سرماديا

سرماديا

مجموعة من المقالات الفكرية **




** مقالات فكرية
------ 
  1 -   زهرة الأزمنة
2 -   حتى يجئ مؤرخ
3 -  مصابيح.. سنن وقوانين الحياة
4 - على ضوء الحقيقة
5 - كلمات فى الفن والجمال
--- خالد العرفي
-----------------------------------------------------
مصر الكنانة..  
 زهرة الأزمنة وصخرة التاريخ
--- خالد العرفي
إرادة الله، ومشيئته، وقدرته، لا يعلمها إلا هو، الفعّال لما يريد. إرادة ومشيئة، فوق كل مخلوق،.. قدرة ليس لها حدود. ومصر ليست كأى وطن، أو أى أرض. لها تاريخ، ليس كأى تاريخ.  وجيشها العظيم حماها، على مرّ التاريخ.. مصر لم تضع، فى يوم من الأيام، ولن تضيع، أو تنتهى. بهرت من غزاها، وقهرت من احتل أرضها، مقاومة وكفاحا.. مصر ملتقى الأنبياء والرسل، ومعبرهم.. وطئت أقدامهم ترابها، وعاشوا على أرضها، وحيوا.. دائما، احتفظت بمكانة خاصة، ونالت التقدير في قلوبهم. كانت معبرا، ومكوثا، وإقامة، لعديد منهم.. وفى إطار هذا المشهد الكبير، نقرأ للمقريزى فى الخطط والآثار، أن آدم عايه السلام، دعا لنيلها بالبركة، ودعا فى أرضها، بالرحمة والبر والتقوى،.. وبارك فى نيلها وجبلها، سبع مرات، .. فكان أول من دعا لها، بالرحمة، والخصب، والرأفة، والبركة. وفى كتاب فتوح مصر وأخبارها، للمؤرخ ابن عبد الحكم، أن نوحا عليه السلام أطلق عليها الأرض المباركة، وأم البلاد وغوث العباد، ونهرها أفضل أنهار الدنيا.. وجاءها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، وأقام بين أهلها، وأُكرم فيها، وتزوج منها، مصاهرة لأهلها،.. هاجر المصرية، التى أنجبت له إسماعيل أبو العرب، فارتبط المصريون نسبا، إلى نسل إبراهيم الخليل، ومنهم إسماعيل. كما كان بمصر دانيال، وأرميا، ولقمان..  كما أتاها وولد بها، عدد من الأنبياء والمرسلين والصالحين،.. منهم نبى الله إدريس،.. أول من بعث بأرض الكنانة، واستمر فيها، داعيا إلى الله. وولد بها كليم الله موسى، وحملته صفحة النهر الخالد، وتربى فيها، ونشأ. وولد بها أخوه هارون، ويوشع بن نون، وذو الكفل، والخضر، وأرميا ولقمان.. عليهم جميعا السلام. وممن كان بها من صدّيقين وصدّيقات، مؤمن آل فرعون، المذكور فى القرآن بمواضع كثيرة. وآسيه امرأة فرعون، وأم إسحاق، ومريم ابنه عمران، وماشطة بنت فرعون. ومكث بمصر فترة من الزمن، أبو الأنبياء إبراهيم خليل الله، ويوسف الصديق ابن يعقوب، الذى تلقى بها آباه عليهما السلام. وتزوج يوسف من أهلها بنت صاحب عين شمس،.. كما تزوج زليخا، ورزق منها الولد. كما مكث بها عيسى عبد الله ورسوله، وأمه الصديّقة السيدة مريم.. حضرها طفلا مع أمه، ويوسف النجار. وهكذا، كان بمصر إبراهيم الخليل، وإسماعيل، وإدريس، ويعقوب، ويوسف، واثنا عشر سبطا.. وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية القبطية،.. أهداها اليه مقوقس مصر، وولدت منه إبراهيم. مصر سيناء، والطور، والنيل.. مصر مزار العلماء، ومقامهم، وقبلتهم.. شعب مصر، ليس كأى شعب، ورجالها، ليسوا أى رجال.. جندها ليسوا كأى جند.. كم مرّ عليها من محن، وكم واجهت من صروف، وكم هزمت ودحرت من عدو. كم عبرت من أيام صعبة، ومحن، وأزمات. أيا ما كان، ومهما كان، ومثل ما كان، هى مصر.. زهرة الزمن، وصخرة التاريخ، وركنه، وعامود الحضارة.. قاهرة الهكسوس،.. صاحبة حطين، وعين جالوت.. عنوان الشرق، ضد بربرية الفرنجة، وتتارية المغول. هازمة الإنجليز، وداحرة الفرنسيين، واليهود. ماحية أحلام الغزاة، والإستعمار، والخائنين.. مدمرة سدنة الوهم، وأهل الفتنة، وكيد الحاقدين، ومكر الكارهين، من أمم، وبغاة.. لم تغرق مصر، فى يوم من أيام مضت، ولن تغرق، ولن يكون، مهما كان.. مصر النصر والعبور.. ستحيا، ستحيا مصر..، كما أرادها الله أن تكون، منذ أن كانت حضارة، وكان تاريخ، يملأ الأعين، والأفهام. سيعيش هذا الوطن، ويبقى بإذن الله، وأمره، ومشيئته، طالما كانت هناك دنيا وعالم.. كما أحياها، ذكرا، صراحة، وضمنا، في ثمانية وعشرين موضعا، فى كتابه الحكيم المجيد، القرأن الكريم.. وكما ذكرها، وزكّاها رسولنا محمد إمام الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلق، صلى الله عليه وسلم. هذه هى مصر، مولدنا ووطننا، وحياتنا.. نصاب الأمر، مصر قلب العروبة والإسلام.. الأمن والأمان.. أرض، وشعب، وحضارة، وتاريخ،.. قلب وجوهر دّين، حياة.. لن تنكسر إرادتها، أو مسيرة شعبها الأبيّ، أمام ما يُحاك ضدها، من مؤمرات. عاش جيشها القوىّ العظيم، صامدا وباقيا، فى وجه كل طاغ، من دول ودويلات، وجماعات.. لن يطاله معول مكر، وجنده خير الأجناد. أبدا، لن تحيق بمصر دائرة سوء، فتموت. أبدا، لن تنقسم، أو تتقسّم كنانة الله، فى أرضه.. ستبقى قوتها، بأمر الله،.. بتراثها العريق وحضارتها التليدة، وما تحمله ذاكرة تاريخها، وعبقرية عقلية شعبها، التي صاغتها تجارب الزمن.. الهوية الحقيقية، والنسيج، لهذه الأمّة وموروثها.. ولا تزال جارية فى شرايينها ووجدانها، كما نيلها.. تبزغ كما الشمس، فى  كتابات المؤرخين ورواياتهم عنها، منذ قديم، والتي حفظتها لنا الكتابات التاريخية. لن ينمحى اسم مصر، أو تنسى كنايتها،  أبدا، ما بقى ذكرها، فى القرآن العظيم.. قصم الله، وأهلك من أراد مصر بسوء. حفظ الله وطننا. حفظ الله مصر. ولا كلمات، ولا بيان،  عن مصر، بعد ورود ذكرها، في القرآن الكريم، في عدة مواضع، منها قول الله تعالى :
{اهبطوا مصراً فإنَّ لكم مَّا سألتم} (سورة البقرة :61)
وقوله  جلّ شأنه:
{ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} (سورة يوسف :99) 
----------------------------------------------------



بإختصار..
 حتى يجئ مؤرخ..

--- خالد العرفي


التاريخ فن ومجال للفكر، وفرع من ميادين المعرفة الانسانية،.. يتميز بفلسفته ومنهجه،.. وعلم له أسسه وقواعده،.. ولا يبحث إلا عن الحقيقة.. لذا فهو يبحث في تطور الإنسان، وسياق الحوادث المرافقه له، بالتتبع الدقيق لحركة المكان والزمان المرصودة، ومعرفة الأحداث والوقائع، فى تسلسلها عبر الزمن، من حوادث الماضي وأخبارها، والسير التي رافقتها.. مقصده ومبتغاه فى ذلك، هو تحليل وفهم هذه الأحداث التاريخية، عن طريق منهج علمى له قوانينه، يصف ويسجل ما مضى، من تلك الوقائع وهذه الأحداث، فى ملتقى الزمان بالمكان.. يحللها ويفسرها ويقوّمها، على أسس وقواعد علمية صارمة، لا يحيد عنها، بغية الوصول إلى الحقائق الموضوعية، التى تساعد الإنسان على فهم لماض، ومعرفة لكنه الحاضر، ثم التوقع والتنبؤ بالمستقبل. وفى فلسفة التاريخ.. الدول صفحات.. والسنون تمرّ سطور وكلمات.. هذا ولد وذاك مات.. حضارة تأفل، وأخرى تبزغ شمسها.. عام يرحل، وآخر آت.. ومن رحم المجهول يولد شعاع نور، كلمات تحيا الدهر.. شئ واحد فقط.. حقيقة التاريخ.. يتدبّرها، ويتفكّر بها أولو الألباب.. وما حدث، وما يجرى فى مصر، فى بضعة سنين من الزمن، لم يكتبه التاريخ بعد.. حركة الحياة فى صيرورتها، دون إبطاء، هى الأمل الدائم، حتى يجئ مؤرخ  يسجل ما وقع فى سنوات هذا العقد من الزمان، فيدونه أسطرا نضدة، بعد دراسة ونزعة تأمل،  روايةً لحقيقة تاريخ باقية،.. تاريخ غير مشدود بين أوتار حناجر، قائمة على منابر، أو أخبار صحف، بأقلام سائبة كانت، أو موجهة. جوهر لم يته يوما، بين أمواج، ولا يضيع أبدا فى دوامات.. فى النهاية، تُستخلص الحقيقة، وتستقر بما تسرده، كاشفة لضباب الأيام..، تتبلور جزئياتها، وتترابط تفاصيلها، عن مجريات الأمور، فى كنانة الله فى أرضه.. هكذا تصبح صفحات الحقيقة،  أعمدة فى التاريخ.. ودوما هى، حُجّة صمود، دائرة على الوهم، تدمغ الباطل،.. وزاهقة له. لا تطويها سنون ماضية، ولا يسقطها زمن يمرّ. هكذا نقرأ التاريخ،.. نجنى من ثماره، وتعلو بحقيقته همم،  وترتقى فى معارجه العقول، فنعى الماضى مدركين، ونفهم الحاضر، ونستشرف المستقبل. بإختصار، وحتى يأتى مؤرخ، نتذكر دُرر، ونطالع لآل فريدة،.. نسبر غور مصادر وقطوف التاريخ، عن أحوال وأخبار مصر، من أمثال بدائع الزهور  فى وقائع الدهور لابن إياس الحنفى،.. والنجوم الزاهرة، وحوادث الدهور في مدى الأيام والشهور  لسيف الدين أبى المحاسن ابن تغرد بردى.. وإغاثة الأمة فى كشف الغمة، والسلوك لمعرفة دول الملوك وإتعاظ الحنفا، وغيرها من حوليات أحمد ابن على المقريزى،.. ونستظل بمصنفات القلقشندى، وجلال الدين السيوطى،.. وصولا إلى عجائب الآثار في التراجم والأخبار لعبد الرحمن الجبرتى، وعبد الرحمن الرافعى فى سلسلته التاريخية، وغيرهم.. ولعلنا نقرأ لمؤرخ، فى يوم ما يأتى، كتابا أو سفرا تاريخيا حديثا، عمّا حدث فى الكنانة، ووقع،  بعنوان من أيام مصر.. فى تاريخ وطن.
----------------------------------------------


مصابيح.. سنن وقوانين الحياة..
----- خالد العرفي
بسهولة، نتذكر إسم عالم، أو أديب، أو فيلسوف. وبسهولة أكبر، تعى ما قدمه أحد منهم، من إنجاز للبشرية، علما وفكرا وأدبا. يأتى إسم أديسون، فتهلّ الكهرباء، ويبزغ المصباح، بضوئه، على أفق الحديث. ويذكر إسم أينشتين، فندرك نظرية النسبية، وعظمتها. وتفكر، فى السفر، فى مجاهل الفضاء. وتتوه مع إنحناء الزمن، والجاذبية، وسرعة الضوء، وغيرها، من أمور. وهكذا، كل إكتشاف علمى، أو عمل أدبى عظيم، يرتبط بصاحبه، معروفا به. وشاهد الأمر هنا، أنه قد أوثر عن راحلين عظماء، من فلاسفة وكتاب وأدباء وحدتهم المثمرة، عزوفا عن الإشتغال بأمور السياسة، أو الحديث والكتابة فيها. وليس تركا للتفكر بها، أوالنظر فى أحوالها.. لمعرفة سنن  الحياة، والتدبر فى الحِكم، فى خلوات فكرية صافية وبعيدة، فى وحدتهم،  عن الغير لئلا يطرقوا ما لا يستحقونه، أو أن يكون لهم فيه، من شئ. وإليك من أمثالهم، حديثا، الحكيم، وعبد الرحمن بدوى، وجمال حمدان، ومصطفى محمود،.. وغيرهم كثيرون. ممن عاصروا من تاريخ مصر أحداثا جساما، وأمورا عظاما، حتى النكسة والحرب والعبور العظيم.. فلم ينزلقوا، إلى مستنقع خطرات عابرة زائفة، وآراء سمجة متسرعة. وبطبيعة الحال، إن المفكر غير الصحفى، بخلاف الأديب والكاتب.. إنما أحوال أمثال أولئك، كانت التفكر بعمق، وتقديم ما ينفع الناس، من علم وفكر وأدب.. عبر مشروعات فكرية لايقيسها عوام، ولا يستطيعونها، بحال من الأحوال.. وخلال أطروحات روحية، توغل فى أهداف الفكر البشرى، ولا يدركها دهمة من الناس. كل له وقت وله حين، ليظهر. مجبولون على ذلك فطرة. ويُصطفون.. لذلك نتذكرهم على مر الزمن، ونتمثل بهم، ونتمنى سيرا فى طريقهم.. صفوة هم. نقرأ لهم، بعين العقل والروح. وقد تركوا على الدرب، من الكتب نافعه، ومن المصنفات جليله. طبقات وطبقات. تقرن باسم كل منهم. وتذكر بمجرد ذكره. وبعيدا عن شأن الأدب، وشأو العلم، ودور التفكر فيهما، وصولا إلى مستوى التصوف، نجد لنا قدوة، فى الأعمال، التى نتجت عن العزلة عن البشر. بوحدة من فكر دائم، وعمل مستمر دءوب، تربية للنفس وبناءا لها، وفى ظل أنس حقيقى بالله، والإستغناء به عن كل أحد. نجد منها، ما لا يمكن غضّ الطرف عن ذكره، فى مثل هذا الصدد. سواء من علم ربانى، أو كلمات حكيمة صادقة. وهناك أمثلة لاتحصى، ومن ذلك حكم ابن عطاء الله السكندرى. والرسالة القشيرية، والفتوحات المكية للشيخ الأكبر ابن عربي. وغيرها من معان ومضامين جمعتها بين دفتيها مصنفات كثيرة، لمشايخ، وأئمة متصوفة كبار آخرين، كأبى نعيم فى طبقات الأولياء، وما ورد فى معاجم القوم. أو ما ورد لصوفية عظام، فى عديد من كتب التفسير والتوحيد وكثير من دواوين، مماغلب عليه جميعا من طابع صوفي وروحانى، لغة ومضمونا. أمثال ابن الفارض، وجلال الدين الرومي، وغيرهما، من رجال. وكلها أمثلة، تشير إلى ما يمثله هذا، فى مقام الإحسان من الإسلام، ورياض الأذواق العلية، فى إعتبار الوجد، والحب والتجليات الصوفية. مجمل القول، قد ترى غثاء السيل والريم المساق، من أقوال وكتابات، ليس لها حظا من معنى. لا لفظا ولا مضمونا، فلا يطالعها عاقل. مما كتب أويقال هاهناك. حال من لا يبقى منه شئ،.. وأنت تجد كل المجتمع يتحدث. ويحلل. ويفتى. ويتنفس ويتقول. دونما فائدة، كأن الدنيا، تنتظر له حديثا. وكأن لامحيص من ذلك. أو أن العالم سوف يتوقف، دون رأيه المشهود الجلل، الذى يراه غيره من الورى. فتسكت دقات ساعاته. 
قلّ، بل ندر ندرة الحكمة، من تجده يعتزل حديثا غير مُجد، مبتعدا حكيما، غير قائل أو مستمع لسفه، نائيا بنفسه عن مثل ذلك من هدر للوقت مضيعا لهدوء النفس،.. وليتفكر العقل الأمر ويتدبر. وهذا حال من ذكرت، من أمثال علماء وفلاسفة ومفكرين ومتصوفة، وغيرهم فى خلواتهم الصافية، عن كدر هذا الصنف .. وإلا ما كان لهم، من أثر فى الأنفس. أولئك خلوا بأنفسهم، أو مع من يضايهم فكرا، ويعادلهم عقلا ورأيا. لذلك نذكرهم دائما، بنظرهم فى دقائق الأمور، وتدبر أحوالها، للإمساك بشمول التصور، وكمال الحقيقة. ولذا أيضا، نتذكر منهم، ما نفع غذاءا للروح والعقل، معا،.. ونقرأ لهم ما يفيد، وقد قرَّ فى الوجدان، وسبر العقل دواخله. وأخيرا فى هذا المقام، قد لا يتوقف المداد، عن ذكر من يجب ذكره. أما الصنف الآخر، الذى يمتد من زمن، إلى زمن، ومن مكان، إلى مكان، على الساحة،.. ممن منتشرة باحته ومرتفعة عقيرته، فمصيره بلا ريب، إلى زوال، ولا يبقى منه شئ.. سنن آلهية قائمة، ليس لها تبديلا،.. هى قطعا قوانين ربانية، ليس لها أو عنها تحويلا. لذلك أمرنا بالتفكر والتدبر. ومنحنا الله العقل هبة منه جل شأنه، عقيلة لنا. لئلا يكون على القلوب، من أقفال، ولا يرنو عليها ران. فاللهم لك الحمد كله. عدد نعمك وآلائك، التى لا تعد ولا تحصى.
-------------------
شراع سفر**
---------- خالد العرفي
1 - على ضوء الحقيقة
2 - كلمات فى الفن والجمال
3 - ومضات جمال


-----------------------------------------------------

على ضوء الحقيقة*
 (1 - 4)
-------------
مستثارا ببراح الفضاء، وهدير أمواج، تتكّسر على الصخور. وأمامى ذراعا البحر، يُحوّط بهما خميلة زرقاء فيروزية.. مجدافان، يمضى بهما، كما كان دوما، بحرا، لا ساحل له. كنت أبصر إلتحام السماء الممتدة، وإنبساط الفكر، سابحا على صفحة بعيدة، فى ضوء الشمس. كان كل شئ يسير بشراع الهدوء التام. نحو مرساة ومسافات تنأى بى، ولا أراها إلا بعقلى. أحدق فى أقاصى الأفق، فى سكون بداية ساحرة، لا نهاية لها. أبدية، أرى معها العالم على جناح طائر، وفى حبة رمل، وشمس ساكنة كبد السماء. إطلاقا، ما إقتبس البحر روعته، فى مخيلتى، إلا من فكرة واتتنى. بدت لى غريبة أول الأمر. على أية حال، وبدون خيال، لم يكن لدى، إلا واقع، لا أقصر عنه.. ،.. كما هذا البحر أمام ناظرى،.. وأفق، بشراع الروح،  أبحر فيه. هكذا الذكريات.. وبين خيال ليس له حدود، نصنعه نحن، وواقع رأيناه.. نحن بين واقع متشظ، من حولنا، مثل زجاج مكسور، على شاطئ مجهول، وقد إتسعت دائرة صوره، محطمة بين الرمال، فى شكل ذكريات حادة. تطاردنا، موجة وراء موجة. وسواء كنا نحن فى مركزها، أو أحاطت هى بنا، نمضى. ونتغلب على صعوبات الحياة، وأطلال لا تذيبها أمواج. نتفكر ونتأمل، بين ذكريات مضت، وأحلام هى ذكرياتنا، التى لم تأت بعد.. الأحلام، هى السفر إلى المستقبل، الذى نحاول أن ننسى به ماض.. شئ من ضوء أمل، يغير مصير كان لنا، يوما. مسيرة نصف طريق إلى الأمام. من منا، لا يحلم . قليل من يعثر على هذا الأمل.، بشراع سفر.. يبحر، ويحيا به، حلما وراء حلم. يحقق ما كان مستحيلا.. وهكذا الذكريات،.. ذكريات وذكريات. وبدون إستحضار روح البحر، ونواته العاصفة، فى مواجهة تفاصيل غريبة للحياة، لم يكن يمكننا أن نستوعب حقا، أو نحيا، فى هذا الواقع. وبما أننى مرتبط إلى حد ما، فى هذه الأفكار بروح البحر.. فستبدو فى بقعة ما، ذكرياتى، ومن وقائعها، كلّفات خيط غزل ناعم، من أفكار، أو كومات من طحالب بحر، ملتصقة بصخور الشاطئ.، علىّ أن أمضى بينها. ذكريات، خضعت لحكم محاولاتى الفاشلة، كيلا أتذكرها، إلا كما وقعت أحداثها، طوال سنين بعيدة. من المؤكد، أن ما حدث فى هذا الآن البعيد، وما رأيته فى حياتى، قد أصبح جزءا منى، هناك حتما ما يذكرنى به، فلا أنساه. ولكن يتحتم على أن أضعه أحيانا، خلف ظهرى، لتسير الحياة، وأسير معها. أن يصير كل ما مضى، عابر سبيل علينا. لانستكين له، ولانستسلم. قطعا، هناك دوما، ما تكون أنت منه. وأيضا ما يكون منك. لكن، هناك فرق كبير، أن يصبح شئ أو ذكرى ما، جزءا منك، وما أصعب أن تكون أنت نفسك، شطرا لشئ، أو جزءا من ذكرى، تبقى لغيرك.. تشعر كنبتة صغيرة، تتعرض لعاصفة رعدية في صحراء، كما لو كانت، حاضرة عليك فقط. واجهت مصيرا، دون كل هذا البراح.. يُودى بها، إلى أسفل هاوية التفكير،.. أواجه هذا وأنا فى أكثر من عمل فى ذات الآن.. مفكرا فى هذه الأفكار،.. وعلى الرغم من روعة المكان، والبحر أمامى، إلا أننى كنت أشعر، أنى لست أبدا على ما يرام. كان هناك شعور غريب، أنه يوجد شئ ما، أولد منه.. أتعرض لإرتباك كبير، لا حصر له، كلما انتقلت خطوة، قبل أن أتمكن من متابعتى، لخطوة أخرى، فى أفكارى.. كانت رائحة الطحالب المتراكمة، مشبعة برائحة اليود الحية. تذكرنى برائحة بواقى أوراق الشجر، والنباتات الجافة، بجوار سياج حديقة قديم، ضرب له مكانا، في ظلال الأشجار الكثيفة، فى الذاكرة. لم أشأ أن أفرط فى إحساسى هذا، أو أترك نفسى لإنطباعات أصابتنى، عن الماضى. حريق. دخان. وضوء أحمر يتلاشئ ببطء.. أشعر بهذا ولا أراه.. ومع كل موجة من البحر، أسمع صوتا غريبا، بصوت عال، فى رأسى، ينادينى، لأكتب.. قبل أن أجد بابا لم أفتحه، من قبل. بدأت أتذكر، وبدا الباب منفتحا، سفرا إلى ماض بعيد، مع دوران ساعة، تذكرنى أن هذا شئ جديد. فكرة حملنى معها صوت أمواج البحر، لضجيج ذكريات، إنصبّت مثل عيون طوفان، ورأيت كل شئ يمرّ أمامى.. أتسائل، لعلها تكون رواية لم أكتبها بعد. لكننى أعرف نفسي حقا، وربما لا أكتب، الآن شيئا. ويصبح كل شئ مجرد فكرة عبرت، على شراع سفر فى الخيال. وبين الأدب شعرا وقصة ورواية، وبحور العلم والكون وجمال الفن، أقضى حياتى، مسافرا فى الوجود. وأتعود من نفسي، مثل هذا، فقد يمرّ عام أو آخر، ولا يصدر لى شئ. وسرعان ما أجد نفسي، وقد إنتهيت ربما من عملين، فى نفس الوقت، كما هو أمرى، من قبل، حينما أجد الزمن يمرّ، ثم يصدر لى كتابان أو أكثر فى نفس العام. وربما يمرّ وقت آخر عقيم، وربما يكون الامر مرده، لإنشغالى بأكثر من كتاب، أعمل عليه، وأتنقل بين أفكارى، من كتاب إلى آخر.. ليس المهم صدور كتاب، بقدر ما تجد نفسك حقا، وأنت تكتب. لا أكتب، لأكتب، إنما متعة الكتابة فى حد ذاتها، وأن يحيا ما تكتبه من بعدك. هكذا، عالم الكتابة معى، عالم فريد حقا.. عالم قلم غريب الأطوار.. تتنقل بين أفكار، وتفعل فيه أشياء عير نمطية،.. مؤخرا مثلا ضممت مجموعتين من القصص القصيرة معا، فى مجموعة واحدة، بعنوان إنتماءات غير موسمية، ولم أكن أفكر فى ذلك، حتى فعلت.. ووجدت الأمر أشمل لرؤى ومعانى. فإنتمائى فقط، لما أعتقد فيه، وأحب أن أقوم به، عاثرا على معنى لما أكتب. هذه متعة فكرية كبيرة.. وأنا بين هذا، وذاك أحدّق فى أفق المعانى، واجدا المسألة أعمق، وأجمل. ومن هنا، لا أستغرب من نفسي شيئا، حينما أشرع فى الكتابة. قبل أن تعانقنى أفكار جديدة، وإن لم أكتبها فعلا. لكننى، تعودت هذا، وأكسره فى أحيان كثيرة، بالتأمل، مكتشفا ماخفى عنى، من أفكار ورؤى. فلا عادة ولا منوال، بالمرة فى الكتابة. ويظل دوما حلمى، الذى يجمع شعث النفس، وتفرق الذات.. كأنى أسافر فى أشعة شمس دافئة، إلى دور التاريخ، وسكرة أفكار غير مكتوبة، أبحث عنها. تتدافع فى رأسى تفاصيل أضواء مصابيح وقناديل. وما إن تتملكنى، بدفء غريب، أصبح، شهابا مسافرا، بين النجوم والكواكب والأقمار، فى أعماق سموات بلورية. وتنحبس أنفاس توترى، أمام رغبتى المتوقدة فى المعرفة. وهكذا، لا تتركنى، إلا وقد ذبت فى تلك الأضواء المتلألأة، بلون الياقوت والذهب والعنبر،.. مزيجا، بلا إنتهاء، فى أرض غير الأرض، وسماء غير السماء، وكون غير الكون. انفصل عن كل شئ، باحثا عن المعرفة. بقلبى وروحى، وغارقا بعقلى، فى عالم آخر، بين المجرات. إنها معارف سامية، نسعى لندرك كنهها، وهى أعمق من أن ندرك حقيقتها، لنصل لذاتها. وعلى ضوء الحقيقة نجد أنفسنا.. لا أستطيع أن أتذكر عدد المرات، التي سافرت فيها فى الكون، غائبا فى فراغ محيطه، دون حدود. عابرا لجسد فان، حيث يمكن ألا يعود. هناك حيث منبع النور للعقل، والدفء للروح، بلا أبعاد. حيث تشعر كيف يمضى الليل، بهزيعه الأخير. وترى كيف تشرق، وتتوارى النجوم. شموس وشموس. من مشارق إلى مغارب. تشعر بملمس الفجر، وحريرة أنسام الأسحار. أستدفئ بعصر الوجود. لا شئ يضاهى هذا الشعور، مطلقا. لا أستطيع أبدا أن أصفه. إبحار وسفر إلى ملكوت المعرفة والعلم،.. وقراءة الكون والجمال، وروعة ودفء الكتابة.. يالعجز القلم، حينما لا يتوحد مع الروح والعقل، فى هذه الرحلة السماوية. ويا لعدم قدرة الإنسان، فى كون عامرة سمواته وأراضيه، بحياة بثها الله الخالق البديع القادر على كل شئ.. جلّ شأنه، وتبارك اسمه. تسبح  له السموات السبع، والأرضون السبع، وما بينهما، ومن فيهن. فتبارك الله الخلاق العظيم.
---------------------------------------------


كلمات فى الفن والجمال*
---- خالد العرفى

الفن ضرورة حياتية، تعبيرا عن الذات.. كناتج إبداعي للإنسان، إنعكاسا للأفكار، وترجمة للشعور، ورسما لصورة الوجود، والكون والحياة، من حولنا.. حيث، يهبنا الفن عوالم جديدة، تحاكى معانى الطبيعة، بإعمال الخيال، والحسَّ المرهف، والذوق الأصيل. ومن هنا، نجد أن للفن دورا عظيما، فى الوجدان، ريّا لظمأ الروح. ففى خيال لحظة ضوء، يولد جمال الكلمة وتسثيرك لمسة فكرة، لأوتار العقل. كما فى شروق ذهبىّ للشمس، على الوجود، فيهتز لها، حنينا وشوقا. أو إنبلاج قوس قزح على البرية، بزهو ألوان الحياة، فتربو. هناك من الفن، ما يراه القلب ويعاينه، كما تقرأه العين، وهى تصبو لمكنونه المُشرق. فى الجمال نسمع موسيقى الوجود صادحة، ونرهف لعذوبة لحن الكون، يملأ أركان أسماع الأحياء، صوته. ومع تأثير جمال الفنون، يفيض الوجدان البشرى ببصيرة، بمَ لا تراه أعين فانية. 
ومن جوهر الفن، إشراقه فى النفس، وعلى الكيان. فربما نجد تأثير لمسة الجمال، تغمرنا بالدفء، فى عمارة مبنى. أو أثر. أو جدار، أو أعمدة أو درج حجرى.. إلى لوحة زيتية مرسومة، أو لقطة فوتغرافية. فى تمثال. أو بورتريه. زاوية لكاميرا. فى الظل. النور. الليل. النهار. الغروب. الشروق.. فى درجات الدفء لكل لون. فى مرآة منظر بعد لحظة مطر، .. أو تباين فى أطياف الأبيض والأسود. فى الظلال.. فى كل شئ، يمكن أن نرى ذاتية جمال،.. ونشعر بكينونة الطبيعة، نابضة بالحياة، تتسلل لأنفسنا. وكما فى الفنون التشكيلية، يسافر بنا الخيال، ليلمس أعماق النفس، وخفاياها. لا ريب أن الفنون والجمال، هما روح الحياة، وذات كل معنى. أبدا، لا غنى للإنسان عن  عالم الفن، والجمال، فى الطبيعة والكون. يحثه ويستثير خياله، فيضا وراء فيض، وإلهاما من بعد إلهام، فى دروب الإبداع، والفنون وأصعدتها، مهما كانت صورها، وأنواعها.
وما أروع الجمال الصادق، الذى يغرسه كل هذا فى النفس، بدفء من مشاعر، وإشراق  لأحاسيس.. لمسات حياة، ولحظات ضوء نيّرة، فى أغوار الروح.. ننتظرها، ونبحث عنها، لنرى معها حقيقة الحياة، وتنجلى أسرارها المدهشة، حياة للإبداع نفسه. إجابة لمَ نكتب، وكيف نكتب، وهى إشكالية الكتابة الكبرى.. هى اللحظات النادرة للإلهام، وصفو الفكر، والفن. صميم كل عمل لمفكر، وأديب، وفنان.. حفزا للأفكار وتنوعها، ومبعثا للخيال الأدبى الذى هو عامود الكتابة، ومرّده. علاوة عن، كونها، إطارا لرصانة النصّ، وجزالة العبارة، شكلا ومضمونا.. هى ما يجعل النص لوحة صادحة، وأثرا من جمال الروح البّراق.. ليس فقط جمال الفكرة، إنما الأسلوب، واللفظ، ورونق الكلام.. ومن جمال الأدب والفن، أن كليهما رسول الأرواح، للسمو،.. أثر رؤية عمل فنى، أو سماع قطعة موسيقى، أو القراءة لنصّ أدبى، على حد سواء. 
ولعل هذا يظهر فى جماليات الفنون كلها، ومنها الفنون الدينية، التى تخاطب الروح، مؤثرة فيها، تأثيرا بالغ الأثر، أيا كانت العقيدة، منذ تاريخ الإنسان البدائى، ومرورا بالديانات السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام.. فمنشأ كل هذه الفنون، هو السعى للسمو الروحى، وإرتباطها بالمعتقد الديني، والتعبير عن وجهة نظر، ورؤية الإنسان للكون والحياة، من حوله، وفق هذه العقيدة، فى أبدع صور التعبير المادى واللامرئى. 
وعلى سبيل المثال، يكفى الإشارة إلى الفن الإسلامي الفريد، وما يزخر به، من نقش وحفر على الخشب والجدر الحجرية، والخط العربى بكل أنواعه، والأرابيسك، وغيرها من أنواع الفنون الإسلامية التى تتعدد أشكالها، وصورها الكثيرة.. تخلب اللبّ، آسرة الوجدان. ومنها الفنون المادية كالرسم، وعمارة المساجد، أو فى بناء العمائر والقلاع والدور، ممّا امتازت به الحضارة الإسلامية.. وحتى فى الكتب والمخطوطات.. وأيضا منها، النحت والفخار والنسيج والزخرفة، التي امتازت بها الفنون الإسلامية. ومن أبرز موادها المستخدمة الرخام، والآجر، والفسيفساء، والجصّ، والخشب، والفخار والخزف، والعاج.. بإختصار، صناعة الجمال ظاهرا وباطنا، هي وظيفة الفن الإسلامي، فى أى شكل فنى، بمضمونها، بمختلف أنواع فنونه وأشكالها، معبرة، عن حقائق الوجود من زاوية التصور الإسلامي، وإستلهام روح العقيدة والحضارة والثقافة الإسلامية. 
كنت أفكر فى هذه المعانى، وتفاصيلها، أثناء كتابتى لمقال عن الفن، مردفا به شئ، عن فلسفة الجمال (ضمن مجموعة مقالات شراع سفر). وهو مقال، أنشره قريبا، كاملا، بإذن الله تعالى.. وألفيت نفسي، متطرقا لفصل من رواية غصن الحياة، فعدّلت به فقرات كاملة، تأثرا بفكرة المقال عن الجمال، فى الطبيعة، ودورها، كخلفية، فى مشاهد تدور أحداثها على ضفتى نهر النيل، بمدينة ملكال السودانية، عاصمة ولاية أعالى النيل، الحدودية بين الجنوب والشمال. وهى نقطة التقاء فروع النيل، من بحر الجبل وبحر الغزال وغيرهما، لتكوين النيل الأبيض، الذى يصل إلى الخرطوم، ملتقيا بالنيل الأزرق، ليكوّنا معا شريان الحياة. ومع الإنفصال إثر الصراع العنيف الطويل فى السنوات العشر الماضية، قبل أن تصبح ملكال، حاليا تابعة لدولة الجنوب. 
وملكال هذه، هى أولى النقاط التى وصلت إليها بعثات الرى المصرى بجنوب السودان، مكونة من عشرات المهندسين والعمال والإداريين، حينما أُرسلت فى عهد الملك فاروق، مدركا قيمة بلدان منابع النيل. وقد أقامت الحكومة المصرية فى عهده،  مقرا دائما لها، فى ملكال، يضم مقياسا للنيل، ومرسى نهريا، وغير ذلك. وللبعثة أراضٍ ومبان، فى ملكال تمتد من شمالها إلى جنوبها، بمحاذاة النيل الأبيض، وأراض من شرقها إلى غربها، بأفضل المواقع الساحرة، منذ ما يزيد على ثمانين عاما، على ضفاف النيل.. حيث أجمل مكان يمكن أن تراه منه.. وهذه الأجواء، لها عبقها، وجمالها، فى الرواية. مجمل القول، أن الفن يستوعب المكنون، وتستوعب به مخيلتك الغائب، عبر ما لا يُرى قبل أن تراه، من جمال.. تلمسه فى نفسك. وبدون تذوق جمال الفن، لا يتكون أبدا، وجدان للأديب يدفعه للإبداع، ولا تندهش، لأفكار فى الكتابة، خالية من هذا الأساس الجمالى.
وإن إفتقد قلم الكاتب تلك الروح، الوهاجة، فلا تنتظر أمرا، فى مضمار الإبداع الأدبى. إنه وهج القلب، وإشعاع الروح. تماما، كما لو فقد الفنان إلهام ريشته، على لوحته، فلن يبدع أو يرسم، فلا روح للألوان ولا شئ نابض بحياة، بدون هذا، قط. إن أروع أعمال الفن العالمى، حتى الأعمال التى تتعلق بالدين والعقيدة منها، أو تلك التى صوّرت الحروب، ومآسى البشرية، وهى أعمال ترجع لقرون مضت، كأعمال مايكل أنجلو.. ومن قبلها الأعمال الفنية التي تخص القرون الأولى التى تصوّر الحياة الروحية والفكرية، فى تاريخ الكنيسة الشرقى والغربى، بالكنائس والأديرة والكاتدرائيات، وحتى عصر النهضة.. كلها أعمال فنية، لها هذا الأساس الجمالى الملهم للمبدع. سواء فى العمارة، أو غيرها من أنواع الفنون. وعلى هذا، كل جمال حضارى، وفن أصيل، وغيره، يثير شجون الروح، ويحلّق بها، فى عوالم أخرى. وعلى نفس الشاكلة، وبدون هذا المفهوم، أيضا، لن تكون هناك جماليات فى الكتابة أو النصوص، تؤثر على أنفس متلقيها. ومن هنا يمكن القول، أن العلاقة بين الفن والأدب والجمال الناصع، لا يمكن إستيعابها ببساطة، فى مقال، وهى صلات متينة، ووشائج قوية، يحكمها إطار واحد، وهو التأثير فى النفس البشرية، بأثر، لا يزول. وهو ما يجب أن يتوافر لدى كل فنان، ومبدع. الأمر الذى أحاول، جاهدا مع نفسي، أستحثها، مرة بعد أخرى،، ممتثلا لمعناه، وأنتهجه فى كتابتى، ومنها ما يتعلق بالمثل الذى أشرت إليه، فيما يتعلق بزمان، ومكان رواية (غصن الحياة) اللذان يتراوحان، فى فترة زمنية، تستغرق قريبا، من خمسة عقود.. سنوات طويلة، وأماكن عديدة، لابد أن أستشعر، وأنا أكتب عنها، وعما يدور بها من أحداث، من جماليات للمكان. مما أثار شجونى حيالها، هذه الفكرة لمقال الفن والجمال.. وهو المقال القادم، بمشيئة الله تعالى، تبارك اسمه..
.............................................................


ومضات جمال**
----- خالد العرفي
الجمال ومضات.. تظهر من خلال فن الوصف والرؤية، وزوايا ومستويات التعبير، سواء أفقيا أو رأسيا، بين المفردات الفنية، والعلاقات التبادلية فيما بينها، كما فى الجماليات المتعددة، التى أعرضها من حين لآخر، من فنون شتى.. وتشرق روح الجمال، عبر القصّ المتقاطع، وتداخل الضوء والظلال، وتتوهج مع تباين درجات الأبيض والأسود، وبقية الألوان.. آنذاك تنبلج رؤى اللاوعى بعديد من التفسيرات غير محددة على الإطلاق لهذا السرد الخاص،.. وبعمق الربط الذى يدرك الإطار، وتأويل يجمع بين التفاصيل وعلاقات العناصر، فإن التأثير لا ينتهى على الحواس.. رحلة وراء أخرى، تجد العقل يبحر بين وجوه بشر، ومفردات عمارة، وملمس الأحجار، وغيرها.. وكل تفصيل صغيرا كان أم كبيرا، له دلالته، حاملا الروح على أجنحة الخيال، فى عالم جمال.. مزيد من حيرة لا تتوقف، تدهشك، وتستثير خيالك، طمعا فى تأويل وحيد، للعلاقة بين هذا وذاك، أو مصدر هذا التأثير الفريد، على العقل، ومنشأ سره الغريب، فى الروح، وعلى المشاعر.. ممّا تتخطّى  به أبعاد المكان، وتعبر معه حدود الزمان.. ولا يعدك هذا، إلا أن تقع فى دائرته العملاقة، وجولة بعد أخرى، تجد نفسك أسيرا فى زاوية درج أو تاج عمود، أو درب بازلتى طويل.. أو جانب موقد حديدى قديم، بجانب جدار.. أو طالا على نافذة حجرية، وراء سياج.. أو سابحا بهدأة موجة، سكنت شاطئ بعيد أو عانقت رصيف ميناء تغادره سفينة، وراء بحر لا ساحل له.. أو إلتقاء متناقضين يمتزجان فى مدخل مبنى، أو يفترقان بنهاية طريق... فى معبد أو تمثال أو قطعة آنية.. فى زخرفة أو نقش أو حفر..،.. كثرة من الأشياء، وعديد من مسميات قطع بديعة،.. عناصر وجود ما زال قائما أو إنقضى عهده، من بعيد،.. إنه جمال الفن الذى تقع فى براثنه، هاويا بأعماقه.. هى لغة الروح المعبّرة، وحروف نبض الحياة، التى تنطق مجتازة كل تفسير، ولا ينتهى تأثيرها، أو أثرها أبدا.. وفى رواية من أكثر من مائتى لوحة زيتية لعشرات الفنانين العالميين، وضعت عملا إبداعيا للغة جديدة، من نوعها أعتقد أننى صاحبها.. يمكننى أن أستعيض عن أى لوحة بعبارة أو فقرة، كروح من السماء تأتينى،..لا أعرف حقا، كل هذه المعانى التى تأتينى حينما يأسرنى عمل فنى.. فى كل لحظة، أتعلم كثيرا من الفن بكل صوره وأشكاله.. يعطيك هدوء النفس وعواصف الوجدان والشعور الدائم بالمعانى الحية... يجعل الأفكار أمامك ويعطيك الصوت والحركة وكل شئ.. أكتشفت كثيرا أننى ما زلت لم أكتب شيئا، ليس له قيمة، أو تأثير.. لو لم أشعر بهذا الإحساس.. ولا يزال الكثير لأمضى نحوه، لتمسك به قبضة العقل والروح، فكرا وأدبا وفنا..  وما أجمل القصّ، وما أقوى الإيهام، والتعبير، لهذه اللغة، التى تتباين معانيها وتتوارد، بشكل مذهل.. تسمعك ما فى العالم من حياة، وتندهش لكثرة مدلالوتها، وإرهاصاتها.. إن العلاقة بين الألوان والفراغ أو فضاء اللوحة والعناصر التى تتوزع عليها.. كل شئ يجعلك تتسائل ماذا قصد الفنان هنا، فى هذا اللون، أو هذا التكوين من تلك العناصر.. تستنطق الصمت فتهدر المعانى، فى الروح.. تود لتعرف، فيما كان يفكر، وبم كان يشعر، حينما أبدع هذا.. الحياة والموت والكون وكل تفاصيل الحياة.. وكل معنى يمكن أن تجده، حينما ترى وتقرأ الصورة، رابطا بينها وبين غيرها، بهذا الشكل، فتذهب بك إلى عالم آخر.. بعض هذه اللوحات يرجع عمره لأكثر من مائتى سنة، والبعض الآخر من القرن العشرين.. فترات تغطى تاريخ الفن.. ويتباين نوع  المدرسة الفنية الذى ينتمى إليه الفنان بعمله.. من الكلاسيكية.. إلى التعبيرية.. والرمزية.. إلى الإنطباعية..،.. وهكذا، لو تضافرت هذه الخلفيات والإنطباعات عن الفنان والعمل وموضوع اللوحة.. مع الربط والتنامى فى الخط الدرامى، للتشكيل ككل.. أو الموضوع الذى عبّرت عنه اللوحات.. تجد هذه اللغة الجديدة..تخاطبك وتمضى بك.. توقع على روحك.. تتناول المكان والزمان والشخوص، لرواية يمكن قراءتها وتذوقها، من زوايا مختلفة، وبعديد من المعانى والرؤى التى تتناغم فى الذهن، وتتآلف فى تسلسل وتتابع.. لكن للأسف ليس كل فرد قادر، على هذه القراءة الجديدة، وقد يفشل فى ذلك،... والعمل يلقى تبعية المضمون والرؤى المتنوعة، على ثقافة القارئ والمتذوق للفن والجمال، من هذه الناحية.. وربما هذا أفضل كثيرا، لإنعاش الفكر والتأمل فى عالم الخيال.. فللفن بكل أنواعه، أهمية كبيرة فى تكوين وتشكيل وجدان الأديب، كالفنون التشكيلية، والموسيقى، وغيرها من فنون.. بل هو كذلك حتما، مما له بالغ الأثر والقوة فى الإلهام والخيال، ووهب معين لا ينضب من الأفكار، للكاتب .. وبلا ريب هى من جماليات الفن وعلاقتها بكينونة الأدب، وفحواه.. وقد سبق أن وضعت بعضا من هذه المحاولات بصور متنوعة من الفنون، المختلفة.. محاولا خلق معان جديدة، وبتذوق جديد.. وقد تابع قراء ومتابعو المدونة، من هذه المحاولات بصور من جماليات متعددة، ومنها جماليات الماضى المسماة جماليات بحر، من تراث التصوير الفتوغرافى.. 

الفن والروح
" قلب الرؤية"
---- خالد العرفي 
إنها فكرة الجنون، الرابضة فى كل عمل، شكلا ومضمونا. تصدمك بالجمال الصارخ. تأسرك من الوهلة الأولى. تدع نفسك، لتغوص فى عمق العمل. تكوينات من معان، لا تراها إلا بإحساسك. فجأة، وخارج حدود الزمن، يجب عليك، أن تكون على أتم إستعداد، لإبحار أسطورى، بعينيك وعقلك معا.. تدهش الروح، برغبة خلاص من هذا العالم، بتناقضاته الغريبة. بعيدا عن كل معتاد، ومعقول. ترى الحجر، وتسمعه ينطق، دابّة فيه الحياة. تشكيلات ضد الجمود، تغاير كل شئ. تحترق فيها، رغبة فى مزيد. تتحسس كل تفصيل، بروحك.. بين الحلم والواقع. تسافر إنفعالاتك، إلى مجهول قصى، فى خيال، يجمح بك. ترهف سمعك، عبر مدى يتسع، ويتمدد لأنفاسك، وشهقاتك، متخطيّا وعابرا آفاقا. هذه هى اللوحات الفنية، التى وضعت، من قبيلها الكثير، الفترة الماضية. وهى، مما أعشق حقا. كل لوحة لها خلفيتها النابضة، كأنها تلقى بك، من ارتفاع شاهق. لكنك تهوى فى الخيال، ضد الواقع، ضد كل شئ. تستشرف به عالما أكثر جمالا، وإنسانية.. تستطلعه بروحك، حتى لا تفقد تفصيلا، من تفاصيله، وملمحا من ملامحه المختلفة، بين ظلال خفيفة وثقيلة. دلالات غامضة، غير محدودة. تسيطر على كل كيانك، بهوية وشكل غريب. لا تستطيع أن تلملم روحك بعدها، إلا وأنت تسدل عينيك، بين الأبيض والأسود.. فى عمق التضاد. بعيدا عن كل لون آخر، من الألوان. 
تتدرج بك، شيئا فشيئا، لتسرقك من نفسك، آخذة بك، لمسافات بعيدة، لا محدودة. ربما لا تعود، منها، روحك، التى انصهرت. وتجد نفسك، وقد تلاشت، بين الظلال العميقة.. لا تدرى كيف تم إستخدام الظل والضوء، هكذا، فى قلب الرؤية، لخلق هذا الجمال المشرق. هارمونية، تأخذ بوجودك. تدور به، بصورة، لا تعهدها، فى نفسك، ولا تنتهي.. 
ولا يعرف كثيرون كيف هو جمال الماضى وروعته، عندما تنقله أنامل الفنان. عصور مضت وتفاصيل فنت من الواقع. سجلت لحظاتها ألوان وظلال.. وإستخدام للضوء لا يمكن أن تراه، إلا فى مثل اللوحات الزيتية.. لانعرف، إن كان هو الضوء الذى يظهر الألوان، أم الألوان هى التى تظهر الضوء. وتسمع فيها موسيقى من نوع خاص، لتحيي النفس، وتسافر فى الزمن.. كثيرا ما قضيت وقتا، على فترات متباعدة، فى تأمل مثل تلك اللوحات المدهشة. مدن، ومناظر طبيعية، ومشاهد إنسانية، وبورتريهات بشرية،.. وقائع وأحداث. أحتفظ بها.. وكم أهدأ كثيرا، عندما أعيش فى تفاصيلها، وألوانها. ترينى أماكن لم أرها، وتحيينى فى أزمنة لم أعشها. كم هى دهشة أن أرى الشرق قديما. كل شئ أعيش تفاصيله. أنظر للوحة كأنى فيها.. الألوان. الأشياء. الخلفية. النمارق. الستائر. الملابس. الأثاث. ملامح الوجوه. الحركة.. كل شئ يتناغم فيما بينه بألوانه ومكانه وأتناغم فيه، متنقلا بين تفاصيله المدهشة، وأنا جزء منه.. هدأة وسكينة وإحساس، لا يشبهه إحساس.. 
وحتى اللوحات، التى سجلت مشاهد لأوربا، فى العصور الوسطى.. بصرف النظر عن الدين والعقيدة.. رأيت ما سجلته أنامل الفنان، لمعابد وكنائس وشواهد قبور، إستوقفتنى كثيرا. من لم يرَ فلورنسا وبيزة وجنوة وغيرها من مدن إيطاليا، فى هذه الفترة، لم يرَ جمالا لعمارة ولا شعر بجمال الفن، وروعته.. هذا موضوع كبير، لا يكتب فيه أسطر.. يحتاج لسِفر بمفرده.. أما عن البورتريهات وحكايات الفنانين الكبار، معها، فمشكلة فكل كان له ملهمة.. ويكفى أن يقع بصرى على لوحة، تسرقنى من نفسي، وأتمعن، وأضع نفسي فى نفس اللحظة، التى رسمتها فيها يد الفنان، بروحه ودمه.. لا يمكن أن تشغلنى تفاصيل الوجه فقط، ولكنها تصبح تعبيرا فى مجمله، ترى من خلاله روح الفنان، وروح العصر.. جمال وروعة.. وربما ألهم الفنان مكان، أو لحظة تاريخية.. ومن ذلك اللوحات، التى سجلت الحروب الصليبية. وقد جمعت منها كثيرا، من باطن المراجع والمصادر القديمة، حتى كدت أسمع رحى الحرب، وهى دائرة، وأسمع هسيسها.. لوحات قبل أن تعطيك الروعة، فى تفاصيلها، فهى تأسرك برهبة، تتسلل إلى كل كيانك.. كم أتمنى أن أرى كل ما أبدعته يد الإنسان، الذى سجل روح الإنسان الحقة.. وأحيانا لا أصدق نفسي وأنا أحيا فى مثل تلك اللوحات، التى تأسر الروح. تصبح أعظم من الرواية والشعر، وكل فن أدبى .. فهى تطلق عقال العقل، وتفك أسر الروح.. لا أنسى أبدا اللوحات، التى سجلت القدس قديما، أو كما يسمونها أورشليم، وكما نسميها نحن بيت المقدس.. حتى سيناء بطورها وجبالها وشعابها وأوديتها.. رأيت تفاصيل قديمة مذهلة، لها لم يرها كثير من المصريين، ولا توجد إلا بين دفتى الكتب القديمة، بروعتها وجمالها وروح عصرها. وعلى رغم، أن للوحات الزيتية سحرها، وللصور الفوتوغرافية القديمة جمالها، إلا أن هناك فرق كبير ببين جمال كل منهما وسحره..  بين الظلال والنور، والأبيض والأسود، بكل التباين والتفاوت والإختلاف، فى الدرجات.. فهذه شئ، وتلك شئ آخر، ولكل جماله وعبقه.. أما عن مصر بقاهرتها ومدنها خاصة أقليم الصعيد، فقد وقفت على شئ من ذلك كثير، فى الكتب القديمة، خاصة كتب الرحالة.. يذهل له من يراه، ويتمنى لو عاش فى هذه الفترة، من الزمن، ورأى تلك التفاصيل. 
أما عن الثغر.. الإسكندرية بتاريخها، فلا حديث يجدى عنها إلا مع رؤية تلك اللوحات فعلا، التى سجلت ما فيها.. ثم مع بدايات التصوير الفوتوغرافى، ومع وجود الجاليات الأجنبية فيها، سكنا وعملا ورحلة. التى سجلت سحر وجمال الإسكندرية، آنذاك. فقد رأيت الإسكندرية منذ ما مضى.. ورأيتها منذ قرون غبرت.. ولا يمكن وصف إحساس الإنسان وشعوره، وهو يرى مدينته، منذ مائتى عام مثلا.. كل ركن فيها .. كيف كان. الجمال كما هو موجود فى الطبيعة، بقدرة وإبداع البارئ البديع.. فقد منح الإنسان، ما يعطيه ويبينه جمالا، تسخيرا له من الله، وفتحا للعقل والوجدان البشرى، الذى أبدع بقدرة الخالق. تراه الروح، لا العقل فقط.. 
شئ لا يمكن إلا أن يشبع جميع الحواس، والجوارح، فتستكين معه الروح، وتهدأ .من لم يتذوق الفن، ويرى مافيه، ويلمس ما له، من جمال وروعة، فليس يحيا بشئ..

من
 كتاب خلوات فكرية

----- خالد العرفي

1 - كواكب أخرى

2 -الخيال وأدب الخيال العلمى 

3 - البوزون الغامض

 

كواكب أخرى
--- خالد العرفي
   كون شاسع هائل، يستحيل تخيل مداه.. ويوما بعد يوم، نتابع الإكتشافات العلمية المثيرة.. تتوالى، وتترى. ومنها الإكتشاف الفلكية المذهلة، لعديد من كواكب، تدور حول نجوم، خارج مجموعتنا الشمسية. وإجابة عن سؤال العلماء والفلاسفة على مرّ العصور: هل نحن وحدنا فى الكون؟! نعاين حقيقة، أنه يوجد إحتمالان لا ثالث لهما، إما نحن وحدنا فى الكون، أم لا.. وكلاهما إحتمال، يجعلك تغرق، وتغرق، فى فكر عميق.. 

دوما الحلم الذى يجمع شعثى، كأنى أسافر فى أشعة شمس دافئة، إلى دور التاريخ، وسكرة أفكار غير مكتوبة، أبحث عنها. تتدافع فى رأسى تفاصيل أضواء مصابيح وقناديل. وما إن تتملكنى، بدفء غريب، أصبح، شهابا مسافرا، بين النجوم والكواكب والأقمار، فى أعماق سموات بلورية. وتنحبس أنفاس توترى، أمام رغبتى المتوقدة فى المعرفة. وهكذا، لا تتركنى، إلا وقد ذبت فى تلك الأضواء المتلألأة، بلون الياقوت والذهب والعنبر،.. مزيجا، بلا إنتهاء، فى أرض غير الأرض، وسماء غير السماء، فانفصل عن كل شئ، باحثا عن المعرفة. بقلبى وروحى، وغارقا بعقلى. لا أستطيع أن أتذكر عدد المرات، التي سافرت فيها فى الكون، غائبا فى فراغ محيطه، دون حدود. عابرا لجسد فان، حيث يمكن ألا يعود. هناك حيث منبع النور للعقل، والدفء للروح. حيث تشعر كيف يمضى الليل، بهزيعه الأخير. وترى كيف تشرق، وتتوارى النجوم. شموس وشموس. تشعر بملمس  الفجر، وحريرة أنسام الأسحار. أستدفئ بعصر الوجود. لا شئ يضاهى هذا الشعور، مطلقا. ولا أستطيع أبدا أن أصفه. يالعجز القلم، حينما لا يتوحد مع الروح، فى رحلة المعرفة. ويا لعدم قدرة الإنسان، فى كون عامرة سمواته وأراضيه، بحياة بثها الله الخالق البديع القادر، على كل شئ.. جلّ شأنه، وتبارك اسمه. يسبح  له السموات السبع، والأرضون السبع، وما بينهما، ومن فيهن. لا ريب أننا لسنا وحدنا فى هذا الكون.
ولا شئ يحدث، إلا إذا تحرك شئ آخر، كما قال ألبرت أينشتين.. وتستمر الإكتشافات، وذلك فى واحدة من أعظم المهام العلمية، والتاريخية الكبرى، فى مسيرة العلم، ليس فقط، لوكالة الفضاء الامريكية NASA التى تقوم بها، إنما للبشرية عامة. إنها رحلة البحث عن كواكب، أو أرضين أخرى صالحة للحياة، فى مجرتنا. وتحديدا، فى قطاع فلكى معين، ومجال رؤية، مداه عدة آلاف من السنين الضوئية، من مجرتنا Milky Way،.. مجرة درب التبانة، كما يسميها العرب. وهى إكتشافات مسبر الفضاء كبلر "NASA's Kepler space telescope" الرائعة، فى تلك المجرة، التى ينتمى إليها نظامنا الشمسى  Solar System .. حيث يعيش الإنسان على كوكب، من كواكب هذا النظام..، الأرض.. ضمن مجرة، تحتوى على نحو، مائتى إلى أربعمائة بليون نجم.. وتصور هذا العدد، من النجوم فى مجرة واحدة واحدة فقط، من مجرات هذا  الكون الشاسع، المتسع. ويقدر عددها فى الكون، بأكثر من خمسين مليار مجرة، بأنواعها المختلفة، سواء كانت مجرات هائلة الحجم، تحوى على مليارات النجوم داخلها، أو مجرات قزمة، تحوى آلاف أو ملايين النجوم، فقط.  فلا يعلم حدود الكون ولا مداه، أو أبعاده، إلا خالقه جل شأنه. وليس بغريب، أن تطلق ناسا على هذه المهمة، العلمية الفريدة، اسم واحد، من أعظم علماء الفلك، وهو عالم الألمانى يوهانز كبلر (Johannes Kepler (1571 – 1630 .. الرجل، الذى إرتبط اسمه باالكواكب، بإكتشاف القوانين الثلاثة الهامة، التى تتعلق بحركتها، حول مركز نجمنا الشمس، وتعميمها على مسارات الكواكب السيارة، ، بما في ذلك كوكب الأرض،.. وهى القوانين التى صارت تعرف باسمه، علميا، Kepler's Laws of Planetary Motion وحلّ السرّ المستغلق حيالها، ممّا غيّر فهم الإنسان للسموات، بل ونظرته للكون، بذلك الفتح الجديد، فى علم الفلك، آنذاك. 
ومن هنا، ندرك، لماذا أطلقت وكالة ناسا، اسم هذا الفلكى الكبير، على هذا المشروع العلمى الفذّ، وهو البحث عن الكواكب Kepler A Search for Habitable Planets فى الفضاء.. فى ظل أن مجرتنا، وحدها، فى تقدير العلماء، يمكن أن تحتوى على ستين بليون كوكب.. وتنحصر المهمة الرئيسية، لتلسكوب الفضاء كبلر التابع لناسا، منذ أن أطلق فى مارس 2009. وهو مرصد فضائى صمم  للبحث والعثور على كواكب شبيهة بالأرض، خارج المجموعة الشمسية، رامية إلى إيجاد حياة في مكان آخر، والإستمرار فى البحث عن عوالم غريبة فى الكون، في المستقبل القريب.. أرضون أخرى، بحجم كوكبنا، ضمن تلك الكواكب الغريبة، التي قد تكون قادرة على دعم الحياة، كما نعرفها.. كواكب خارجية،  تدور حول نجوم بعيدة، بما في ذلك العديد من كواكب، بحجم كوكب الأرض،.. وتقع ضمن المنطقة الصالحة لوجود حياة، بالنسبة إلى نجومها، وبحيث يمكن أن يوجد هناك ماء، في شكل سائل.. الأمر الذى، سيغير حتما، من نظرتنا إلى إمكانية الحياة فى الكون، والفكرة الدائرة حول مدى إنتشارها، مع هذه الإكتشافات العلمية الفلكية، المتعلقة بوجود كواكب أخرى. وهى المسألة، والقضية، التى شغلت العلماء، والفلاسفة، وإمتدت عير العصور، منذ القدم..  
وهكذا معرفتنا، تتقدم إلى الأمام، وتتحرك، مع كل إكتشاف علمى.. وتقوى إمكانية وجود حياة خارج الأرض، كلما سارع الإنسان إلى إستكشاف الكون. والبشرية، بالفعل، على أعتاب معرفة هذا اللغز الكبير، لذا سنعرف في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام تلك التى تشبه الأرض، والتي تسير في مدار يشبه مدارها. وفي غضون عقدين، سيكون لدينا أفكار أكثر وضوحا، عن كيفية بدء الحياة، على كوكب الأرض، وسيصبح هذا مهما جدا للإجابة عن كيف بدأت في مكان آخر، وأين نبحث.. فهذا سيعطينا مفتاح كيف يحتمل، أن تكون نشأت، في مكان آخر، وما هي البيئات الأمثل. مما يجعلنا أكثر تقدما، وأكثر قربا من حل واحد، من أكبر الألغاز الكونية. رغم أن استكشاف معالم للحياة خارج الأرض، يتطلب زمنا، إلا أنه يصعب الإعتقاد بعدم وجود حياة، في مكان ما من الكون الشاسع.. فإذا وسعنا عملية البحث، مستقبلا، عبر مد حدود الإستكشاف في الكون، فسوف نجد شيئا هنالك.. العثور يوما، على شيئ ما، لا نستطيع تفسير طبيعته.. فهنالك شيئا ما، لكننا لم نره بعد، ويصعب علينا فهمه، حاليا.. ربما عوالم حية وذكية، خارج كوكب الأرض، على كواكب قابلة للحياة، وهى تلك التي تكون على مسافة من شمسها، تؤمن لها حرارة معتدلة، وتجعل وجود الماء والحياة على سطحها، ممكنا.. فمنذ مطلع تسعينات القرن الماضى، رصد علماء الفلك أكثر من ألف كوكب، يدور حول شموس غير شمسنا، وتقدر الدراسات العلمية والفلكية الحديثة، وجود مليارات عدة من هذه الكواكب، في الكون.. وبعضها كواكب صخرية، واقعة على مسافات عن شموسها، تجعلها قابلة للحياة، أى أنها ليست قريبة جدا، من شموسها وملتهبة، ولا بعيدة عنها جدا ومتجمدة، بل في مسافة متوسطة، تسمح بوجود المياه السائلة على سطحها، وهو شرط لا بد منه لتشكل الحياة ونموها، وإن كان شرطا غير كاف. 
وقد غيرت بعثة ناسا نظرتنا، إلى إحتمال الحياة في الكون. فقد أظهر تليسكوب كبلر الفضائي، أن ظاهرة شيوع وإنتشار الكواكب، في جميع أنحاء مجرة درب التبانة (الطريق اللبنى).. فما بالنا مع المليارات الأخرى، من المجرات،  ويتفاوت عددها في الكون.. وهو ما يفسر كيف يساعد تلسكوب ناسا الفضائي كبلر - كأداة أساسية للكشف عن الكواكب خارج نظامنا الشمسي – فى الكشف عن هذه الحقيقة، حيث تكشف الصور الملتقطة، بواسطة مركبة الفضاء كبلر، أنها تسجل أكثر من مائة ألف نجم، في وقت واحد، مسحا ورصدا لمجال معين، بغية الكشف عن كواكب، تدور حول نجوم، خارج نظامنا الشمسي.. وكانت المهمة قد حققت نجاحا باهرا، مما أعتبر من أعظم اكتشافات المرصد حتى الآن. إضافة إلى المزيد، من الاكتشافات، سوف يبقي قائما، لسنوات قادمة، ودخول العلم مرحلة واسعة.  وذلك، من خلال تحليل العلماء لبيانات المركبة الفضائية، لتحديد كواكب أخري.. فمثل هذه الأرض، ليست كوكبا فريدا نادر الوجود.. وإحتمال وجود حياة على كواكب، خارج الأرض، في أماكن لا تنتمي لمجموعتنا الشمسية، وفى أماكن أخرى سواء فى مجرتنا أو المجرات الأخرى، فى الكون الفسيح، هو إحتمال قائم، وكبير. وعلى ذلك، ومع إكتشاف كواكب جديدة، تتنامى وتتسارع، الفرضيات العلمية وراء هذا الإحتمال، وعن أصل هذه الحياة، وشكل هذه الحياة، التى تكون قد ظهرت فى أى مكان آخر في الكون.. وهل هى حياة عاقلة واعية، تتراوح صورها وتتعدد.. وإنتشار هذه الحياة خارج مجموعتنا الشمسية، لا بد أن يكون  بين الكواكب المؤهلة لوجود هذه الحياة، ويرتبط هذا بتوفر وإمكانية وجود الماء فيها..

ولذا، كانت مهمة المرصد الفضائي كبلر ناجحة للغاية، بالاكتشافات العلمية التى أنجزها، خلال مرحلة الملاحظة الأولية، بإكتشاف كواكب خارج المجموعة الشمسية،.. أكثر من 2700 من الكواكب الغريبة المحتملة، وبتحقيق الهدف، الذى تم وضعه لها، خلال تلك الفترة.. والكون عبر هذه الإرهاصات، التى تشير إليها الإكتشافات الحديثة، والتأكد من وجود كواكب بالفعل تشبه الأرض، ما زال، نابضا، بشكل مستمر، ولا يمكننا أبدا فهمه، تماما.. فمن المستحيل تصور، طبيعته أو حدوده وحافته، أو الإلمام بشئ من ذلك.. ولكن مع مرور الزمن، ومستقبل العلم، للسعى إلى فهم القوانين، التى تحكم الطبيعة والكون، سوف تخترق المعرفة أعمق أسراره، إلى مدى أبعد، على الشاطئ الآخر، من المجهول، بإستكشاف نسيجه، وبنيته.. والبداية والنهاية.. هذا الكون الهائل،.. ببساطة، حيث ستختلف المعرفة، تمام الإختلاف عن أحكامنا الخاصة، وما لدينا من آراء مسبقة.. حقائق داهمة، بعيدا عن كل خيال للإنسان وتجريداته، في كل شيء.. مما قد لا يكون غير منطقي، بالنسبة لنا، مطلقا.. لئلا يتصور البشر ويظنون، أن الحياة فى الكون، مقصورة عليهم، أو متمحورة حولهم فقط، فى كوكب الأرض، في المحيط الكوني، لهذه المجرة.. وما نحن وحدنا فى هذا الكون.. 
-----------------------------------------------------


دور الخيال
------ 
حينما، أدرك أينشتين النسبية، لم يحركه، إلا شيئا واحدا، لم يفكر فيه إلا هو وحده. حينما، ذكر إذا لم تبد الفكرة، من البداية عبثية، فلا أمل، فى تحقيقها. وهكذا، إكتشف بخياله أولا، نظرية النسبية. والأديب، أولى بذلك الخيال، صنوا للعالم، لتظهر أفكاره، من حيز لآخر، وليؤثر فى قارئه. أحيانا، عليك أن تتحرر من المنطق، ومن تصوراتك المسبقة، لتكون، فى كل نص، بروحك، وكيانك. تنطلق، بسرعة أسرع، من الضوء.. فلا تضيع فكرتك، وأنت ساكن، ثابت على منوال واحد. حرك كل شئ، فى عقلك. إنها حقول قوة، كامنة فى عمقك، أنت. أكتشف بها السفر، فى الزمان، والمكان. إستوعب المكنون، فتستوعب مخيلتك، كل شئ. إنشد ما لا يُرى. هذا هو المقصد، وهذا هو السؤال. أعبر التضاريس الغريبة، خطّ أثرك. احفره، خطوة، إثر أخرى. لتكتشف الحلم، وما لا تعرف. حقق ذاتك. أنا أتعلم كيف أصنعه فى عقلى إلى الآن، وما زلت.. بصوت منحفض، يزداد قوة، شيئا فشيئا، فى أذنى، قبل أن أراه.  وأحاول أن اضعه فى كل نص أكتبه.عبثية الفكرة، أنت، الذى يضع منطقها المستحيل، بسؤال وراء سؤال، وتصورات تضع نفسك، فى داخلها. من غير الممكن، أن تحقق شيئا، وأن تظل هكذا، لو لم يستغرق ذلك الأمر، وإبداعك، من خلجات نفسك، وحنايا روحك. تراه بعينى عقلك، أولا. ثم تدرك حقول القوة هذه، داخلك، بعد ذلك، فتنطلق بك، وتنطلق بها، متحرر فكرك، وممتلكا أنت أفكارك،  ونصك، لغة ومعنى، ومضمونا. فى النهاية التأثير، الذى تلمسه على نفسك، قبل قارئك. حتى العلم، يقرر أنه بدون الخيال، وبدون الإرادة، لا يمكن للإنسان، إلا أن يقع فريسة للواقع، ويستمر فيه، راكنا إلى لا شئ، لا يتحرك. أعجب، لمن تدور أفكارهم، حول نقطة ما دائما، لا يتخطونها أبدا، ولا يحاولون طرق كل ماهو غريب. يدورون، فى فلك واحد ونفس المسار،.. يسلكون ذات المدار. يدورون، ويدورون. كأن، لا هناك أمكنة، ولا أزمنة أخرى، فى الكون. ببساطة، لا مستحيل. هكذا الأمر. وأنا لا أندهش، فى نفسي، لمستحيل فكرة أبدا، طالما يمكننى تخيلها، ثم كتابتها. أضعها أمامى، فى الأفق البعيد، فأرى كل تفاصيلها. تنبئنى أن هذا فى إمكانى. فقط أبدا حلقة الخيال، تحيط بى. وأقيّدها بالعقل، الذى يقوم بدوره، باذلا قصارى جهدى. وتتوالى الحلقات. أقحم نفسي فيها إقحاما، يلتهب بها خيالى، قبل مدادى، فأشحذ فى نفسي، روح مغامرة إكتشاف المجهول، ليكون ممكنا بين يدي، لتنطلق الفكرة فى المداد، هادرة، بصوت أكاد أسمعه، حتى أراها نصا. إن تقدير العلماء لمبادئ العلم، لا تقدم جديدا، دون تلك الروح الوهاجة، للمستحيل، وكسره فى الخيال. فما بالك بالكاتب، أو الأديب دون خياله، أو إلهام له. إن المفارقة، تكمن دائما، فى هذا السبب، والمحرّك الجوهرى والأساسى، الذى يدفع القلم للإبداع، من حلقة، إلى أخرى. فيظن القارئ، أو المتلق، أنه داخل النص فعلا. ويأسره النص تماما. يقع بين براثنه، فريسة للجمال، لا يود أن تنتهى قراءته. وهذا ما يهزّنى، حينما أقرأ. وهذا ما يعلقنى بكاتب أو أديب، ما. من هنا، إقنع نفسى دائما، أن كل شئ ممكنا. لا أعطى تنبؤات مسبقة، لدائرة الخيال الواسعة فى الكتابة، وبيدي أن أتأمل، بين الفكرة والمعنى واللفظ. إنطلق فحسب. ثق أن قدراتك أعلى مما تتوقعه، فى نفسك. لا مستحيلات دوما. وإن ندرت. وما أكثر الممكن حولك، وهو متوفر، ولكن بلا معنى. الفكر الخلاق دائما، يكون على حافة المستحيل، وما لا تظنه أبدا. وكذلك الإبداع الرائع ينقلك، من عالم إلى آخر. من زمن إلى زمن.. ومن معنى إلى معان، لا يمكن تصورها. وإن إفتقدت روح الخيال، وعبثية الأفكار، فلا تنتظر شئ، من نفسك. هذا شئ، أشبه بالسفر عبر فضاء فائق متعدد، أو ما يسمى فى الخيال العلمى، عبر الثقوب. أن تخترق الماضى، والمستقبل، فى لحظة الحاضر. هنا أتذكر مرة ثانية، حلم أينشتين الكبير "نظرية لكل شئ" أو ما يُصطلح عليه "النظرية النهائية". التى تفسر كل شئ. لكنها ها هنا، فى مضمار الكتابة والأدب، أنت صاحبها، تضعها لنفسك، لتكون، أو لا تكون. بدون الخيال، حول ماهو ممكن، وما هو مستحيل، والحدود بينهما، التى ننتقل فيها وعبرها، فإننا لا نصنع شيئا. لا تظن أن الموهبة بعيدة عن العلم، يمكنك أن تنال مثلا، وتستفيد من قوانين آرثر كلارك الثلاثة. هذا شئ، قد يجعل البعض، يبتسم، ولها، لو كان يعلمها من قبل. يتسائل ما العلاقة بين العلم والأدب. ببساطة إنه الخيال. يقرر كلارك أن إذا كان شئ ما ممكن، فهذا بالتأكيد حق، وأن الطريقة الوحيدة لإكتشاف حدود الممكن، هى المغامرة فى الذهاب، أبعد منها إلى المستحيل. وأخيرا، إن أى تقانة متطورة جدا، لا يمكن تمييزها، عن السحر. ألا تتفق معى، أن الأدب البديع كذلك. أنت تقرأ نصا ما، أيا كان نوعه، قد يٌسحرك. يشدهك. يسلمك لتأويلات وتفسيرات، لا تستطيع، أن تضع له حدا، واحدا. هذا هو السحر بعينه. وهو البيان. وصنعة الأديب، الحاذق بها. وكما قيل، إن من البيان لسحرا. فكم هو رائع، أن تصادف معضلة، الآن، فتحقق بعض الأمل، فى تحقيق تقدم، إلى الأمام، من تفكيرك بها. فقط أولئك الذين يفكرون، ويجربون، يحصلون على المستحيل. شئ كالتخاطر تماما، لكن مع الأفكار، وحدها. تتمثلها أمامك، وتُجسدها. أو إن شئت، قل النقل الفورى، لذاتك، من مكان الى آخر، فى زمن آخر، لا يحدّه شئ. أو الإستبصار، للمجهول. يقول جون ويلر إذا لم أرّ شيئا غريبا، خلال اليوم فانه ليس يوما جيدا. وشكسبير نفسه له رأى أن من مميزات الإنسان غير العادى، أنه يتفوه بحقائق، لا يتفوه بها، أى شخص آخر. أنت ترى، أى إنسان، له ميزة تفرد عن الآخرين. فقط، عليه أن يكتشفها ويستنهضها فى ذاته. وهذا ما يجعلنا نشمئز من حماقات، عدم العبثية فى تفكيرنا، التى إن لم تخالج أنفسنا.. مما قد يمنح الخيال، فلن نبدع. أنت غير مطالب، أن تكون شكسبير أو غيره. لكن لا تركن إلى دعة الفكر. فقط إنتقل فى حقول قوة خيالك، لترى ملحمة العجب، وترى نفسك والكون، وكل شئ، بعين عقلك. لا تخف الفكرة. لا تخشَ التجريب. حاول، مرة بعد مرة. هذا فقط، إن لم ترَ الأمر مستحيلا، فى نفسك، من الأساس. فإن لم تره، فكيف يراه القارئ لنصك. وهى الثقة، فى أنك لن تفنى، فى الخيال، أو فى أكوان متوازية مجاورة، إلى الأبد، فلا تعثر على ذاتك، مرة ثانية. أمور غريبة أليست كذلك. لا ليس الأمر، كما يبدو، عليه. أنظر لمقولة إتش ويلز الشهيرة (قال أحدهم: السفر عير الزمان ضد المنطق. قال المسافر عبر الزمان: أى منطق؟) وإرجع لأول المقالة، لتتبين الأمر. قبل أن أختمها بقول كاتب من رواد الخيال العلمى أحب إبداعه، وهو الأديب الروسي "إسحق أسيموف" (أكثر العبارات إثارة، والتى تشير إلى إكتشافات علمية جديدة عظيمة، ليست "وجدتها". ولكن " هذا غريب". كذلك فى الأدب، ومع عظام الأدباء، حين يشدنا غريبهم، ونتأثر به، دوما، ولكل نكهته، وسمته. وهو أكثر إثارة، بالطبع مع الخيال، ومرده إليه، فى الحقيقة..
------------------------------------------------------
الخيال العلمى
-------
 وظيفة الخيال العلمى، هي النظر إلى الحاضر المجهول، والمستقبل القريب والبعيد، من أجل توسيع الإدراك الحالي . والخيال العلمي هو الانتقال في آفاق الزمن، ومنطلق كاتبه عندما يستند فى كتابته، إلى الحقائق العلمية، في سرده، التي توصّل إليها العلماء. الأمر الذى يمكنه من إستشراف المستقبل، مستندا الى هذه الحقائق العلمية. الأمر كذلك، الذى يمكّن الإنسان من الفهم الدقيق لعالم المادة ولتفاعلاتها، وللحياة وتشعباتها، للإنسان وتناقضاته. ويُعد أدب الخيال العلمى، من أهم الأجناس الأنواع الأدبية. وتنبع تلك الأهمية من كونه دافعا وحافزا للإبداع فى التفكير، وبكونه بلا حدود تعوقه أو تحد منه. ولأن تنمية هذا الخيال لدى تلك الفئة ضرورة لتنمية التفكير العلمى، الذى يظهر الإبداع لديهم والكشف المبكر عن المتميزين والمبدعين. بل ومدخل ضرورى أكيد وهام لإعدادهم. وبدون الخيال العلمى لا يمكن للإنسان أن يتقدم ويتطور بحياته إلى الأمام، لأنه الضوء الذى ينير طريق البحث والإكتشاف نحو الآفاق الكبرى. وأدب الخيال العلمى يجعل البشرية أكثر إستعدادا لإستيعاب تطورات العلم الحديث وتحققها على أرض الواقع. وتلك الأهمية هى ما جعلت أينشتين يقرر أن الخيال أهم من العلم نفسه بإعتباره الموجه والحافز نحو الإكتشاف والإبتكار العلمى والأفكار، التى تنبع من الخيال خارج حدود الممكن والمعقول.  ويذكر في هذا الشأن أن الخيال العلمي ليست له حدود، والعالم الحقيقي المحب لعلمه لابد أن يحلم، وإذا لم يتخيل العالم، ويحلم، سيفعل ما فعله السابقون ولن يضيف شيئا   جديدا. والعلم، هو لغة العصر، والدور الحضاري لأية أمة من الأمم لا يكون إلا بالعلم وإبداعاته في مختلف جوانب الحياة.  وقد اخترق العلم حجباً كثيرة وحول الأعاجيب إلى مجرد أمور اعتيادية وحقق تقريبًا كل ما تنبأ به الخيال العلمي وذلك لأن العلم يبدأ من النقطة التي يقف عندها العلم، ممهدًا الطريق للمستقبل . وتعتبر أية إضافة في العلم أو الخيال العلمي لبنة جديدة في صرح المعرفة لان الخيال العلمي هو من مفردات العلم باعتباره المحفز الأول لمخيلة المبدع .
وقد أدركت الدول المتقدمة أهمية الخيال العلمي كبوابة للإبداع والإبتكار حيث وضعت بعض المقررات في مناهج التعليم لديها قائمة على استثارة الخيال العلمي لدى الأطفال بل ووضعت بعض المقررات في الجامعات مثل مقرر "أدب الخيال العلمي" ضمن المناهج التدريسية. وأصبحت دراسة الخيال العلمي جزء لا يتجزأ من خطط وإستراتيجيات المستقبل .ومن هنا بدأ إستخدام الخيال العلمي على نطاق واسع في الدول المتقدمة، من زوايا عديدة وبطريقة خيالية مستندة إلى العلم والتكنولوجيا. وتزداد مصداقته باستخدام مجازات وإستعارات مستقاة من واقع العلم والتكنولوجيا، بنقل الحقيقة العلمية بأمانة وصدق وبنظرة مستقبلية.
ولقد إتسع إنتشار الخيال العلمي Science Fiction في العالم، وأصبح يفرض نفسه على النماذج الأدبية الجديدة لإعداد علماء للمستقبل، فقد تكون قصص الخيال العلمي بديلا حقيقيا لإدخال العلم بقوالب جامدة، مما قد يؤدي إلى عدم الإنصراف عن العلم أو عدم الإهتمام به. ولذلك تحتل قصص الخيال العلمي مكانة مرموقة في المجتمع المتقدم الحديث.. كما يحظى هذا النوع الأدبي، بإهتمام العلماء كما يحظى بإهتمام الأدباء وعلماء النفس، وغيرهم . ويمثل أدب الخيال العلمي صورة مقروءة للأفكار، وخريطة بديلة للمعرفة، وجسر منهجي إلى علوم المستقبل، فى الوقت الذى تتسع فيه أنماط العلم المعروفة، وتتداخل فيه أفرع المعرفة العديدة.. مما يمكن من دعم التفكير الخلاق الإبداعى الشامل. ويمكن أن يؤدي تحرير الخيال إلى وضع الفرضيّات العلمية، وتعديل مسالك التأمل والملاحظة، والتخلص من التبعة للأفكار السائدة. كما يحرض الإرادة البشرية على إرتياد المجهول والتدريب على تذوق لذّة الكشف العلمي. ويسهم في ترسيخ الثقافة العلمية. ومن ثم يشجعهم على مزيد من الإهتمام بالقراءة، وكوسيلة تعليمية حديثة تضمن توجيه الرغبة، في التعامل مع الحياة، والتعبير عن الآراء والتصورات بأسلوب علمي.  وبصفة خاصة تساعد الدراسة العلمية، علي بناء الشخصية، ومما يمكن أن يكون عاملاً فعالا، في التغيير والتجديد . وذلك بالإهتمام بالمعرفة المعاصرة وإمتدادها إلى المستقبل، وأثرها على السلوك الإنساني .
ويتعامل الخيال العلمى، مع المادة والزمان والمكان والكون والفضاء، وكثير من الأمور، بصورة خلاقة بالترجمة بين الطرق المختلفة، لرؤية العالم فى ظل آلاف الحقائق العلمية المتجمعة، لبناء صورة تتنبأ بمستقبل الجنس البشري، ومجتمع الغد ومدنيته. وذلك بمعالجة الحقائق العلمية، ودعم الثقافة العلمية المنوط بها إستعاب التغييرات التي يمكن التنبؤ بها فى تلك البيئة. وبمحاولة تصور المستقبل الممكن والتطور العلمى وراء الأفق وخلق تصورات جديدة لما هو معروف فعلاً . وفي ضوء الخيال العلمي الذى يخترق حدود الزمان والمكان، يستطيع الإنسان بالخيال، أن يطوف أرجاء الكون بالتزود بكثير من الحقائق، والمكتسبات العلمية الحديثة، مما يمنحه القدرة على عبور آفاق الزمن بطموحاته ونبؤاته وأفكاره لطرق أبواب المستقبل. ومن هنا يرسم المستقبل بما يمكن أن يكون وكيف يمكن أن يحياه لإرتباطه بشكل مباشر بنوعية الحياة المستقبلية نتيجة للتقدم العلمى والتكنولوجى المتسارع. خاصة وأن مستقبل العلم والتكنولوجيا قد يصل إلى أقصى تقدم تتصوره البشرية . بالإضافة إلى أن الحدود الفاصلة بين هذا الخيال والعلم، توشك أن تتلاشى، بعد أن تحققت كثير من التنبؤات، وتحولت إلى واقع مشاهد وملموس من التقنيات العلمية التى تحيط بنا. ولأن العلم يستثمر أفكار الخيال العلمى مما يمكن أن يتحول إلى إبتكارات وإكتشافات جديدة. وسوف يظل الخيال العلمى دافعا يحث العلماء على تقديم المزيد من الإنجازات فى مستقبل القرن الواحد العشرين، فى هذا المجهول الكونى، الذى يحيط بالإنسان. وحيث يمكن إكتشاف الكثير من المفاجأت العلمية المثيرة بعد رسوخ المفاهيم والحقائق العلمية، التى تتصل بعدة علوم، يُبنى عليها المعارف التى تتنبأ بما يمكن عليه الحال، فى نهاية هذا القرن الواحد. كما أنها تثير روح الفضول العلمى .ومن هنا تظهر قيمة وأهمية الخيال العلمي، في إعداد وتنشئة العلماء والمبدعين وبأهميته القصوى، في إحداث التغيير والتطوير مع التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة والثقافة العلمية. الأمر الذى يمكن من المساهمة في العمل علي إعداد جيل من العلماء لمستقبل لن يكون فيه موضع قدم إلا لأصحاب البحث والإبتكار والإبداع في ظل التحديات التكنولوجية والتقنية الهائلة.
البوزون الغامض 

---- خالد العرفي
على قدر أفكار وأعمال العلماء تتحقق أحلامهم.. وإنجاز الوكالة الأوروبية "سيرن" يفجّر سيلا من التساؤلات العلمية..
منذ ما يقرب القرن، يعتقد علماء الفيزياء أن المادة التي نعرف صورتها في الكون على هيئة مجرات ونجوم وكواكب وسدم وأجرام وغبار سماوى لا تمثل كل المادة الموجودة، بل ما نراه لا يمثل سوى 4 % فقط من مادة الكون الكلية، أما 96 % المتبقية فهي غير مرئية أو إن شئت قل(معتمة).. أو ما يطلق عليه إصطلاحا علميا المادة المظلمة للكون.. ولا أحد من العلماء يعرف طبيعة هذه المادة المعتمة المظلمة.. ومايزال العلماء يبحثون منذ عقود طويلة للعثور عن تفسير سبب ذلك. وفي نهاية تسعينات القرن المنصرم أكدت أرصاد العلماء الفلكية أن الكون يتمدد ويسير في توسع دائم وثابت تحت تأثير طاقة مجهولة الهوية تمثل 70% من كثافة الطاقة الكلية للكون.. بينما كان العلماء على إعتقاد أن هناك ثمة شيئا مجهولا لم يُكتشف بعد.. جزءا فيما يسمى بالبازل الكوني .. وأن باكتشافه يمكن تفسير كل التساؤلات التي تشغل العلماء، وهذا ما تم بعد خمسين سنة من طرح هيغز لنظرية البوزون عام 1964. فالأمر الأكيد أن  إقتراح آليّة هيغز تم بأن هناك ثمة جسيم أولي يعتقد أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها حينما تنبأ الفيزيائي الاسكتلندني بيتر هيغز بوجوده في إطار النموذج الفيزيائي القياسي الذي يفترض أن القوى الأساسية قد انفصلت عند الإنفجار العظيم ، وكانت قوة الجاذبية هي أول ما انفصل ثم تبعتها بقية القوى.
وكان لإكتشاف مختبر "سيرن CERN " بمركز البحوث والدّراسات النوويّة، بالمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية حيث مختبر  فيزياء الجسيمات مترام الأطراف في منطقة الحدود السويسرية الفرنسية المشتركة قرب جنيف.. والذي يعتبر أكبر مجمع للأبحاث العلمية في العالم وأكثرها تكلفة.. على عمق مئة متر تحت الأرض وتشارك فيه إحدى وعشرون دولة.. الإعلان عن أحدث اكتشافاتهم وهو الوجود الفعلي لما يطلق عليه"جسيم أو بوزون هيغز Higgs Boson " .. كما يعرف نظريا. وهو جسيم افتراضي مساعد لتماسك مكونات المادة إذ ذكرعالم الفيزياء الإسكتلندي «بيتر هيغز» قبل ثلاثة عقود من الزمن أنه يساعد على إلتحام المكونات الأولية للمادة ويعطيها تماسكها وكتلتها. وهو الذي طالما حلم العلماء برؤيته لكثرة ما كانوا مؤمنين بوجوده المفترض، هو الإكتشاف الذى اعتبر معادلا في أهميته لاكتشاف الحمض النووي (دي إن إيه)... في رحلة البحث عن المجهول، عن الجُسَيم الأسطوريّ الّذي يفسّر أصل كتلة الكواركات واللبتونات في نظريّة النموذج العياريّ وبصفة أدّق كتلة الجُسَيمات الناقلة للقوى، وللتوصل إلى إكتشافات تفسر لنا ألغاز وغوائب الكون.. الغريب أن هذا الجسيم الأولي الإفتراضي ثقيل، بدرجة أن كتلته تزيد نحو مائتى مرة على كتلة البروتون، فهو أثقل بوزون إكتُشف في مسرّع للجُسَيمات ويشاهد آثار وجوده داخل المكشافَيْن العملاقين بالمصادم الكبير للهدرونات. ويُعتقد طبقا لهذه النظرية أن البوزون بأنه المسؤول عن طريق ما ينتجه من مجال هيجز عن حصول الجسيمات الأولية كتلتها، مثل الإلكترون والبروتون والنيوترون وغيرها . وتحديدا كانت هناك إشارات سلفا قد رصدت الوجود العملى لهذا الجسيم أو البوزون فيما يعرف بمصادم الهادرونات الكبير LHC  الذى تم تشيده فى  فترة مضت بين عامي 1998-2007 حيث تصل فيه سرعة البروتونات إلى سرعة الضوء تقريبا.. ويعتبر مصادم الهدرونات الكبير هو أقوى مسرِّع للجسيمات في العالم.وهو مجمع ضخم من المغناطيسات الحلقية العملاقة والأجهزة الإلكترونية المعقدة والحاسبات وتكلف إنشاؤه عشرة مليارات دولار.. ويصل عمره الإفتراضي إلى عشرين عاما. حيث يتم في هذا المصادم دراسة وتحليل نتائج التجارب التى أجريت بالمختبر لتحديد هويّة البوزون، بطريقة أكثر وضوحا، فى ظروف تماثل على مستوى مصغر، للحظة الزمنية للانفجار العظيم وبعدها، والتي يُعتقد أن بوزونات هيغز تكونت عندها. وهى أضخم تجربة علمية في العالم باستخدام مصادم الهدرونات  تحاول محاكاة الانفجار الكبير، العملية التي يعتقد العلماء أنها أدت إلى خلق الكون.. تجربة قامت على إحداث تصادم بين حزمتي جسيمات من البروتونات تسيران في إتجاهين متقابلين في مسار بيضاوي داخل نفق طول محيطه سبعة وعشرين كيلومترا في مصادم الهدرونات الكبير.. وبكم طاقة يصل الى ثلاثة ونصف تريليون إلكترون فولت في الإتجاه الواحد لمحاكاة الظروف التي أعقبت الانفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون منذ حوالى أربعة عشرة مليار عام. وبغية العثور على ذلك الجسيم بفضل الطاقة الهائلة المحررة في المصادم ومن جراء عملية التصادم أمل الفيزيائيون إظهار هذا البوزون الغامض المراوغ وطبيعته ورصده عمليا والعمل على محاصرته. وكان العالم الفيزيائى "بيتر هيغز Peter Higgs " قد تنبأ عام 1964 بوجوده في إطار النموذج الفيزيائي القياسي الذي يفترض أن القوى الأساسية انفصلت عند الانفجار العظيم The Big Bang .. فقوة الجاذبية هي أول ما انفصل ثم تبعتها بقية القوى.. بينما كانت كتلة بعض الجسيمات صفرا مثل الفوتونات..، أما بقية الجسيمات الأولية مثل (الإلكترونات والكواركات) فكان لها كتلة . ووفقا لهذه النظرية يُعتقد أن البوزون هو المسؤول عن اكتساب الجسيمات الأولية لكتلتها من خلال ما يعرف بمجال "هيغز" الذي ظهر بعد الانفجار العظيم حيث تشكلت الذرات ثم الجزيئات ثم المادة برمتها كما نعرفها اليوم واقترح بيتر هيغز فكرة تقول أن الفراغ الكونى ـ الذي هو ليس فارغ حقا ـ غارق في حقل أو مجال موجود في كل مكان وتوقع أن العلماء سوف يتوصلون آجلا أم عاجلا لاكتشاف هذه البوزونات.. فهيغز هو المكون الأخير والحاسم من النموذج القياسي لسير عمل الكون في الجسيمات.. ببساطة إثبات وجود جسيم أو بوزون هيغز يعني أن كل آلية إكتساب الجسيمات لكتلتها التى بيّنها العلماء أصبحت صحيحة، فمن المحتمل أن يكون بوزون هيغز هو الذي يعتقد أنه السبب في تفسير كتلة الجسيمات الأولية.  
ويرى خبراء الفيزياء وعلماؤها أن نتائج البحث عن بوزون هيغز في غاية الأهمية لإستكشاف خلق الكون، لأن هذا الجسيم الأولي يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها..والجسيمات التي يعتقد أنها السبب الرئيسي والأنقاض، التي تشكلت بعد الإنفجار الكبير والتى تحولت إلى النجوم والكواكب فهذا الجسيم هو المكون الأخير والحاسم من النموذج القياسي لسير عمل الكون في الجسيمات.
 وعلى هذا يعتبر إكتشاف هذا الجسيم الذى ثبت أخيرا وجوده من أعظم الاكتشافات العلمية فى التاريخ، فى مفترق طرق مرحلة جديدة لمشاهدة هذا الجُسَيم الجديد حتى يتبين الطريق الذي يجب على العلماء تتبعه في المستقبل لفهم ما يشاهدونه  من معطيات نحو فهم الطبيعة أمام جهل الإنسان وهم يعتقدون الآن أنهم أقرب إلى هذا الهدف.. مما يفتح الآفاق لدراسات معمّقة لرفع النّقاب عن أسرار أخرى للعالم فى هذا الكون الذى لم يخلق بمحض الصدفة.  فى الوقت الذى برز فيه التساؤل عما إذا كان سوف يستغل هذا الجسيم الغريب يوما ما في تصميم أسلحة جديدة للتدمير الشامل، أم على العكس سوف يجلب للبشرية معرفة معمقة تساعد على إنقاذ العالم من مشكلاتها ومآسيها؟.. ولا شك أن الأبحاث الخاصة بفيزياء الجسيمات لن تتوقف عند بوزون هيغز، فثمة مسائل أخرى لا تزال عالقة كمسألة عدم التناسق أو التناظر بين المادة والمادة المضادة، فضلا عن أن العلماء يبحثون عن جسيمات أخرى مثل الجرافيتون المسؤول عن الجاذبية ويعتبر وجوده حتى الآن افتراضيا مثلما كان بوزون هيغز. وإيجاد هذا الجسيم لا يقل أهمية عن بوزون هيغز، بل يمكن أن يكون أكثر أهمية وإثارة لأنه سيساهم في التأكيد على نظرية الجاذبية الكمومية وخطوة نحو توحيد القوى الأربع الأساسية في الكون وهو حلم يتطلع علماء الفيزياء الفلكية إلى بلوغه لعلهم يعرفون ما حدث لحظة الانفجار العظيم. وهذا يعني أن النموذج الفيزيائي القياسي الحالى لا يمثل النظرية النهائية بل لا يفسر إلا الجزء المرئي البسيط من الكون فى ظل وجوب العودة قليلا للغوص في عالم جسيمات آينشتين Einstein والعالم الكوانتي أو الكمومي بغية إدراك حقيقة وأهمية مثل هذا البوزون. . وربما هذا هو السبب المباشر نحو السعى لنظرية علمية تفسر كل شئ Theory of Everything وهذا موضوع آخر بعيدا عن عالم ما زال ينظر تحت قدميه، لا يتخطى موضعها.. فكوكب الأرض وما يحدث فيها وعليها ببحارها وفيافيها ومحيطاتها وجبالها وأوديتها وسهولها وأناسيها ومخلوقاتها ودوابها.. كل ذلك فى ميزان الكون العظيم وخلق الله لاشئ.. فسبحان الذى أحاط بكل شئ علما.. يخلق ما لا نعلم .. القادر على كل شئ.. أقسم بما نبصر وما لانبصر وبمواقع النجوم.. سبحان الخلاق البديع.. فاطر السموات والأرض وما بينهما.. وسع كل شئ علما..
----------------------------------------------