سرماديا

سرماديا

بلا ذاكرة* قصة قصيرة


بلا ذاكرة* قصة قصيرة
من مجموعة
(بين الحلم واليقظة)
---- خالد العرفي



لا أتذكر الأشياء جيدا.. لم يكن بإمكانى معرفة ماذا أصنع هنا.. لا أتذكر شيئا قط.. لا أعرف.. لا أعرف كيف وصلت إلى هنا.. لم يكن أمامى سوى أن أنظر.. كنت فى ورطة، لا أعرف من أنا.. أنا من أكون..؟!
لابد أننى كنت أعرف شيئا ما، حتى آتى إلى هنا.. ربما قابلته ذات مرة.. لكننى لا أتذكره.. من أنا.. من هذا.. ؟!
صوت هذا الجرس يطرق فى رأسي.. يفلج جمجمتى.. ربما كنت أحلم. ربما كان كابوسا. لا لا.. كنت أضحك. تلك ضحكتى. كتمتها. الكوابيس، لا تُضحك. كانت هناك عينان جميلتان، وكومة من الشعر ملفوفة بعناية تحت غطاء طبى.. أسمع وقع أقدام مثل مطارق حديدية، على سلالم معدنية، تؤدى لطوابق، لا نهاية لها. أرى أضواء ليلية كاشفة لطريق... تقطعها أصوات سيارات مارقة، مثل طنين النحل.. ورائحة نفاذة غريبة.. لم يمرّ وقت طويل حتى تبينت غرفة عمليات، على مرمى أمتار، من حائل زجاجى وستائر زرقاء طويلة.. مجرد منضدة معدنية ترتكز فى الوسط، على أرضية بيضاء. كل ما فى الأمر، جرّاح وبضعة أجهزة، وطاقم طبى،.. حفنة من العيون، لم أرى غيرها، خلف كمامات طبية خضراء، بلون أردية كتانية. فقط، رجل ممدد، تحلّقوا حوله،.. في معزل عما يجري، وراء زجاج سميك.. رأيته هناك، يخرج من رأسه شئ مثل جبل، أو سحابة شبحية كبيرة.. ورم غريب.. يجرى عملية جراحية لإزالته. لم أدر، لماذا أنا هنا. كيف رأيت هذا.. لست بجرّاح، ولا طبيب تخدير. ربما كنت شقيقه. أو أحد معارفه. ربما كنت أنا.. كان مثل التفاحة تماما، بلون أحمر قانى.. متحجرا. شعرت بالأسى، له. كدتُ أضحك من جديد. كتمت إستغرابى من شكل ورم مثل مخلوق كرتوني، لكائن فضائي بيضاوى. ندبات سوداء على دكنة اللون، هذه.. كأنى أسمعه، يحاول أن يخبرنى أمرا ما، كمن يعانى صعوبة كبيرة، فى التذكر.. يقطب جبينه محاولا أن يتذكر، لينطق. شعرت به يحاول إعتصار فصيّ مخه، باحثا عن مكان خبّأت به ذاكرته ما حدث. ظننت أنه سيصرخ متسائلا:
- أين.. أين.. أين أنا.. ؟
كان منكفئا، فاقدا وعيه،..  والورم ما زال بين أصابع الجرّاح. حادثت نفسي:
- فلأكن هادئا متزنا، فى عملية جراحية لإستئصال ورم خبيث.. - علىّ أن أظهر حزنى.. الجميع فى حزن، فى برود غرفة العمليات..
- لمَ لا أكون مثلهم؟
ليس علىّ أن أضحك.. لكننى عُدت أضحك ثانية. كان الجراح لا زال عابثا، بورم رجل، ممدّدّا راقدا، لا حول له.. يهرب من بينه أصابعه مثل"الجيلى".. كان مازال مخدرا..
مرّت دقائق، قبل أن يصبح الورم أكثر هلامية، وأكثر طراوة، والجرّاح ما زال عابثا به، مرة بعد أخرى، كيفما أراد. يضغطه يمينا ويزلقه يسارا.. كدتُ أصرخ فيه:
- أتعبث بورم الرجل.. أتتلذذ.. ؟!
لكنه لم يرنى. لم يسمعنى، والورم ينضغط أكثر بين أصابعه، منفلتا. تارة يضغط عليه، برقة.. وتارة يعتصره. صاعدا هابطا، منزلقا، بين أنامله..
قلت لنفسي:
- هذا ليس وقت نظر فى عينين،.. باغتنى صوت الجرّاح:
- مقصّ.. مقصّ..
يمينا، مدّ قبضة يده مفرودة بالقفاز الجلدى،.. إلتقطه من ذات العينين. كنت بينهما. مرّ خلالى المقصّ. شعرت بدغدغة خفيفة. ملت برأسى، لأرى ماذا يفعل به. كان هناك شئ يشبه دودة بنيّة سميكة، تصل ما بين الورم والجمجمة المثقوبة..
حدّقت فى عينىّ الجراح، محاولا النظر مرة ثانية. لم يرنى. إتسعت عيناه. إرتفع حاجباه لأعلى. وضع المقصّ من يده، على ظهر الرجل. لم يكمل..
لم يقطع الصمت سوى هزتين من رأسه، لأعلى وأسفل. وفى برود شديد، فى عمق الرائحة الطبية الغريبة، نطق:
- مات ..
مع توقف نبض الأجهزة، كان الضوء البارد لايزال  يسطع فى أرجاء الغرفة.. لكنه كان مركزا من كشّاف، على مؤخرة رأس مثقوبة أعلاها حلقة من عيون محدّقة. وبخط أخضر مضئ لشاشة سوداء،.. وبصوت مكتوم، يزوم، كان هناك بضعة سنتيمترات فقط، تفصلنى عن كتلة لحم غريبة داكنة، وسط إناء معدنى لامع.. أحدقّ فى شكل هلامى، تدّلت منه زائدة سميكة، كحبل قصير، بين أصابع قفاز جرّاح خضبت، بالدّم.. إرتدّت الخيالات الرمادية،  بظلالها، بين أضواء الغرفة، .. نسيت تماما أمر العينين، فى إنعكاسات الضوء، على الحائل الزجاجى.. فى النهاية، لم يبق إلاّ خط  أخضر  مستقيم، على شاشة سوداء.. حسنا، رجل عادى يتعرض لمتاعب غير عادية.. حسنا، سأكتب هذا السطر ربما أعرف كيف أكمل القصة.. لكننى لم أعرف كيف أكمل الأحداث التى تدور رحاها فى مستشفى.. كانت الأمور على غير ما يرام وأنا ما أزال أفكر فى أبطال قصة أكتبها فى مجموعة بين حلم واليقظة، ولم أنته منها بعد.. فكرت أن أعدل مسارها السردى، أو ألغيها.. من الواضح أننى كنت منساقا لا شعوريا بأحداث غامضة تحركنى لأكملها.. وهى فى الطريق. عدت أقرأ بعض الفقرات.. ربما كنت لا أعرف معانى هذه الكلمات.. كنت كمن فقد الذاكرة والوعى.. أسماء نباتات.. أشياء كثيرة.. مسميات عديدة.. لكن ماهى؟! أسماء بشر.. من هؤلاء..؟!
أمسيت وأنا أحاول فكّ لغز هذه الحروف التى وجدتنى كتبتها ليلة أمس لكننى لا أدرى كيف.. ولا كم إستغرقت من وقت كان يداهمنى لأسرع، كأننى فى سباق مع القصة.. مازلت لا أفهم أو أدرك شيئا.. اتهمت نفسى تارة بالغباء وتارة بالجنون.. لكننى بالتأكيد كنت قد كتبتها، ليلة أمس.. لم يكن أحد معى.. هذا خطى.. هذه آخر ورقة أتذكرها.. فما هذه الورقات التى وجدتها  بخطى.، الآن. متى كتبتها.. متى.. لماذا.. لماذا..؟!
حسنا، كان يمكن أن أنهى القصة عند هذا الحدّ.. لكن شغلنى تلك الكلمات التى وجدتها بين الفقرات.. عدت أقرأها من جديد.. ربما كنت لا أعرف معانى هذه الكلمات.. كنت كمن فقد فعلا الذاكرة منذ ليلة أمس وأنا أفكر ماهى أسماء تلك النباتات.. من أصحاب تلك الأسماء.. من هؤلاء..؟!
ليس علىّ أن أقضى بقية حياتى أتذكر هذا الأمس البعيد.. فشلت فى حلّ اللغز، كنت قد كتبت سطرا فى قصة.. وإستغرقت وقتا، فشلا بعد فشل لعلى أتذكر.. من يأبه بمثل تلك الحال سوى طبيب نفسي فى رواية جذور نفسية.. كان الأمر قد إختلط علىّ.. لا شيء يبدو غريبا، حتى الموت يصبح شيئا عاديا، أكثر من أي وقت مضى.. أتذكر فقط عينين جميلتين.. إمرأة غير عادية تتعرض لمتاعب عادية.. ترى رجلا يموت بورم.. وأنا أحاول أن أتذكر متى رأيت ذلك.. لا أعرف من بقى منا، على قيد الحياة.. تائه فى هذا البرود الزجاجى أمام صمت إبتلع اللحظة، وسكون أسر المكان، حتى سمعت نفسي أردد:
" لا أستطيع تذكر أى شئ.. لا أحد يعرف من قضى نحبه.."   
ضحكت من جديد.. حتما لن تكون متاعب عادية فهى غير عادية. لا لا.. لا متاعب على الإطلاق. بل تهاجمها أفكار وتشنجات نفسية. عدت أقول لا يوجد ما يسمى تشنجات نفسية، فلأكن دقيقا.. نوبات إكتئاب. إحباط. أكاذيب بصرية. أوهام نفسية، تحاصرها منذ تذكرت تلك الليلة البعيدة.. كتبت قصة جديدة بعنوان.. بلا ذاكرة.. إبتسمت وأنا أضع القصة فى مكانها.. إنه جنون الكتابة..