سرماديا

سرماديا

النص بين الوصف والسرد**






في النّصّ
 1 - تجليات الوصف
---- خالد العرفي

من الإشكاليات التى تواجه الأديب، الكيفية التى يتم بها التجسيد للأشياء، لتقفز فى العقل، بعد أن تمر على العين، أو بمعنى آخر، ما يسمى بالوصف. 
وللوصف مهمة جمالية، قد تظهر للقارئ، فى نص طويل، كلوحات أدبية وجمالية مستقلة، لا يتعثر فيها.. شئ أشبه بأشكال من السحاب، ينثره الأديب، تحت ضوء الشمس، عن وعى وإدراك، يرصّع به نصه، ويزخرفه بنجوم لامعة.. وقد تأتى المقاطع الوصفية، فى أحيان أخر، عن لا إدراك، من اللاوعى ليؤدى الوصف مهمته، فى النص، مرتبطا بعنصر، على قدر كبير من الأهمية، من عناصر بناء نص، مثل الرواية، تقوم عليه، .. وهو عامل المكان، الذى بدونه لا يوجد شئ. ولا يستطيع الأديب تقديم شئ قط. وبلا ريب، فإن الكلمات التى يتم إختيارها، وإنتقائها، لها أهميتها، فى قيام عملية الوصف بهذه الوظيفة الكبيرة والهامة، فى العمل الأدبى. فالوصف أن ترسم بالقلم، مساحة الحكى الكلية، متضمنا تفاصيل مساحات صغرى فيه، ليحدّ بها المبدع، أثناء السرد، الحيز والفراغ، الذى يتم إختياره. وعلى ذلك يشكل الوصف، أبعاد العالم المادى، والوجود الحسي للنص. يخلق المكان.. بل، كل أمكنة النص، التى تشكل الفضاء الأدبى، فى مجموعها، ويعوّل عليها التمكن من رسم خلفية الأحداث والأفعال، التي تقع فى فضاء النص. والعبرة فى الوصف، ليس بإلتماس الدقة، فى بيان التفاصيل، بكل جزئية، أو تحري الإسهاب المطلق فيها، حد الإستغراق، إلى آخر تلك التفاصيل المسهبة، فى وصف صورة الحياة، وتسجيل مظاهرها ..إنما براعة الأديب، فى قيامه بوظيفة الوصف الرئيسية في نصه، وهي خلق الإيهام المؤثر والمستمر فى ذهن القارئ.. إقناعه بحقيقة أن ما يقرأه، قد حدث فعلا يوما ما، أو فى لحظة ما، فى زمن النص. ويحيله إلى زمن آخر حقيقى. والآلية هنا، أو الطريقة المثلى، التى يجب ألا تغيب عن الأديب، هى ذكر تفاصيل، تساعد على أن تُوهم، أن هذا ليس بخيال، إنما حقيقة، حقا.. بكل تفاصيل وملامح يمكن أن ترد، من وصف، مما يكفل التصديق، والتسليم بأن هذا وجود حقيقي، وعالم من الواقع. ليس أبدا خيالا، من صنيعة الأديب. أن تخلق بطلك تعطيه الحياة، لتدبّ فى أوصاله، فيشعر بها، ويراها، ويلمسها القارئ، بلحمها ودمها.. ماثلة أمام عينيه.. بإختصار، خلق المكان خلقا، لتضع فيه الشخصية وتنقلها، وتتحرك بها. وكلما دّقت التفاصيل المتصلة بالموقف، أو الشخص كان هناك من السرعة إلى تصديقها، كحقيقة. ويساعد الوصف الأديب على إظهار طبيعة حياة الشخصيات، والمستوى الإجتماعي. كما يشير إلى وضع كل شخصية، وما تحويه من حالة مزاجية وطباع، إذ ندرك بشكل غير مباشر، من وصف مظاهر معينة محيطة، ملامح تلك الشخصية وصفاتها. كما نلمس، كذلك، الجو المحيط، بهذه الشخصيات والذى يوحي به الوصف، سواء مباشرة، أو من خلال ظلال الكلمات..

النص
2 - بين الوصف والسرد
---- خالد العرفي
إن الإهتمام بفهم عمليتى الوصف والسرد وتسليط الضوء على الفرق بينهما، تمييزا واضحا لكل منهما، هو أمر هام، بصورة بالغة. بوصفهما أساسان من الأسس اللازمة، فى بناء النص. وهو حقل معرفة، ضرورى، ويتعدى هذا الجانب، للنهوض بموهبة الأديب الحقيقية، وصقلها.. وإلا أصبح الأمر عديم الجدوى، ودونما ضرورة. ومن هذه الخلفية، لا يمكن أن نفهم، أو نحلل النصوص التى نقرأها، أو يتاح لنا تفسيرها، وتحديد إلى أين تذهب بنا، دون هذه المعرفة. وهو جانب يغطى مدى واسعا، يعبر بنا، إلى تملك فهم الإبداع، وكيف يتم، وكيف نقيّمه. علاوة عن معرفة الكيفية، التى نجد بها لذة فى النص، وكيف نغتبط به. ولعل النظر إلى السرد، والأفكار الأساسية المتعلقة به، يعد أهم منطقة، فى النقد الأدبى، وليس فقط فى فهم عملية الإبداع. وبإيجاز، ففى الوقت الراهن، فإن من لم يحظ بمعرفة، أو قراءة ودراسة مفصلة للسرد، ومظاهره، والذى يشكل جوهر الأمر، وما يسمى بالأسلوبية، وتحليل الخطاب والنص، وغير ذلك من أمور تتعلق بهذا الجانب..، لا يمكنه أن يتقدم إلى الأمام. سواء مبدعا أو قارئا.. ويكفى ذكر، أن الدراسات الأدبية والنقدية، باتت تغير منظورها، من دراسة الرواية إلى السرد. بل توسع مفهوم المسرود النثرى والسرد، إلى أبعد من الرواية كنوع وشكل أدبى رئيسى، ليشمل التاريخ، والسيرة والسيرة الذاتية.. سواء أكانت البنية السردية، من حيث الموضوع والمحتوى، واقعية أو تخييلية.. مع الإهتمام بوجهة نظر السارد، ومن حيث سيطرته على ما يرويه، وكيفية وضع رؤيته الخاصة، فى الإطار المكانى والزمانى. وبداية، فالأديب، يتراوح فى نصه بين أمرين. الأول يتسم بالسكون، وهو الوصف.. وهو يشكل النقاط التى يتم التوقف فيها عن سرد الأحداث. أشبه بإلتقاط لقطة "فوتوغرافية" .. وهنا لا يتحرك النص، داخل هذه النقطة الثابتة. وعلى ذلك، يمثل الوصف الفترات، التى يتوقف فيها الزمن، داخل النص. وهي معضلة تواجه الأديب، إن لم يحسب لها حسبانا، فى كتابة يستغرق فيها. وعليه أن يخطط بوعى، إذ يضطر لإيقاف سرده للأحداث، ليصف أمرا ما، لا يتحرك.. مكانا ما، أو شخصية ما، أو موقفا ما، أو حالة نفسية محددة..، وما شابه ذلك، من أمور يتناولها في نصه، واصفا صورة ساكنة، غير ذات زمن، ولا حركة فيها. وفى مقابل الوصف، يأتى السرد، الذى يمثل الحركة الفعلية، وسريان الزمن. وهو شطر على جانب كبير من الأهمية، أيضا، فالأديب هنا، هو الواصف / السارد. وهنا يقع  بين نصه، وبين القارئ. وتعتبر خطوة متقدمة، تلك، التى يُنتهج فيها، طريقة الوصف السردي، حينما يصف صورة ما، ممتزجة أو مقرونة بحركة متحركة، وحية. أى وصف صورة سردية، لها زمن. ومن هذا القبيل، وصف الأفعال والحركة ..وعلى أية حال، فإن أى إستقصاء، أو إسهاب في عملية الوصف والشرح، مع العمد إلى وصف الأشياء، بإيراد، كل تفصيل متاح ومتوفر عنها، من صفات، أو عناصر، أو كل ما يتعلق بموقف، في الزمان والمكان، لنقلها إلى العين، بالقراءة مباشرة، .. هى عملية، تميل بالأديب، إلى المذهب الواقعي، بإعتباره تقليدا أدبيا للحياة، وتمثيلا أدبيا لها..

فى النص

3 - رونق الكلام

------ خالد العرفي
نجدهما - الوصف والسرد - يزيدان الأمر قوة، وإظهارا ووضوحا. وذلك، عن طريق علاقة ضمنية قوية، وبأدوات صريحة، تتعلق بعلاقات دلالية، غير منظورة. ومن هنا يكون هذا النص، قادرا على تضمين الهدف والقصد، وحمل معنى يسعى إلى تحقيقه، ويريد منشئ النص نقله، للقارئ أو المتلق، عنه، لتصديق ما أورده، في النص. والأديب الحاذق بصنعته، لا يتكلف، بما لا يقدر عليه، حتى لا يختل المعنى، فيكون النص رديئا وركيكا، .. ضعيفا، غير رصين... إنما يعمل على جعل النص متماسكا، كوحدة واحدة، جيدا سبكه، فى رونق وجوهر، من الكلام، في بيان رائع مدهش، ومؤثر فى النفس والروح. أى، جعل أجزاء الكلام، يأخذ بعضها بأعناق بعض، سواء فى ترتيب الألفاظ، والمعانى، والربط فيما بينها، بعضها البعض. وذاك، عن طريق رباط قوى في النص،  كالمناسبة.. أو رابط عام أو خاص، سواء كان عقليا، أو ماديا حسيا، أو خياليا،.. أو غير ذلك من أنواع الروابط والعلاقات، مما يكشف عنه التلازم الذهني كالسببية، وغيرها. بأن يلى القلم منك، وجها، يأخذ طريقه إلى الكلمات. والكلمات والمبانى فى اللغة، لم توضع إلا لمعان. والمعانى لاتنهض إلا بالنفس. فلا تكفر كلاهما: الكلمات والمعانى.. ذاك أبلغ أثرا فى النفس، ويملأها روعة، لم تكن ترتقبها.. ولا تجد سبيلا إلى مزيد موفور، لتروى ظمأك، إلا تأويلا بعد تأويل. ولست بنائل، من هذا شئ، حتى تصبر على ما تكره. فالأعمال العظيمة، أعمال تملأ العقول والقلوب قبل الأسفار.. ليست تلك التى يدركها الفناء، ولا شيئا من هذه الآثار، التى تبلى. وفى النهاية، يستطيع أن يرى المتلق أو القارئ، فى النص، وفى بنائه المتكامل، كل ما فيه من جمال.. وكلام ربّ العالمين، جل شأنه وتبارك اسمه،.. ، القرآن المجيد، خير معلم فى هذا..







فى
 الأثر البديع للشّعر
--- خالد العرفي
يحملك  الشّعر، إلى عوالم أخرى نائية، لا جهات فيها، ولا أماكن.. لا بوصلة تهدى فيها، إلا الإحساس والشعور والتجربة الذاتية.. والشّعر نوع من ألوان الإبداع الأدبى.. له من الأثر ما لا يُنكره كل متذوق للأدب.. نقرأه بإلاحساس المرهف والتذوق العالى للغة، خاصة لو حمل من معان كلية ومضمون من حبكة على شاكلة ما تحمله القصة القصيرة أو الرواية عموما.. فى الشعر تخترق فتيّا، برودة الفراغ بمسافاته الهائلة، وتلمس ضوء القمر فى لمسة حبّ، وحرارة الشمس فى زفرة شوق، وسطوع الكواكب على المعانى مع كل ذكرى.. تكلم القمر كصديق وترى طفولته.. تصادق الشعرى والثريّا، فى ليلة سمر، أو أمسية صيف.. ترى الحلم يمضي وحيدا فى ساعة الفراق.. وكيف يصبح النهار غريبا وقد إختطفه الحنين من الفصول.. كيف ضاع وقد كان مثل عطر الكتاب القديم.. كيف يُفزع خريف الغربة وحدة، لا تأنس إلا بالشوق، وظلال الأيام مختفية فى ضباب ينظر نحوك.. لا يبقى شيء إلا صمت يصافح إلا لحظات انتظار، تتسائل متى وأين اللقاء وسط هذا الزحام.. تحتضن نسائم الأمل وتكون بلا طيف.. ورغم ذلك تذوب فى سنا شعاع ضوء ينطلق بك أسرع من سرعة الضوء..
فى النهاية، ما يسمى رحلة الأفئدة.. تشعر بمصير محتوم.. ومسير لم يعن له الراحة أبدا.. ومن مثل هذه التأثيرات المتجددة والتى يحدثها فى النفس، ما تراه فى لحظات الشّعر حيث تجد فى الفؤاد سراج صاعقة، أو نعومة زهرة.. شمسا يغازلها النهار.. أو تراها بشارة، وأنت فى حزن بعيد،.. نسائم  بحر، تجرى فى قلب غريب.. أسئلة فى غموض معان وعجبها، كما فى أحجية الأحلام ورموزها، وتأويلات إغتراب النفوس وألغازها.. هجرة.. غربة.. دهشة، بين ضفاف فيروزية، لا تراها إلا أرواح صافية.. لا يقف على معانيها وتفسيراتها إلا واعٍٍٍٍٍٍ لأسرار اللغة ودواخلها، وعارف بإنحيازاتها.. تجد ما هو ضائع من أحاديث وأساطير.. تتسائل عن أشياء تمسّ الروح بمثل ما تثيره الألوان وظلالها تماما.. كل شئ ينطق.. كل شئ يتكلم، بتلك اللغة الساحرة.. كأثر الطبيعة وفصولها فى النفس.. تسمع مالم تسمع من قبل، من أصوات الرحيل والوداع.. وبكاء الأرض والسماء.. لشجار الشمس مع الغروب، تصغى.. ولهمس الفصول، تنصت.. وربما تلمس ضوء القمر.. وترى النسيان والمستحيل..وتكلم البُرهات واللحظات والسنين.. تراها كيف تتبدّد أمامك، فى الوجود.. تسمع أنين الفراشات، وتراها هزيلة في فصل جفاف طويل، لا ينتهى.. وترى الربيع يسترق السمع للبلابل.. وكيف يختلس النظر إلى الزهر.. وكيف يراود الشتاء سحابة، عن حبّة مطر.. تعاصر مع الشّعراء صبّابة نجم ينفض الغبار عن العمر.. تدرك كيف تزفر الذاكرة أنفاسها أسفل جدار حزن.. وكيف يودع ليلُ باكٍ نجمة الشمال،.. لهذا السبب فإننا نمضي حتى أقصى حدود الأرض، حتى نرى لقاء السماء بالبحر.. كل ذلك يرحل بك، إلى عالم غريب.. أية مشاعر تلك التى تنتاب الشّعراء..!
أية مسافات تلك التى يقطعونها..!
إنه نوع عجيب من دروب الجنون، لا يقدر بثمن.. معانى تساوى فى مقياس الزمن دهورا، وتتجاوز الإدراك.. فالقصيدة لوحة يرسمها الشّاعر بإحساسه.. ألوانه مشاعره وأحاسيسه.. مرايا لرغبات إنسانية  تـتعاقب في دائرة حية بالمعانى، وإنها حقا كذلك.. ليست مجرد أفكار جامحة في الذهن، عابرة لسور وراء سور.. وجدارا خلف جدار.. سرعان ما تبدأ في تمزيق وثاق كل منطق وكل محال.. إلى هذا الحد يمكنك أن تـتابع تأملاتك، وأنت مسافر من نهر إلى نهر بلا ضفاف، حتى تصل إلى بحر، بلا جهات.. ولا ترى أرضا تعرفها من قبل،.. ومع ذلك، لا تستطيع أن تبقي على نفسك طويلا، في نفس المسار.. ومن شرق، إلى شرق آخر غريب.. وأنت باحث عن السماء، كما تعرفها لكنك لا تجدها إلا سماءً أخرى لا كما عهدتها.. وإلى هنا، لا تجد إلا المجازفة فى تفسير المعنى، على إتساع المعانى وعدم محدوديتها.. هادئة حينا.. صاخبة حينا آخر.. شئ مثل أسطورة فريدة، في غموضها.. مسافات شاسعة، لا يدرك لها نهاية.. وكأنك تقف في نهاية طريق جانبي، لا تعرف كيف يؤدى إلى قلب مدينة عامرة.. يهمس لك تارة.. ويصرخ فيك تارة أخرى ضجرا، بين حشد من المعانى، تراها أكثر توهجا.. ولا أحد يستطيع شق طريقه دون طيّ معانى الشّعر.. ولا فائدة ترجى من غير تلك المشاعر، التى يبدع فيها الشّعراء.. وبهذه المسائل نتذوق الشّعر.. نفهمه ويؤثر فينا..
وعن مثل هذه الأفكار، دوما يكون الشّعر الخصب والخيال، الذى يوافق الروح.. ندرك، أن الأمر لم يكن إلا كذلك.. ونمسك بما يثيره هذا الخيال، فى النفس من أحاسيس وإرهاصات.. يثير فينا الرغبة في تـقـصّي الحقيقة، وجوهر ما يغرسه في الأذهان.. مثل ضياء قناديل شاهقة، فى رحابات سموات بعيدة.. لا ترى نورها إلا أفئدة وألباب.. وربما يأخذك معنى آخر، إلى ما يخفق بك فوق ذرى عالية، ورؤى معلقة.. أو بك يهوى، إلى غربة سحيقة.. تشعر بعجز، دون أن ترى كيف تتسلل المعانى لخفايا الأرواح، حتى تتمكن من كل خلجات نفسك وحناياها.. تكاد تستنطق عقلك ليدرك، ويؤوّل.. معان يقرأها الإحساس والوجدان والبصيرة، لا جارحة العين.. إستبصارا لمعنى وحالة شعورية.. وصور تعكسها تلك المعانى.. هنا يكون سحر البيان وأثره فى النفس.. لذلك، تجد الشّعراء يتكلمون دائما بالإحساس.. عن تجربة ذاتية.. تقول بعدما تقرأ أفضل طريق للجنون الحبّ.. وأفضل سبيل ألاّ يكون الشّاعر شاعرا، ألاّ يحبّ.. لكن الشّعراء يحبون.. يفنون.. ولذة الشّعر أنك تجدهم يلونون الحياة، فى قصيدة.. للبائسين.. للفقراء.. لكيلا يموت العالم.. لئلا تلتهمهم وحشية حياة، وألم واقع مرير.. الشّعر حقا جنون.. وهذه روعته.. ودهشته فى النفس،.. وحياته.. لذته، التى تجدها الأرواح فقط..  
فى
 الكتابة والتلقى




--- خالد العرفي
تفكر فى مثل تلك الأمور التى تستفز الكاتب، تناديه ليكتب، وهى بالفعل تجعله كذلك.. وتتسائل.. فيما يجعلك تستغرق فى نصّ ما، تقرأه.. أهو حرفية الكاتب، أم التعلق به، فيما قرأت له من قبل.. أم أفكار تناسب ما تحب القراءة فيه.. أم اللغة.. أم الأسلوب ؟!
ومن هنا تجد معاناة الكاتب وأفكاره.. أنت تقرأ مثلا لجوزيف كونراد، أو صمويل بيكيت، أو ألبرتو مورافيا، أو هيرمان هسّه، أو فرانز كافكا..، وغيرهم، على إختلاف مدارسهم الأدبية، والزمن الذى ينتمون له.. فتجد تلك الأرواح المبدعة التى إنصّهرت فى الأفكار، وبالتالى النصّوص.. وحينما تستوعب تجربة كل منهم، تشتهى الكتابة كما تذوقوها.. رحلوا وبقى ما أبدعوه.. بل تتمنى لو لم تكن قد كتبت شيئا قبل ذلك، حتى تصل إلى هذا الإحساس العظيم.. وحتى تكون أنت نفسك.. وليس الأمر مقتصرا على الأدب من رواية أو قصة قصيرة وغير ذلك.. يجذبنى إليها ما أشرت إليه من قبل، مطلقا عليه "الدراما الخفية".. وكيف نجد لذة ومتعة القراءة، عبر ما تحمله اللغة من أفكار ومعان ومضامين.. ورغم أنى كرست وقتا غير قليل، ذى قبل، بل أمضيت فترة طويلة وزمنا لا بأس به،  فى محاولة إدراك ماهية الكتابة، ووضعت عدة مقالات فى هذا الشأن من كتاب فى ماهية الكتابة والإبداع.. إلا أننى لم أستطع إلى الآن الجزم بشئ حيال فهمى لكثير من الأمور،.. تتعلق بكيف ولماذا ولمن نكتب.. حتى يصبح النصّ حقيقة قائمة أمام ناظريك.. فمنذ البداية تظل هناك نقطة وحيدة لا تستطيع لها تفسيرا، إلى أن تقودك الصدفة وحدها لتعرف مصدر السّرور أو مبعث الألم ومنبعه، فيما تقرأ من نصّوص.. الكتابة عموما دائرة واسعة، لا تخلو من أن نرى فيها نصّا قد بدأ سريعا وإنتهى سريعا، لكنه بلا أثر.. وآخر قد يستغرق وقتا طويلا، لكنه يترك أثرا عميقا.. غائرا وكبيرا.. يكاد لا ينتهى ويستمر حتى بعد حياة كاتبه، وأنت وراءه ساعيا بكل جهدك لتكتبه.. تواصل خطوة إثر خطوة لتكوين رؤية معينة.. ترى نفسك متعثرا هنا وهناك، قبل أن تصل إلى هذا العمق.. وهكذا، لا يفرغ الأمر من إنطفاء جذوة للفكر، حتى تتقد أخرى من جديد، حول فكرة ما غامضة، لا تراها إلا فى فكرك وحدك.. وتتجاوز مسألة غموضها وتكتشف بصورة أساسية، أن الأمر ما عاد يتعلق بأسلوب أو بلغة، يمكنك الإختيار من بين طرقهما المختلفة، بقدر ما يتصل الموضوع بفكرة ما تستولى عليك وتأسرك تحت رحاها، فيما يعرف بالكتابة الذهنية المحضّة.. وهى تلك التى يضع فيها المبدع روحه وإحساسه، قبلما تطبق عليه بين تفاصيلها، تودى بك حتما إلى مداد القلم.. أمر لا يتم فقط فى شعاب العقل، بين الوعى واللاوعى، ولكنه يتصل بتلك الموهبة الحقيقية التى تنطلق بك لتكتب وتكتب.. ثم تلقى نفسك وأنت تكتب رغما عنك،.. لينطلق ما كتبته بالقارئ فهما وتأويلا وإحساسا كبيرا.. لكنها لحظات نادرة فعلا، وحالة فريدة للكاتب، ولطالما يبحث عنها، قبل أن تجده ويجدها.. على هذا النحو أصبحت ميّالا لهذا النوع من التأمل.. وأتوقف كثيرا فى تقليب الأمور، فى ذهنى.. ومع الوقت تعيد النظر فى كثير مما كنت قد شرعت فيه، قبل ذلك.. وحتى فى صيرورة القراءة الدائمة، تمسي وأنت تحاول الإنتقاء أكثر، لتقرأ بهذا العمق التحليلى وتغوص لتلتقط أفكار النصّ المحورية.. تصل إلى دلالاتها ومعانيها.. وتتحقق من المضمر، وما توارى خلف المعانى، التى تتوارد إلى الذهن، مع الإنطباع الأوّلى، وفى الوهلة الأولى.. بعيدا، عن دائرة الفهم الضيقة أو السطحية فى إدراك لغة الكاتب أو الأديب، ومستوى أسلوبه.. الأمر يجعلك تعيد قراءة كثير من النصّوص كنت قد قرأتها من قبل، وتنخرط بنوع من الحماسة الجديدة، لتكوين وجهة نظر معينة، حول ما لم يصرح به الكاتب، وبعيدا عن أى تخمين أو توقع لك.. لهذا أعتبر نفسي، من هذا النوع الذى يحبّ قراءة أعمال كل أديب أو مبدع كاملة.. أتقصى نضجه الفكرى.. ولنفس السبب، يدهشنى أدب السيرة الذاتية.. وهذا من روعة الأدب ومتعة تلقى النصّوص بهذا الإحساس والتأمل.. وعلى هذا فإيجاد ما يمكن أن يشكل معرفة وفهما نحو الكيفية التى تتم بها الكتابة أمر هام وضروى لتحقيق النماء والنضج أكثر.. فى النهاية معرفة ماذا يقول النصّ، ومحاولة لتقييم الأدب والأديب.. بل وإعتبار الأمر مفتاحا لفهم جوهر الأدب نفسه، ربما نقف على فهم وعلى نحو شامل، لكن ليس بالضرورة يكون جوهريا بما يرضي بسعادة غامرة تبدد كل توتر وقلق.... وعامة فمثل هذه التطورات تشكل جزءا من تاريخ وتطور أى كاتب.. تقدم صورة أكثر وضوحا عنه، وتجربته التى ينقلها للغير.. ولا أحد يصبح راضيا عن نفسه لطالما وقع فى هذه الدائرة، ولم يعرف كيف يخرج من حلقاتها المتتابعة إلا بإبداع جديد،.. ونصّ، له تأويل بعد تأويل.. وهى متعة ولذة الكتابة، وبالتأكيد القراءة أيضا..
وفى مجال القصّ والسرد.. فإن الفكرة كائن حىّ تعطيه أنت من روحك تلك الكينونة، بل وإستمرارية الحياة بعد أن تكتب النصّ.. والسؤال: كيف تبدأ القصة.. أبواقع مجتمع.. أبمكان.. أبزمان.. أبشخصية.. أبحدث أو واقعة معينة...؟!
وليس المقصود بداية النصّ وكيف يشرع الكاتب فيه.. لكن كيف تأتى الفكرة الأساسية.. كيف يبدأ مضمونه فى التبلور والتشكل.. كيف تتسلسل التفاصيل، على نحو ما فى الذهن، قبل أن تتشكل فى النصّ؟!
فأحيانا تشاهد أمرا ما، فتنعكس آثاره على مخيلتك وعقلك.. وأحيانا، تقرأ خبرا ما.. وأحيانا، يكون الأمر إلى خبرتك فى الحياة وما صادفت من أمور.. وأحيانا، تقابل شخصا ما ويترك إنطباعا.. فتأتيك الفكرة ،.. وهكذا، فمصادر الأفكار متشعبة وروافدها كثيرة.. ولكن ما يقرّ فى الذهن فقط منها، ليس فقط مايؤثر على عاطفتك ويلهمك، لكن ما يقول فى النهاية أمرا ما، وشيئا ما.. ومن النادر تحقيق أي شئ، قبل أن تتأمله وتفكر به، وليس الأمر عملية آلية نمطية.. فقد تصبح الفكرة رد فعل ضد الواقع، ورمزا.. تشكل أنت من خلالها واقعا موازيا، موطنه الأساسى فى الخيال.. ورغم تعدد روافد الأفكار وكثرتها، على هذا النحو، قد تجد نفسك فى غالب الأمر، عاجزا عن كتابة نصّ واحد.. وهذه إشكالية تتجدد، إذن الأمر لا يتعلق بالفكرة فقط، إنما يتعلق بشخص وجوهر الأديب وعملية الإبداع.. كينونة الكتابة نفسها، وإلا كان كل يوم قصة وإثنتين وثلاث، أو عدة نصّوص، وعشرات الكتّاب والأدباء.. إن تعلق الإبداع بنفسية الكاتب أمر لا شك فيه.. ورضاه عن نفسه فيما يكتب أمر لا يحدث كثيرا.. ومن يقف على هذه الكيفية والطريقة التى تتم بها عملية الكتابة الذهنية، أولا فى العقل قبل أن تعرف طريقها إلى القلم، يصل إلى سرّ كبير، ويستطيع أن يحل لغزا مستغلقا.. وربما هذا هو الدافع الأول فيمن كتبوا عن عملية الإبداع.. بل والسبب الرئيسى لقلة من الأدباء والكتاب، كتبوا عن إبداعهم من خلال سيرهم الذاتية،.. كيف كتبوا ولماذا كتبوا.. بإختصار ما هى الكتابة وكيف تتم.. وبهذه النتيجة، ليس كل من يكتب كاتبا، وليس كل من وضع نصّا أديبا.. نتيجة حتمية قائمة على التفكر والتأمل.. النصّ الذى يترك الأثر العميق والقوى على نفس القارئ وروحه فقط، هو المؤشر والمعيار.. ولا تصبح اللغة مجرد وسيلة ووعاء حامل، أو ما يؤدى إلى تحقيق ذلك، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالقصّ سردا ووصفا (راجع مقال النصّ بين الوصف والسرد).. كما عليك أن تواجه إشكالية أخرى تتعلق بالأسلوب والمستويات اللغوية المختلفة، مما يجرى فى سياقات النصّ المختلفة.. إضافة إلى سياقات تركيب الجمل، وظاهرة العدول اللفظى، ومناحى الروى ومن يروى، وغير ذلك.. مما يصدمك بالدهشة، وبما لا تظن وجوده فى النصّ من معنى ومضمون، وهو موجود فعلا متوار.. تلك المفارقات الغريبة التى تتراكب كلها، لتؤدى الى تشكيل نصّ مؤثر وقوى، يحكى ماحدث.. فى النهاية، ما يؤدى إلى تشكيل أعماق الكاتب وبنيته، فى جوهره الصافى..

السرد الأدبى والدراما الخفية


--- خالد العرفي
من أنواع السرد الأدبية أدب السيرة الذاتية وحتى الكتب التى يتم فيها جمع إنتاج كاتب من مقالات وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى مثل الشعر والرواية والقصة القصيرة وغير ذلك.. ويأخذك الكاتب حتما إلى عالمه هو.. وربما وجدت نفسك وربما لم تجد.. ومهما كان ما تقرأ حسب ميولك وحالتك النفسية فلكل كتاب رونق ولذة مختلفة.. وتجد نفسك مشدودا لكتاب ما ولا تملك إلا أن تكمل قراءته غير صابر عن التوقف عند مرحلة معينة.. والسؤال هنا لم يجعلنا كتاب ما فى هذه الدائرة التى نعدو فيها لنعرف ماذا يقول أو يقدم.. الأمر لا يتعلق بمجرد المعرفة التى يمنحها لنا أو يضيفها لمداركنا، إنما يتعدّى هذا.. ومن يتأمل الأسباب الكامنة وراء هذا الدوافع الخفية التى تستثيرنا بل وتشدّنا بكل قوة، وتجعلنا مرتهنين حتى تنتهى قرائتنا، يجد فى المقام الأول هذه الدراما الخفية أو الحبكة التى بنى عليها العمل الأدبى فى تفاصيله ومجموعه.. تجعلنا نتسائل وماذا بعد؟ ماذ سنجد؟ ماذا سوف نعرف.. وتحديدا ماذا حدث..؟! وكيف كان؟!
ولا شك أن اللغة تحمل كثيرا من أساليب الحكي التى تتداخل مستوياتها بين ما هو واقعى وما هو متخيل ذهنى، داخل عملية السرد نفسها.. ومن هنا دلائل قدرة المبدع على حبك ما يسرده وسبك ما يتضمنه النصّ من أفكار.. إضافة إلى صنع الجمال الذى لابد أن يظهر فى عناصر النصّ الأدبى، وبصفة خاصة النصوص الروائية. وهى الأمور التى تأتى كمؤشرات وإضاءات تنير العمل الروائى. وفى محاولات الإقتراب من فهم النصّ المسرود وفي تحديد الجماليات التى تعطينا لذة القراءة، لا يمكن التخلى عن هذه الرؤية. وعلى هذا لا يخلو هذا التحليل من تماس مع إمكانية تبيّن الكثير من الحدود التى تفصل بين أنواع السرد الأدبية المختلفة.
وبداية يمكن القول أن السرد ذاته، لا يخلو بصفة عامة من روى وحكي للراوى، الأمر الذى يعتمد فيه أساسا على اللغة ورحابتها الواسعة حينما يستخدمها الراوى أو السارد فى عملية الحكى.. ونحن حين نقرأ ليس أمامنا إلا اللغة التى تعتبر فعلا الأداة التى نكتشف بها مسارات السرد وإتجاهاتها وإلى أين تؤدى فى النصّ.. فيكشف النصّ عن نفسه شيئا فشيئا،.. وعلى سبيل المثال حينما نقرأ رواية ما حيث يكون هدفنا الكشف عن مسار السرد بمتابعة الشخوص التى تتحرك ومشاهد الرواية وبنيتها القائمة على عنصرى الزمان والمكان.. فإن كل هذه الأمور تحملها اللغة فقط.. تلك التى يستخدمها الرواى أو السارد.. كما نرى تحولات وتغيرات الراوى نفسه متمثلة فى هذه الشخوص التى يحكى عنها فى سرديته سواء رواية أو قصة.. وأنت حينما تقرأ على هذا النحو، تجد أن مآل شخصيات الرواية وما سوف تستقر إليه فى النصّ عبر دراما تتطور، لا يكون إلا فى يدّ السارد أو الراوى الذى يتحكم فى مواقفها المختلفة فى الرواية، وإنعكاسات وردود أفعالها، وفقا لما يراه ووجه نظره التى وضعها فى كل شخصية تتحرك من خلالها حبكة النصّ المسرود.. ليس تبعا لتوقعات القارئ التى ربما تتوافق أو تتضاد مع ما يقرأ.. وهذه لذة أخرى للقارئ الذى يتابع القراءة وله رؤية تتشكل ويبحث عمّا إذا كانت ستتوافق مع ما سيعثر عليه فى النصّ أم سيفاجئه الراوى بمناحى أخرى ربما لم تخطر على باله.. وفى كثير من الأحيان فإن النصّوص تعيد تشكيل نفسها كلما توغل الكاتب فى عملية الكتابة فربما يعيد كثيرا ويعدّل كثيرا قبل أن يستقر على شئ حتى وإن كان ما كتب قد تم التخطيط له فى مسودات العمل المبدئية.. فهناك هذا التيّار من التأمل الذى لا ينقطع، طالما  توغل الكاتب وكلما إستمر فى عملية الكتابة فى إطار من مقتضيات الجمال الإبداعى الذى ليس له حدود مع المبدع الحقيقى. ويخطئ القارئ لو أحال كل ما يقرأ على ما يعرفه عن الكاتب، وليس صوت الراوى فى النصّ، وهو أمر يرّد إلى إنفصال ذات الراوى أو إن شئت قل إنصهاره فى الذى يروى عنه وما يسرده فى حقيقة الأمر... بإستثناء ما يكون فى روايات السيرة الذاتية التى يرويها أصحابها.. مما يجعلها نوعا أدبيا يقف على خط الإبداع الروائي فى كثير من الجوانب.

سِّحر الكتابة
----- خالد العرفي
 إلا بقدر ضئيل من رغبة، وأمام جموح الحياة، وسيطرة غرورها، وبشكل غير عادى.. أحيانا، لا يكون أمامك إلا مطاردة أفكار أو آراء غامضة، ضد زيف مشاعر وخيالات من أحاسيس، تصدمك بها الحياة. ولا يبقى فى النهاية، إلا حقيقة وحيدة. لا ترى سواها، ولا تهفو إلا إليها دائما، بينك وبين نفسك. وهكذا، فهناك دائما أمر ما. وهكذا يكون الشأن، من حين إلى آخر، وتلك الأفكار الغريبة، التى تظل ماثلة، وعلى نحو غريب. تتردد هنا وهناك، فى العقل. ويظل الفكر والتأمل، بصورة حية صادقة، بحثا عن الحقيقة. سواء أكتبت أو لم تكتب. وغالبا، ما تكون تلك الفترة المشرقة، التى تسطع فيها الحقيقة، فيما نكتب والعقل والذات، فى حالة إنفصال تام، عن الواقع.. تسمع صوتا، لا تعرف مصدره. لا يكاد يتلاشى حتى يظهر. يرتفع من جديد. تطارد معه الفكرة وتطاردك. لا تشعر بمرور وقت، ولا صيرورة زمن. لحظة آنية ممتدة، فى النفس. تنهل منها، فى عالم خيال. هذا هو الإحساس العظيم المسمى بالكتابة. ربما فيما لم ولن يقرأه أحد، إلا بعد أن يستقر فى نفسك.
أما ما يكون، بين دفتى اليوم والنهار، وأنت فى هذه الحالة، فغالب الأمر تحتفظ به، لحاجة فى نفسك. وما يهرب ليقرأ، ما هو إلا شذرات، وربما وضعت صورته الكاملة يوما ما، كما هى بين يدى العقل، وعلى الأوراق. 
وتلك فقط، هى الأوقات المحفوفة، بصداع يموج فى الرأس. فى حين تتسائل:
ماذا فى الأمر؟.. 
أشبه برنين أجراس تدق فى الرأس، تغيب فيها الروح. وفى دقائق قليلة، ما إن تصل إلى تلك الحالة، تجد هذا التوحد والتلاشى، وفى نفس الوقت بين عالمى الخيال والواقع، ويدب الدفء في الأفكار، ممتدا إلى الروح والعقل. عندئذ، ندرك هذا الجانب من سحر الكتابة. ذلك هو الشئ المضئ فى النفس، الذى يتسلل إلى مداد القلم، وإن إختفيت فيه أنت، لتبقى هى. تظهر ملامح وتخفى تعبيرات، لا يمكن رؤيتها. وتشعر أنك بحاجة إلى مزيد ومزيد، من غياب الذات، فى الفكرة بقسط وافر من الجمال، لتقوى وتشتد. لتملأ أماكن شاغرة، فى الروح.. وتقول بعدها: الأمر الآن على ما يرام. 
وليس هناك حاجة، على الإطلاق فى توصيف هذه المسألة، إلا لأنفسنا.. نفهم ونعى وندرك ماذا هناك، على تلك الحافة، بين العقل والجنون.. هل هو الإبداع. هل هى راحة نفسية. هل هى المعانى. هل الأمر فى نهايته، مسألة أن نكون. أم أننا فعلا لا نكون إلا بهذا..؟ ومن هنا، تأتى المعاناة والألم.. حتى نصل إلى طبيعة الكتابة وسحرها فى الروح.. بالطبع، هذا سبب خفى لقراءة بعينها، من أجل الإحساس بهذا الدفء الغريب، الذى تبثه فى النفس نصوص فريدة من نوعها.. وليس لغيرها هذا الأثر. معرفة وضياء وإحساس بمعنى، يصل إلى أعماقنا. ومرة أخرى، يترامى إلى سمعك، من جديد هذا الصوت الغامض، وتذهب بك نظرة، تتجه إلى عنان السماء. شئ كبشارة الصبح، بهذا اللون الوردى الغريب. تشعر أنك على وشك العثور على نفسك، فتعتريك دلائل الدهشة. تنظر فيما حولك، ولا ترى شيئا. وفى وقت، ترى فيه بعينى عقلك كل شئ، بما فيه الكفاية. وأحيان أخرى ورغما عنك، لا تشعر إلا برغبة مواصلة، تلك النظرة الخالية من أى حياة، أو إهتمام بها، كمن فقد الوعى. بما يشبه إحساسا ببرودة شديدة، تسرى فى الأوصال، فينعدم الإحساس، وتموت موتا بطيئا، الأفكار. لا تدرك كم من الوقت مضى، وكم يبقى لتقضيه.. بل الأكثر دهشة من ذلك، أنك نفسك، لازلت على قيد الحياة، ولا طالما تحسب عليها. وفى أحيان أخرى، لولا حدوث أمر ما فجأة، ما حدث شئ فى النهاية، وما كتبت ما لا يخطر على بال، أو خاطر. فقد ترى بالمصادفة أمورا غريبة، تدور من حولك، فتحس بشعور الإكتشاف، وتدرك معناه فى متعة شديدة.. وإن لم تكتب للناس، أو ليقرأ أحد.. ومن المحتمل، أنك لم تكن كذلك، على الإطلاق، ولم تكن تفكر فى شئ، من هذا القبيل، فى يوم ما. ولكن بت تفعل، محاولا أن تعرف ذاتك.. 
لذة القراءة.. هذا اللغز..
--- خالد العرفي
لم تفارقنى هذه الصورة فى ذاكرتى منذ رأيت هذا الحلم الذى رافقنى لسنوات.. حتى إنطبع ما كان خيالا على الواقع تماما.. إنطبقت نفس الملامح فى عمق ما كنت أراه يتماهى أمامى.. أفق نورانى غريب لا يراه أحد غيرى مهما ذهبت وأينما ذهبت.. لم يذهلنى شئ قدر ما أدهشنى وحيّرنى هذا التطابق القدرى العجيب.. أكاد أقول لنفسي لنا نفس الملامح.. نفس المسير.. أتبعها وتتبعنى تلك الأحجية العظيمة فى حياتى.. اللغة وأثرها فى النفس.. جمالها الهادئ ونورها الصافى بم يدخلنى فيما لا أعرف من حالة شعورية ولا أستطيع لها تحديدا أبدا..
هذا اللغز الذى لم يشغلنى شئ بقدر ماشغلنى محاولة فكّ أسراره فى نفسي.. فكان منه الرفقة والزاد.. ودائرة الإلهام،.. وما كان الشعر فى ذلك رغما عنى، إلا قدر، وبقدر أغرب.. وما تمنيت أن أكون شاعرا أبدا كما ذكرت من قبل مرارا.. حتى فى تلك الكلمات التى زعمت أنها قصائد إنما هى من هذا الطيف الذى أستلهم منه كل معنى ووجود للكلمات، يصدح بمكنون النفس بين هدأة ولوعة وغضب وإشتياق وفقد ورقة. وغير ذلك من مشاعر وأحاسيس وجدانية، تحمل معها الذات ووجودها، راحلة إلى جنبات هذا العالم الذى يصطدم بالواقع بل ويغايره تماما.. كل معنى تأصل فى النفس نداءا للروح فى هذا العالم الغريب الذى لا يشعر به إلا نفس واحدة فقط،... يقينا لا وهما.. بعيدا عمّا يمكن أن يقوم به الإبداع أو الكتابة فى مجال القصة القصيرة أو الرواية وغير ذلك.
ولا أعلم شاعرا قط شرح أشعاره.. ولست فى هذا الصدد بمنأى، ولست أزعم الشعر، إنما أشير فقط إلى ما ينتاب المرء من حالة نفسية أشبه بديمومة رحيل فى المعانى، ليس لها من إتصال بما يأتى به الخاطر أو يشرع فى كتابته الكاتب من ألوان الإبداع الأخرى.. وربما هذا السبب الرئيسى فى ركون بعض الروائيين إلى الرمز الشعرى واللغة الشعرية فى كتابتهم للرواية لما تلقيه هذه اللغة وظلالها فى النفس وتأخذ بالقارئ إلى تأويلات كثيرة موازية يكاد لا ينحصر مدلولها أو تفسيرها فى أمر محدد، لما يرجع إلى إقتران الشعر من مقومات الذاتية.. وهذا من أثر اللغة فى المقام الأول فضلا لو تأطرت معانى هذه اللغة إلى مستوى الكلمة والمفردة الواحدة فى إطار مضمون درامى ومعنى كلى شامل لإحساس الشاعر وتجربته النفسية.. وهى دفقات شعورية وشلالات من الأحاسيس المتنوعة فى إطار أمر واحد تتعدد صوره تؤدى فى النهاية لهذا المضمون الكلى.. وأجدنى فى هذا أنساق فى قراءاتى إلى الموهبة الحقة والفذة التى تترك فى نفسي هذا الأثر الفريد وليس لغيرها ذلك.. أتواصل مع المعانى البديعة والأفكار الصاخبة التى تثوّر هدأة النفس وتودى بها إلى دروب تأمل بعيدة كل البعد عن كل ما هو معتاد مما نجده هنا وهناك.. ومن حذقَ من كتّاب القصة والرواية يعلمون هذا الأثر الكبير الذى تتركه اللغة وأسرارها فى النفس والروح علاوة بالطبع عن المعنى الكلى.. ولست أتكلم عن الشعر أو عن القص هنا ولكنها تلك الدروب المتشاعبة – حديثا عن اللغة- التى تلتقى كلها فى ذات التأثير، مهما كان اللون الأدبى رغم تغاير مبادئ وكيفية كل لون منها.
والأمر هنا أشبه بمن يفتقد بوصلة ما للتفسير ولا يجد غير الكلمات واللغة تحمل المعانى.. فإن كان الأمر شعرا، فهو لون أدبى له قرائته وإحساسه الذى يغوص القارئ والمتلقى فيه بحثا عن المعنى والتجربة الذاتية والوجدانية للشاعر أيا كان نوع هذا الشعر، من شعر كلاسيكى إلى شعر قصيدة النثر وحتى مستوى قصيدة البيت الواحد والومضات الشعرية.. وإن كان قصة قصيرة فلها مقوماتها ورؤاها.. وأيضا الأمر كذلك بالنسبة للرواية.. وهكذا أيضا بالنسبة لجميع الألوان والأنواع الأدبية والتى تقدمها كتب النظريات الأدبية والنقد الأدبى الموضوعى والتى لا غنى للمبدع عن قرائتها مثلما تماما يقرأ إبداع الأدباء فى هذه الأنواع.. حتى أننا نجد من نقاد الرواية على سبيل المثال من يؤسس لكيفية تلقى النصوص والقراءة الواعية للرواية فنجد من يفرد فصولا فى مصنفاتهم للغة فى الرواية وأثرها وكذلك القصة القصيرة.. ومن هؤلاء " روجر ب. هينكل- Roger B. Henkle" فى كتابه الرائع القيم (قراءة الرواية- مدخل إلى تقنيات التفسير). وهو من الكتب القليلة بل النادرة فى هذا المجال لإدراك مغزى الكتب ومراميها وكيف تحدث تأثيرها فى القارئ وما تصنعه من صور التشخيص والتصوير والتشكيل اللغوى وتحديدا الرواية، بإعتبارها عمدة الأدب الموضوعى، بحيث تكون أساسا صالحا لفهم أية رواية خلال عملية قرائتها ليست النقدية فقط بل عملية التذوق الشعورى للنص.. وهو ما يفوق عملية النظر العقلى والجدال للتمتع بلذة النص- وتبين ما يجب إستكشافه..الأمر الذى يحقق التفسير الضرورى لما يظهر أو ما يقدم فى النص من أفكار عبر القراءة، ومع ممارسة القراءة خلال كل مراحلها لتفسير عملية القصّ ذاتها..  حيث تتشكل الأسس العامة والملامح الجوهرية لنظرية القصّ إرتباطا بجمالية الفن حيث تظل القيمة الجمالية هى الغاية المنشودة فى كل عمل فنى وأدبى مهما كان مستوى أو درجة موضوعيته. وهى القيمة ذاتها التى تسبق كل قيمة يمكن توقعها من القارئ والأغرب من المبدع نفسه.. وفى النهاية إدراك تلك العملية المعقدة الخصبة فى الذهن والوجدان وكيف تتم وكيف ينهض بها الكاتب فى نفسه قبل نفس قارئه.. وتناول فيه كيفية قراءة الرواية من مناحيها المختلفة وكيف تتم الإستجابة الخاصة فى عملية القراءة وكيف يتم الربط بين العناصر التى يقدمها النص السردى الروائى قياما على عناصر الرواية من تشخيص وبناء ومشهد. ولعل من أقيم ما تطرق إليه محاولة تصنيف أنواع الرواية فى فئات محددة والمقومات التى يستند كل نوع منها بغرض توجه القارئ بروحه وعقله إلى تلقى النص على أساس واع من الإدراك وكيف تتحقق هذه المتعة الوجدانية والذهنية.. الكتاب يدهشك فعلا بعمق ما يتطرق إليه ولا يقف على مجرد تصنيف الأعمال الروائية إلى أنواعها الإجتماعية والنفسية والرمزية وغير ذلك بل يتجاوز ما يقدمه الكتاب من محاولة كيفية تفسير النص الروائى إلى ما يلقاه القارئ الواعى الذى يجد الكثير والكثير من الإفادات.. ومن ذلك التحليل لعملية الكتابة نفسها لدى الكتاب وتلك الحالة النفسية من اللاوعى التى تصل إلى حد يتحكم فيها المبدع وهو يدرك ماذا يفعل لخلق الأثر على القارئ.. وهذه التحليلات التى مال إليها روجر هينكل فى فصول كتابه جديرة بكل مبدع فى مجال القصّ أن يقرأها لتضيف إلى تجاربه.. ويتحراها لتزيد خبراته من أمور قد تكون غامضة قبل ذلك فهى تنير له الطريق.. وتفتح له آفاقا. وهنا سوف أشير لأهمية بعض النقاط والمحاور المفيدة فى هذا الكتاب.. مع التطرق لبعض الكتب والمصنفات الهامة فى ذات هذا المجال، قد يكون كثيرون لم يقرأوها من قبل رغم أهميتها الكبيرة.. (المقال القادم بإذن الله تعالى)
-----
(يتبع)