاردنى شهوة الإرتحال إلى البعيد. أرهف السمع، لخرير جدول شيزر الصغير. أريد أن أنهل منه. أختفي فيه، فلا أعرف كيف. الجدول غائب. وراء أفق غيبى، أتعبنى التفكير فيه. فلا أدري :
" -كيف؟ ولا متى أغيب عما حولى بجدولى الرقراق؟ "
ومارت أفكارى بسماء عقلى مورا. بدأت أكتب من جديد، ممزقا ما كتبت من قبل. لا أريد سوى الجدول لأنهل منه، عذبا  فراتا ذكيا. ادخرته لغائب أسطوري منفردا به، فى دوحة العقل و الروح. أنا وجدولى العذب فقط.. وراء التل الأرجواني.. زهوا بهما  الغيب. وكلما اقتربتُ، ظهر أننى مازلت على ساحل غريب غامض. هناك تجوب جاريات أعلام بمصابيح. يتراقص نورها، خلف الأفق تراقب من يختفي. وترتقب من يحلم. تهدى الغريب. فقط أحاول منقبا، لا عن مجهول. أعرف أنه هناك، بين تلال شيزر ومروجها. تحيط بها أشجار التين. يحنو عليها نهر العاصي. تسامرني، على نغمات نواعيرها الخشبية، عن فتاة أنطاكية، وفارسها العربي، الذي يقطع الأرض، كل يوم مسيرة نصف نهار، ليراها، لا تعلم بلاد الشام شئ. وتتراءى أعمدة "أفامية" البيضاء، خلف الأفق، كعرائس الجن. ويوقظني صوت " فارس" يذكرني، بمن يقول :
" -أكتب فارس. أكتب.. شيزر"
وبين فارس "فتاة أنطاكية" و"فارسي" الوحيد الذي طوته ليالى الشتاء الحزينة، تسكن ذاكرتى تلك الزاوية البعيدة. تحرسها أمينة نوارس البحر،  ربما يأتى "هوميروس" بحروف فريدة، عارجا بى، بين سطور التاريخ. أشغله، فلا يضع إلياذة ولا أوديسا، غير روايتى!
أوصى" المقريزي " بعيدا، عن صفحة بحر، التحمت بسماء الليل، غائبة فى جوفه. بعيدا عن الحاكم بأمر الله:
" -ألا تسجننى بخططك القاهرية مجنونا. أريد حيزا، لا يقدمه لى البحر..أريد قصرا ببغداد، بعيدا بعيدا. لا يعلمه من بين الرافدين .. "
وتظل تطاردنى كلمات ساحرة بابل :
" -هناك سأكون وحدى بعيدا بعيدا!  "
تريد أن تسكن آهات حزني. لا تعرف أنها لن تستطيع، فهى لا تعرف الملكين ببابل هاروت وماروت. لم تستنطق طلاسم سومر أوتفك رموز أشور. تريد أن ترانى، وكيف ذاك وأنا فى عينيها، ترانى وترى بهما، فأرى !لا تدري أن الجنون لا ينطفئ، بعبور مستحيل، تسجنه جدران أطلانطس، بقلب دواوين الشعر. تحمله خيالاته كل ليلة وحيدا، ليفك تعويذة الساحرة. قاصدا ما لا يرتاده إلا هو وحده. غريبا، فيرى عينيها، ويختفى هناك. حيث يعرف، أنه لن يقبض على ظلها. فلن تأتيه جدران أطلانطس، لتخفيه بين أربع، فيدخل صرحا، من قوارير، ممردا غير لّجيّ .. وترتفع أصوات الحافلات، خلف ظهري على شاطئ البحر. تناديني، فابتسم لتلك السمكة الصغيرة، التى طالعها زوجان، أمام ناظري بعد صبر وانتظار، ومصارعة ضاحكة بينهما. أعاداها للبحر لتحيا، وأسمع كلمات الساحرة:
" -هناك سأكون وحدى" !
ويسكن رأسى صوت القطار، مسافرا. أشتاق لهديره، عابرا المستحيل. لا يقطعه سوى صوت سنابك الخيل، على جسر شيزر الحجرى، وقد اختفت روايتى فى رأسى، باحثا عن فارسها العربي. ومازلت، أنتظر صرحا أغشاه، فوق حدائق بابل. فيه أختفي. أنزوي. أذوب. فلا تعرف طريقي أساطير أو ملاحم هوميروس. وأظل أشتاق فقط، لطيف الساحرة، وصوتها ينادي:
" -هناك سأكون وحدى!.. هناك. سأكون وحدي بعيدا بعيدا !" ..

فلا أسمع صوت الحافلات أبدا، وراء التل الأرجواني ..
----------