سرماديا

سرماديا

هواجز أدبية 1 - 2 ***






التاريخ والأيام البعيدة
------------- خالد العرفى



طريق طويل قطعته عاكفا على فصول لا تنتهى.. لا أدرى كيف أو متى تنتهى.. الواقع أن كل صفحة بحد ذاتها قصة منفصلة خارج ما استغرقت فيه مع رواية أحاديث شيزر..  مرت سنوات.. وليالى طويلة كما لو كانت ضباب.. قبل تبدد فكرة وراء فكرة لأغرق فى تفاصيل أخرى جديدة، بسبب سطر ربما أقرأه فى مصدر أربطه بآخر على نحو ما، لألّم بشئ من حقيقة تاريخية.. شئ مدهش وغريب أن تكون فى قلب الحدث بلا لغة مسبقة، حتى تستدرج بفكرة تتجلى للعقل من أول نظرة.. تشعر كأنك فى محيط لا نهائى.. حالة إنجذاب وشئ فوق الوصف، لكنها متعة البحث التاريخى أولا.. تعكف على حولية مشرقية.. أو نصّ تاريخى بعيد من العصور الوسطى، لم يكن ليظهر صلتهما إلا بشئ من التأمل والاستغراق.. تبحر فى خضم هذه الأيام البعيدة.. وقد يكون ما يندرج تحت التاريخ العام مسجلا لوقائع وأحداث جسام.. أو تاريخا لدولة بادت.. أو سيرة ذاتية لعلم من الأعلام.. أو تاريخا لروح مدينة وحياتها.. رحلة من رحلات التاريخ الوسيط.. تذهب مع رحالة أندلسى أو مغربى إلى الشرق.. الشام. فلسطين. مصر. العراق... لترى أمهات عواصم ومدن وثغور.. تعاين أسوار وقلاع وحصون..ما باق حتى الآن أو صار أثرا بعد عين.. من لا يعرف ابن بطوطة.. ابن خلدون. ابن جبير. العبدرى. النابلسى. البغدادى.. وبنيامين الطليطلى وغيرهم.. من لا يعرف ابن يونس. ابن الأثير. ابن شداد. ابن العديم. أبو شامة. القلانسى. الذهبى. المقريزى. اليافعى. العينى. العماد الأصفهانى. وياقوت الحموى واليعقوبى وابن حوقل والعمرى.. عشرات الرحالة والمؤرخين.. روعة التاريخ وأدب الرحلة وجوب الأقطار والبلدان.. إدراك المسالك والممالك.. تلك خلفية عامة كبيرة أكبر من أن يحصرها مقال يجبّ أسماء أو كُنى وألقاب ومصنفات ومناهج كتابة تاريخية.. أو رحالة قرنا بعد قرن وعقدا إثر عقد..
وخطوة أبعد إلى المؤرخين والرحالة غير العرب، سوريان مثل ميخائيل السورى الكبير ومتّى الرهاوى وابن العبرى.. أو مؤرخين بيزنطيين مثل الأميرة أنّا كومنينا فى رائعتها "اليكساد".. مرورا بالمؤرخين الفرنجة ويليام الصّورى ويعقوب الفيتري وبطرس توديبود وفورشيه الشارتري فى تاريخ الرحلة إلي بيت المقدس ومؤرخ "الجستا" المجهول وغيرهم.. وقد استغرقت وقتا طويلا فى جمع مثل هذه المصادر التاريخية.. معاناة كبيرة لا تخلو من دأب مستمر على فهرسة وتصنيف زمنى ومكانى ومعرفة للمدارس التاريخية ومنهجية يتبعها كل مؤرخ لفهم النصّ أولا من مصادره ومنابعه الأصلية منها ما هو مصدر تاريخى محضّ أو جغرافى أو أدبى وحتى كتب رحلات هذا الزمن.. محيط كبير من المعارف من يستطيع أن يمتلكها يجد نفسه غارقا منجذبا إلى المجهول لو لم يدرك كيف يبحر فى الماضى.. هذه هى روح البحث التاريخى أولا.. منهج إستقراء وتحليل ونقد للنصوص للوصول إلى حقيقة تاريخية موضوعية ومجردة  قبل أن يتلقفها الخيال الروائى لينفث فى النصّ روحه.. فرق كبير وبون شاسع بين الكتابة التاريخية والرواية التاريخية.. التاريخ علم وفن.. والرواية إبداع أدبى فى فضاءات متعددة.. ربما تستغرق وقتا طويلا وجهدا كبيرا لكن فى النهاية تبقى باعثة للحياة بمتعة التنقيب عن الحقيقة والخيال.. هذا ما يحيى دوما الأعمال التاريخية...
-----------------------------------------


إرهاصات
فقرات من رواية..
---- خالد العرفى
هكذا كنت أفكر، متلمسّا تلك التفاصيل، هنا وهناك.. الأماكن التى نحيا بها لفترة تأخذ منا، وتصير جزءا منا. بل، نصير نحن جزءا منها. تجعل لانفرادنا فيما بعد لامعنى، إلا وحشة، نفقد معها شيئا، من أنفسنا. لم يكن هناك شئ سوى أن أكتشف، تلك العلاقة من جديد، بينى وبين ما نطقت عنه جدران البيت، وما خبأته من أسرار، أمام أنواء، وعواصف الدهر.. كان قد مرّ وقت طويل، منذ آخر مرة، كنت فيها هنا. وظللت، فى غرفة المكتب، ملتصقا بها، لا أشعر بوجودى. وقد نسيت ماضي حياتي، وكياني، وكل شئ، أتى بى هنا. باتت كسجن ضيق، عزلنى عن بقية محيط البيت. لم أعرف، سوى أن أقف ناظرا من النافذة، نحو الطريق، الذى خيّم عليها سكينة وهدوء الدجى، حتى اختفى، في فضاء الأفق، وراء ستائر الظلام. وجدتنى أقلب نظرى، فى وجه السماء، المكتسي بثوب نجوم ناصع. وأمام عين السماء، ناظرة لى. أفقت من تأملى الحائر الصامت، على صوتى يوقظنى، محادثا نفسي، كأننى أتكلم مع إنسان آخر، كحلم بين صحو وسبات. بين شك ويقين، لم  يتلاعب به نسيم الليل، الذى داعب ستائر النافذة الحريرية، فزادها حراكا. رأيت فيه خيالات خرساء، وأطياف عميقة، لكل من رأيت، فى هذا المنزل، كأنها حقيقة ماثلة، لم تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأنا غائب. وعدت ببصرى، إلى اللوحة، متساءلا، لما هذه اللوحة شغلتنى هكذا؟ لما أبى حرص دائما، على أن تكون أمامه؟
------------------------------------
مرت أعوام، كانت كفيلة بطمس صورة تلك الأيام. كبقايا ضرائح منسية، بنسيم حزن. يمسّ حطام مهدّم، وأنقاض ركام قديم. على طول مدى، ينتظر أن تغرب الشمس. انقضت كأوراق غصون ذابلة، لا تنوح على أحد، فى الذاكرة. احتوشتهم، فى بطنها. أعادت صورتها، فى ثوان خاطفة، قراءة ما نُقش، على رخام منتصب. تحت ظلال شجرة صبّار، عمرها ثلاثون عاما .تُلملم أطراف السكون الهاديء . شاهدا، تخفر هذا القبر. تحرسه، فى المدفن الكبير، حتى تاريخ اليوم..،  فما إن تُغمض عين، إلا ونرى، من وُري فيها. تحت أطباق الثرى.. أودع، هذه الحفرة، فابتلعته، هاوية. غير أن سكينة وخشوع الدائرة، التى تصدرت مشهدا، مملوءا هيبة، تلاشت مع صوت مشبوب، بأمل خروج، ينادى: "العزاء، العزاء".. بخلفية صوت آخر، "سيروا ببطء.. لئلا نزعج موتى راقدين.. لن يخرجوا معنا"!
ومرّ هذا العام بطيئا. لم يساورني أبدا شك، فى أن يوما سيأتى، ليطلق عقال صمتى، تحت ستار ضباب الشتاء..،  لأضع أحمال الروح، والذكريات التى لا تغادرنى. كانت أحاديث نفس لا تنقطع. وغلالات رقيقة، لا تفارق عقلى. أسمع صداها، كطقطقة نار، بقلب موقد، فى ليلة شتاء طويلة.. لا يُعرف كم بقى منها، أو كم مضى.
هكذا كنت أفكر هذه الليلة، حينما أفرغت هذا الخزانة الخشبية من محتوياتها. باحثا عن سند ملكية هذا البيت القديم، فى ظهير الحى العتيق. تطاير شرر ذكرياتى، مع الأوراق والصور، كلما أخرجت واحدة منها. تمايلت مع الهواء، هنا وهناك. عاد بى الزمن إلى سنوات بعيدة. لم أستطع أن أتتبعها ببصرى. كانت تتقاطع، كألوان لوحة أعرف ملامحها جيدة. علقها يوما ما أبى بيديه، فى واجهة غرفة مكتبه. منسجمة، ومتناعمة مع درجات بنّية أحبها، وأحببتها من بعده فى لون ألواح الجوزي الخشببية، تتبطنّ بها جدران الغرفة، من الداخل. تخفي عصورا ضمتها مكتبتنا العجوز، على أرفف تصل قامتها، إلى سقف خشبى مقبّبّ، بدرجة خفيفة. دوما كنت أراها كستائر مخملية ثقيلة، منسدلة، على جوانب الغرفة الثلاث. أما الرابع، فتشغله النافدة القديمة، قائمة على عمودين حجريين، بإطار حديدى مصبوب، مشغول بصبّات وردية نحاسية، يتوسطه زجاج ملون معشق، كأنه جزء من المكتبة الثلاثية. تحيط بالنافدة من جانبيها. وإستغرقت قليلا، قبل أن توقظنى طرقات على الباب الخارجى.. 
------------------------
 ذاك اليوم، كان كل شئ، على غير ما ألفِت. أقضّ مضجعى. وأوهن عزيمتى. لم ألبث إلا قليلا، ولم أكد  ألقاه،  حتى صرت غير عابئ أو مكترث، إن أخفقت. يكفينى أننى أحاول، مبديا كل حرص، عليه. وسرعان ماثبت إلى إطمئنانى. لم يكن علىّ، سوى إنتظار مغرب الشمس، حتى أعرف ماذا حدث فعلا، وجها لوجه. جمعت أمرى، متخطيّا حدود، ما إختلجت به النفس، من أقدار متباينة، كأننى لا زلت على قديم أمرى، الذى بدا للوهلة الأولى ذا طابع، يصب فى حاضرى، إلا أن جذوره، تعود إلى ماض بعيد. أطروحة وحيدة، تشعبت بى دروبها، من سنة إلى سنة، وأنا أتصفح مستندات والدى. كنت أسمع تضاعيف صوت، ما لا أعرف، وما لا أرى.. أصداء وآثار ودلالات، فى هذا البيت. حاولت جاهدا ألا أتوه بينها، أو فيها، بحثا عن الحقيقة. وكأن القدر أعطانى ما سلبنى، من ذرائع، حتى أمارس قصّ دقائق أمور ماض، أو تفاصيل حاضر، سواءا بسواء. فإن لم يكن هناك هاد، لإنطفأ المصباح، ولصار العقل والإحساس خبالا. ولأظلمت السبيل، وفقدتها. ما كنت أظن أن يوما واحدا، قد يغير شيئا، فى حياتى، حتى زرت البيت النائى. لم يكن لى، أن أعلم ما كان سيحدث، فى هذا اليوم. لم يكن كغيره من الأيام. كأن الزمن عَمَى عنه، وأسقط نبأه. وكأن الزمن غير الزمن. لكننى سوف أذكره دوما، ولن أنساه أبدا. لا يحملنى على الشك فيه، شئ. منذ بداية إلتماسى لتلك المفارقات، التى قادت خطاى، أول مرة، محاولا أن أعرف. لأبلغ مرتقى، حيث لا تذبل فيه حياة أو تهمد. لا يخمد سنا، ما بدا أول طريق، أنا سارٍ فيه. منذ أن عُدت إلى البيت. وأحطت نفسى بسياج من الأعذار والحجج، لوالدى، حتى لا ينفذ إليّ وخز الضمير، فى تفسيرماحدث. لم ألق بالا، للسبب الذى دفعنى إلى ترك وإهمال هذا الصكّ، معرضا للضياع. لم أقدر أن أتجاهل ما غمرنى، من نور إحساس غريب، عندما رأيت تلك اللوحة المعلقة. ودبّ الشقاق بينى وبين نفسي، التى أصابها قلق شديد، وتغير عميق فى الإحساس، حتى نسيت أمر اللوحة. وبين هذا وتلك، حال بينى وبينها، وابل من التساؤلات، أمطر رأسي. سلكت فاشلا، كل طريق، إلى الإجابة عنها، بما كنت أراه أمامى، فيما تبقى  من أوراق، أخرجتها، من الخزانة. وأشحت بوجهى عنها.. لأعيد ترتيب الأفكار، من جديد،لأستنقذ، حقيقة تائهة..
-----------------------------------
ما إن وطئت قدماى، هذا البيت، لم يكن لدى أدنى شك، أن هناك شئ ما.. كنت واثقا، أننى لن أستطيع التملص منه.. عزلنى عن العالم الخارجى. شعرت برأسى، كأنها مكان مظلم مثقل بالضباب، تتخبط جدرانه من الخارج، أضواء قاسية، لمصباح بعيد، كقصف الرعد.. لا أعرف لها إتجاها، لا يكبحها شئ. رغم ذلك، لا ينقشع معها شئ، من غيوم.. كان الليل قد حلّ، وقد بدا لى، أننى لن أغادر تلك الغرفة الصامتة، التى غزا البرد زواياها . تنقلت ببصرى بين النافذة التى أغلقتها، والسلم الواقع بمنتصف الردهة الأمامية. كان هناك شئ ما، يجعلنى أعود إلى ذات اللوحة، جائلا ببصرى، فى تفاصيلها. كنت على قناعة تامة، أننى أغوص فى أعماق مجهول، خيّمت ظلاله، على أركان، تعانى من فقدان شئ ما، من حولى. عزمت على الإنطلاق، لإستكشافه.  كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل. ولم تُتح لى فرصة إنفكاك أو هرب، من أفكار أمسكت بى، وحاصرتنى، بقبضتين لزجتين.. كنت أجادل نفسي، فيما لا أعرف بعد.. لم يكن لدى موهبة خاصة، لأخترق ما ححب عن عينىّ، ولم يكن بقدرتى قوة خارقة، لأدرك ما غاب عنى، .. وراء ماض بعيد، منذ مدة طويلة. شئ  يقدم لى إجابة، حين تحين اللحظة. ولكن إلى أين؟ لم أكن أعرف أين سيسير الأمر، أو كيف سينتهى بى، إلى حيث لا أعلم.. ماذا ينتظرنى لألقاه، وسط أشياء أكثر صلابة، من أن يوترها قلقى.. كانت كل الأشياء، باردة صمّاء صامتة. أشبه بدرجة الرخام العريضة، فى أول السلم الملتوى، أمامى، فى الردهة. كان الأمر برمته، شئ أكثر، من كسر رتابة حياة، لأحيا شعور غريب. لم تستنفده لحظات بطيئة مستمرة، لم أعهدها فيما مضى، وساعات متثاقلة متواصلة، لم تنتهِ. لم أعدّها بعد.. فى البداية، لم يكن الأمر يعنى لى، أى شئ على الإطلاق. لم يكن فى ذهنى، سوى أن أتلمس ظهور، ما اختفى عنى، وخفى أمره، هاهنا.. باحثا عن مجهول، غير متوقع. أعرف أنه هنا، فحسب.. تكتنفه إثارة، تصدم كل هدوء، وتحطم فى النهاية اتزانى.. وأنا أفتح أبواب ماض قديمة...
------------------------
 تعلمت أشياء كثيرة.. وأنا أقرأ أوراق أبى. أشهد أن هذه هى الحياة.. فكم هى المرات التى مللت فيها، من كل شئ، قبل أن أقرأها.. مرات عديدة، كان يجرى فيها، أمر ما غريب، يتكرر، معى.. يمتلك منى كل شئ.. نداء إحتواء غامض، فى هذا البيت، لا أستطيع تفسيره، غير متبيّن لمكانه. ومع ذلك، أظل مدفوعا، برغبة خفية، للزود عن نفسي، ألا أهرب منه. شئ من حيرة، يستوقفنى تحت ظلّه.. يعقبه، صمت يفرض نفسه، على كل نبضة حياة، تسرى فى جسدى. أشعر معه، كأنى مدسوس، فى بحر رمال عميق، لا حراك فيه، ولا أثر لحياة. أنغرس فيها غرسا، .. أغرق فى تفاصيل اللوحة أكثر.. ويظلّ مسيطرا علىّ قلق إنتظار، تلك اللحظات الزائرة، من حين لآخر، لعقلى ووجودى. ومرة، تلو المرة، فى طىّ قميص ظلمة الليل، أقع فى براثنها. أتسائل، لماذا هكذا، لا شئ دائما، أراه على أحسن ما يكون؟
وأفرّ من إثم الفكرة، وأعود لأجيب نفسي، بألاّ أعير إهتماما، لومضة شوق عابر، لماض لم أحياه، هنا. لحظة تداعب خيالى، تحملنى على بساط ريح، من كلمات أبى الأولى، التى بدأت أتبينها جيدا.. علمت نفسي متى يكون على، ألاّ أصغى لهمسة صمت مثيرة، يتردد صداها فى صدرى، فتحصرنى معها، بين ظنون، هنا وهناك. أحاول جاهدا، أن أخفى وطأة أسرها، على نفسي، من باب مداواة الروح، وآياسها، مّمّا لا طائل منه، أبدا.. فلا أرضخ، للحظة ضعف، أو فقد، تستمد جذوتها، من دمى. لا أستطيع أن أتدخل فيما أجراه القدر. علىّ أن أتجاهل نوازع نفسي، وأسبابها. فقط، أحاول سبر الأمر، أعمق فأعمق، فى نفسي.. بإختصار، أتظاهر أمام نفسي، بالحياة،.. فى هذه اللحظات، التى تجد وليمتها فى عقلى.. غلمة ألم، ولذة تعذيب الذات بلحظات مستحيلة.. أدرك فى النهاية، تمام الأمر فى نقصانه.. ضرورة دائرة حياة، لا تكف عنى حيرة تفسيرها. تصقلنى بنارها. تسبكنى، فى أتونها. كأنى أحدّق فى عينيّ الموت مرة، وأحيا فى عين الحياة مرة.. يظلّ شئ ما، يخرق رأسي. تهترأ معه كلماتى، فى كل مرة، أحاول فيها أن أعرف، لما لا شئ دائما، على أحسن ما يكون؟
ظلّ الأمل..عساى أحظى، فأكون، فى قلب الحقيقة.. لعلى يوما، يختصنى القدر، ويؤثرنى بعدم ممارسة الحياة، بين عقل وجنون. فلا أعرف، ماذا تخفى لى لحظات مستحيلة. يحجبها عنى غيب، قاب قوسين، أو أدنى.. ولا زلت أبحث عنه،..
---------------------------------


مقاطع سردية
(منولوج "حديث نفس"- فقرات من رواية صوت الحياة)
------------- خالد العرفى



جلست وقد ألقيت نظرة إلى غائب مستقبل، أحاول أن أهرب منه أم نفسى أم منها،.. لا أدرى.. كانت ترى شدة إشتياقى إليها. تشعر به شعور من يرى الروح ويدرك أين هى ذاهبة. حاولت أن أخبرها بالصمت ما لايقال. أيقنت أن هناك من يفكر بها، وتمتلك عليه خياله. وتأسره. حسنا، ليكن ما يكن. فلتنكسر دوائر دون أن أدرى. ومن يدرى لنفسه من مستقر للروح. أو تدرى روح لما.. أو أين.. أو لماذا تشتاق وتهفو..؟ إشتياق يطغى على النفس. يأسر كل كيانى.. ولهفة تكاد تطير بروحى... وأتمنى لو لم يكن غيرنا فى عالم ليس إلا لنا.. أستنطق عيناها وأرهف سمعى لنبضات قلبها، لتخبرنى.. صرت أنتظر طائر الروح، ونسمة الحياة..
أو تدرى نفس ماذا يكون بالغد؟ 
لحظات لا تريد أن تمر.. وساعات مثل اللحظات.. ويوم يمر كطيف.. وصباح يمرّ كسحابة.. وتصبح اللحظات دهرا، وأنت تنتظر غدا، وموعدا لا يأتى.. ويأتى الغد.. ويمرّ هذا الغد، وتنتظر غدا  آخرا... لتنطق، وما تستطيع أن تتكلم إلا بالصمت.. لغة الروح .. ولم أكن أتوقع أن يحدث هذا.. أن يخترق أحد حياتى، يأخذنى من ذاتى.. أن تنكسر دوائر النفس التى صنعتها.. ما هذه الروح الفريدة.. ما هذا الطيف الذى يأسر الخاطر.. تراه عينا الروح أينما ذهبت.. هاتان العينان العسليتان الصافيتان، ما بالهما؟ وما هذا الحزن الدفين فيهما؟.. 
أهو نفس نداء للروح؟..
أنداء لتوأمها.. أنداء به ما به من حرمان وإشتياق ولهفة؟
أوداع غربة نفس بهجرة إلى عينيها..؟
أم غربة روح جديدة إلى وجهة غير معلومة..؟
كيف لزهرة قلب أن تذبل.. وفكرة تموت.. فى ظل أمل أن يجمعنا غيب أو غد بعيد، فأدرك منها وتدرك منى.. لا نمنع رواء الروح ونداء الرغبة.... هذا الافتقاد الغريب.. تشعر أن معك كل شئ وليس معك شيئا.. تعثر على ما كان ضائعا، فتضيع أنت لا تدرى أم تجد ذاتك..

نور غامر للروح. يطوف بها فى أرجاء الكون..تتمنى لو عشت فيه العمر كله..  تُرى من بعث الأمل فى الآخر.. والنظر فى عينيها مبعث للحياة وحده. حياة فى حد ذاته. حياة حياة..  
شئ أكبر من التفسير.. وأكبر من الفهم..  ودونه كل إدراك..
وأخذت أنظر فى صمتى ومعناه. أحادث نفسى.. ماذا أخبرها. أأخبرها أنها كل شئ؟ أنها رؤية بعثت الروح التى غابت من نصوصى. أننى أراها كل طرفة عين. لا تفارقنى. أنها الحياة نفسها. لم يراودنى شكّ طوال ما مضى من عمرى أن الرؤية سوف تتحقق. لكن متى أفى وقت غير صحيح. وهى بعيدة فى عالم آخر. لا أستطيع حتى لمس أناملها. ومضى صمت، ويأتى صمت، والكلمات على لسانى تتحجر. وشئ ما يمنعنى. والسكوت ينطق عنى. ولا زالت لا تدرك ما بى من أفكار. أأنتظر عمرا آخر قبل أن تمضى الأيام. قبل أن تجمع أيدينا لمسة فؤاد. قبل أن أغرق فى عينيها. كل ماحدث كان حلما بعيدا رأيته مرارا. لم ينقطع أبدا. ملك مخيلتى. عشت معه وعاش معى. كل التفاصيل. كل ما حدث. إلا شيئا واحدا أن يكون أحدنا لغير الآخر. حاولت أن أتوارى. حاولت أن أهرب. كان كل شئ أقوى منى. أقوى من أن أقف أمام قدر جمعنا..  مع غرابة كل شئ... كان كل شئ لا شئ. إلا شيئا واحدا. هى وحدها. فقط هى. لا ألتفت لتلك الحواجز والأسوار التى تمنعنا. لماذا ولماذا. أو كيف. أقدر وحده..؟ أخلقنا من ذات جذوة الروح؟ سرّ العمر وقد حملته السنون. ربما نلتقى. كيف أجيب نفسى حتى أجيبها. كيف تصبح الثانية عمرا. والعمر ثانية. لا أدرى لا أدرى..
ما لا أفهمه أن أفتح عيناي وكل شيء لا يشبه الأمس.. حدث كل شئ في طرفة عين، تسلل  إلى نفسى، وغلب على حواسى، وكأننى بلا حراك.. وكأننى لا أزال في حلم.. حلم وراء حلم، و إلى متى يمكنني الصمود.. ربما أحتاج إلى سنة من الصمت،.. إعطاء نفسى فرصة بشكل أفضل، أم عليّ إغلاق عيني لرؤيتها.. ليستمر الحلم، وأنتمى فقط إلى هذه اللحظات التى أراها فيها.. 
أو أدري ماذا حدث لى.. أو ماذا يجرى؟ لا أظن.. ربما علىّ أن أخبر عيناك فتخبرك.. كنت موقن أن حياتى سوف تتغير.. لست كمن رأيت.. تفرد عجيب غريب.. أصبح الحلم حقيقة، والخيال واقعا.. كان الأمر كذلك فعلا،.. مستحيلا وقد تحقق. ما سكن مخيلتى سنوات.. خيالى أمامى أراه ماثلا.. يملأ عقلى قبل قلبى.. رؤية غيب وتحققت.. أتساءل ونفسى والمستحيلات.. أو مرّ العمر فعلا حتى رأيتها.. أو يتحقق الحلم .. يسكن كل خلجات نفسى،.. إختطفتنى من ذاتى.. فأرى العالم كله فى جانب، وهى بعالم آخر، ودقات قلبى عاصفة تسألنى متى .. كونا ليس إلا لك.. سماء ليست بسماء.. وسحاب ليس بسحاب.. ولغة ليست باللغة.. كهمسة زهرة لطائر حزين. لموجه شاردة على حافة المستحيل. لنسمة عالم غيب.. أسطورة لم يعرفها بشر. ولا يبقى منى إلا سؤال حائر فى عذوبة شفتيك. هربت كلماتى والحروف تعاندنى. وقصيد يشكونى.. أكاد أصرخ بها.. أنطقها. أكاد أعترف: نعم أنا.. أنا. ... ربما ننطقها معا... 
لا أدرى ما يحدث. يقف الكلام على طرف لسانى. أعرف أنها تشعر به وتدركه دون أن أنطق به. تدرك ما بى وحيرة أمرى.. لماذا لا أصارحها. لماذا أهرب منها دوما. لماذا لا تصارحنى. لماذا نصمت. لماذا ولماذا.. ألف سؤال وسؤال. وددت لو أجابتنى. وتمنيت لو تصبح الثانية عمرا،.. فلا يأخذنى منها شئ، فأظل أسمعها طوال عمرى، ينصت لها كل كيانى،.. بل ينصت لها قلبى، فلا تهرب إجابة ..
وهاجز غريب، ثم آخر وآخر.. وثوان أقتنصها من عينيها لتخبرنى، وما تخبرنى شيئا... لإجابات بلا أسئلة حينا، أو أسئلة بلا إجابات، حينا آخر. تطوف شظايا الأمر بخاطرى، كوهج شديد.. ينتظر كل منا الآخر، لينطق.. أو لا تكفى صرخة صمت من أعماق الفؤاد.. أولا تكفى نظرة عين هاربة.. قبل، أن أعى الأمر حقيقة،.. وتأخذنى رهبة شديدة،  أننى لن أعرف منها شيئا قبل أن يمضى وقت لن يعود، .. 
ومضت ساعات الليل، ويسلم النهار أطرافه للغروب، وأنا أبحث عما ليس لدي من حقيقة، وكيف هذا الشعور العظيم..؟ وكيف هذا الحب..؟ كيف بدأ..؟ وإلى ماذا يسير؟
أتأمل نفسى، وأتدبر ما حدث لى، من قدر.. حقيقة وحيدة، أصبحت بين عيني الآن، كشروق الشمس، أنه فعلا ماثلا فى قلبى، يتملكنى.. غامضا إلى ما لا نهاية، غريبا بلا تفسير.. سائرا بى، إلى ما لا أدرى.. لا أستطيع معرفة سببا له،.. لغز.. غير أنى لا أنفى وجوده،.. محاولا أن أجد لنفسى تبريرا لإشتياق غريب،.. حالة إفتقاد ورغبة ألا تفارق عينى.. أن أراها كل ثانية، ضحى.. ألا أضيع منها، وألا منى تضيع.. نهاية المطاف، كل ما أحاوله هاربا منه.. إختيار بين ألم لوداع وفراق، وألم لإعتراف لحب مستحيل.. أم أجرؤ على مصارحة وحديث، لنخطو خطوة أبعد، لغيب مدخر.. أن تخبرنى عيناك لنقترب أكثر، ويتحقق حلم.. هل من إجابات؟ .. أم لا فائدة من إنتظار لما لا يأتى.. أم تمرّ ليلة تلو أخرى،.. وسرعان ما ينجلي عنها معان، كفيلة بأن تغير مسار حياة إلى اﻷبد... بلمسة روح،..
-----------------------------


اللحظات النادرة
------- خالد العرفي
لم يكن غريبا، مرة تلو أخرى، أن أحاول، مع نفسي، أن أعرف بدقة كيف أكتب.. أو متى تأتيتى، هذه اللحظة المتوهجة، فأصل فيها، لأن أكون.. لحظة وحيدة، يتوجب عليّ عندها، مواجهة تفاصيل، ونسيج كل فكرة. لا أستنكر غرابتها، وندرتها الفريدة... بدقائق المعانى وخفايا الأفكار، تطرق رأسي، دون سابق نذير، من عقل أو منطق. إنه تناقض كبير ومؤثر، أحيانا يفيدني في معرفة، أي من هذين العالمين، هو عالمي الحقيقي،.. ما أكتبه، أم ما لم أكتبه، منها. في هدوء وسلام، حينا. وحينا آخر، أضجر، لكننى أروّد صخبها، فى عقلى.. أحيانا كثيرة، أرى كل عالم منهما، محددا. أرى كلا منهما، على السواء.. أنظر لنفسي بينهما، بعيدا.. بين هذين العالمين.. لأبدأ أشعر، بوطأة حلم كبير، مترع بالحياة، ولا يخطر على بال. يعترضك.. لا يحول بينكما شئ... تصادف خياله، في طريقك.. تعيشه، دفعة واحدة،.. دقيقة فدقيقة، تتفقده، ثانية فثانية.. آلت بك إليه، لحظة، بقدرة طاغية تمتلكها.. بغواية، لا تستطيع قط إخماد نارها، فى روحك.. تمارسها عليك، تجدها، فى كل ركن، من عقلك.. تجلوك، مرة بعد مرة.. وهنا، تتباعد بى، أفكارى، في عرض بحر، لا ساحل له، ولا أفق.. أتورط فيه، غارقا، في عمق أمر، لا خلاص منه.. لا أستطيع تحديده، إلا بإنتهائى من الفكرة، لتمضي، في طريقها، شفافة، إلى القلم. لحظات، أأمل، دائما، العودة إلى تذكرها، مع كل عمل، بعد آخر، أكون فيه، بروحى.. لذلك، فدوما أتسائل عن الطريقة، التي تتطور بها الكتابة معى، من خلال تصور دقيق، يميل إلى فهم الأشياء، في تسلسلها.. هل هى مساحة شعورية،  فى النفس، يقابلها مساحة نصيّة، فى العقل البشري، ثم تمثل للوجود.. أم أنساق متداخلة ومتعددة، تأخذ فى التنامي، مع الجانب النفسي والشعوري، مع وجود خيط ورابط، فيما بينها. فقد تسير الكتابة بى، على نحو رتيب، لا أشعر معه، أننى أؤدى شيئا له قيمة، أو ينبئ عن وجود تبدل جذرى قادم، أو حركة جوهرية آتية، تؤثر بقوة، في مجرى ما أفكر به. وفي مقابل هذه الأمور العادية، ورتابتها ، نجد أن أيدى القدر، تنسج لنا، في الخفاء، خيوطا لانعلم أو ندرى عنها، شيئا.  تظهر فجأة، لك، وحينما تأتي اللحظة المباغتة، لكل توقع، تأخذ بك هذه الخيوط، إلى عالم آخر، تتغير فيه، بل يتغير مجرى الحياة كلها، تغييرا كبيرا. تغيير، لم يكن ليظهر، لولا دور قد لعبه القدر. أنا أجد الأمر معى، ليس له قانون يحكمه،.. إنها قوى خفية، متضاربة. متعارضة.  متنازعة. ألاحقها وتلاحقنى. تؤدى، إلى حدث مؤثر، معظم الأحيان، لا أتوقعه. كأنى، كنت تائها، بين وقائع متناثرة، غير مرتبطة أو منظمة، كان على الربط بينها، وأجد بينها تلاحما وتتابعا عقليا وبصريا.. وغالبا أجمع بينهما، بعنصري زمان ومكان، لا أتبين أبعاد كل منهما، ولا أدركهما..، متجاوزا بمشهدى إلى  عمق الروح. وكلما ازددت إقترابا، إزداد الأمر تعقيدا وتوترا، داخل نفسي، على نحو خاص. محاولا، الأخذ بخيط حياة النص من طرفيه، عابرا ما تعقد، داخل أجوائه النفسية، وملامحه الإنفعالية، فى صراع مثير ونزاع، مع الحقيقة. وتدريجيا، فى حبكة تتعدد جوانبها، وتترابط، أقترب من المرور، بلحظة كشف، تنير الطريق فى النهاية.. لا أظن، أن كاتبا أو أديبا ما، يستطيع، أو يقدر على مواصلة إبداعه، دون أن يشغله، أمر هذه اللحظة النادرة.. لا أحصر نفسي فى شئ، إلا فى مثل تلك اللحظات، التى قدمت فيها شيئا، لنفسي. لا أنفر منه، فيما بعد، ويدفعنى إلى طرق أبواب عوالم، لا أطرقها، إلا فى تلك اللحظات النفيسة.. بل، لا يطرقها غيرى، من أحد. شئ ما، يدفعنى إلى وجود، أكثر قدرة على إستيعابى. أحلم، فى كل مرة، وأشعر كأننى أواجهه، ويواجهنى لأول مرة. شئ يكون هناك،.. حتما أعرف ذلك، إلى أن أتأكد، أننى له فى لحظة ما، يقيّدنى بها، وهج الكتابة. أسعى، فعلا إليه..، فيحتوينى وأحتويه، ليبقى لى، من بعدى، وأبقى له.. أنتهي إلى تقبله، من نفسي، كما بدا لى، فى عقلى، وخيالى. عانيت منه، وتجاهه، فى كتابته. لذا، أصبح الأمر، مؤخرا، يستغرق ما يستغرقه منى،.. يطول معى، شأنه. حتى كدت، أيضا، أبرأ من كل ما كتبته، ذى قبل، غير مقتنعا به. أعلم أن لدى، فى عمقى أكثر منه، علىّ، الوصول إليه... وهذا ما يجعلنى دائما، أقرأ فى أدب السيرة الذاتية، الذى يعطينى أطُرا، لما أبحث عنه.. أحاور أرواح أصحاب هذه العقول، ويحاورونى.. بحثا عن حقيقة اللحظة، التى أبدعوا فيها.. نقيسها بالسنين والأعمار.. والزمن، وهى لحظات قدرية، لا تتكرر، لا شأن لنا فيها. إختارها القدر لنا،.. أو إختارنا نحن، لها.. لا فرق فى ذلك، إن فكّرت فى لُبّ الأمر، فهما سيان... ومرارا، كم أبحرت متمنيّا، أن أفهم هذا الأمر، ولو مرة واحدة.. هو أمر، كجمرة ملتهبة في العقل، يزداد تأثيرها، مع الوقت، وتشتد ضراوتها، طالما لم تفهمه. يتغلغل عميقا. يستثيرك. يُشوشك. الحقيقة، أنني أشعر بها، لحظة، طالما وددت أن تحرقني، دوما، من داخلى. تصهرنى، لأفهم مدلولها، الذى يجعلنى أرضى عن نفسي، فى شئ كتبته، أو عن شئ، ولو لم أكتبه، بعد. شئ لا يمكن أن أتصوره، بصورة كاملة أوشاملة. وكلما، قرأت، فى التحليل النفسي، للأدب والفن، وفى أدب السيرة الذاتية، كلما إقتربت فهما، خطوة أبعد، وأكثر عمقا. الغريب، أن قراءة أمهات الكتب في ذلك، يزيد الأمر عمقا، لفهم حقيقة إبداع كل أديب. إن تفسير الأمر كله، أشبه، بسلسلة طويلة، وضخمة، كلما أمسكت حلقة منها، قادتك إلى أخرى، فى فهم سيكولوجية الإبداع. هكذا، أواصل، مع نفسى، مرة بعد مرة، دون أن أتوقف، سعيا وراء غامض، لا أعرفه. فإن ظفرت به، بنفحة إلهام، نادرة، طفر قلبى من مكانه، وذبت.. أقول فى نفسى، بلى الآن، عرفت.. أنظر هي ذي.. هنا البداية، فحسب. أمر لا يتعلق بى، وبمَ أكتب، لأكتشف معه، بعد قليل، أننى لا زلت فى أول طريق طويل، لا ينتهى معى. وبمذاق مثل هذه اللحظات، دوما، أواصل معرفة نفسي، والكتابة. وربما أنهي عملا، في نفس واحد، دفقة رقراقة صافية. وربما أظل أمام آخر، فلا أكمله، متعثرا. كأننى، لا أتذكر شيئا. أحسّ بضيق في الصدر، متوترا.. لا ألوي عنق أفكارى، خاضعا لشهوة مجرد أن أكتب، لأخرج ما تاه منى، فى أحشاء مجهول مشوش، بوميض غامض. بات الأمر فعلا يأحذ زمنا معى، كما لم أعهد، من قبل. إلى أن تحين لحظة إلهام، بعد أن كنت أرى، أنقاض أفكارى باردة، في كل مكان، من عقلى، الذى كان على وشك أن ينهار.  لحظة باتت، تبدو لى في أحسن صورة، فى نفسي، مع مرور الزمن.. من دونها، لا أستجيب، ولا يلين لى القلم. فى النهاية، ربما كنت لأتحطم، إن لم تأت هذه اللحظة النادرة، بالغة الإثارة.. هكذا، لا ألو جهدا، في الحفاظ على نفسي، محاولا التفكير، والإمساك بخيط فهم. ناشدا الأفضل، وإن لم أكتب. فقط لأفهم.. فإن لم أفعل ذلك جاهدا، ربما، كنت لم ألتق مع أفكارى، من قبل.. أو لم أكتب مطلقا في حياتي، وإلى الأبد.. وفي قليل أو كثيرمتبق، لى من أفكارى،.. يتسبب في فقداني، للذة الحياة بين جنبات الجنون والعقل.. لا يكفيني، أمر مثل تلك اللحظات النادرة.. أحتاج لأعمار، بأكملها، لأحياها، حتى نفسى الأخير، بعد أن أفهم، .. ماهى.. وكيف تأتى، نادرة هكذا.. أدور على عقبي، بينها،.. إحساس مبهم، يسير بي في عمق النور، ناهضا بكيانى.. لحظات تحفزنى بقوة، توشك أن يتفجّر، معها، فكر، لا أنفصل، عنه، إلا إستغراقا فيه. إنها اللحظات النادرة...

تجربة غريبة
 ---- خالد العرفي
ما كان ليقدر لى الإنصات، لصوت غامض، هكذا.. ليست لأن الكتابة، مردود لتجربة غريبة إكتسبتها، من هذا النداء الصامت، أو لوحة أمتلكت ألوانها لفترة، ثم تلاشت وراء دروب العقل فجأة. لكن، لأن النور كان قويا فى بادئ الأمر، وسرعان ما تلاشى وأنا أتبعه، كأفضل قصّاصّ أثر، فى قلب مجهول. إكتشفت أنه لم يحدنى أمل براق فى رؤيته، أو أحيط بمصدره تماما فى عقلى، فأهتدى إليه. قبل هذه الحادثة مع الكتابة، كنت أتلقى ومضات، كأنها تخطط لتوقعنى فى الأمر، وإستمالتى دونما شعور منى. فوضى من دعوات متكررة، تدفعنى لأقطن هذا العالم المجهول، لأختص به وحدى، ويختص بى. ولكننى بت أكتشف الأمر، بين الحلم والواقع. كأننى أتنقل بين التاريخ والأسطورة، فاقدا براعتى، على الإمساك بخيوط  غائب، وراء حدود حواسى، وعقلى. أنها تجربة غامضة ومتوهجة، مع الكتابة، جولة بعد أخرى.. لكنها فشلت، لتهدينى إليها، وفشلت معها، قبل أن أنغمس فى محاولة كشف مدلولها معى، هذه المرة، من حياتى. وبمجرد أن ألقيت النظرة الأولى الخاطفة، على ما تبقى منها، قاصدا دليل، استجلى به هذا الغموض وسببه، وجدت ما حيّرنى أكثر، كمتاهة للروح. لكنه، كان شيئا فائق الأهمية، للنهوض، إلى مرحلة متقدمة مع الذات، وإكتشافها، على الأقل ملاذا منشودا للقلم، فكرة ومعنى، وزادا. إكتشفت معه، أننى لم أكتب شيئا بعد، يستحق أن أقرأه، ويأخذنى إلى ما أفكر به. حتى الشعر أرانى أتنصل منه، وأنكره، على نفسي. أعتبره مجرد تجربة نفسية، مضت وذهبت، حملت عينا للروح، لا تحملها القصة أو الرواية. ولست شاعرا، ولن أكون يوما، ما حييت. إذن كانت مواجهة الذات، فيما أعمق مما تحمله كتابة الشعر من قصائد نثرية، من معان وآفاق نفسية. ولا شك، فتلك هى الكتابة، بمفهومها ومعناها الواسع، لما نكتب، وللتعرف على ما نفكر به، ونهتم به فى الحياة. نمخر به عباب آفاق الروح. فنصبح مع الأمور، وجها لوجه، ومعنا تصبح. وأعتقد أن هذا هو القاسم المشترك، لما وقفت عليه بين تلك الأمور، التى حيرت عقلى وفكرى، رغم الفرق الشاسع بينها. 
والحديث، حديث ذات، وهموم نخوض فيها، وبها مع القلم، تستغرق وقتا، بل أمدا. وما إكتشفته حديثا، أوقفنى عند أشياء ما كان يأتى بها، إلا الزمن وحده، خلال تجربة إنسانية، تستثير كوامن الروح، قبل أن تقع عيناى على جوهر الأمر، حتى لو كان عملا واحدا، يستغرق العمر كله، ويأخذنا  معه، حتى يظهر. وحتى وإن استوعبت التجربة الشعرية جانبا من هذا، فقد صرت على بينة ويقين أن الأمر، لم أستكمله بعد، مع نفسي. ويتلاشى معه كل ما مضى من القلم. إنه فراغ، لا يملأه إلا الفكر الصافى، فى دقائق الأمور. وهنا لا يحمل هذه المعانى، ليس الشعر أبدا. إنما التجربة الكلية، فى عمل تعطيه من نفسك وفكرك. وهذا هو السبب الأساسى، فى إلغاء أو تعديل أشياء نشرع فيها، فتسلمنا إلى أشياء أخرى أعمق، تثنينا إليها، وتميل بنا، قوة خارقة. وتوصيف الأمر على هذه الشاكلة، هو بداية طريق جديد، نستجمع فيه الشأن، وإن كان فيه معاناة وألم. وأعترف لنفسي، أن مايمر بالإنسان من خبرات وتجارب، له دخل كبير فى هذا، وإن لم يره من قبل، دهرا، حتى يواجهه فى نفسه. وكأنك عالم آثار، تكتشف من بقايا الماضى، وتبنى صورة لواقع يقود إلى مستقبل. قد أكون مخطئا، فى إهدار تجربة كتابة مررت بها، وإستغرقت وقتا، لكن بلا ريب إستفدت بها، كتلك البقايا، التى ينظر إليها بتمعن العالم الأثرى، يستنطق فيها، ما لم يره إنسان، قبله، أو لم تتح له فرصة التزود بمعلومات، عن هذا الغموض، الذى إكتنف الأمر. وتبقى هنا، لى ومعى، روايتى الأثيرة (شيزر) لتحمل من كل هذا، وأحملها، ما لا يمكن أن يحمله شئ غيرها، من معان وفكر.
------------------


وقع الكلمات
----- خالد العرفي
أسير على البحر أعواما عديدة، وصولا لمنارة، لم تغص فى البحر. أحيانا يصبح من طقوسي أوسم بها نفسي، ركوبى قطارا أصفرا، يشق بطن مدينتي. حينما أفعل، أخرج من جلدي. جسمي كلية.. أرتحل..
أحب آخر مقعد قبل الممر، بين عربة وأخرى. أحجزه لنفسي، بذهابى لأول محطة. أضمنه، فلا ينازعنى فيه أحد.
هناك زاوية كاميرا ممتازة، أرى من خلالها وجوه بشر..
 تصعد.. وأخرى تهبط.. هذا عجوز. ذاك شاب. كهولة. طفولة. رجال. نساء. أجساد مشحونة بملح..
قلّما تجد من يتفرّس وجها مثلي. حفظت وجوه كل من رأيت. رتبتها فى ألبومات. ألبوم الأطفال يستهوينى. براءة. ابتسام.  بكاء..
فى القطارات، أسمع أصواتا، لا أسمعها إلاّ هناك.. تحمل ملخص حياة. يفاجئك نداء بائع متجول!
فاصلا لمشهد تراه عينا عقلك. تصبح الصورة هكذا..
الزمن .. نهارا. ليلا " لا يهم "
المكان .. داخل عربة قطار سائرة. متوقفة " لا يهم "
الصوت.. منولوج داخلى. مشاجرة. نداءات. أو صمت..
الكاميرا.. إقتراب. تجول. تركيز. محمولة. ثابتة " إختيارات "..
رجل.  شاب. طفل. عجوز. إمرأة " لا يهم "..
يجلس منفردا. أو ينضغط بين الزحام. على سطح قطار، يقابل دفقات هواء.. الحياة
الإضاءة.. خافتة. ساطعة " إختيارات "
إبدأ ليلا. إنتهى نهارا. أو إعكس الإتجاه. إختار..
" كلوز " للكاميرا. تحرك للأمام، بدون علامات تعجب، لسنياريو.. فاصل..
فرح. حزن. حياة. موت. مسميات. دلالات. وجوه مستعارة. ذهول!
تتكون عشرات الصور. ثابتة كصنم. متحركة كطائر. ملامح وسيناريوهات. دراما شكسبيرية. نصر. هزيمة.
شريط يمضى. صورة وراء صورة. تلاشى. نبض. وقوف. تحرك. تعثر. تقاطع. بصوت فى الخلفية.. كوميديا سوداء..
خروج من " الكادر". أحمل زاوية " كاميرتي" لشارع. لمدينة. لرصيف. لميدان. لسرداب. لدهليز. لصندوق. لقبو. لممرّ. لسوق. لمولد. لمعبد. لمسجد. لكنيسة. لإعتصام. لمظاهرة. لثورة. لحاضر. لمستقبل.
أو أعود لماضيّ. لمدينتى. لبحري. لسمائي.
للنهار"فلاش باك" ..!!

------------------


الأحلام الخضراء 
صوت الكتابة *
-------  خالد العرفي
عالم من الأفكار يتنامى، ويتعاظم في كيانك. يتكاثر، فى الوجدان، وينتشر ضياؤه. يجد لها كل منفذ، لمحيط القلم، الذى يتسع، في مهد صيرورة دائبة. لينفتح على مداه، أمامك ما انغلق، لأشعة الفجر، فى العقل، والروح. يزيل كل نقاب وغيم، عمّا غاب، يوم ما، لشئ ما.. لفكرة..، أمام وجه الشمس.  شئ ما، يستحق الذكر، أن نكتب عنه، ونكتبه.  لغة لأحلام خضراء، فى نبض الحياة. تسكن الأسفار، من جديد، فتجدّد الحياة نفسها.. وللقلم لغات. منها، لغة الفجر.. الروح.. لغة الأحلام.. ومنها، لغة اللحظة. ومن هذه اللحظات، تلك التى تحيا فى القلب.. والصدر. لحظات، هى كل ما يبقي، كعلامات فارقة. تتحدث، عمّا كان يوما، من جميل حلم، ومكنون نغم شجيّ، لسرّ مصون، صامت. ممّا أخفاه الزمن، بين شفتيّ الحياة. لم يبح به حفيف ظلال كلمات، ولا رفيف أجنحة ماض. لم يبق، منه، سوى ذكريات. ترفرف حول ما بقى، من أماني توارت، وآمال إنزوت. لغة، تنصرف بها، الروح، إلى عالم آلام خفية، وابتسامات تأبى أن تُولد. تطوف كل لحظة، مستأنسة بذكرى، طاوية ما انقضى، وقد قطن القلب، خفيا، حينا من الدهر. 
عند الرحيل،.. وفى الوداع، مؤكد أن هناك لغة، لشئ ما، دائما، يستحق الذكر، عندما نكتب، أو نصف مثلها. أشياء ومشاعر، لا تختفي من مخيلتك أبدا، مهما حاولت طردها من رأسك. تظل، كأنها ظل لك. مصير لا يفارقك، طوال حياتك. لغز لا يكتشف سره، ولايُدرك كنهه، فهما، إلا أنت وحدك. مهما تباعدت، أوتناءت بك المسافات.. شعورا وإحساسا عميقا، تفهمه قربا، منك، كأنفاسك، تتردد بين جنبيك. وتدرك بُعده، عنك، كخيال طيف، حائم، من حولك. وكلما مرّ وقت، إزداد غموضا، وإبهاما.  تذوب معه، وتختفي كل فوارق المكان والزمان. يتمكن منك، كأنك فى عالم غير هذا العالم، ووجود غير الوجود. شئ يفتح لك أبوابا سحرية، للغة فكر وشعور، بعيدا، عن كل ما هو أرضى. لتلمس نفسك، فى السماء، ما يُوقظ الروح. حيث تمر الأيام، كأحلام خضراء، وتنقضي الليالي، كأنهار نور جارية، بعذوبتها، في ربيع حياة، لا ينمحى قدره، مع ذكريات مضت، وأيام ولّت. هنا، فقط تستطيع أن تضع الروح، والنفس، فى هذه اللغة.
ولحظات أخرى، وعلى حين غفلة، سرعان ما تنتبه فجأة، فتري خفايا، ينقلب معها كل هذا، ويتحول. ينعطف بك الأمر، ليقظة، من نوع آخر. أعماق تتسع وجعا، وإنفعالات تنبسط يأسا. يكتنفها حيرة، وشوق غريب. سهاد، يثير أسى، في الصدر. تتوهم، أنك كنت فى خيال مذهل، غير الخيال. كأنها، كانت حياة خالية، باردة. حياة لم يبق من آثارها، إلا غصة حزن أليمة، في الفؤاد. وتتبدل من حولك سكينة الأيام، بوحشة مقفرة، ومُرّة. وهنا، تولد لك وحدك، من جديد، لغة لأحلام أخرى،  فى عالم آخر، لا تختاره لنفسك. ولا يعلم عنه أحد شيئا. لا توّد أبدا، أن يشاركك فيه غيرك.. مع ذلك، تستظهر عجائبه، كصفحة بيضاء خالية. دون عواصف، تثور في جوانبه، أو عتمة ظلمة حالكة، تغمر بصيرة، تحيط، وترى.  وأتذكر، من أمثال تلك اللحظات التى يتمخض عنها، من قبيل تلك الغات النابضة،  أننى إنهيت، خمسة دوواين شعرية، خلال فترة، لم أكن أتصورها. وإمتدت بى لرحابات بعيدة جدا. بل، وفتحت لى آفاقا واسعة، فيما كنت أعمل عليه، من أعمال أخرى، متباينة المجال والمشرب، بعيدا عن الشعر، الذى أنأى عنه. ومنها كتابى التاريخى، الذى أوشكت أن أنتهى منه (إمارات عربية طواها التاريخ: إمارتا "بنو منقذ" فى "شيزر"- و"بنو عمار" فى "طرابلس") الذى طاله شئ،  من روح تلك اللغة، التى تتجدد حياتها. إنها آفاق، تلمس نفس، وروح الكاتب، وتحلّق به، قبل أن تقع عليها، عينا القارئ.
--------------------------------------------------




من هواجز الكتابة
-------  خالد العرفي
على نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من مجهول إلى مجهول، تلك الليلة الغائمة، التى لم تتركنى بسلام منذ أمد.. لكنى تذكرت المثل الصينى " فى الكارثة، دائما، هناك فرصة لائحة". كان هذا التنافر الكارثىّ فى التفاصيل المعلقة دونما مخرج. تخدع العقل، لا أكثر. لم يرهقنى كتاب قدر هذا الكتاب الذى انهيت فصله الأخير، البارحة. كان على أن أكبّر التفاصيل. أربط بينها، لأقبض على العمق الغائب عنى. كان أحد التفاصيل مريبا، راوغنى كمهرج، يتقافز فى الحلبة كبهلوان، يلعق الألوان مهووسا، فيضحكنى كطفل. نحّيّته جانبا، ووضعت حوله سياجا، حتى لا يختلط ببقية التفاصيل، فأراها صافية.. جمعت ما تبقى، من أفكارى فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عنه. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الداومة الثابتة، المنعزلة. إنفتحت الدائرة المغلقة قليلا. وسرعان ما تتابعت حلقات، وراء حلقات. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صورة درامية، للأجزاء المبتورة. فغاب صريف الصمت الباهت، فى الغبار. وظلّ كل شئ كما هو. الأفكار هى هى. المنضدة كما هى دوما منضدة. السقف هو السقف. حتى أننى شككت فى أنه فوق رأسى، فرفعت عيناى.. فكان كما هو مثبت على الجدران. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ كئيب، بعد ما حدث أول هذه الليلة لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه منذ أن رأيته.. كما كان دوما، فى أول الفصل. لماذا لم يعصف بالصمت جديد، لمَ لم ينطق سكون الليل، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذ الرتابة، خاطر غريب. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان من وجه المهرج، فى العنوان. كانت ألوانا كثيرة تملأ المسافة بين أذنيه وجبينه الضيق، الذى إنسدل على حاجبيه.. أخرجته من منئاه، ورسمته على ورقة.. وضعت على أنفه علامة كبيرة باللون الأحمر، دما متخثرا، لمقاومة الروتين. ليس على البشر أن يفكروا، دائما. كان على الأرجح أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى، شيئا ضائعا بين التفاصيل الباهتة، بالدم المتخثر، لأعيد الحياة لفكرة هذا الفصل، الذى خيّم عليه ليل طويل. لم يكن علىّ منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بالقلم لأنهى هذا الكتاب العالق فصله الأخير، بين ضواحى العقل، كأن لا نهاية له. إكتشفت إلى أى مدى كانت فكرة التفاصيل عالية فى السماء. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا عير متناهية، بدرجات هاربة، بعير صواب، فى كل الإتجاهات. إلى أن جاءت الومضة البارقة، لتطوق لى الأمر كله برمته، على جثة مهرج مرسوم، فى لحظة من الزمن، داخل سياج ورقى. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، بين حشود الألوان. فى النهاية إنفجرت شلالا ضخما، فأنهيت منه الفصل. وبقى لها منها، كتاب آخر.. فى عمق ثنايا الذاكرة...
----------------- 


حقيقة ما له معني
----- خالد العرفي
يقال أنه إختفى.. ذهب ولم يعد. جاءت أرواح من السماء، وإختطفته من الأرض. إستقر فى خبر مجهول. لكننى لا أصدق، فالكتاب باق.. ولأسباب أخرى، عديدة، الكتب خير من الناس. لا جدران بيننا.. هى الجسور، مع الحياة..‏ فمن قبل كتبوا ثم ذهبوا..‏ وتركوا، بعدما ماتوا.. هؤلاء، هم الأحياء. قرأت لهم وما زلت. فتعلمت،‏ كيف أعلم نفسي الحياة. ربما يوما، أكون واحدا منهم. ولآخر لحظة، لا أعرف حقا، ما سوف يأتى به القلم، من عواصف للنفس. تجعل الأفكار أمامى، كأنها ذهبت هى الأخرى، ولم يرها أحد. إختفت، فاستقرت هناك، فى فوضى عقلى، لا فى الفضاء. ولم يكن لى لأندم كثيرا، لو فعلا أحببيت يوما، أى شئ آخر، غير الكتابة. فكأنى أعانى، من غريزة الشعور الدائم، أنى بين خطأين،.. خطأ ما كتبت، إلى وقت قصير مضى، وخطأ ما لم أكتب، بعد.. هو داء لابد منه،.. عادة ضرورية.‏ فكدأبى،  إكتشفت مجددا، أنى لا أكتب شيئا، له قيمة.. لايزال الكثير، الذي يجب على أن أفعله، حينما يتوقف الليل البارد، فى النفس، وتكنس عواصف  الخريف، الأفكار البالية.. وتمسك قبضة الفكر، بما توارى فى عقلى، مختفٍ، من أصوات غريبة، ليس لها أثر..
وتوقظنى مقولتى من غفوتى. فأهم مما كتبت، وما مزّقت.. أهم من الإثنين معا، هو ما لم أكتبه بعد. حقا لو كنت جادا، مع نفسي لحققت شيئا، ذا معنى.. أن أجد ما يربطنى، بأوهام الخيال، لأجعلها أقوي من الحقيقة.. أتمنى أن أكون بارعا، في هذا الكذب الجميل، المسمي بالخيال.. خطيئة، أحاول دائما أن أقترف إثمها. ليتنى أفعل أو أستطيع... تصور، أن هذا من جوهر القصّ. قوة الإيهام.. تماما، أن أجعلك تحبّ مثلى. تعشق مثلى، أو حتى تكره. أن تذوق الحياة. تحلم بها. تحب الماضي‏. أن أجعلك ترى ما لا ترى. أسمعك ما حولك، فتندهش. وتسائل لتعرف. أن تشعر بالموت. حينما تقرأ.. للأسف أفشل فى ذلك، دوما... فأنا ألقى مجرد قشرة بذور أفكارى، خارجا.. وفى عقلى، منبتها، وأرضها، وجوهرها. وحينما أصمت، أمام نفسي، فليس هذا معناه، إلا أننى، ليس لدى ما أقوله. لكن لدى ما أفكر به..أتأمله.. للأسف أحيانا كثيرة، لا أكتبه.، وتفوتنى إثارته.. أعتقد أن هذا، هو سبب فشلى المستمر، فى الكتابة... لكننى، أتمنى أن أموت بين ذراعى الفكر، أرصّع الفراغ، بلآلئه، بدلا من الكتابة.. محاولا النجاة، من هذه الحالة. تلك هى الجنة، وأين هى.. إلا أننى أعود، وأذكر نفسي بمقولة أخرى، ذاهبا إلى أبعد من ذلك، أن لا أحد يستطيع أن يفعل شيئا بمفرده، وهى مقولة خاطئة مدلسة.. لو صدقها أحد، فلن يفعل شيئا أبدا. يضطر إلى ذلك الفشل، إضطرارا. لذلك أصدّق ما أفعل بمفردى، بمفهوم أول المقال، والحديث عن الكتب، غير الخادع. لذلك الذين جربوا يقولون، إنها الحرب مع النفس. من يموت فيها، لا يرى شيئا، من هزيمة، ولا نصر. وأنظر حولى، ولا أجد شيئا قد تغير.. أنا الذى تغيرت لأشعر، وأحس بذلك. ربما هذا أفضل كثيرا.. بل هو كذلك، وأواجه نفسي به دوما،لأترك بصمة.. أعطيها لنفسي أولا، خاصة، حينما، لا أنظر خلفى، إلا قراءة لماض، لأتعلم... أصدم نفسي خيرا من أن يصدمنى واقع مؤلم.. من هنا، لا أتوقع شيئا لا قليلا، ولا كثيرا، من أحد. لا شيء يدعونى إلي ذلك، البتة. إنما القراءة، وهى تلك النظرة العميقة، مع نفسي. فإن فعلت أنت، سوف تعجب كثيرا،.. أعجب أن يفكر البعض، أن البعض يفكر بهم. فماذا قدموا، وماذا كان، ليحدث هذا. حقا، أندهش من ذلك كثيرا، لكنه يقع فى الحياة. فى النهاية، نقول أن الأيام والليالي تعلمنا، وفى الحقيقة، نحن نعنى الألم.. نقصد مرارة ما عايناه. تلك حقيقة، نقرأها فى الحياة، والواقع، لنكتب دائما، ما له معني.‏ فلسفة فارغة، لا أنصحك، أن تلتزم بها.. فأنا لا أعرف ما الذى إختفى، الكتاب، أم الخيال، أم الأفكار...  
---------------------------
سحر الكتابة
----- خالد العرفي
 إلا بقدر ضئيل من رغبة، وأمام جموح الحياة، وسيطرة غرورها، وبشكل غير عادى.. أحيانا، لا يكون أمامك إلا مطاردة أفكار أو آراء غامضة، ضد زيف مشاعر وخيالات من أحاسيس، تصدمك بها الحياة. ولا يبقى فى النهاية، إلا حقيقة وحيدة. لا ترى سواها، ولا تهفو إلا إليها دائما، بينك وبين نفسك. وهكذا، فهناك دائما أمر ما. وهكذا يكون الشأن، من حين إلى آخر، وتلك الأفكار الغريبة، التى تظل ماثلة، وعلى نحو غريب. تتردد هنا وهناك، فى العقل. ويظل الفكر والتأمل، بصورة حية صادقة، بحثا عن الحقيقة. سواء أكتبت أو لم تكتب. وغالبا، ما تكون تلك الفترة المشرقة، التى تسطع فيها الحقيقة، فيما نكتب والعقل والذات، فى حالة إنفصال تام، عن الواقع.. تسمع صوتا، لا تعرف مصدره. لا يكاد يتلاشى حتى يظهر. يرتفع من جديد. تطارد معه الفكرة وتطاردك. لا تشعر بمرور وقت، ولا صيرورة زمن. لحظة آنية ممتدة، فى النفس. تنهل منها، فى عالم خيال. هذا هو الإحساس العظيم المسمى بالكتابة. ربما، فيما لم ولن يقرأه أحد، إلا بعد أن يستقر داخلك. أما ما يكون، بين دفتى النهار والليل، وأنت فى هذه الحالة، فغالب الأمر تحتفظ به، لحاجة فى نفسك. وما يهرب ليقرأ، ما هو إلا شذرات، وربما وضعت صورته الكاملة يوما ما، كما هى بين يدى العقل، وعلى الأوراق. وتلك فقط، هى الأوقات المحفوفة، بصداع يموج فى الرأس. فى حين تتسائل: ماذا فى الأمر؟.. أشبه برنين أجراس تدق فى الرأس، وتغيب فيها الروح. وفى دقائق قليلة، ما إن تصل إلى تلك الحالة، تجد هذا التوحد والتلاشى، وفى نفس الوقت بين عالمى الخيال والواقع، ويدب الدفء في الأفكار، ممتدا إلى الروح والعقل. عندئذ، ندرك هذا الجانب من سحر الكتابة. ذلك هو الشئ المضئ فى النفس، الذى يتسلل إلى مداد القلم، وإن إختفيت فيه أنت، لتبقى هى. تظهر ملامح وتخفى تعبيرات، لا يمكن رؤيتها. وتشعر أنك بحاجة إلى مزيد ومزيد، من غياب الذات، فى الفكرة وبقسط وافر من الجمال، لتقوى وتشتد. لتملأ أماكن شاغرة، فى الروح.. وتقول بعدها: الأمر الآن على ما يرام. 
وليس هناك حاجة، على الإطلاق فى توصيف هذه المسألة، إلا لأنفسنا.. نفهم ونعى وندرك ماذا هناك، على تلك الحافة، بين العقل والجنون.. هل هو الإبداع. هل هى راحة نفسية. هل هى المعانى. هل الأمر فى نهايته، مسألة أن نكون. أم أننا فعلا لا نكون إلا بهذا..؟ ومن هنا، تأتى المعاناة والألم.. حتى نصل إلى طبيعة الكتابة وسحرها فى الروح.. بالطبع، هذا سبب خفى لقراءة بعينها، من أجل الإحساس بهذا الدفء الغريب، الذى تبثه فى النفس نصوص فريدة من نوعها.. وليس لغيرها هذا الأثر. معرفة وضياء وإحساس بمعنى، يصل إلى أعماقنا. ومرة أخرى، يترامى إلى سمعك، من جديد هذا الصوت الغامض، وتذهب بك نظرة، تتجه إلى عنان السماء. شئ كبشارة الصبح، بهذا اللون الوردى الغريب. تشعر أنك على وشك العثور على نفسك، فتعتريك دلائل الدهشة. تنظر فيما حولك، ولا ترى شيئا. وفى وقت، ترى فيه بعينى عقلك كل شئ، بما فيه الكفاية. وأحيانا أخرى، ورغما عنك، لا تشعر إلا برغبة مواصلة، تلك النظرة الخالية من أى حياة، أو إهتمام بها، كمن فقد الوعى. بما يشبه إحساسا ببرودة شديدة، تسرى فى الأوصال، فينعدم الإحساس، وتموت موتا بطيئا، الأفكار. لا تدرك كم من الوقت مضى، وكم يبقى لتقضيه.. بل الأكثر دهشة من ذلك، أنك نفسك، لازلت على قيد الحياة، ولا طالما تحسب عليها. وفى آونة أخرى، لولا حدوث أمر ما فجأة، ما حدث شئ فى النهاية، وما كتبت ما لا يخطر على بال، أو خاطر. فقد ترى بالمصادفة أمورا غريبة، تدور من حولك، فتحس بشعور الإكتشاف، وتدرك معناه فى متعة شديدة.. وإن لم تكتب للناس، أو يقرأ أحد.. ومن المحتمل، أنك لم تكن كذلك، على الإطلاق، ولم تكن تفكر فى شئ، من هذا القبيل، فى يوم ما. ولكن بت تفعل، محاولا أن تعرف ذاتك.. 
-----------------





ذاكرة البحر**
 رواية
بلغة جديدة
---- خالد العرفي
رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية لعشرات الفنانين العالميين... عمل إبداعى للغة جديدة من نوعها أعتقد أننى صاحبها.. يمكننى أن أستعيض عن أى لوحة بعبارة أو فقرة، كروح من السماء تأتينى،..لا أعرف حقا، كل هذه المعانى التى تأتينى حينما يأسرنى عمل فنى.. فى كل لحظة، أتعلم كثيرا من الفن بكل صوره وأشكاله.. يعطيك هدوء النفس وعواصف الوجدان والشعور الدائم بالمعانى الحية... يجعل الأفكار أمامك ويعطيك الصوت والحركة وكل شئ.. أكتشفت كثيرا أننى ما زلت لم أكتب شيئا، ليس له قيمة، أو تأثير.. لو لم أشعر بهذا الإحساس.. ولا يزال الكثير لأمضى نحوه، لتمسك به قبضة العقل والروح، فكرا وأدبا وفنا..  وما أجمل القصّ، وما أقوى الإيهام، والتعبير، لهذه اللغة، التى تتباين معانيها وتتوارد، بشكل مذهل.. تسمعك ما فى العالم من حياة، وتندهش لكثرة مدلالوتها، وإرهاصاتها.. إن العلاقة بين الألوان والفراغ أو فضاء اللوحة والعناصر التى تتوزع عليها ... كل شئ يجعلك تتسائل ماذا قصد الفنان هنا، فى هذا اللون، أو هذا التكوين.. تستنطق الصمت فتهدر المعانى، فى الروح.. تود لتعرف، فيما كان يفكر، وبم كان يشعر، حينما أبدع هذا.. الحياة والموت والكون وكل تفاصيل الحياة.، وكل معنى يمكن أن تجده، حينما ترى وتقرأ الصورة، بهذا الشكل، فتذهب بك إلى عالم آخر .. بعض هذه اللوحات يرجع عمره لأكثر من مائتى سنة، والبعض الآخر من القرن العشرين.. فترات تغطى تاريخ الفن.. ويتباين نوع  المدرسة الفنية الذى ينتمى إليه الفنان بعمله.. من الكلاسيكية.. التعبيرية.. الرمزية.. إلى الإنطباعية.. وهكذا، لو تضافرت هذه الخلفيات والإنطباعات عن الفنان والعمل وموضوع اللوحة.. مع الربط والتنامى فى الخط الدرامى، للتشكيل ككل.. أو الموضوع الذى عبّرت عنه اللوحات.. تجد هذه اللغة الجديدة... تتناول المكان والزمان والشخوص، لرواية يمكن قراءتها وتذوقها.. لكن للأسف ليس كل فرد قادر، على هذه القراءة الجديدة، وقد يفشل فى ذلك،... والعمل يلقى تبعية المضمون والرؤى المتنوعة، على ثقافة القارئ والمتذوق للفن والجمال.. وربما هذا أفضل كثيرا، لإنعاش الفكر والتأمل.. فللفن بكل أنواعه، أهمية كبيرة فى تكوين وتشكيل وجدان الأديب، كالفنون التشكيلية، والموسيقى، وغيرها من فنون.. بل هو كذلك حتما، مما له بالغ الأثر والقوة فى الإلهام والخيال، ووهب معين لا ينضب من الأفكار، للكاتب والأديب.. وبلا ريب هى من جماليات الفن وعلاقتها بكينونة الأدب، وفحواه..وقد سبق أن وضعت بعضا من هذه المحاولات بصور متنوعة ومتعددة من الفنون، والجماليات المختلفة.. محاولا خلق معان جديدة بتذوق جديد.. وقد تابع قراء ومتابعو المدونة، من هذه المحاولات بصور من جماليات كثيرة ومتعددة..


من فصل
بين العقل والروح
من مسودة كتاب (بين القلم والكتابة)
----------- 
1 - شظايا أفكار
--------- خالد العرفي
تلك الليلة، الأخيرة، كنت منكبا فى كتاب  أعمل على إنهائه، تأخرت، فيه بعضا من وقت، إلى أن أتتنى ومضة بارقة، لم تأتنى منذ أمد. تذكرت المثل الصينى "فى المحنة، دائما، هناك فرصة لائحة". على نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من معلوم إلى مجهول، والعكس. هكذا، الأفكار، دائما، ماكرة. والوقت إن لم تملكه كارثة. كان هذا التنافر، فى تفاصيل معلقة، للفصل الأخير، دونما مخرج، كانت خادعة للعقل، لا أكثر. لم يرهقنى شئ، قدر ما أنهكتنى، فى هذا الكتاب، الذى أنتهيت منه، فقط البارحة. ولم يتبق منه، إلا خاتمة. كان علىّ أولا، أن أكبّر التفاصيل، التى تستدير، وتتماوج، وتذهب من أمام ناظرى. أحللها، وأربط فيما بينها، لأقبض على عمق غائب عنى، وراء الفكر، فأصغى لهمسه، ورعده. كان الشئ الوحيد الظاهر، من التفاصيل مريبا فعلا. راوغتنى بدهاء. تقافزت أمامى. حيرة تلعق ألوان الأفكار، تُوهس العقل. نحّيّتها جانبا، ووضعت حولها سياجا، محكما، حتى لا يختلط النقاء، ببقية تفاصيل مضطربة، فأراها كلها صافية تماما.. جمعت ما تبقى، من أفكار، فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عمّا أريد. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الدوامة الثابتة، التى تبقت فى حلقة وحيدة منعزلة. إنفتحت الدائرة المنغلقة قليلا، شيئا فشيئا. وسرعان ما تتابعت حلقاتها، حلقة وراء حلقة. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صور متعددة، لشخصيات شيكسبيرية. أجزاء كانت مبتورة، غائبة عن ذهنى. غابت الأفكار الباهتة، وسكت عنى، صريف صمتها. إلا أن كل شئ ظلّ، كما هو. الأفكار ذاتها، هى هى. الأشياء من حولى، كانت كما هى دوما، عليه. الأوراق، هى نفسها الأوراق. السقف، هو السقف. لم أشك، فى أنه لا زال مرتفعا فوق رأسى، شأن كل الأسقف، فرفعت عينيّ.. فكان كما هو، مثبت، على جدران أربع، ثابتة، هى الأخرى. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ ثابت، فى هذه الليلة، حينما بدأت العمل. لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه فى عقلى، فى طريقه للقلم، حينما وخزته، بين التأمل والمعرفة. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه، منذ أن رأيته، آخر مرة.. كان هو هو، سققا، كما كان دوما. لماذا لم يعصف بصمت أوراقى، فى رأسى شئ جديد. لمَ، لم ينطق سكون الليل. لم يُسفر شئ عن شئ، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذه الرتابة، وذلك الضمور، خاطر غريب، دون سابق إشارة أو إنذار. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان، من أوراقى، كما رأيتها، أول الليلة. كانت فعلا ألوانا كثيرة، سائبة. ملأت مسافة واسعة، منسدلة، على غرابة صارخة. أخرجتها من منئاها، ورسمتها على ورقة، جانبية.. وضعت، علامة كبيرة، بدم القلم الذى تخثر، مقاوما مللا، أصابنى هذه الساعة، من الكتابة. ليس على البشر أن يفكروا، دائما، فى شئ. ندع أنفسنا، فى أحيان كثيرة، للذاكرة، لتتداعى، من الخلف، إلى الأمام. كان على الأرجح،  هنا، أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى نبضا، شيئا ضائعا بين تفاصيل باهتة. لأعيد حياة لأفكار كادت تحتضر، فى هذا الفصل، إثر ليل ثقيل غائم، خيّم عليه. لم يكن علىّ، منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بين السطور، بدم متخثر، لأنهى كتابا علقت نهايته، فى مجهول. قبعت فى آخر ضواحى عقلى. نهاية، كأن لا نهاية لها. إكتشفت إلى أى مدى، كانت فكرة التفاصيل تائهة عنى، على أفق سماء نائية. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا لا متناهية، بدرجات تهرب هنا وهناك، فى كل الإتجاهات، بغير صواب. إلى أن جاءت ومضة بارقة، لتطوّق لى الأمر كله، وبأكمله.. فى لحظة خاطفة، انجلت الرؤية، بعدما راوغنى هذا الغموض، قدرا من الزمن، داخل سياج ورقى شاسع. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، وتتلاشى، بين حشود ألوان، تتداخل تفاصيلها فى غور عميق. وكعادتى، فى النهاية، إنفجرت الأفكار شلالا ضخما، فأنهيت منها، ما تأخر. وبقى لى من دفقاتها، تيار صاخب. هدير، لكتاب آخر، فى عمق ثنايا ذاكرتى..


-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
 عينا العقل والخيال
-------------    
الحياة فى جوهرها، دون تشذيب، وزخرف من قول، هى الحقيقة المفقودة، التى تظهر شيئا فشيئا، للعقل، دون ألوان، إلا لون الحقيقة المجردة. فى عالم صاف، بلا زخرفة، أو إنتقاء. تفسح المجال لتُظهر، ما نسميه بالتجارب، تفاصيل خافية عن العقل، فتعبّر حينئذ، الحياة ذاتها، عن نفسها، بكل مافيها، بصورة واضحة، غثا وسمينا، فلا يشطح الفكر، ولا يندفع، إلا سعيا وراء حقيقة، بلا رتوش. هى الحقيقة المفقودة، دوما. غائبة فى معين عميق، ودرب طويل. ومنذ ذلك الحين، الذى يقف الإنسان على هذا، وتظهر له تلك الحقيقة، يشعر فعلا أنه على قيد الحياة، متلألئا كالجوهر، متفجرا وهج فكره، متدفقا ذهنه. يعبر العواصف والدوامات. لا يجمح به جامح، إلى مخمل حريرى، فيستكين، ولا إلى لا معقول شائك، فيتوه، فى خضمّ كينونته. وبكل معنى الكلمة، يبدأ الإنسان، وسط تأثير فراغ الحياة من هذا الجوهر، ليعى ويدرك لب الحقيقة. الأمر أشبه برؤيا كشفية له، ليس لها علاقة أو صلة، بمكان أو زمان، ولا حدود، إلا أن عين العقل، وبصيرة تمسك بها، تأويلا وتفسيرا. دون شك، إن الأفق العقلى الذى يحدّ الأمر، لا يكون فى متناول كل إنسان، فهى قدرات خاصة، الأصل فيها هبة إلهية، وعطاء ربانى. وغريب الأمر، إن ثورة العقل هذه على نفسه، هى الأخرى أشبه بمعجزة مؤقتة بقدرها، وثيقة الصلة بتلك الرؤية الغيبية، التى تجعل الإنسان، ربما يسخر من كل شئ مرّ عليه من قبل، لإنه لم يعٍ الحكمة، آنذاك، وهو فى حقيقته كان أمرا، يفسح له طريقا، إلى الحقيقة. ولكل شئ حقيقة، وشيئا فشيئا، يمدّ العقل به ومعه، بخطوة إلى الأمام. يجاهد كل شئ، دون أن يدرك، أن هذا فعلا ما يحدث فى زمان محدد، أومكان معين. ولا يحدّه العقل، فى حينه. ولولا هذا، ما إجتاز العقل آفاقا، ولضاعت أفكار، إلى آخر الأبد.  
قليل من البشر، من يحيا هذه التجارب العميقة. تختارهم لها الأقدار، ويختارهم القدر، لها. مثل الوقوع على قطعة أثرية مطلسمة، لا تكتشف سرها أبدا، إلا إذا انفصلت عن الواقع لتغوص فى تاريخ غير مرئى، وتتمعن أبعادا غير منظورة، وكل شئ لازال، فى مكانه، أمام ناظريك. حينئذ، فقط، يُضاف سطر جديد لتاريخ البشرية، عبر الروح، يُعلى من قيمته المسطورة، فى بطن الزمن، كيفية إكتشافه، وإستعادة ما فقد منه، جوهرا نفيسا، فى مسيرة الإنسان، خلال حياته. وحتى لو لعبت الصدفة القدرية، دورها فى الوقوف على فكرة أو إبداع، أو إكتشاف، فلو لم يكن هناك مثل هذه النظرة الكاشفة، بعين العقل وراء الأفق، ما تقدمت البشرية، ولما قرأ إنسان شيئا، يحمل من إبداع، من قبل. والواقع المتراكم من تجارب الحياة، ليس وحده كافيا، دون هذه النظرة الثاقبة، تعزوها روح خيال خلاق مبدع. لذا، وقطعا لهذا السبب، فإن العلماء والمفكرين والأدباء الحقيقيين، ندرة وأشد من الندرة، نفسها. فالألوان وحدها فى يد الفنان أو الرسام، ليست كافية أبدا، دون روح محلقة بعينى العقل،  والخيال. وهنا فقط، لا ينفصل كلاهما، لا العقل، ولا الروح، عن بعضهما. وفلسفة الجمال لها دور كبير، فى هذا التذوق. وفى الأدب، هذا الأمر قلما نصادفه، وهو فقط، الذى يؤثر، فى النفس، كما تؤثر تماما الحقيقة التاريخية، التى لاشك فيها أبدا، مغادرة بنا، إلى جهة أوسع من العالم نفسه، سالخين جلد الزمن، فيحيا الإنسان الجمال، لا أن يتذوقه فقط.. يترك نقطة زمنية، إلى بقاع أخرى رحبة، فيصل إلى جوهر ما يحمله الزمن، نفسه، من حقيقة وحيدة، بعين العقل، ولكنه يعيشها جمالا بعد جمال. تنظر بها الروح، وتقرأها غاصّة فى كل فريد وفذّ، تحررا من الجسد. هى خطوات، بعد خطوات. صفاء من بعد نشاز. بشكل أفضل كثيرا جدا، مما نتخيل أى شئ يحوى حقيقة، فى غير ذلك. والأدب، وإن حمل أسئلة من قبيل، كيف نكتب، ولمن نكتب، وماذا نكتب، وكينونة الكتابة ذاتها، إلا أنه يحمل من ذلك كثيرا. وربما هذا هو السبب الأساسي الذى جعل "جان بول سارتر" يؤلف كتابا كاملا عنوانه (ما الأدب). هى دائرة عملاقة، من الجمال والفكر والإحساس، وكلما تقدمت خطوة وتوغلت داخلها، لم ترغب فى الخروج منها، بعيدا عن كل شئ، بحثا وراء حقيقة لكل شئ، بعينى العقل والخيال.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
 تجربة غريبة 
 (مع الذات وجها لوجه)
-------------   
ماكان ليقدر لى الإنصات هكذا، لهذا الصوت الغامض.. ليست لأن الكتابة، كمردود لتلك التجربة الغريبة التى إكتسبتها، من هذا النداء الصامت، أو لوحة أمتلكت ألوانها لفترة، ثم تلاشت وراء دروب العقل فجأة. لكن، لأن النور كان قويا فى بادئ الأمر، وسرعان ما تلاشى وأنا أتبعه، كأفضل قصّاصّ أثر، فى قلب مجهول. إكتشفت أنه لم يحدنى أمل براق فى رؤيته، أو أحيط بمصدره تماما فى عقلى، فأهتدى إليه. قبل هذه الحادثة مع الكتابة، كنت أتلقى ومضات، كأنها تخطط لتوقعنى فى الأمر، وإستمالتى دونما شعور منى. فوضى من دعوات متكررة، تدفعنى لأقطن هذا العالم المجهول، لأختص به وحدى، ويختص بى. ولكننى بت أكتشف الأمر، بين الحلم والواقع. كأننى أتنقل بين التاريخ والأسطورة، فاقدا براعتى، على الإمساك بخيوط  غائب، وراء حدود حواسى، وعقلى. أنها تجربة غامضة ومتوهجة، مع الكتابة، جولة بعد أخرى.. لكنها فشلت، لتهدينى إليها، وفشلت معها، قبل أن أنغمس فى محاولة كشف مدلولها معى، هذه المرة، من حياتى. وبمجرد أن ألقيت النظرة الأولى الخاطفة، على ما تبقى منها، قاصدا دليل، استجلى به هذا الغموض وسببه، وجدت ما حيّرنى أكثر، كمتاهة للروح. لكنه، كان شيئا فائق الأهمية، للنهوض، إلى مرحلة متقدمة مع الذات، وإكتشافها، على الأقل ملاذا منشودا للقلم، فكرة ومعنى، وزادا. إكتشفت معه، أننى لم أكتب شيئا بعد، يستحق أن أقرأه، ويأخذنى إلى ما أفكر به. حتى الشعر أرانى أتنصل منه، وأنكره، على نفسي. أعتبره مجرد تجربة نفسية، مضت وذهبت، حملت عينا للروح، لا تحملها القصة أو الرواية. ولست شاعرا، ولن أكون يوما، ما حييت. إذن كانت مواجهة الذات، فيما أعمق مما تحمله كتابة الشعر من قصائد نثرية، من معان وآفاق نفسية. ولا شك، فتلك هى الكتابة، بمفهومها ومعناها الواسع، لما نكتب، وللتعرف على ما نفكر به، ونهتم به فى الحياة. نمخر به عباب آفاق الروح. فنصبح مع الأمور، وجها لوجه، ومعنا تصبح. وأعتقد أن هذا هو القاسم المشترك، لما وقفت عليه بين تلك الأمور، التى حيرت عقلى وفكرى، رغم الفرق الشاسع بينها. 
والحديث، حديث ذات، وهموم نخوض فيها، وبها مع القلم، تستغرق وقتا، بل أمدا. وما إكتشفته حديثا، أوقفنى عند أشياء ما كان يأتى بها، إلا الزمن وحده، خلال تجربة إنسانية، تستثير كوامن الروح، قبل أن تقع عيناى على جوهر الأمر، حتى لو كان عملا واحدا، يستغرق العمر كله، ويأخذنا  معه، حتى يظهر. وحتى وإن استوعبت التجربة الشعرية جانبا من هذا، فقد صرت على بينة ويقين أن الأمر، لم أستكمله بعد، مع نفسي. ويتلاشى معه كل ما مضى من القلم. إنه فراغ، لا يملأه إلا الفكر الصافى، فى دقائق الأمور. وهنا لا يحمل هذه المعانى، ليس الشعر أبدا. إنما التجربة الكلية، فى عمل تعطيه من نفسك وفكرك. وهذا هو السبب الأساسى، فى إلغاء أو تعديل أشياء نشرع فيها، فتسلمنا إلى أشياء أخرى أعمق، تثنينا إليها، وتميل بنا، قوة خارقة. وتوصيف الأمر على هذه الشاكلة، هو بداية طريق جديد، نستجمع فيه الشأن، وإن كان فيه معاناة وألم. وأعترف لنفسي، أن مايمر بالإنسان من خبرات وتجارب، له دخل كبير فى هذا، وإن لم يره من قبل، دهرا، حتى يواجهه فى نفسه. وكأنك عالم آثار، تكتشف من بقايا الماضى، وتبنى صورة لواقع يقود إلى مستقبل. قد أكون مخطئا، فى إهدار تجربة كتابة مررت بها، وإستغرقت وقتا، لكن بلا ريب إستفدت بها، كتلك البقايا، التى ينظر إليها بتمعن العالم الأثرى، يستنطق فيها، ما لم يره إنسان، قبله، أو لم تتح له فرصة التزود بمعلومات، عن هذا الغموض، الذى إكتنف الأمر. وفى النهاية، تبقى لى هنا، ومعى، روايتى الأثيرة (شيزر) لتحمل من كل هذا، وأحملها، ما لا يمكن أن يحمله شئ غيرها، من معان وفكر، رفقة فى رحلة الكتابة..

صوت الكتابة
-------
يوم ما..  شئ ما.. 
يستحق الذكر..أمام وجه الشمس
من جديد.. اللغة والتاريخ
 خالد العرفي  
على نحو مفاجئ، كانت الأفكار بعيدة متنافرة، تنقلنى من مجهول إلى مجهول، تلك الليلة الغائمة، التى لم تتركنى بسلام منذ أمد.. لكنى تذكرت المثل الصينى " فى الكارثة، دائما، هناك فرصة لائحة". كان هذا التنافر الكارثىّ فى التفاصيل المعلفة دونما مخرج. تخدع العقل، لا أكثر. لم يرهقنى كتاب قدر هذا الكتاب الذى انهيت فصله الأخير، البارحة. كان على أن أكبّر التفاصيل. أربط بينها، لأقبض على العمق الغائب عنى. كان أحد التفاصيل مريبا، راوغنى كمهرج، يتقافز فى الحلبة كبهلوان، يلعق الألوان مهووسا، فيضحكنى كطفل. نحّيّته جانبا، ووضعت حوله سياجا، حتى لا يختلط ببقية التفاصيل، فأراها صافية.. جمعت ما تبقى، من أفكارى فى أمكنة فارغة منفصلة، بمنئى، عنه. ألقيت حجرا صغيرا، داخل الداومة الثابتة، المنعزلة. إنفتحت الدائرة المغلقة قليلا. وسرعان ما تتابعت حلقات، وراء حلقات. تآلفت من هذه الأشياء العجيبة، صورة درامية، للأجزاء المبتورة. فغاب صريف الصمت الباهت، فى الغبار. وظلّ كل شئ كما هو. الأفكار هى هى. المنضدة كما هى دوما منضدة. السقف هو السقف. حتى أننى شككت فى أنه فوق رأسى، فرفعت عيناى.. فكان كما هو مثبت على الجدران. كان ذلك، هو الهاجز الذى أثارنى.. لماذا كل شئ كئيب، بعد ما حدث أول هذه الليلة لابد أن يكون كل شئ، قد غادر مكانه. لابد أن يرتفع السقف قليلا، أعلى من مكانه، الذى تبلد فيه منذ أن رأيته.. كما كان دوما، فى أول الفصل. لماذا لم يعصف بالصمت جديد، لمَ لم ينطق سكون الليل، بين الكلمات. أيقظنى من إستهجانى لهذ الرتابة، خاطر غريب. تسائلت، من يزيل كل هذه الألوان من وجه المهرج، فى العنوان. كانت ألوانا كثيرة تملأ المسافة بين أذنيه وجبينه الضيق، الذى إنسدل على حاجبيه.. أخرجته من منئاه، ورسمته على ورقة.. وضعت على أنفه علامة كبيرة باللون الأحمر، دما متخثرا، لمقاومة الروتين. ليس على البشر أن يفكروا، دائما. كان على الأرجح أننى إستعدت، لأوراق ملقاة على مكتبى، شيئا ضائعا بين التفاصيل الباهتة، بالدم المتخثر، لأعيد الحياة لفكرة هذا الفصل، الذى خيّم عليه ليل طويل. لم يكن علىّ منذ وقت طويل مضى، إلا أن أضع بقعة وحيدة متناهية الصغر، بالقلم لأنهى هذا الكتاب العالق فصله الأخير، بين ضواحى العقل، كأن لا نهاية له. إكتشفت إلى أى مدى كانت فكرة التفاصيل عالية فى السماء. حشد كبير من أطياف كثيرة، غير مرئية. شظايا عير متناهية، بدرجات هاربة، بعير صواب، فى كل الإتجاهات. إلى أن جاءت الومضة البارقة، لتطوق لى الأمر كله برمته، على جثة مهرج مرسوم، فى لحظة من الزمن، داخل سياج ورقى. بعيدا عن أفكار، كان يمكن أن تضيع، بين حشود الألوان. فى النهاية إنفجرت شلالا ضخما، فأنهيت منه الفصل. وبقى لها منها، كتاب آخر.. فى عمق ثنايا الذاكرة.
 -----
للقلم لغات. منها، لغة الفجر.. الروح.. لغة الأحلام.. ومنها، لغة اللحظة. ومن هذه اللحظات، تلك التى تحيا فى القلب.. والصدر. لحظات، هى كل ما يبقي، كعلامات فارقة. تتحدث، عمّا كان يوما، من جميل حلم، ومكنون نغم شجيّ، لسرّ مصون، صامت. ممّا أخفاه الزمن، بين شفتيّ الحياة. لم يبح به حفيف ظلال كلمات، ولا رفيف أجنحة ماض. لم يبق، منه، سوى ذكريات. ترفرف حول ما بقى، من أماني توارت، وآمال إنزوت. لغة، تنصرف بها، الروح، إلى عالم آلام خفية، وابتسامات تأبى أن تُولد. تطوف كل لحظة، مستأنسة بذكرى، طاوية ما انقضى، وقد قطن القلب، خفيا، حين من الدهر. 
عند الرحيل،.. وفى الوداع، مؤكد أن هناك لغة، لشئ ما، دائما، يستحق الذكر، عندما نكتب، أو نصف مثلها. أشياء ومشاعر، لا تختفي من مخيلتك أبدا، مهما حاولت طردها من رأسك. تظل، كأنها ظل لك. مصير لا يفارقك، طوال حياتك. لغز لا يكتشف سره، ولايُدرك كنهه، فهما، إلا أنت وحدك. مهما تباعدت، أوتناءت بك المسافات.. شعورا وإحساسا عميقا، تفهمه قربا، منك، كأنفاسك، تتردد بين جنبيك. وتدرك بُعده، عنك، كخيال طيف، حائم، من حولك. وكلما مرّ وقت، إزداد غموضا، وإبهاما.  تذوب معه، وتختفي كل فوارق المكان والزمان. يتمكن منك، كأنك فى عالم غير هذا العالم، ووجود غير الوجود. شئ يفتح لك أبوابا سحرية، للغة فكر وشعور، بعيدا، عن كل ما هو أرضى. لتلمس نفسك، فى السماء، ما يُوقظ الروح. حيث تمر الأيام، كأحلام خضراء، وتنقضي الليالي، كأنهار نور جارية، بعذوبتها، في ربيع حياة، لا ينمحى قدره، مع ذكريات مضت، وأيام ولّت. هنا، فقط تستطيع أن تضع الروح، والنفس، فى هذه اللغة.
ولحظات أخرى، وعلى حين غفلة، سرعان ما تنتبه فجأة، فتري خفايا، ينقلب معها كل هذا، ويتحول. ينعطف بك الأمر، ليقظة، من نوع آخر. أعماق تتسع وجعا، وإنفعالات تنبسط يأسا. يكتنفها حيرة، وشوق غريب. سهاد، يثير أسى، في الصدر. تتوهم، أنك كنت فى خيال مذهل، غير الخيال. كأنها، كانت حياة خالية، باردة. حياة لم يبق من آثارها، إلا غصة حزن أليمة، في الفؤاد. وتتبدل من حولك سكينة الأيام، بوحشة مقفرة، ومُرّة. وهنا، تولد لك وحدك، من جديد، لغة لأحلام أخرى،  فى عالم آخر، لا تختاره لنفسك. ولا يعلم عنه أحد شيئا. لا توّد أبدا، أن يشاركك فيه غيرك.. مع ذلك، تستظهر عجائبه، كصفحة بيضاء خالية. دون عواصف، تثور في جوانبه، أو عتمة ظلمة حالكة، تغمر بصيرة، تحيط، وترى.  وأتذكر، من أمثال تلك اللحظات التى يتمخض عنها، من قبيل تلك الغات النابضة،  أننى إنهيت، خمسة دوواين شعرية، خلال فترة، لم أكن أتصورها. وإمتدت بى لرحابات بعيدة جدا. بل، وفتحت لى آفاقا واسعة، فيما كنت أعمل عليه، من أعمال أخرى، متباينة المجال والمشرب، بعيدا عن الشعر، الذى أنأى عنه. ومنها كتابى التاريخى، الذى أوشكت أن أنتهى منه (إمارات عربية طواها التاريخ: إمارتا "بنو منقذ" فى "شيزر"- و"بنو عمار" فى "طرابلس") الذى طاله شئ،  من روح تلك اللغة، التى تتجدد حياتها. إنها آفاق، تلمس نفس، وروح الكاتب، وتحلّق به، قبل أن تقع عليها، عينا القارئ. 
عالم من الأفكار يتنامى، ويتعاظم في كيانك. يتكاثر، فى الوجدان، وينتشر ضياؤه. يجد لها كل منفذ، لمحيط القلم، الذى يتسع، في مهد صيرورة دائبة. لينفتح على مداه، أمامك ما انغلق، لأشعة الفجر، فى العقل، والروح. يزيل كل نقاب وغيم، عمّا غاب، يوم ما، لشئ ما.. لفكرة..، أمام وجه الشمس.  شئ ما، يستحق الذكر، أن نكتب عنه، ونكتبه.  لغة لأحلام خضراء، فى نبض الحياة. تسكن الأسفار، من جديد، فتجدّد الحياة نفسها..

-------------
* "الأحلام الخضراء" فصل من كتاب (بين القلم والكتابة) تنشر صفحاته فى مقالات.


عينا العقل والخيال
--------- خالد العرفي

الحياة فى جوهرها، ودون تشذيب، وزخرف من قول، هى الحقيقة المفقودة، التى تظهر شيئا فشيئا، للعقل، دون ألوان، إلا لون الحقيقة المجردة. فى عالم صاف، بلا زخرفة، أو إنتقاء. تفسح المجال لتُظهر، ما نسميه بالتجارب، تفاصيل خافية عن العقل، فتعبّر حينئذ، الحياة ذاتها، عن نفسها، بكل مافيها، بصورة واضحة، غثا وسمينا، فلا يشطح الفكر، ولا يندفع، إلا سعيا وراء حقيقة، بلا رتوش. هى الحقيقة المفقودة، دوما. غائبة فى معين عميق، ودرب طويل. ومنذ ذلك الحين، الذى يقف الإنسان على هذا، وتظهر له تلك الحقيقة، يشعر فعلا أنه على قيد الحياة، متلألئا كالجوهر، متفجرا وهج فكره، متدفقا ذهنه. يعبر العواصف والدوامات. لا يجمح به جامح، إلى مخمل حريرى، فيستكين، ولا إلى لا معقول شائك، فيتوه، فى خضمّ كينونته. وبكل معنى الكلمة، يبدأ الإنسان، وسط تأثير فراغ الحياة من هذا الجوهر، ليعى ويدرك لب الحقيقة. الأمر أشبه برؤيا كشفية له، ليس لها علاقة أو صلة، بمكان أو زمان، ولا حدود، إلا أن عين العقل، وبصيرة تمسك بها، تأويلا وتفسيرا. دون شك، إن الأفق العقلى الذى يحدّ الأمر، لا يكون فى متناول كل إنسان، فهى قدرات خاصة، الأصل فيها هبة إلهية، وعطاء ربانى. وغريب الأمر، إن ثورة العقل هذه على نفسه، هى الأخرى أشبه بمعجزة مؤقتة بقدرها، وثيقة الصلة بتلك الرؤية الغيبية، التى تجعل الإنسان، ربما يسخر من كل شئ مرّ عليه من قبل، لإنه لم يعٍ الحكمة، آنذاك، وهو فى حقيقته كان أمرا، يفسح له طريقا، إلى الحقيقة. ولكل شئ حقيقة، وشيئا فشيئا، يمدّ العقل به ومعه، بخطوة إلى الأمام. يجاهد كل شئ، دون أن يدرك، أن هذا فعلا ما يحدث فى زمان محدد، أومكان معين. ولا يحدّه العقل، فى حينه. ولولا هذا، ما إجتاز العقل آفاقا، ولضاعت أفكار، إلى آخر الأبد.
قليل من البشر، من يحيا هذه التجارب العميقة. تختارهم لها الأقدار، ويختارهم القدر، لها. مثل الوقوع على قطعة أثرية مطلسمة، لا تكتشف سرها أبدا، إلا إذا انفصلت عن الواقع لتغوص فى تاريخ غير مرئى، وتتمعن أبعادا غير منظورة، وكل شئ لازال، فى مكانه، أمام ناظريك. حينئذ، فقط، يُضاف سطر جديد لتاريخ البشرية، عبر الروح، يُعلى من قيمته المسطورة، فى بطن الزمن، كيفية إكتشافه، وإستعادة ما فقد منه، جوهرا نفيسا، فى مسيرة الإنسان، خلال حياته. وحتى لو لعبت الصدفة القدرية، دورها فى الوقوف على فكرة أو إبداع، أو إكتشاف، فلو لم يكن هناك مثل هذه النظرة الكاشفة، بعين العقل وراء الأفق، ما تقدمت البشرية، ولما قرأ إنسان شيئا، يحمل من إبداع، من قبل. والواقع المتراكم من تجارب الحياة، ليس وحده كافيا، دون هذه النظرة الثاقبة، تعزوها روح خيال خلاق مبدع. لذا، وقطعا لهذا السبب، فإن العلماء والمفكرين والأدباء الحقيقيين، ندرة وأشد من الندرة، نفسها. فالألوان وحدها فى يد الفنان أو الرسام، ليست كافية أبدا، دون روح محلقة بعينى العقل،  والخيال. وهنا فقط، لا ينفصل كلاهما، لا العقل، ولا الروح، عن بعضهما. وفلسفة الجمال لها دور كبير، فى هذا التذوق. وفى الأدب، هذا الأمر قلما نصادفه، وهو فقط، الذى يؤثر، فى النفس، كما تؤثر تماما الحقيقة التاريخية، التى لاشك فيها أبدا، مغادرة بنا، إلى جهة أوسع من العالم نفسه، سالخين جلد الزمن، فيحيا الإنسان الجمال، لا أن يتذوقه فقط.. يترك نقطة زمنية، إلى بقاع أخرى رحبة، فيصل إلى جوهر ما يحمله الزمن، نفسه، من حقيقة وحيدة، بعين العقل، ولكنه يعيشها جمالا بعد جمال. تنظر بها الروح، وتقرأها غاصّة فى كل فريد وفذّ، تحررا من الجسد. هى خطوات، بعد خطوات. صفاء من بعد نشاز. بشكل أفضل كثيرا جدا، مما نتخيل أى شئ يحوى حقيقة، فى غير ذلك. والأدب، وإن حمل أسئلة من قبيل، كيف نكتب، ولمن نكتب، وماذا نكتب، وكينونة الكتابة ذاتها، إلا أنه يحمل من ذلك كثيرا. وربما هذا هو السبب الأساسي الذى جعل "جان بول سارتر" يؤلف كتابا كاملا عنوانه (ما الأدب). هى دائرة عملاقة، من الجمال والفكر والإحساس، وكلما تقدمت خطوة وتوغلت داخلها، لم ترغب فى الخروج منها، بعيدا عن كل شئ، بحثا وراء حقيقة لكل شئ، بعينى العقل والخيال.




صوت المكان وظلاله **
----------
من أجمل ما يمكن أن يقابل الكاتب والأديب قارئ يقرأ أعماله بالقراءة متعلقا به، ويقدره.. الأجمل أن يقتنع هذا القارئ بما يقرأ، حتى يظن أن الكاتب هو كل الأبطال الذين يكتب عنهم فى أعمال قصّا ورواية. إن خيال القارئ فى هذه الحالة أكبر من خيال الأديب. فهو يلبسه كل سمات تلك الشخصيات التى أبدع فيها. فبلا ريب أن عدد الشخصيات الخيالية فى القصص والرويات يفوق ذهن القارئ ومن هنا يتصور أن كاتبه هو من يقرأه. وليس بشرط أن تكون هذه الشخصيات حقيقية من الواقع. فالمبدع عامة، خياله خصب وهو يبنى العمل كله من السرد القائم على عنصر الخيال. وإلا كان كل روائى وقصاص هو كل تلك الشخصيات التى نقرأها له. وهناك أعمال أدبية عظيمة لأدباء تعدت شخصيات العمل العشرات فى العمل الواحد بين نساء ورجال. أنظر مثلا لأعمال تولستوى وبلزاك وغيرهم عالميا. وعريبا محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان والسباعى وغيرهم. بالكاد تستطيع حصر عدد شخصيات كل عمل، مستغرقا معهم. إن نجاح الأديب فى أن يصل بالقارئ إلى مرحلة من التلقى يتصور فيها أن ما يقرأه واقعا هو فعلا نجاح له. وقد ذكرت فى مقال سابق أهميه دور الخيال الموصل إلى الإيهام بهذه الدرجة الفعلية فى ذهن القارئ. ومن قبيل التذكر العجيب تذكرى أنى كتبت مقالا آخر منذ فترة عن مشاهدات حفرت فى ذاكرتى من الطفولة. ومنها ما أسميته بالرجل القطار، وجاء ذكره فى المقال أشبه بقصة قصيرة ولكنها من الواقع الفعلى، وتخيلت فعلا باسما لو أننى فعلا هذا الرجل البخارى هائما والها، كالرجل وأبيت بين القطارات وأقطع طول وعرض المحروسة من الشمال إلى الجنوب، بدلا من طريق بمدينتى الساحلية. إن قوة الكاتب فى قوة خياله بالدرجة الأولى والتى لا تأتى فى لحظة إنما ورائها سيل من القراءة والتدبر والنظر فى الحياة. فربما إستفاد الأديب من خبر يقرأه هنا أو هناك، وربما مشاهدة عابرة فى طريق، وربما من شخصيات فعلية قابلها فى حياته. وربما من ذكريات تستدعيها الذاكرة. إن أدب ديكنز تقريبا كله مبنى على إستدعاء ذكريات من الماضى ومشاهدات فعلية فى لندن الفيكتورية. وعظمته فى توظيف هذه المخزون الهائل الذى نقرأه فى أعماله العظيمة. ولدينا محفوظ الذى صرح بأنه كان يسقط على شخصياته التى كتبها مما قابله فى الحياة. فى الواقع على الأديب أنا ينصت لكل شخصية يقابلها ليستفيد من وجه الحياة هذا. فأنت لن تكتب عن محام أو مهندس أو عامل أو طبيب وغيره، دون أن تعلم لغته وطبيعة عمله. هذا تماما كمعرفتك بتفاصيل المكان والزمان الذى تكتب عنه. وبدون هذا لن تكون هناك جماليات أو قيم فنية فى العمل يشعر بها القارئ ولن تكون هناك قوة إيهام وليس هذا معناه الإستغراق فى التفاصيل إنما للغة كذلك لها دورها فأنت عندما تكتب عن الريف غير ما تكتب عن البحر أو المدينة. وإذا لم تنعكس اللغة وتلك القيم الجمالية مع عناصر العمل فلا أشعر أن هذا العمل يستحثنى لأكتبه. وعادة يكون دور الخيال فى الربط بين هذه العناصر أعمق. فأوقات اليوم لكل منها سمته وتأثيره فالفجر غير الشروق غير الضحى غير الظهر غير الأصيل غير المغرب. وهذا ينعكس على طبيعة النشاط الإنسانى والحالة النفسية. فما بالك فى موقف أن تصفه فى قصة أو رواية يدور فى ساعة من هذه الساعات. مع ربط الوقت بالمكان فيختلف الأمر تماما. فالغروب تراه من قطار بخلاف ما تراه على أفق صحراء أو ارضا زراعية أو بحر، فإن ربطت بين الزمن والمكان والحالة النفسية للشخصية أو البطل مع تأثير القصّ بصوت الراوى أو حتى الحوار فأنت فى طريقك لإيهام القارى بصهر هذه العناصر مجتمعة، فى بوتقة واحدة.. أنا قد يستغرقنى مثلا النظر فى واجهة مبنى متنقلا ببصرى تلك الزخرفات والجماليات وربما أتخيله وهو يبنى.. وربما أبحث عن تاريخ المنطقة التى أكتب عنها وبدون هذا لا أقدر أن أكتب عن المكان وهذا يذكرنى برواية الرحيل شرقا والتى اهتممت بعنصر المكان وتدور أحداثها فى الاسكندرية. فأحداث الرواية تتراوح بين الحى الراقى كفر عبده فى منطقة مصطفى كامل باشا ولوران وسيزينيا وبين مناطق شعبية قديمة، وأماكن أخرى عديدة. إضافة لطبيعة المبانى التى تسكنها الشخصيات فتؤثر عليها وعلى سلوكها وبالتالى فى العمل. هذا أسميه صوت المكان وظلاله التى تلعب قدرا كبيرا من الأهمية فى العمل مستفيدا كثيرا من المراجع والمصادر التى تتحدث عن ذلك.  من هنا لا أندهش لقارئ يتوقع أن يكون ما يقرأ حقيقة، فأنا أحاول بقدر المستطاع، إيجاد هذا فى العمل مع الحبكة التى تطاردها فى نفسك وخيالك فقط . عامة، هى ملاحظة عابرة، تولد منها هذا المقال المختصر ربما أجد فى يوم من الأيام أديبا كان كل هذه الشخصيات فى الحياة التى يكتب عنها، وهذا مستحيل، إنما القراءة ومعايشة وملاحظة الحياة بالوجدان ودور الخيال، هى ما يجب أن يتوافر عند كل مبدع.


العائد إلى الحياة *
 من المجموعة القصصية "لون التوت"
--------------------------------------------
يوشك النهار على الرحيل بشمسه الملتهبة . توجَّه فى طريقه إلى وحدته الجديدة على طريق يمتد على جوانبه  كُثيبات رملية فوق سهل منبسط بالرمال وقطع صخرية كلسية. تتناثر فوقه أَكَامٌ متباعدة ، من الحشائش الجافة كرؤوس شياطين. وأشباح بأنياب حيَّات متوقّدة، على طول الأفق. تهبط السيارة "الجيب " العسكرية صاغرة على انحدار بسيط، يُواجه ثكنات ثابتة على الأرض شاخصةً مثل المقامات تنتظر أولياء يمنحون البركة بالدعاء الصالح. وصل إلى الكتيبة. تحيط بها مرتفعات رملية. هضاب ملتفة كأفعى تعصر فريستها. حزام من تلال غير عالية، كموج يعصب وسط قيادة الكتيبة. يشد أزرها، في وجه الريح، حين تهب عواصفها فى الصحراء. استقبلته على الدرب أغنام هزيلة وجِمال مُشتتة بدون راعٍ لم ترَ كلأ ربيع في حِما بلا سياج !
الوقت ليس وقت سراب لغدير تغيض بمائه رمال الصحراء!
القطا والعصفور والحبارى طلقي . حيوان الصحراء الوحشي كامنٌ ينتظر فرائسه. وليل مظلم يغشى الصحراء. وتتلوّن في أثوابها الغُول. أدى التحية العسكرية للقائد الذي غادر " طابور" المساء . بثبات:
-"تمام يافندم“. عقيد (مصطفى الدمرداش). قائد "الاستطلاع" الجديد منقول بقرار رقم .... "
يرى الجميع أن النقل نوع من " التكدير" والعقاب. يراه متعة لا حدود لها. سياحة وتطواف. توارثها من جدِّه الأكبر جيلاً بعد جيل. شاقاً الأودية والسهول، صاعداً الجبال والتلال. عن ظهر قلب يحفظ قصص وحكايات علماء الفلك. تتآلف روحه مع أرواحهم. يبثهم آماله. يكره التنجيم والمنجِّمين والعِرافة والعرَّافين. يعلم أن هناك كواكباً أخرى لم تخلق عبثاً أو باطلاً.. يرى وينظر.  يمقت الآبق عن ربض الدين !
 يتدبر روعة الكون الأخاذ، وأسراره.. تم بناؤه بإحكام شديد عجيب. لا يعقله مَنْ يبع وهماً. لم تتدبره بطانة السوء لفرعون وهامان وقارون. ورغم ذلك يصوم الصائمون . ويسيح السائحون في يوم القيظ ، برداً على القلوب.
نال ترقية حديثة فهنأَّوه. معانقة نسراً، لمعت النجمتان الذهبيتان، تُزيّن كتفيه. تلألأت. التمعت بارقةً في عيون الغيلان المتربصة. أرعبتها. خشيت مخالب النسر وهويان النجوم. فرَّت هاربة إلى حين. دخلت كهفوها !
مرَّت على نقله بضعة أشهر. ألفه الجميع وألفهم. تَقبله القلوب وتَتبعه العيون. سبق إلى قلوبهم من محبّته ما هو أسرعُ من الماء إلى قراره ، ما لم يألفوه..  يجنُّ عليه الليل. يكسوه  بسكينته. يدرى جَمَاله. يُعاين أنهار لبن وأبراج السماء. لم تغب نجومها. تتلألأ في ظلمتها. لم يفقد إحداهن. سماء شديدة.. قوية.. دقيقة.. متماسكة.. محكمة. مرآة تعكس صورة البحر الواسع الكبير تسكنها مجرَّة عجيبة يعرفها بسيماها.. ترسم طريقاً لبنياً. سكة التبِّانة.. منزوياً بها الإنسان. صيفاً ماء الإسكندرية هدية من بعض القادمين من الزملاء، أو "جركن التعيين" عشرون لتراً من ماء الآبار المصفّى.. تمنحه الأرض الطيبة للعطشى. يُحب التّين. يذهب أحياناً إلى قرية "بقبق". تبيعه الأعراب بالشجرة، وليس بالقفص. أحياناً تقايض به مؤنة من المعسكرات المتناثرة هنا وهناك. راهب الليل يشترى نفسه. لا يُسكره التِّين وليس إلى ذلك سبيل. ماء السماء أحلى من الشهد فى الشتاء، وطهورا. يَردُ الماءَ، يرتشف من برك الأرض الصخرية بيديه. يرى صورته صافية، بوجهه الأسمر، بخلفية السماء. يرتوي من الفرات قبل أن تمتصه بشراهة وَوَلَهٍ، في بطنها رمالُ الهجير والقيظ. وترابٌ عَطِش لدماء الأعداء. بات يعرف رائحة الزعتر والريحان والنعناع والبردقوش. يجمع الأعشاب والنباتات. يقطف الأزاهير البريّة، والسُّم الزُعاف ترياقاً لنفوس ضعفاء.. والأريج. هنا بكور وبكارة. ليل أخاذ. ونجوم يعرفها من سيناء. يسامرها. يودعها سرَّه. يعرفها آخرون كما عرفها كثيرون. يتفكر في مواقعها. تستهويه أسماؤها. تَسْبَح روحه معها، في أفلاكها.. تُسَبِّح. بظلمة الكون تنير له الدرب. تنطق. يتمنى أن يمتطى شهاباً أو مذنباً. تشق ظلمة الليل سفنا بيضاء اللون، تخرج به إلى عالم آخر، من فروج وأبواب السماء.. عالم لا تسكنه غيلان الأرض. لا يكتفِ بِمَ يراه. يريد ما لا يراه أحد الآن. يتعدى ما يُبصِر إلى ما لا يُبصَر، من المجرَّات، عبر مادة مظلمة قوية، وشديدة.. غير مرئية. تملأ الكون. بنظام دقيق جداً. لا تُرى. عن ذلك، يُخبر الجنود. يريد سبر غور تلك المادة. تنتشر محبوكة على شكل طرق، أو على شكل نسيج. تتخلق فيها المجرات. تجري أشبه بطرق سريعة. مادة تتحكم بما هو مرئي في الكون. يزيده حباَ الجحود.
- يافندم“ هل تعرف أن الجنّ تسكن الصحراء؟!.."
لم يغير ما نوى الحديث فيه. يخبرهم بعض الشيء عن تحكم مادة الكون بتوزع المجرات. عن سنن الله وآياته.
-"هذه النجوم والمجرات والنجوم البعيدة اللامعة مثل المصابيح المعلقة. تكشف ما حولها. صورها الله كما شاء...، الجنُّ، الجنَّةُ ، الجانُّ ، واحدةٌ مخلوقة من نار.. !"
كاد يُنهى حديثه للجنود التي جلست على الأرض، في أمسية تدريبية صيفية، في صحراء مصر الغربية. خلف أرض "طابور" الكتيبة. استحالت محاضرة التدريب المُركِّز لحكاية أسطورية. ترهف لها آذان متعطشة، وقلوب وِجِلَة. تدفئ جُمله الأفئدة  تأسر كلماته العقول. في كهوفها المظلمة تحارب الغيلان كلمات الشهداء. لم تنتهي رحلته. طالبته الجنود بمزيد من الغيلان لقتلها. بأسلوب يجذب القلوب ويفتنها، يَشرح. أمثلة تأسر الأفئدة، يُعطى. مضي متحدثاً كأنه يخبرهم عن حبيبته. يرونه فارساً جاءهم ينثر على رؤوسهم وأمامهم نورا. تعرفه الأندلس. غرناطة. قرطبة. القاهرة. بغداد. ودمشق الفيحاء. ومدن للتِّيه  هُدِّمِت. وألف بحر ونهر وألف سور.
- " إحكِ لنا يا “ فندم“ . إروِ لنا"
-" عن الجنّ ولاَّ الغيلان ولاَّ النجوم؟! "
-"عن أىّ الأشياء تحبُّ ؟!"
-"ها هي السماء فوقنا مبنيّة. مزيَّنة بِمَصَابِيحَ. ليس فيها تفاوت ولا اختلاف ولا فتوق. بناء محكم.. !!"
- "يافندم“ هذه ليست محاضرة. هذا شيء كما ألف ليلة وليلة. حضرتك تجعلنا نُّحب الجيش والعلم والنجوم. حبَّبَّتنا في الليل ونجومه و نُّحبك والسماء والكون "
- "هل تعرفون أن كثيرين. ماتوا، أو أُسروا في الحرب بسبب جهلهم النجوم. وقعوا في التِّيه. لم يقرأوا الكتاب. كثيرون أولئك مَنْ تاهوا في الصحراء"
- "هل هذا يعنى أن نُصبح عُلماء ؟ "
- "ليس هكذا. على الأقل يجب أن تعرفوا ماذا ينقذ حياتكم.  تستدلون بالنجوم ليلاً. بالشمس نهاراً. إذا جرى لكم شيء أو تُهتم  أو جاءكم الأعداء ! .."
عاشقاً النجوم والـتأمل في السماء. يخبرهم أنها آية من آيات الله. يخبرهم عمَّن تاهوا لأنهم ضلوا الطريق . لم يعرفوا شرقاً من غرب، ولا سنناً للكون. سُنة الله التي قد خَلَت من قبل وليس لسُنةِ الله تبديلاً. لم يهتدوا..! أكمل حديثه في حُبٍ :
-"أنظروا هذه "مجموعة الدبّ الأكبر. أحبِّوها تعرفكم.. وتُحبكم! يعنى كما تحبون نجوماً زائفةً، اعرفوا نجوم السماء..."
-" هذه المجموعة تتكون من نجوم.."
-" يافندم “ من أين أنت ؟! "
تجاهل الإجابة عن السؤال. استمر شارحاً :
-"أتعلمون أن للسماء طرقاً وأبواباً وفروجاً. أشبه بطرق سريعة فى مدينة مزدحمة  "
–" يافندم “ كيف جِئت هنا ؟! كيف أصبحت هكذا. من علمَّك، فعِلمت كل ذاك؟!
- نحن نرى هذا في الريف والصعيد ولا نعرفه ، هكذا مُضاء؟! نحن لا نراه أصلاً في المدينة. هنالك الدخان والغبار والعادم والزحام والآثام "
لاحقه الجنود بالأسئلة. عزف لحناً يحبّه. أصَّروا. لم يتململوا. تشوَّقوا. أذاقهم خمره. استزادوا. جاءتهم كائنات الصحراء. ومخلوقات الليل من الماضي السرمدي . زادهم نشوة. الكل حضر يسمع اللحن الجميل. لم يداعب النوم جفونا مرهقة. لم تملّ الأرواح. سمعوا صوتاً رخيماً تتردد أصداؤه، تدوي عذوبته في الفضاء.
-"لست بقادر على وصف جمال السماء وبناءها الذي يذهل أولى النهى ويسحرهم. من يستطع أن يرى كل نجوم السماء. من يرى تلك السماء كما أراها .. "
-" يا “ فندم “ إحكِ لنا.. "
- " لففتُ ودُرتُ. سيدي برانى. سيوة . الواحات . السويس . الإسماعيلية. فايد. الفالوجة ..، وطفت سيناء. والآن هنا معكم في "حباطة ". وغداً لا أعرف أين أكون.. لكل شيء وقتاً لا يعدوه"
-" يعنى كعب دائر " يافندم “ ؟! "
" الحكاية بدأت بجدِّى العارف بالله . أصل من لا يعرف ربَّه. ربُّه لا يعرفه. لا يورثه الأرض."
كبيرةٌ الأرض. واسعةٌ. لا يقدر أحدٌ لّمها! جدَّى طوّاف سوَّاح. عارفٌ بكل شبر. لا يقع في متاهةٍ، أو يبتلعه تِّيه. تالٍ للكتاب "
- ماذا بعد يا “ فندم “ ؟! "
- " كيف عاش ؟! "
- " يمدّ كفيه في هجيرها يفتح صفحاتها، يبْسطها، ولا تصكّ بوهجها اللافح وجهه. لا يخدعه السراب كبريق سيف. عارف بلغة كتاب الصحراء. جبالها وسهولها.أوديتها. وِهادها. رياضها. رمالها. أبارقها. هجيرها. جدبها. شراستها. قسوتها. جفافها. والحياة كاسية الأرجاء. عطاءاً واسعاً رحباً، وأثراً لا تمحوه الأيام. يعرف ما يكون بما قد كان. وما عاقلٌ في أرض بِغَريب
- " أكان يخاف، أو يخشى شيئاً ... ؟! "
- "جدّى لا تُخيفه السحب الثقيلة، تحت أصوات الرعد العنيفة. لا يهاب الغيوم السوداء. يسمع للجنّ في الفلاة أصواتاً، تزعق. تعانق صوت الريح. يُميّزها. لا يخشاها. ليس له أراجيف أو خيالات. تتراءى له، في تسبيحه، كثبان الرمال أجساداً للعذارى وحُوراً تتنفس الصبح ، ونسائم الربيع. يخشى الله "
ذهبت عسعسة الليل وانتصف. نجوم السماء لم تغرْ. العيون لم تهدأ. بدأ رواية حكاية جدِّه. عاد للحياة فرأوه. انطفأت "ماكينة الكهرباء " في المعسكر بموعدها. أنارت النجوم ظلام الليل. أنارت كلماته القلوب. طهَّرتها. أكملَ للجنود الحكاية عن جدّه، وفى حُبّ وَلِهَ الجنود. استحالت السماء بنجومها المتلألئة، قُبةً وبـسـاطاً زمردي. بحراً خضماً. دراري من عقيقٍ. تتسربلُ الأزرق. تكسوه سِحْراً، يشفى القلوب بذكر الله. بدأ في وصف نجوم مجموعة " كثيوبيا". انسلخ الليل عن أسحاره. انقضى الدجى. انشق بفجر جديد. انقضت شهب السماء رعداً  يكاد يخطف سناه الأبصار. أحرقت الشياطين. لم تخطف عيون الجند الأطهار! نادي المُنادى : الصلاةُ خيرٌ من النَّوم . الصلاةُ الصلاةُ‏!!