سرماديا

سرماديا

ليلتان طويلتان ***** من يومياتى

ليلتان طويلتان
- من يومياتى -
-----
لابد أنها كانت ليلة طويلة، هذه المرة، أعقبها عدم نومى، غير مستسلم للإرهاق، بعدما ما مرّ فيها... تلك كانت الليلة الأولى.. عادة، قد تمرّ ليلتان، أو أكثر، أواصل فيهما، هذا المسلك، مع تلك الرواية التى أكتبها " رواية شيزر".. قد يكون قد مرّ أعوام، على هذا الوضع، ولم أنتهِ منها بعد.. تأخذنى أمور، وشئون أخرى، لبعض الوقت،.. لكن سرعان، ما أعود لعالمها.. أعرف كل شئ فيه.. كدت أفرد لها، حيزا، فى رأسي، لا فى مكتبى.. هذه ملزمة الأماكن.. وتلك للأبطال.. وتلك للمعارك.. وتلك لخط الزمن.. أما الفقرات والعبارات، فتقتحمنى كغول، بكثير من الأحيان، فأوشكت أن أمشى بها، خلال نومى.. أسامرها فى يقظتى كمحبوبة، أنتظرها، وتنتظرنى.. فهى أوراق مبعثرة، بين ثلاث ملازم ضخمة، أعاقرها كمدمن خمر.. ألقى عليها، بنظرات فاحصة، .. أعمل فيها، بكثير من الأوقات، بمقصّ تذوقى للغة، التى أكتب بها، حينا، وحينا آخر، بسبب مسلك الدراما المتقاطعة، التى أنتهجه، أو عبر رحلتى، والعلاقة بين الأبطال.. وأحيان أخر، بسبب أن يكون الحدث، هو بطل الفصل، نفسه.. يجذب كل شئ ورائه، ويشده، ويشدنى معه.. فى النهاية كأن لم تكن، فقرة كتبتها أو صفحة.. فأختصرها، إلى سطر، أضمه إلى سطر آخر، وقد أطلّ بعقلى، فجأة كطائر شارد،.. حطّ فى رأسي، وأشعر أنى قد صرت مسكنه، وقد أمسكت به، فى كلمة.. حسنا، هذه المرة، كانتا ليلتان طويلتان، فى هذا الفصل الطويل.. خططت المعركة أمامى على ورقة كبيرة، رسمت حدودها، والأحداث، كما جمعتها من بطون التواريخ.. جرت على أسوار معرة النعمان.. كنت أعيدها للمرة الرابعة.. لم يتركها مؤرخ، إلا وقد أشار، لما حدث فيها.. كانت تتنازعنى شروحاتهم.. كان الصليبيون قد اتفقوا على أن تكون السلطة، والحكم، فى أنطاكية بعد سقطوها بقبضتهم، لبوهميند، ولم يشذّ عنهم سوى كونت تولوز ريموند الصنجيلي. حددوا موعد الزحف، على بيت المقدس، فى شهر نوفمبر 1098م، بعد الاستعداد الكافي. سار جمع من الجيش الفرنجى، داخل بلاد سوريا، رغبة في تأجيل الزحف على القدس، للإستعداد.. وقد قاد هذا الجمع بوهيمند والكونت ريموند.. وظل بقية الأمراء على مقربة من أنطاكية. وفي الخامس من نوفمبر 1098م، عقد الصليبيون اجتماعا قرروا فيه الزحف صوب بيت المقدس. لكي يقطعوا الوقت، قرروا الخروج جميعا، متقدمين صوب الجنوب.. فتحوا حصون الدروب، شيئا بعد شئ، وطمعوا في البلاد.. وصلوا إلى البارة ، على مسيرة يومين، من أنطاكية. استولوا عليها.. أفنوا مواطنيها، عن بكرة أبيهم، بعد أن أخذها ريموند بالأمان، وغَدَر بأهلها. أما معرة النعمان، وهي من أعمال حلب، فكانت تقع على بعد ثمانية أميال من البارة.. حاصروها.. وصلوا إليها لليلتين، بقيتا من ذي الحجة 492هـ / 11 نوفمبر 1098م، في مائة ألف، واستغاث أهلها بالملك رضوان، وجناح الدولة،.. لم ينجدهم أحد. دخلها الصليبيون.. قُتل فيها أكثر من عشرين ألفا.. وسبوا الكثير.. بعد أن زحف الفرنج إليها، من الناحيتين الشرقية والشمالية، وأسندوا البرج إلى سورها، فى (الحادى عشر من نوفمبر 1098م/  الرابع عشر من محرم 492هـ).. ولم تزل الحرب عليه، إلى المغرب.. اضطر ريموند إلى إشباع مطامعه، وجنوده، إلى الهجوم على معرة النعمان، واحتلالها إلى الجنوب الشرقي، من أنطاكية.. وفي المعرة، نشب النزاع من جديد بين بوهمند وريموند الصنجيلي، لكن بوهيموند أرغمه على التخلى عن أطماعه ورغبته، في تكوين إمارة لنفسه، فى المنطقة، وفى تأسيس إمارة حول البارة ومعرة النعمان، فى شمال الشام فى أوائل عام 1099م. وعقد إجتماع فى نوفمبر 1098م، قرروا فيه، الزحف صوب بيت المقدس.. وفى ذات الوقت، وأنا أرى كل هذا.. كنت أرى نفسي، بين الحاضرين مؤتمر مجمع كليرمونت عام 488هـ/ 1095م،.. حيث عقد المجمع الدينى الكنسى بجنوب فرنسا.. سمعت الخطاب الرسمى للبابا أوربان الثانى، الذى حكم في تلك الفترة في روما،.. كان يُرسى المشروع الصليبى، بذكره أنها إرادة الرب... كان البابا من نوع خاص،.. يعمل على تحريك، وإلهاب مشاعرالطمع.. ليعد لتنفيذ مشروعه الكبير، وأكبر حدث خارجي وحيد تشارك فيه أوروبا بكثير، من دولها، رغم تمايز وإختلاف الأصول، لتلك الدول وتعارضها أحيانا ..فى حلقة الصراع الطويل. والحركة الصليبية التى بدأت مبكرا، مع بداية ظهورالإسلام نفسه، وخروج المسلمين من الجزيرة العربية، واصطدامهم بالدولة البيزنطية وحلفائها.. ورنا إلى توطيد السياسة الخارجية لإصلاح البابوية ولأهم العناصر المميزة للثقافة والأيديولوجية الغربية في القرون الوسطى . لتتخذ شكل الغزو المسلح على المسلمين في آسيا الصغرى وبلاد الشام وفلسطين والعراق وغيرها.. متخذة من الدين ستارا لإستثارة الحماسة الدينية، ومدفوعة بكثير من الدوافع السياسية والإجتماعية والإقتصادية لتحقيق أهدافها فى القضاء على القوى الإسلامية. هنا دأبت البابوية على الدعوة إلى شن حرب صليبية على المسلمين فى الشرق الإسلامي، زاعمة الدفاع عن المسيحية ولتحرير المسيحيين الشرقيين ولنجدة بيزنطة ضد الخطر السلجوقي. بعد أن شهدت أوربا تغيرات هامة فى الفترة الممتدة من منتصف القرن الحادى عشر، حتى نهاية العقد الثالث من القرن الثاتى عشر.. والإنطلاقة الكبرى لحركة الإحياء الدينية والإصلاح، فى الغرب الأوروبى، فى ظل مواجهة  الكنيسة الكاثوليكية مجموعة من المشاكل، أدت الى انقسامها من قبل، إلى الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية. سعت البابوية إلى دعم زعامتها وسلطتها الروحية لتكون زعامة سياسية فعملت على إصلاح الكنيسة للتخلص من مشاكلها وعيوبها الداخلية خاصة مع الصراع بين البابوات والملوك ، بين السلطتين الدينية والزمنية .
يسّرت سياسة البابوية نفسها هدف مشروعها، بأن أًصبحت الحروب المقدسة هدفا رئيسيا فى تلك السياسة، والسمة الواضحة لها بعد هزيمة البيزنطيين الساحقة فى معركة ملاذكرت عام 1071م / 463هـ. وإنطلقت الشرارة الأولى للحروب الصليبية من هذا المجمع، بدعوة البابا المسؤول الرئيسي عن تلك الحرب الصليبية.. دعا إلى حملة كبيرة لتحرير المدينة والأراضي المقدسة،.. لإسترداد بيت المقدس.. كان يجب على أن استحضر هذا وأراه.. أسأل نفسي كيف إبتدأت أحداث الحركة الصليبية الفعلية وقيام حملاتها. كيف تبني البابا الدعوة إليها، والتحريض على إرسال الحملة الأولى، للشرق إدعاءا بتحرير وإنقاذ المسيحيين الشرقيين، غير مفرق بينها وبين استرداد الأندلس من أيدى المسلمين. كيف رأى البابا فيها، فرصة لتأكيد السمو البابوى، وصور تلك الحرب على أنها تحريرا.. تخليصا للقبر المقدس، من نير المسلمين. وسرعان ما ولدت فكرتها وتم تنفيذها ليزحف أمراء معظم الغرب الأوربي، الجناح العسكرى من النبلاء وفرسانهم.. ومن الأمراء والإقطاعيين الذين طمعوا فى تكوين إمارات لهم فى الشرق.. كفرصة للحصول على مزيد من الأرض التى تمثل عماد الثروة والسلطة فى المجتمع الإقطاعى.. وكدعوة باباوية لحرب مقدسة .. يمنّون أنفسهم بأرض كنعان، بالشرق، .. التى تفيض لبنا وعسلا.. وتبعهم إلى الشرق الجموع الغفيرة من الفلاحين وعامة سكان المدن.. كفرصة هائلة للتحرر من السيطرة الإقطاعية فى هذا المجتمع .
كدتُ أحصى مع من أحصى، من قتل ومن تطايرت أوصاله.. هكذا كان الأمر أمامى، لكننى كنت أبحث عن شئ آخر.. تراه، أين كان هذا الشيخ، الذى يقبع فى صومعته، وقد داهم الصليبيون المعرّة بخيلهم وركبهم، ناصبين عليها كل سلاح..؟
 أين كانت " ماريا "..؟
وبين فكرى، فى الشيخ وماريا.. وأصوات جزّ الرؤوس، وبقر البطون.. شق اللحم الحىّ تتردد فى أذنى، مع هسيس المعركة، وهدّ الأسوار.. كانت تتصاعد جندلة سنابك الخيل.. كانت صيحات الأمهات، تقتلنى.. ليلتان طويلتان، قضيتهما فى هذه المشاهد وأختها.. ورأيت الشيخ يتضرع لله.. وماريا هاربة مع من هرب إلى شيزر، من نساء وشيوح وأطفال، يلتحفون دجنة الليل الساترة.. ولم يسلم إلاَّ القليل مِمَّن كان في شيزر،  وسارعت بقايا الأسر العربية بالهرب، للإحتماء بها بعد المذابح البشرية الرهيبة التى تعرض لها سكان تلك المدينة. ونهبوا ما وجدوهُ وطالبوا الناس بما لا طاقة لهم به ورحلوا الى كفر طاب ونواحيها  فوصلوا إليها فى أوائل عام 1099 م وتجمعت عندها فرق ريموند دى سانت جيل وروبرت النورماندى وتنكرد .
وكان سقوط المعرة بعد أنطاكية، كان يعنى فتح الطريق أمام الصليبيين للتوقف فى وادى نهر العاص، لغزو أفامية و شيزر وحماة وحمص،.. كنت أستحضر تلك المشاهد والصور.. لأبنى صورى ومشاهدى.. يشغلنى كيف أكتب إنتقال الأخبار بين هذه الأماكن.. ما يدور فى نفوس الصليبيين وصراعاتهم على الإمارة والإقطاع.. كيف كان يفكر أمراء المسلمين.. إستعدادات سكان المعرة.. بين الفزع والخوف.. إبتهال المبتهلين.. أحاسيس ومشاعر الآباء والأمهات.. شكل الجثث التى تناثرت.. وقوفى أمام رأس الشيخ المقطوعة، على الدرج، وقد سال الدم نحو القبلة.. مشاعر ماريا وهى هاربة لتنجو بنفسها، فى رتل من الأرتال، التى تماوجت، تحت جنح ظلام الليل.. لم يخرجنى من هذه الحالة، إلا أن أفكر فى قصة الحب التى بدات تنشأ بين الفتى أمجد والفتاة إبتسام فى رواية (غصن الحياة).. وجدتهما أمامى.. وما كان من قدر جمعهما بعد أن نجّاها، والمهندس إسماعيل يتابع الشواء بنفسه، كرامة لنجاة إبتسام.. قائما بنفسه، أمام النار المتأججة للموقد، وعليه السيخ الحديدية الدوار، مارا فى قلب الشاه، ومن تحتها الجمر، وقد إلتهبت دائرة الحضور، برائحة الشواء الطيّب، منتظرة.. ومضى كل، إلى مأواه ومضجعه، وخلت الساحة، رويدا رويدا، من الرجال.. أما أمجد، الذى شغف بإبتسام، وشغفت به.. كان، كمن إلتصق بجذع شجرى ضخم على الأرض، جلس على حافته.. وفهمت إبتسام من تعلله، وكانت تواجهه، فى جلستها، بين ذراعى أبيها،.. أنه لا يريد مرافقة آباه، الذى كان يناديه ليلحق به، للنوم.. وحاول التخلّف قليلا، وهو يأبى ويتعلل أنه سوف يلحق به، ليختلس نظرة، أو كلمة، يحملّها شغفه بها.. يستشنق رائحتها، فى شغف مفتونا بها.. يتنسم فيها، إبتسامتها التى خصّته بها، دون بقية الأولاد من أبناء العاملين.. وكأن القدر جعل لهما، لغة طفولية بريئة، لا يفهمها إلا هما.. فأشارت إليه.. ولحق بأبيه.. ينتظر الصباح.
وحينما ضقت ذرعا، من الدماء وقعقعة السيوف، التى اتذكرها فى " رواية شيزر".... قبلت لوم نفسي فى غيظ وعاتبتها فى ألم وحزن.. وأنا أترك هذا الفصل من " رواية شيزر"... لم أكن أقدر لأتقي هذا القدر، أو أتجنبه، مهما كانت قدرتى وإستطاعتى على تدارك الأمر.. وقد كدت أصافح الموت، مرات.. فى كل معركة فى " رواية شيزر".... علمت نفسي كيف أروض نفسى على الألم، مع أبطالى.. حتى أستمر.. لكن، الحياة إدخرت لى هذه المرة، ألما، من نوع جديد، ذا مرتبة عالية، فى رواية (غصن الحياة) حينما قارنته، بكل ما مرّ علي، أو بى فى معركة معرة النعمان..
والغريب، من ألمى فى شيزر وسرحة الفكر فى كليرمونت مع البابا أوربان، وجدتنى أكتب جزءا رومانسيا جديدا، من قصة (أمجد وإبتسام) داخل البناء الدرامى فى "رواية غصن الحياة"، يبنى تصاعدا فى خط فرعى.. يتصاعد أكثر فاكثر، مع إيغالى فى الرواية الأساسية.. وبداخلها هذا الجزء، الذى يتنامى مع كل خطوة، أخطوها، وأنا ارى أمجد وإبتسام.. يتكشف عنه، كيف بدأ الحب القدرى .. وقد أسرع أمجد، تلك الليلة، إلى لفافة دستها فى يديه إبتسام.. ليخفيها، فدّسها بين طياته.. تردد فى فضّها.. بالغ فى سرعته حتى لم يتبين الظلام.. وما كاد، أن فرغ من قرائتها (سأكون عند الشجرة، فى الصباح... إبتسام).. وما كاد يفرغ من قراءة الرسالة، التى وقعتها بأثر شفتيها (بالمربّى) نيابة عن اسمها، إلا وقد أحسّ صوتا من خلفه، وقد دسّ أنفه..
- تراك ماذ تقرأ؟
كان رمزى هذا الفتى المشاكس، .. كان قد رآه موليا نحو حافة البحيرة الصغيرة فتبعه، من ورائه..
- وما شأنك أنت؟
- إعطنى هذه الورقة..
- لا إنها ليست لك!!..
حاول أن يغلبه عليها.. فخطفها من بين يديه، فاستمسك بها أمجد بقوة عجيبة، عاضّا عليه بأنامله كلها، وقبضة يده.. ولم يجد رمزى، سبيلا إلا أن أمسك بيديه وقد أطبق أسنانه، وغرس نابيه، فى ظهر يد أمجد.. تعالى صراخه.. وهما يتقلبان على على الحشائش.. لولا (متولى) لفتك رمزى بيد أمجد.. فخلصهما، وقد تركا نابا رمزى بيد أمجد أثرا دّام، .. لام عليه (متولى) تصرفه البذئ، هذا ،.. وعاتب أمجد على العراك، بحانب البحيرة.. والأرض بها، ما قد تُخفيه له من خطر.. وشعر أنه شحذ له القول، فهشّ له من جديد وهو يزيل أثر الدم من يده، وذراعه حانية، تحيط به.. كان يميل له، ويحبه كثيرا، لما علم من قصته، من عمه الذى أخبره بها.. يوصيه به فى غيابه، فى رحلات العمل... وألان له، من حديثه ..
- يابنى تعلم انى أحبك ورمزى هذا ولد شيطان، بغيض.. لا تترك له فرصة، ليؤذيك..
تركت هذه الحادثة، فى نفس أمجد، أثرا متسائلا: لما كان يعترضه رمزى، بهذا الشكل العجيب، دون إبتسام.. إستعصى عليه فهم، إضطرابه النفسي والأخلاقى، الذى ينبئ عنه، مسلكه اللئيم الغريب،.. وعبثه الخبيث ضده،.. ومن هذا القبيل، لم ينس، يوم أن وضع له بعض حشرات الخنافس، فى كيس طعامه.. فأخبره بذلك هشام، صديقه، حينما رآه من نافذة الفصل.. ولا تلك المرة، التى أغرق فيها، ببيض فاسد فاحت رائحته، بصندوق مكتبه الصغير، فى مدرسة البعثة،.. وسرعان ما تبين له مشاركة "فُتنة" تلك الفتاة صفراوية المنظر، خضراء العينين، إبنة رئيس البنائين.. وكانت مغرمة بأمجد، مجنونة به.. لم يعرها إهتماما يُذكر، كلما حاولت التقرب إليه.. يعفّ رائحتها.. كم ضاق ذرعه بها، وبمسلكها الخلقى.. كاد يخبرها مرات، أنها تذكره بأفاعى الأشجار، كلون عينيها الأخضر تماما، .. تتسلق الأغصان، فاتكة، بالطيور، وأفراخها.. هكذا، كان ينظر إليها، لايفرقها عن الحيات، فى تصوره لها، من شئ.. فشاركت، رمزى الخبيث، المؤمرات ضد أمجد وإبتسام. وقد جمعا طائفة من الخصال الحميدة، جمعتهما معا، على درب الصفاء والمحبة.. بوشائح، علمها (متولى) وكان كلامهما معا، يسعده، ويلذه منهما حسن معشرهما، وأدبهما الجمّ..
هكذا أجد الحياة ، فيما أكتب، تلف الإنسان بدخائل، ومكنونات، تاركة من قوة تأثير، ما يتنازع ويدور على القلب، ويعبث بالنفس، عاصفا بالروح.. ما كان مخبوءا، لم ينله بَلى. وهو، تأثير لا يقاومه وقت، ولا مهرب، من مصير، له.. قوة وجلد، إما فى مواجهة الأمر.. أو فتور، وضعف عزيمة وإستسلام، فى مواجهة حياة حقيقة، تنجلى عنها غمرات الأمور، قليلا فقليلا.. بحكم تناقضات واقع قوية، وأحداث وخطوب عنيفة، مرّت، منذ ذاك الحين البعيد. لاتدل على شئ، إلا على أقدار نفذت، لم يبقَ منها شئ، من ماض، إلا، لأرويه.. كمن، يفتح لغيره، نافذة ضوء، ليرى صباحا جديدا، ليس لى، أن أشاركه فيه.. لهواء يتنفسه حرية، من حريتى.. ومن دون ذلك، أغلقت الباب، دون كل شئ.. تاركا، الأمر وديعة، فى يد الزمن.. فلم تكن فكرة خطرت على قلبى، أو شيئا راود خيالى..كي أحكى، يوما ما كان، مختفيا، فى ركن بعيد، فى رأسى، خبأته ذات يوم، ليكون بصيص أمل، أمام غرابة الحياة.. أخذت بتفقد، هذا الجزء من عقلى، الذى إقتطعت منه، حيزا، كمخزن، اتخذته لملفات قديمة، وأدوات ومتاع عتيق، من حياتى.. بين كل رواية وأخرى.. هؤلاء هم الأشخاص، وتلك هى الأحداث، التى مرت فى زمن ما، غبر،.. ولّى أمده..
وقد جرى هذا، ومشهد آخر فى رأسى، وقد سمعت هديره.. إنتهزت الفرصة الوحيدة، التى لاحت لى، فى قصة قصيرة بعنوان (إدخار الألم) .. دام بيننا حسن الحوار، وجيد القول.. وجدت فيها، ما كدت أنظر إليه، حتى  مضيت، وقد فتنتنى حب حاد قوى، لا يكاد أن دخل قلبى، ملأه، وإستأثر به.. لم أكن أستطيع أن أستغنى عن هذا كله.. لكننى لم أستطع أن أفسر، إنقباضى.. كانت مقدمتها هى تلك، وبطل آخر.. كان كمن رأى حياته، أمامه تتوقف أمام هذه الساعة، التى جمعتهما معا، فى بهو محكمة الحقانية،.. كانت كتائهة، تواجه درجا رخاميا، بعرض رجل ضخم، يقف عليه.. يتشعب إلى جانبين، على الميمنة، غرف الكتبة والعاملين.. والميسرة قاعات، وإستراحة المحامين.. مؤديا إلى طابق قاعات المحكمة..
- قاعة محكمة الأسرة من فضلك..؟
لم يعرها، هذا الضخم، من جسده إلا إصبعا، مشاورا به إلى أعلى.. لم ينبس بكلمة. صعدت الدرج، وقد إنتصفت مداه، بين سوريه المحلّين بشريط نحاسى لامع، يعكس خيالات وظلال الصاعدين والهابطين...
- من فضلك قاعة محكمة الأسرة..؟
 أجابها، حاملا كومة ملفات ورقية سميكة، لا يظهر منها إلا عينين وراء زجاجتين سميكتين ..
- بقى لك طابق .. إستمرى فى الصعود..
أصبحت الدرجات، بعدد الأيام التى بقيت فيها مع هذا الرجل. كل يوم بسنة، وكل سنة بدهر طويل من العذاب.. لم تنسّ يوم أن تقدم لها
- مبروك يا هند هذا يوم سعدك.. مهندس بترول.. كل فتاة تتمناه.. مبروك يا بنيتى..
لم يكن قد مرّ على تخرجها من كلية الالسن واللغات، سوى عام.. إنتقلت سريعا معه إلى مقر السكن بالإسكندرية، فى الشقة، التى ورثها عن والده. أقنعها أن تقيم معه والدته.. ليس لها سوى إبنة وحيدة.. وهو الأولى بها، من شقيقته. مع الوقت، إكتشفت أن زوج الإبنة، كان قد صمم على طلاقها، لو لم تتوقف حماته، عن التدخل فى حياته. كانت شبه مقيمه معهما. لم يمرّ شهر عسل، لم تشعر فيه بأنوثتها، للفارق الكبير بين طباعهما ومشاعرهما.. شتان الأمر بينهما.. بعد الأسبوع الأول، كادت تطلب الطلاق، بسبب الأم وإملائاتها المستمرة، طيلة اليوم.. إنقلبت لخادمة، لا زوجة.. قائمة من أوامر لا تنتهى. كان من الواضح، التأثير الكبير الذى تركه، منذ سن صغيرة، وفى حوزتها طفلين.. إنقلبت مع الوقت إلى، ديكتاتور عليهما.. أمحت شخصية كل منهما. مع تلاشى كل فرصة، فى أن يتقدك لها أحد كثيّب، معروف سمتها، فى محيط العائلة.. ورثت تركة، لم يطمع فيها أحد، بسبب حدة المعشر، وطباع لا يتحملها رجل، إلا من توفى عنها، تاركا لها طفلين.. سلسلة من العلاج النفسي، ورحلة علاج طويلة لم تكن كافية ..
أخذت الحقائق تهاجمها، مع كل درجة تصعدها.. تهبط برأسها المترنح، بين محاولات فاشلة بذلتها، للإستمرار، فى الحياة، مع كل يوم مرّ عليها، فى سجنها
- لا تنسى أنى هنا صاحبة المنزل.. أنت هنا لراحتى أنا.. يجب أن تعلمى أن إبنى تزوجك لهذا.. حتى غرفتكما، من ممتلكاتى..
لم يمر الأسبوع الثانى، حتى صدر قرار نقله إلى معامل تكرير السويس. يأتى ليقضى نهمه. يفترس، كتلة اللحم، التى تلاشت يوما بعد يوم، بين هموم أشغال شقة كبيرة، تصرّ الأم على نظافتها كل يوم،.. تفتش عليها، كقائد مريض.. لم تحظ يوما طوال عام، إنقضى عليه خارج المنزل.. أحصت الليالى التى إلتهمها فيها.. بضعة أيام معدودة من كل شهر.. يتضاعف فيها العذاب والألم، من زوج سادّى.. لم تزرها أسرتها. حُرّم عليها مهاتفتها بالقاهرة.. " زوجك غائب.." حتى هاتفها الشخصى تعمدت يوما كسره، لها.. و(الحاسوب) محرّم عليها.. دائرة سجن كانت تتسع يوما بعد يوم.. سورا بعد سور.. تبكى حلما، ظنت أنه كان قاب قوسين أو أدنى..
- أنت معظم الوقت لست موجودا، إسمح لى بالعمل.. سأقوم بكل واجباتى .. لن أقصّر أوعدك بذلك..
- زوجتى لا تعمل .. ماذا تريدين ان يقول الناس عنى..
مرات قليلة زارها فيها، والداها :
- تحملى بنيتى.. أتوجد إمرأة تجد من يريحها هكذا..
لم تكن تستطيع لتسرّ لأمها، عما يعتريها من خلجات مرأة، مثلها.. لا بقيت فتاة.. ولم تصبح إمراة.. لم يتوقف، إنقلب الزوج لصورة والدته.. يصدقها فى كل ما تقول.. كأنها وكلت إليه تدبير ما يرثه منها من اضطراب خلقى وعقلى.
كانت فى طريق سريع للجنون، بين زوج غاشم، إنقلبت معه إلى قطعة أثاث، يتركها مربوطة فى عهدة إمرأة، تصبّ كل ما جرى لها، فى حياتها عليها.. جمّ غضب.. ووساوس مرضية، حتى بعد نقله مرة أخرى، إلى الإسكندرية.. تضاعفت الهوة وماس العذاب النهارى والليلى..
- لا عمل. لا هاتف لا حاسوب.. لا أصدقاء.. وممارسات سادية...
تحركت ثمرة، الإلتهام البربرى، فى أحشائها.. حملت بجمرة نار،.. كاد، بخله، أن يودى بصحتها،.. لا متابعات مع طبيب.. لا أدوية.. تضخمت قائمة اللاءات حتى قاربت بطنها المتفخة وقد تدلّت أمامها.. ولسان ضاق ذرعا بالشكوى.. لم يشفع لها حمل، فى الإعفاء من مشاق مهام يومية، تنوء بها إمرأة صحيحة..، قائمة موبقات ومقدسات فى عرف حارسة السجن، .. وكما أطلقت عليها، شاكية هى، لوالديها..
قبل أن يمرّ، أسبوع على الولادة .. وقد وضعتها أنثى.. كانت قد عانت من النزيف مرتين.. لولا والدتها، التى أصرت على الإقامة معها هذه المرة، لأودى الأمر بحياتها "
- لا عليك يا بنيتى تحملى ربنا يصلح حاله.. هذا هو نصيبك..
- لم أعد أستطيع أن أتحمل ..هذا سجن وفترة عقوبة.. ليست بحياة..
تلاحقت الصور أمامها مع نهاية درج الطابق الأول..
- إستيقظى .. إستيقظى قليلا.. حرام عليك لقد خلعت كتفى..
- أنا آسفة جدا يا أستاذ..
وقبل أن تكمل إعتذارها كادت تسقط، من إصطدام إمرأة سمينة بها وقد طوق معصمها قيدى حديدى، وحلقته الأخرى فى يد رجل شرطة، يقودها، صارخة، ساخرة بعد أن سرقت ساعة يدها..
- ما هذه البلايا السوداء.. من أين تقع على رؤوسنا. يقفون يحبّون بعضهم البعض وسط المحكمة..
وإنفجرت ضحكتهما معا.. لم تدر أن ساعتها قد رحلت عنها فى يدّ غجرية.. وأعادت عليه إعتذارها ..
- متأسفة جدا.. جاء لك حقك، كتف بكتف..
وإبتسمت قائلة ..
- من فضلك قل إذن أين قاعة محكمة الأسرة ..
- هاهى أمامنا .. أنا داخلها.. لدى قضية
-                    أشكرك جدا. اسمح لى..
عبرت أمامه، كطيف تلاشى، وسط الزحام.. وكنت معهما،.. مع ما تبقى من هذه القصة القصيرة،.. أكتب ما يدور فى خلده، ومعها أمام القاضى.. وكيف ستتنهى القصة، مختصرا إسمها، فى النهاية إلى  (ليلتان طويلتان)...