سرماديا

سرماديا

نظرة شاردة** قصة قصيرة


 نظرة شاردة** قصة قصيرة 
من 
مجموعة 
(بين الحلم واليقظة) 
-------- خالد العرفى 
منعطف هلالى، أعبره مرتين يوميا. صباحا وعصرا. صيفا وشتاءا. هنا، حيث تهتز الأرض، مثيرة أتربتها، فى وجوه وقوف منتظرين، لعبور مزلقان قديم. كل صباح، نفس الحافلة. كل يوم، نفس الروتين. إنتظار. إنتظار. إنتظار. إنتظار لحلم، يسافر بى. أصبحت قطعة إنتظار. كم وددت أن أذهب، لمكان آخر.. لكن، هنا.. حيث يبتسم لى سائق قطار، كلما مرّ بى، بوجهه الأسمر المريح. شئ ما ربطنى بهذا المكان، بضجيجه. أمر ما يجعلنى أنتظر إبتسامته المشرقة. أنتظر صافرته، من بعيد، فى رحلته، إلى شرق المدينة، راحلا، بدبيب الحياة..  يلقى لى بنظرة، وهو يهدأ سرعته، مارا بمزلقان، وتوقف إشارة مرور. مختفيا، فى سحابة غبار، وإختفاء نداءات الباعة، وهديره، على القضبان. عادة، لا يمرّ سوى دقائق قليلة، من إنتظارى، حتى يعبر مكتظا. يترنح، بحمولته البارزة، من الأبواب. يمرّ بمزلقان، إحتل طول جانبيه، باعة جائلون، قرب إشارته الضوئية. وعامود كهربائى، لجرس مزعج. يؤذنان بقدومه، من أحد إتجاهي المدينة، إلى محطة مجاورة. لا أعرف كم شركة، قدمت أوراقى إليها، طيلة السنوات الماضية. لا أتذكر. لا أتذكر. نسيت كم مضى، منذ تخرجّى. نسيت. نسيت، كم أجريت إختبارات إلتحاق بشركة ما. تبينت مؤخرا، أنه قد مرّت أحلام لا تحصى. أخيرا، إستلمت خطاب معنون..
(المهندس/ فتحى  رشيد: 
المركز الرئيسى
راكودة للكيماويات والصناعات التحويلية 
الحضور تمام الساعة العاشرة صباحا، الإثنين أول أبريل، لمقابلة مدير عام الشركة - ومعك مسوغات التعيين.
مدير الموارد البشرية)
بالأحرى، كان علىّ ترتيب رزمة أوراق رسمية. ملف جديد، بدلا ممّا إهترأ. مجموعة أختام زرقاء وحمراء.  صور وكلمات ضاعت ملامحها، على مستندات، بشعار، جناحىّ نسر.
مضيت قبل الموعد، لخارج المدينة. كل ما خطر على بالى، كيف أكون هذا اليوم، جزءا من حمولة، تلقيها، غربا، كل صباح؟ قائلا، فى نفسي:
-"لابد أن الشركة مهتمة بتوظيف مهندس كيميائى، ليصمم الموقع ويشرف عليه. تضمن تحويلا آمنا وإقتصاديا، لمواد كميائية خام"
حرصت أن أصل مبكرا. خطوت خطوات قليلة.. وقفت، تحت ظلّ شجرة كبيرة. إستندت إلى جذعها الضخم، تظللنى أغصانها.. وعلى مرمى مسافة قريبة، رنوت إلى بوابة حديدية سوداء كبيرة، علت خلفها، واجهة مبنى زجاجية زرقاء. يفصل أشكالها الهندسية، أعمدة معدنية بيضاء، وقد لمعت فى ضوء الشمس، وزرقة سماء صافية.. حروف صفراء كبيرة " راكودة.."  أقنعت نفسي:
- " أخيرا.. لا شكّ يحتاجون لى. فرصة تعيين جيدة. فرع شركة جديد. تصميم. بناء. إدارة مصنع. تفاعلات كيميائية"
وقفت ممسكا ظرف أوراقى. أراجع مع نفسي، وقد لمعت الواجهة أمامى، بزخم دفء شمس صباح ذهبية. أتمتم.. مبادئ الهندسة الكيميائية الأربعة:
- " مبدأ التفاعلات الكيمائية. حفظ الطاقة. الاتزان الكيميائي. حفظ المادة"
أخذت أكررها. أذكر نفسي بها، تارة أقول:
-"الطاقة حفظ. المادة حفظ.."
وتارة:
-" تفاعلات تفاعلات. اتزان اتزان"
وكأنى لم أدرس منها شيئا طوال سنين. نظرت إلى ساعتى. كانت التاسعة والنصف. ورغم الطقس الربيعى، كنت قلقا. واستحضرت، من جديد:
- " المهندس الكيميائي أربع مبادئ  أساسية.. المادة المادة. الطاقة الطاقة. الاتزان الكيميائي الاتزان. التفاعلات  التفاعلات"
إستوقفنى رجل أمن، بزىّ برتقالى داكن. أظهرت له،  هويتى والخطاب الممهور بختم الشركة، لأدخل. كان هناك عددا من الخيالات، من بعيد. منيّت نفسي، أن إنضم إلى صفوفها، بموجب الخطاب. تذكرت، حينما سألتنى لجنة إختيار من قبل، عن معنى الهندسة الكيميائية. أجبت:
- "التصميم الهندسي للصناعات الكيميائية. تصميم أمثل لاختيار عملية صناعية. ظروفها. موادها. والأجهزة اللازمة.."
لم تقتنع اللجنة. ببساطة كانت مجرد "ديكور". همس لى أحد المتقدمين:
- "لا تتعب نفسك. لا فائدة. الأمر كله عبث.. مجرد شكليات.. هيا بنا.."
أدركت حينها، أن الأمر أكبر بكثير، من مجرد تصنيع  مواد كيميائية. شككت فى إنتهائى، من دراسة هندسة الكيمياء وتفاعلاتها. راكودة.. الأمر ليس فقط طحن مواد كيميائية صلبة أو خلط. تقطير وبلورة. ترشيح وتذويب. استخلاص نتائج. لابد من واسطة، لأتعين مهندسا كيميائيا. رغم ذلك، كررت لنفسي، من جديد، المبادئ، ربما أكون قد نسيتها:
- "قانون حفظ المادة. مادة. حفظ الطاقة. طاقة. الاتزان الكيميائي. اتزان. التفاعلات الكيمائية. تفاعلات"
وأمضيت وقتا فى التمتمة، قبل المقابلة:
- "هندسات المواد والتحكم والبيئة. انتقال المادة والحرارة. كيمياء عامة وعضوية. وتآكل"
أسمعت نفسي، كأنى أعرف هذه المصطلحات، لأول مرة. لم أيأس من عدد مرّات، تقدمت فيها، بدون واسطة.. ذهبت.. ومازلت أنتظر، فى نفس الموعد. صباح كل يوم. جانب نفس الإشارة، بالضبط، لأستقل حافلة. أرى المركبات نفسها. نفس القطار. نفس الركاب. الباعة. المنتظرون أنفسهم، على جانبى المزلقان. ذات المسار. نفس الطريق المملّ. الهرب، من مدينة، لا يمكن أن تكون شيئا آخرا، فى أفق بعيد. كما لو كانت غير موجودة، بالمرّة. لا يسعها أن تكون كذلك. تبقت هناك نداءات الباعة الجائلين، والضجيج. أكوام متراكمة، حول صندوق حديدى كبير. المنتظرون أنفسهم. وقد توقف القطار على "مزلقان"، فوق جثة. ذكر أحد شهود الحادثة:
-" كان يحدث نفسه، بصوت عال، عن أمر ما، فى الهندسة الكيميائية. قبل أن يدهسه القطار، ويبتلع صوته، صدى هديره. سمعته يقول:
- "حفظ المادة. مادة. طاقة طاقة. اتزان  اتزان. تفاعلات تفاعلات.. راكودة راكودة.."
الحقيقة الغائبة دوما تكشف عن وجهها. حيّة سافرة، وإن تأخرت. بلا حراك. بين حديد وأرضية بازلتية. تحمل هموم البشر. لم يكن هناك أكثر من بقايا لحم. شظايا عظام. وظرف أوراق أصفر مهترأ. إلتصق بأشلاء شطرى جثة، ممزقين.  تلاشت نداءات الباعة. بلادة موت. لزوجة غريبة، لسحابة غبار. طوت أحلام مارين ووقوف. مصير محتوم. نهاية دوامة. من سافر للشرق بعيدا، راحلا، فى ضحى الشمس. لن أرى نظرة السائق الأسمر، مرة ثانية. لن أرى إبتسامته المشرقة، أبدا. غابتا، فى لحظة حديث نفس، وإختفاء نظرة شاردة، إلى السماء..